آيات من القرآن الكريم

قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ
ﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟ ﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧ ﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰ ﯲﯳﯴ ﯶﯷﯸ ﯺﯻﯼ ﯾﯿ ﰁﰂﰃﰄ ﰆﰇﰈﰉﰊ ﰌﰍﰎﰏﰐ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖ ﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ

عليه السّلام، وزعم بعضهم أنه لنبينا صلّى الله عليه وسلّم لفظا ولأمته معنى وهو في غاية البعد عَنْها أي الساعة، والمراد عن ذكرها ومراقبتها، وقيل: عن الإيمان بإتيانها ورجح الأول بأنه الأليق بشأن موسى عليه السّلام وإن كان النهي بطريق التهييج والإلهاب ورجوع ضمير عَنْها إلى الساعة هو الظاهر وكذا رجوع ضمير بِها في قوله تعالى مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وقيل: الضميران راجعان إلى الصلاة، وقيل: ضمير عَنْها راجع إلى الصلاة وضمير بها راجع إلى الساعة وقيل:
الضميران راجعان إلى كلمة لا إِلهَ إِلَّا أَنَا وقيل: الأول راجع إلى العبادة والثاني راجع إلى الساعة، وقيل: هما راجعان إلى الخصال المذكورة، وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر غير مرة من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ولأن في المؤخر نوع طول ربما يخل تقديمه بجزالة النظم الكريم، والنهي وإن كان بحسب الظاهر نهيا للكافر عن صد موسى عليه السّلام عن الساعة لكنه في الحقيقة نهي له عليه السّلام عن الانصداد عنها على أبلغ وجه وآكده فإن النهي عن أسباب الشيء ومبادئه المؤدية إليه نهي عنه بالطريق البرهاني وإبطال للسببية عن أصلها كما في قوله تعالى لا يَجْرِمَنَّكُمْ [المائدة: ٢- ٨- هود: ٨٩] إلخ فإن صد الكافر حيث كان سببا لانصداده عليه السّلام كان النهي عنه نهيا بأصله وموجبه وإبطالا له بالكلية، ويجوز أن يكون نهيا عن السبب على أن يراد نهيه عليه السّلام عن إظهار لين الجانب للكفرة فإن ذلك سبب لصدهم إياه عليه السّلام كما في قوله:- لا أرينك هاهنا- فإن المراد به نهي المخاطب عن الحضور لديه الموجب لرؤيته فكأنه قيل: كن شديد الشكيمة صلب المعجم حتى لا يتلوح منك لمن يكفر بالساعة وينكر البعث أنه يطمع في صدك عما أنت عليه، وفيه حث على الصلابة في الدين وعدم اللين المطمع لمن كفر وَاتَّبَعَ هَواهُ أي ما تهواه نفسه من اللذات الحسية الفانية فصده عن الإيمان فَتَرْدى أي فتهلك فإن الإغفال عن الساعة وعن تحصيل ما ينجي عن أحوالها مستتبع للهلاك لا محالة.
وذكر العلامة الطيبي أنه يمكن أن يحمل مَنْ لا يُؤْمِنُ على المعرض عن عبادة الله تعالى المتهالك في الدنيا المنغمس في لذاتها وشهواتها بدليل وَاتَّبَعَ إلخ ويحمل نهي الصد على نهي النظر إلى متمتعاته من زهرة الحياة الدنيا ليكون على وزان قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً [الحجر: ٨٧، ٨٨] إلخ، ويحمل متابعة الهوى على الميل إلى الإخلاد إلى الأرض كقوله تعالى وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ [الأعراف: ١٧٦] يعني تفرغ لعبادتي ولا تلتفت إلى ما الكفرة فيه فإنه مهلك فإن ما أوليناك واخترناه لك هو المقصد الأسنى وفي هذا حث عظيم على الاشتغال بالعبادة وزجر بليغ عن الركون إلى الدنيا ونعيمها، ولا يخلو عن حسن وإن كان خلاف الظاهر. و «تردى» يحتمل أن يكون منصوبا في جواب النهي وأن يكون مرفوعا والجملة خبر مبتدأ محذوف أي فأنت تردى بسبب ذلك. وقرأ يحيى «فتردى» بكسر التاء.

صفحة رقم 488

وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى شروع في حكاية ما كلفه عليه السّلام من الأمور المتعلق بالخلق إثر حكاية ما أمر به من الشؤون الخاصة بنفسه. فما استفهامية في محل الرفع بالابتداء وتِلْكَ خبره أو بالعكس وهو أدخل بحسب المعنى وأوفق بالجواب وبِيَمِينِكَ متعلق بمضمر وقع حالا من تِلْكَ أي وما تلك قارة أو مأخوذة بيمينك والعامل فيه ما فيه من معنى الإشارة كما في قوله عز وعلا حكاية وَهذا بَعْلِي شَيْخاً [هود: ٧٢] وتسميه النحاة عاملا معنويا.
وقال ابن عطية: تِلْكَ اسم موصول وبِيَمِينِكَ متعلق بمحذوف صلته أي وما التي استقرت بيمينك. وهو على مذهب الكوفيين الذين يقولون إن كل اسم إشارة يجوز أن يكون اسما موصولا. ومذهب البصريين عدم جواز ذلك إلا في ذا بشرطه. والاستفهام تقريري وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى بيان المراد منه قالَ هِيَ عَصايَ نسبها عليه السّلام إلى نفسه تحقيقا لوجه كونها بيمينه وتمهيدا لما يعقبه من الأفاعيل المنسوبة إليه عليه السّلام. واسمها على ما روي عن مقاتل نبعة. وكان عليه السّلام قد أخذها من بيت عصى الأنبياء عليهم السّلام التي كانت عند شعيب حين استأجره للرعي هبط بها آدم عليه السّلام من الجنة وكانت فيما يقال من آسها. وقال وهب: كانت من العوسج وطولها عشرة أذرع على مقدار قامته عليه السّلام. وقيل: اثنتا عشرة ذراعا بذراع موسى عليه السّلام. وذكر المسند إليه وإن كان هو الأصل لرغبته عليه السّلام في المناجاة ومزيد لذاذته بذلك. وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري «عصي» بقلب الألف ياء وإدغامها في ياء المتكلم على لغة هذيل فإنهم يقلبون الألف التي قبل ياء المتكلم ياء للمجانسة كما يكسر ما قبلها في الصحيح. قال شاعرهم:

سبقوا هوى وأعنقوا لهواهم فتخرموا ولكل جنب مصرع
وقرأ الحسن «عصاي» بكسر الباء وهي مروية عن أبي ابن إسحاق أيضا وأبي عمرو، وهذه الكسرة لالتقاء الساكنين كما في البحر. وعن ابن أبي إسحق «عصاي» بسكون الياء كأنه اعتبر الوقف ولم يبال بالتقاء الساكنين، والعصا من المؤنثات السماعية ولا تلحقها التاء، وأول لحن سمع بالعراق كما قال الفراء: هذه عصاتي وتجمع على عصي بكسر أوله وضمه وأعص وأعصاء أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها أي أتحامل عليها في المشي والوقوف على رأس القطيع ونحو ذلك وَأَهُشُّ بِها أي أخبط بها ورق الشجر وأضربه ليسقط عَلى غَنَمِي فتأكله. وقرأ النخعي كما ذكر أبو الفضل الرازي. وابن عطية «أهشّ» بكسر الهاء ومعناه كمعنى مضموم الهاء، والمفعول على القراءتين محذوف كما أشرنا إليه.
وقال أبو الفضل: يحتمل أن يكون ذلك من هش يهش هشاشة إذ مال أي أميل بها على غنمي بما يصلحها من السوق وإسقاط الورق لتأكله ونحوهما، ويقال: هش الورق والكلأ والنبات إذا جف ولان انتهى. وعلى هذا لا حذف.

صفحة رقم 489

وقرأ الحسن وعكرمة «أهشّ» بضم الهاء والسين المهملة من الهس وهو زجر الغنم، وتعديته بعلى لتضمين معنى الإنحاء يقال: أنحى عليه بالعصا إذا رفعها عليه موهما للضرب أي أزجرها منحيا عليها. وفي كتاب السين والشين لصاحب القاموس يقال: هس الشيء وهشه إذا فته وكسره فهما بمعنى. ونقل ابن خالويه عن النخعي أنه قرأ «أهش» من أهش رباعيا.
وذكر صاحب اللوامح عن عكرمة. ومجاهد «أهش» بضم الهاء وتخفيف الشين المعجمة ثم قال: لا أعرف وجهه إلا أن يكون بمعنى أهش بالتضعيف لكن فر منه لأن الشين فيه تفش فاستثقل الجمع بين التضعيف والتفشي فيكون كتخفيف ظلت ونحوه اه وهو في غاية البعد. وقرأ جماعة «غنمي» بسكون النون. وأخرى «على غنمي» على أن «على» جار ومجرور و «غنمي» مفعول صريح للفعل السابق، ولم أقف على ذكر كيفية قراءة هذه الجماعة ذلك الفعل وهو على قراءة الجمهور مما لا يظهر تعديه للغنم، وكذا على قراءة غيرهم إلا بنوع تكلف، والغنم الشاه وهو اسم مؤنث موضوع للجنس يقع على الذكر والإناث وعليهما جميعا ولا واحد له من لفظه وإنما واحده شاة وإذا صغرته قلت غنيمة بالهاء ويجمع على أغنام وغنوم وأغانم، وقالوا: غنمان في التثنية على إرادة قطعتين وقدم عليه السّلام بيان مصلحة نفسه في قوله: أتوكأ عليها وثنى بمصلحة رعيته في قوله: وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي ولعل ذلك لأنه عليه السّلام كان قريب العهد بالتوكؤ فكان أسبق إلى ذهنه ويليه الهش على غنمه.
وقد روى الإمام أحمد أنه عليه السّلام بعد أن ناداه ربه سبحانه وتحقق أنه جل وعلا هو المنادي قال سبحانه له: ادن مني فجمع يديه في العصا ثم تحامل حتى استقل قائما فرعدت فرائصه حتى اختلفت واضطربت رجلاه وانقطع لسانه وانكسر قلبه ولم يبق منه عظم يحمل آخر فهو بمنزلة الميت إلا أن روح الحياة تجري فيه ثم زحف وهو مرعوب حتى وقف قريبا من الشجرة التي نودي منها فقال له الرب تبارك وتعالى ما تلك بيمينك يا موسى؟
فقال ما قص عز وجل، وقيل: لعل تقديم التوكؤ عليها لأنه الأوفق للسؤال بما تلك بيمينك، ثم إنه عليه السّلام أجمل أوصافها في قوله وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى أي حاجات أخر ومفرده مأربة مثلثة الراء. وعومل في الوصف معاملة مفردة فلم يقل أخر وذلك جائز في غير الفواصل وفيها كما هنا أجوز وأحسن.
ونقل الأهوازي في كتاب الاقناع عن الزهري. وشيبة أنهما قرآ «مأرب» بغير همز وكأنه يعني بغير همز محقق، ومحصله أنهما سهلا الهمزة بين بين، وقد روى الإمام أحمد وغيره عن وهب في تعيين هذه المآرب أنه كان لها شعبتان ومحجن تحتهما فإذا طال الغصن حناه بالمحجن وإذا أراد كسره لواه بالشعبتين وكان إذا شاء عليه السّلام ألقاها على عاتقه فعلق بها قوسه وكنانته ومخلاته وثوبه وزادا إن كان معه وكان إذا رتع في البرية حيث لا ظل له ركزها ثم عرض بالزندين الزند الأعلى والزند السفلي على شعبتيها وألقى فوقها كساءه فاستظل بها ما كان مرتعا، وكان إذا ورد ماء يقصر عنه رشاؤه وصل بها، وكان يقاتل بها السباع عن غنمه.
وذكر بعضهم أنه كان عليه السّلام يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلوا وتكونان شمعتين في الليل وإذا ظهر عدو حاربت عنه وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت وكان يحمل علهيا زاده وسقاء فجعلت تماشيه ويركزها فينبع الماء وإذا رفعها نضب وكانت تقيه الهوام وكانت تحدثه وتؤنسه، ونقل الطبرسي كثيرا مما ذكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
والظاهر أن ذلك مما كان فيها بعد، وتكلف بعضهم للقول بأنه مما كان قبل. ويحتمل إن صح خبر في ذلك ولا أراه يصح فيه شيء، وكأن المراد من سؤاله تعالى إياه عليه السّلام أن يعدد المرافق الكثيرة التي علقها بالعصا

صفحة رقم 490

ويستكثرها ويستعظمها ثم يريه تعالى عقب ذلك الآية العظيمة كأنه جل وعلا يقول: أين أنت عن هذه المنفعة العظمى والمأربة الكبرى المنسية عندها كل منفعة ومأربة كنت تعتد بها وتحتفل بشأنها فما طالبة للوصف أو يقدر المنفعة بعدها. واختيار ما يدل على البعد في اسم الإشارة للإشارة إلى التعظيم وكذا في النداء إيماء إليه والتعداد في الجواب لأجله، ومَآرِبُ أُخْرى تتميم للاستعظام بأنها أكثر من أن تحصى، وذكر العصا في الجواب ليجري عليها النعوت المادحة وفيه من تعظيم شأنها ما ليس في ترك ذكرها، ويندفع بهذا ما أورد من أنه يلزم على هذا الوجه استدراك هِيَ عَصايَ إذ لا دخل له في تعداد المنافع.
ويجوز أن يكون المراد إظهاره عليه السّلام حقارتها ليريه عز وجل عظيم ما يخترعه في الخشبة اليابسة مما يدل على باهر قدرته سبحانه كما هو شأن من أراد أن يظهر من الشيء الحقير شيئا عظيما فإنه يعرضه على الحاضرين ويقول ما هذا؟ فيقولون هو الشيء الفلاني ويصفونه بما يبعد عما يريد إظهاره منه ثم يظهر ذلك فما طالبة للجنس وتِلْكَ للتحقير والتعداد في الجواب لأجله مَآرِبُ أُخْرى تتميم لذلك أيضا بأن المسكوت عنه من جنس المنطوق فكأنه عليه السّلام قال: هي خشبة يابسة لا تنفع إلا منافع سائر الخشبات ولذلك ذكر عليه السّلام العصا وأجرى عليها ما أجرى، وقيل: إنه عليه السّلام لما رأى من آيات ربه ما رأى غلبت عليه الدهشة والهيبة فسأله سبحانه وتكلم معه إزالة لتلك الهيبة والدهشة فما طالبة إما للوصف أو للجنس وتكرير النداء لزيادة التأنيس، ولعل اختيار ما يدل على البعد في اسم الإشارة لتنزيل العصا منزلة البعيد لغفلته عليه السّلام عنها بما غلب عليه من ذلك، والإجمال في قوله: وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى يحتمل أن يكون رجاء أن يسأله سبحانه عن تلك المآرب فيسمع كلامه عز وجل مرة أخرى. وتطول المكالمة وتزداد اللذاذة التي لأجلها أطنب أولا، وما ألذ مكالمة المحبوب، ومن هنا قيل:

وأملى حديثا يستطاب فليتني أطلت ذنوبا كي يطول عتابه
ويحتمل أن يكون لعود غلبة الدهشة إليه عليه السّلام، وزعم بعضهم أنه تعالى سأله عليه السّلام ليقرره على أنها خشبة حتى إذا قلبها حية لا يخافها وليس بشيء، وعلى جميع هذه الأقوال السؤال واحد الجواب واحد كما هو الظاهر، وقيل: أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها إلخ جواب لسؤال آخر وهو أنه لما قال: هِيَ عَصايَ قال له تعالى: فما تصنع بها؟
فقال: أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها إلخ، وقيل: إنه تعالى سأله عن شيئين عن العصا بقوله سبحانه وَما تِلْكَ وعما يملكه منها بقوله عز وجل: بِيَمِينِكَ فأجاب عليه السّلام عن الأول بقوله: هِيَ عَصايَ وعن الثاني بقوله: أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها إلخ، ولا يخفى أن كلا القولين لا ينبغي أن يتوكأ عليهما لا سيما الأخير.
هذا واستدل بالآية على استحباب التوكؤ على العصا وإن لم يكن الشخص بحيث تكون وترا لقوسه وعلى استحباب الاقتصاد في المرعى بالهش وهو ضرب الشجر ليسقط الورق دون الاستئصال ليخلف فينتفع به الغير.
وقد ذكر الإمام فيها فوائد سنذكر بعضها في باب الإشارة لأن ذلك أوفق به قالَ استئناف مبني على سؤال ينساق إليه الذهن كأنه قيل: فماذا قال الله عز وجل فقيل؟ قال: أَلْقِها يا مُوسى لترى من شأنها ما ترى، والإلقاء الطرح على الأرض، ومنه قوله:
فألقت عصاها واستقرت بها النوى كما قر عينا بالإياب المسافر
وتكرير النداء لمزيد التنبيه والاهتمام بشأن العصا، وكون قائل هذا هو الله تعالى هو الظاهر، وزعم بعضهم أنه يجوز أن يكون القائل الملك بأمر الله تعالى وقد أبعد غاية البعد فَأَلْقاها ريثما قيل له ألقها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى تمشي وتنتقل بسرعة، والحية اسم جنس يطلق على الصغير والكبير والأنثى والذكر، وقد انقلبت حين ألقاها عليه السّلام

صفحة رقم 491

ثعبانا وهو العظيم من الحيات كما يفصح عنه قوله تعالى: فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ [الأعراف: ١٠٧، الشعراء: ٣٢] وتشبيهها بالجان وهو الدقيق منها في قوله سبحانه: فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ [النمل: ١٠، القصص: ٣١] من حيث الجلادة وسرعة الحركة لا من حيث صغر الجثة فلا منافاة، وقيل: إنها انقلبت حين ألقاها عليه السّلام حية صفراء في غلظ العصا ثم انتفخت وغلظت فلذلك شبهت بالجان تارة وسميت ثعبانا أخرى، وعبر عنها بالاسم العام للحالين، والأول هو الأليق بالمقام مع ظهور اقتضاء الآية التي ذكرناها له وبعدها عن التأويل. وقد روى الأمام أحمد وغيره عن وهب أنه عليه السّلام حانت منه نظرة بعد أن ألقاها فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون يرى يلتمس كأنه يبتغي شيئا يريد أخذه يمر بالصخرة مثل الخلفة من الإبل فليتقمها ويطعن بالناب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيجتثها عيناه توقدان نارا وقد عاد المحجن عرفا فيه شعر مثل النيازك وعاد الشعبتان فما مثل القليب الواسع فيه أضراس وأنياب لها صريف.
وفي بعض الآثار أن بين لحييه أربعين ذراعا فلما عاين ذلك موسى عليه السّلام ولى مدبرا ولم يعقب فذهب حتى أمعن ورأى أنه قد أعجز الحية ثم ذكر ربه سبحانه فوقف استحياء منه عز وجل ثم نودي يا موسى إليّ ارجع حيث كنت فرجع وهو شديد الخوف فأمره سبحانه وتعالى بأخذها وهو ما قص الله تعالى بقوله عز قائلا قالَ أي الله عز وجل، والجملة استئناف كما سبق خُذْها أي الحية وكانت على ما روي عن ابن عباس ذكرا، وعن وهب أنه تعالى قال له: «خذها بيمينك» وَلا تَخَفْ منها، ولعل ذلك الخوف مما اقتضته الطبيعة البشرية فإن البشر بمقتضى طبعه يخاف عند مشاهدة مثل ذلك وهو لا ينافي جلالة القدر.
وقيل: إنما خاف عليه السّلام لأنه رأى أمرا هائلا صدر من الله عز وجل بلا واسطة ولم يقف على حقيقة أمره وليس ذلك كنار إبراهيم عليه السّلام لأنها صدرت على يد عدو الله تعالى وكانت حقيقة أمرها كنار على علم فلذلك لم يخف عليه السّلام منها كما خاف موسى عليه السّلام من الحية، وقيل: إنما خاف لأنه عرف ما لقي من ذلك الجنس حيث كان له مدخل في خروج أبيه من الجنة، وإنما عطف النهي على الأمر للإشعار بأن عدم المنهي عنه مقصود لذاته لا لتحقيق المأمور به فقط، وقوله تعالى سَنُعِيدُها أي بعد الأخذ سِيرَتَهَا أي حالتها الْأُولى التي هي العصوية استئناف مسوق لتعليل الامتثال بالأمر والنهي فإن إعادتها إلى ما كانت عليه من موجبات أخذها وعدم الخوف منها، ودعوى أن فيه مع ذلك عدة كريمة بإظهار معجزة أخرى على يده عليه السّلام وإيذانا بكونها مسخرة له عليه السّلام ليكون على طمأنينة من أمره ولا تعتريه شائبة تزلزل عند محاجة فرعون لا تخلو عن خفاء، وذكر بعضهم أن حكمة انقلابها حية وأمره بأخذها ونهيه عن الخوف تأنيسه فيما يعلم سبحانه أنه سيقع منه مع فرعون، ولعل هذا مأخذ تلك الدعوى.
قيل: بلغ عليه السّلام عند هذا الخطاب من الثقة وعدم الخوف إلى حيث كان يدخل يده في فمها ويأخذ بلحييها، وفي رواية الإمام أحمد، وغيره عن وهب أنه لما أمره الله تعالى بأخذها أدنى طرف المدرعة على يده وكانت عليه مدرعة من صوف قد خلها بخلال من عيدان فقال له ملك: أرأيت يا موسى لو أذن الله تعالى بما تحاذر أكانت المدرعة تغني عنك شيئا؟ قال: لا ولكني ضعيف ومن ضعف خلقت فكشف عن يده ثم وضعها على فم الحية حتى سمع حس الأضراس والأنياب ثم قبض فإذا هي عصاه التي عهدها وإذا يده في موضعها الذي كان يضعها فيه إذا توكأ بين الشعبتين. والرواية الأولى أوفق بمنصبه الجليل عليه السّلام. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه عليه السّلام نودي المرة الأولى يا موسى خذها فلم يأخذها ثم نودي الثانية خُذْها وَلا تَخَفْ فلم

صفحة رقم 492

يأخذها ثم نودي الثالثة إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ [القصص: ٣١] فأخذها، وذكر مكي في تفسيره أنه قيل له في المرة الثالثة: سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى، ولا يخفى أن ما ذكر بعيد عن منصب النبوة فلعل الخبر غير صحيح.
والسيرة فعلة من السير تقال للهيئة والحالة الواقعة فيه ثم جردت لمطلق الهيئة والحالة التي يكون عليها الشيء، ومن ذلك استعمالها في المذهب والطريقة في قولهم سيرة السلف، وقول الشاعر:

فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها فأول راض سيرة من يسيرها
واختلف في توجيه نصبها في الآية فقيل: إنها منصوبة بنزع الخافض والأصل إلى سيرتها أو لسيرتها وهو كثير وإن قالوا: إنه ليس بمقيس، وهذا ظاهر قول الحوفي: إنها مفعول ثان لنعيدها على حذف الجار نحو وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف: ١٥٥] وإليه ذهب ابن مالك وارتضاه ابن هشام، وجوز الزمخشري أن يكون أعاد منقولا من عاده بمعنى عاد إليه، ومنه قول زهير
فصرم حبلها إذ صرمته وعادك أن تلاقيها عداء
فيتعدى إلى مفعولين، والظاهر أنه غير التوجيه الأول لاعتبار النقل فيه والخافض يحذف من أعاد من غير نظر إلى ثلاثيه وتعدى عاد بنفسه مما صح به النقل، فقد نقل الطيبي عن الأصمعي أن عادك في البيت متعد بمعنى صرفك، وكذا نقل الفاضل اليمنى. وفي المغرب العود الصيرورة ابتداء وثانيا ويتعدى بنفسه وبإلى وعلى وفي واللام.
وفي مشارق اللغة للقاضي عياض مثله، ونقل
عن الحديث «أعدت فتانا يا معاذ؟»
. وقال أبو البقاء: هي بدل من ضمير المفعول بدل اشتمال، وجوز أن يكون النصب على الظرفية أي سنعيدها في طريقتها الأولى.
وتعقبه أبو حيان قائلا: إن سيرتها وطريقتها ظرف مختص فلا يتعدى إليه الفعل على طريقة الظرفية إلا بوساطة في ولا يجوز الحذف إلا في ضرورة أو فيما شذت فيه العرب، وحاصله أن شرط الانتصاب على الظرفية هنا وهو الإبهام مفقود، وفي شرح التسهيل عن نحاة المغرب أنهم قسموا المبهم إلى أقسام منها المشتق من الفعل كالمذهب والمصدر الموضوع موضع الظرف نحو قصدك ولم يفرقوا بين المختوم بالتاء وغيره فالنصب على الظرفية فيما ذكر غير شاذ ولا ضرورة، وجوز الزمخشري واستحسنه أن يكون سَنُعِيدُها مستقلا بنفسه غير متعلق بسيرتها بمعنى أنها أنشئت أول ما أنشئت عصا ثم ذهبت وبطلت بالقلب حية فسنعيدها بعد الذهاب كما أنشأناها أولا، وسِيرَتَهَا منصوبا على أنه مفعول مطلق لفعل مقدر أي تسير سيرتها الأولى أي سنعيدها سائرة سيرتها الأولى حيث كنت تتوكأ عليها وتهش بها على غنمك ولك فيها المآرب التي عرفتها انتهى.
والظاهر أنه جعل الجملة من الفعل المقدر (١) وفاعله حالا، ويجوز أن يكون استئنافا، ولا يخفى عليك أن ما ذكره وإن حسن معنى إلا أنه خلاف المتبادر، هذا والآية ظاهرة في جواز انقلاب الشيء عن حقيقته كانقلاب النحاس إلى الذهب وبه قال جمع، ولا مانع في القدرة من توجه الأمر التكويني إلى ذلك وتخصيص الإرادة له، وقيل: لا يجوز لأن قلب الحقائق محال والقدرة لا تتعلق به والحق الأول بمعنى أنه تعالى يخلق بدل النحاس مثلا ذهبا على ما هو رأي بعض المحققين أو بأن يسلب عن أجزاء النحاس الوصف الذي صار به نحاسا ويخلق فيه الوصف الذي يصير به ذهبا
(١) قيل مقدرة وفيه نظر اه منه.

صفحة رقم 493

على ما هو رأي بعض المتكلمين من تجانس الجواهر واستوائها في قبول الصفات، والمحال إنما هو انقلابه ذهبا مع كونه نحاسا لامتناع كون الشيء في الزمن الواحد نحاسا وذهبا، وانقلاب العصا حية كان بأحد هذين الاعتبارين والله تعالى أعلم بأيهما كان، والذي أميل إليه الثاني فإن في كون خلق البدل انقلابا خفاء كما لا يخفى.
وقوله تعالى: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ أمر له عليه السّلام بعد ما أخذ الحية وانقلبت عصا كما كانت والضم الجمع، والجناح كما في القاموس اليد والعضد والإبط والجانب ونفس الشيء ويجمع على أجنحة وأجنح، وفي البحر الجناح حقيقة في جناح الطائر والملك ثم توسع فيه فأطلق على اليد والعضد وجنب الرجل.
وقيل: لمجنبتي العسكر جناحان على سبيل الاستعارة وسمي جناح الطائر بذلك لأنه يجنحه أي يميله عند الطيران، والمراد أدخل يدك اليمنى من طوق مدرعتك واجعلها تحت إبط اليسرى أو تحت عضدها عند الإبط أو تحتها عنده فلا منافاة بين ما هنا، وقوله تعالى: أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ [النمل: ١٢] تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ جعله بعضهم مجزوما في جواب الأمر المذكور على اعتبار معنى الإدخال فيه، وقال أبو حيان وغيره: إنه مجزوم في جواب أمر مقدر وأصل الكلام اضمم يدك تنضم وأخرجها تخرج فحذف ما حذف من الأول. والثاني وأبقى ما يدل عليه فهو إيجاز يسمى بالاحتباك، ونصب بَيْضاءَ على الحال من الضمير في تَخْرُجْ والجار والمجرور متعلق بمحذوف هو حال من الضمير في بَيْضاءَ أو صفة لبيضاء كما قال الحوفي أو متعلق به كما قال أبو حيان كأنه قيل: ابيضت من غير سوء أو متعلق بتخرج كما جوزه غير واحد. والسوء الرداءة والقبح في كل شيء، وكني به عن البرص كما كني عن العورة بالسوأة لما أن الطباع تنفر عنه الأسماع تمجه. وهو أبغض شيء عند العرب ولهذا كنوا عن جذيمة صاحب الزباء وكان أبرص بالأبرش والوضاح. وفائدة التعرض لنفي ذلك الاحتراس فإنه لو اقتصر على قوله تعالى: تَخْرُجْ بَيْضاءَ لأوهم ولو على بعد أن ذلك من برص، ويجوز أن يكون الاحتراس عن توهم عيب الخروج عن الخلقة الأصلية على أن المعنى تخرج بيضاء من غير عيب وقبح في ذلك الخروج أو عن توهم عيب مطلقا. يروى أنها خرجت بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس يغشي البصر وكان عليه السّلام آدم اللون آيَةً أُخْرى أي معجزة أخرى غير العصا. وانتصابها على الحالية من ضمير تَخْرُجْ والصحيح جواز تعدد الحال لذي حال واحد أو من ضمير بَيْضاءَ أو من الضمير في الجار والمجرور على ما قيل أو على البدلية من بَيْضاءَ ويرجع إلى الحالية من ضمير تَخْرُجْ، ويجوز أن تكون منصوبة بفعل مضمر أي خذ آية وحذف لدلالة الكلام. وظاهر كلام الزمخشري جواز تقدير دونك عاملا وهو مبني على ما هو ظاهر كلام سيبويه من جواز عمل اسم الفعل محذوفا ومنعه أبو حيان لأنه نائب عن الفعل ولا يحذف النائب والمنوب عنه، ونقض بيا الندائية فإنها تحذف مع أنها نائبة عن أدعوا، وقيل: إنها مفعول ثان لفعل محذوف مع مفعوله الأول أي جعلناها أو آتيناك آية أخرى، وجعل هذا القائل قوله تعالى:
لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى متعلقا بذلك المحذوف. ومن قدر خذ ونحوه جوز تعلقه به، وجوز الحوفي تعلقه باضمم، وتعلقه بتخرج وأبو البقاء تعلقه بما دل عليه آيَةً أي دللنا بها لنريك. ومنع تعلقه بها لأنها قد وصفت.
وبعضهم تعلقه بألق، واختار بعض المحققين أنه متعلق بمضمر ينساق إليه النظم الكريم كأنه قيل: فعلنا ما فعلنا لنريك بعض آياتنا الكبرى على أن الْكُبْرى صفة لآياتنا على حد مَآرِبُ أُخْرى ومِنْ آياتِنَا في موضع المفعول الثاني ومن فيه للتبعيض أو لنريك بذلك الكبرى من آياتنا على أن الْكُبْرى هو المفعول الثاني لنريك ومِنْ آياتِنَا متعلق بمحذوف حال منه ومن فيه للابتداء أو للتبعيض. وتقديم الحال مع أن صاحبه معرفة لرعاية الفواصل. وجوز كلا

صفحة رقم 494

الإعرابين في مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى الحوفي. وابن عطية وأبو البقاء وغيرهم.
واختار في البحر الإعراب الأول ورجحه بأن فيه دلالة على أن آياته تعالى كلها كبرى بخلاف الإعراب الثاني وبأنه على الثاني لا تكون الْكُبْرى صفة العصا واليد معا وإلا لقيل: الكبريين. ولا يمكن أن يخص أحدهما لأن في كل منهما معنى التفضيل، ويبعد ما قال الحسن وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن اليد أعظم في الإعجاز من العصا لأنه ليس في اليد إلا تغيير اللون وأما العصا ففيها تغيير اللون وخلق الزيادة في الجسم وخلق الحياة والقدرة والأعضاء المختلفة مع عودها عصا بعد ذلك فكانت أعظم في الإعجاز من اليد، وجوز أن تكون الْكُبْرى صفة لهما ولاتحاد المقصود جعلتا آية واحدة وأفردت الصفة لذلك. وأن تكون صفة لليد والعصا غنية عن الوصف بها لظهور كونها كبرى.
وأنت تعلم أن هذا كله خلاف الظاهر. وكذا ما قيل: من أن من على الإعراب الثاني للبيان بأن يكون المراد لنريك الآيات الكبرى من آياتنا ليصح الحمل الذي يقتضيه البيان ولا يترجح بذلك الإعراب الثاني على الأول ولا يساويه أصلا. ولا يخفى عليك أن كل احتمال من احتمالات متعلق اللام خلا من الدلالة على وصف آية العصا بالكبر لا ينبغي أن يعول عليه. ويعتذر بأن عدم الوصف للظهور مع ظهور الاحتمال الذي لا يحتاج معه إلى الاعتذار عن ذلك المقال فتأمل والله تعالى العاصم من الزلل اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ تخلص إلى ما هو المقصد من تمهيد المقدمات السالفة فصل عما قبله من الأوامر إيذانا بأصالته أي اذهب إليه بما رأيته من آياتنا الكبرى وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي.
وقوله تعالى إِنَّهُ طَغى تعليل للأمر أو لوجوب المأمور به أي جاوز الحد في التكبر والعتو والتجبر حتى تجاسر على العظيمة التي هي دعوى الربوبية،
قال وهب بن منبه: إن الله تعالى قال لموسى عليه السّلام: ادن فلم يزل يدنيه حتى شد ظهره بجذع الشجرة فاستقر وذهبت عنه الرعدة وجمع يده في العصا وخضع برأسه وعنقه ثم قال له بعد أن عرفه نعمته تعالى عليه: انطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي وإن معك أيدي ونصري وإني قد ألبستك جنة من سلطاني تستكمل بها القوة في أمري فأنت جند عظيم من جنودي بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي وعبد من دوني وزعم أنه لا يعرفني وإني لأقسم بعزتي لولا العذر والحجة اللذان وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار يغضب لغضبه السموات والأرض والجبال والبحار فإن أمرت السماء حصبته وإن أمرت الأرض ابتلعته وإن أمرت البحار غرقته وإن أمرت الجبال دمرته ولكنه هان علي وسقط من عيني ووسعه حلمي واستغنيت بما عندي وحق لي إني أنا الغني لا غني غيري فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وتوحيدي وإخلاص اسمي وذكره بأيامي وحذره نقمتي وبأسي وأخبره أنه لا يقوم شيء لغضبي وقل له فيما بين ذلك قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى وأخبره أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة ولا يرو عنك ما ألبسته من لباس الدنيا فإن ناصيته بيدي ليس يطرف ولا ينطق ولا يتنفس إلا بأذني وقل له: أجب ربك فإنه واسع المغفرة وإنه قد أمهلك أربعمائة سنة في كلها أنت مبارزة بالمحاربة تتشبه وتتمثل به وتصد عباده عن سبيله وهو يمطر عليك السماء وينبت لك الأرض لم تسقم. ولم تهرم ولم تفتقر ولم تغلب ولو شاء أن يفعل ذلك بك فعل ولكنه ذو أناة وحلم عظيم في كلام طويل.
وفي بعض الروايات أن الله تعالى لما أمره عليه السّلام بالذهاب إلى فرعون سكت سبعة أيام
، وقيل: أكثر فجاءه ملك فقال: أنفذ ما أمرك ربك، وفي القلب من صحة ذلك شيء قالَ استئناف بياني كأنه قيل فماذا قال موسى

صفحة رقم 495

عليه السّلام حين قيل له ما قيل؟ فأجيب بأنه قال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي الظاهر أنه متعلق بقوله تعالى اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إلخ، وذلك أنه عليه السّلام علم من الأمر بالذهاب إليه والتعليل بالعلة المذكورة أنه كلف أمرا عظيما وخطبا جسيما يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلا ذو جأش رابط وصدر فسيح فاستوهب ربه تعالى أن يشرح صدره ويجعله حليما حمولا يستقبل ما عسى أن يرد عليه في طريق التبليغ والدعوة إلى مر الحق من الشدائد التي يذهب معها صبر الصابر بجميل الصبر وحسن الثبات وأن يسهل عليه مع ذلك أمره الذي هو أجل الأمور وأعظمها وأصعب الخطوب وأهولها بتوفيق الأسباب ورفع الموانع، فالمراد من شرح الصدر جعله بحيث لا يضجر ولا يقلق مما يقتضي بحسب البشرية الضجر والقلق من الشدائد، وفي طلب ذلك إظهار لكمال الافتقار إليه عز وجل وإعراض عن الأنانية بالكلية:

ويحسن إظهار التجلد للعدا ويقبح إلا العجز عند الأحبة
وذكر الراغب أن أصل الشرح البسط ونحوه، وشرح الصدر بسطه بنور إلهي وسكينة من جهة الله تعالى وروح منه عز وجل ولهم فيه عبارات أخر لعل بعضها سيأتي إن شاء الله تعالى في باب الإشارة. وقال بعضهم: إن هذا القول معلق بما خاطبه الله تعالى به من لدن قوله سبحانه إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه: ١٢] إلى هذا المقام فيكون قد طلب عليه السّلام شرح الصدر ليقف على دقائق المعرفة وأسرار الوحي ويقوم بمراسم الخدمة والعبادة على أتم وجه ولا يضجر من شدائد التبليغ. وقيل: إنه عليه السّلام لما نصب لذلك المنصب العظيم وخوطب بما خوطب في ذلك المقام احتاج إلى تكاليف شاقة من تلقي الوحي والمواظبة على خدمة الخالق سبحانه وتعالى وإصلاح العالم السفلي فكأنه كلف بتدبير العالمين والالتفات إلى أحدهما يمنع من الاشتغال بالآخر فسأل شرح الصدر حتى يفيض عليه من القوة ما يكون وافيا بضبط تدبير العالمين، وقد يقال: إن الأمر بالذهاب إلى فرعون قد انطوى فيه الإشارة إلى منصب الرسالة المستتبع تكاليف لائقة به منها ما هو راجع إلى الحق ومنها ما هو منوط بالخلق، وقد استشعر موسى عليه السّلام كل ذلك فبسط كف الضراعة لطلب ما يعينه على أداء ذلك على أكمل وجه فلا يتوقف تعميم شرح الصدر على تعلقه بأول الكلام كما لا يخفى، ثم إن الصدر عند علماء الرسوم يراد منه القلب لأنه المدرك أو مما به الإدراك والعلاقة ظاهرة.
ولعلماء القلوب كلام في ذلك سيأتي إن شاء الله تعالى في باب الإشارة مع بعض ما أطنب به الإمام في تفسير هذه الآية، وفي ذكر كلمة لِي مع انتظام الكلام بدونها تأكيد لطلب الشرح والتيسير بإبهام المشروح والميسر أولا وتفسيرهما ثانيا فإنه لما قال اشْرَحْ لِي علم أن ثم مشروحا يختص به حتى لو اكتفى لتم فإذا قيل صَدْرِي أفاد التفسير والتفصيل أما لو قيل اشْرَحْ واكتفي به فلا وكذا الكلام في يَسِّرْ لِي. وقيل: ذكر لِي لزيادة الربط كما في قوله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ [الأنبياء: ١]. وتعقب بأنه لا منافاة وهو الذي أفاد هذا المعنى. وفي الانتصاف أن فائدة ذكرها الدلالة على أن منفعة شرح الصدر راجعة إليه فإن تعالى لا يبالي بوجوده وعدمه وقس عليه يَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي روي أنه كان في لسانه عليه السّلام رتة من جمرة أدخلها فاه في صغره.
وذلك أن فرعون حمله ذات يوم فأخذ خصلة من لحيته لما كان فيها من الجواهر. وقيل: لطمه. وقيل: ضربه ضربة بقضيب في يده على رأسه فتطير فدعا بالسياف فقالت آسية بنت مزاحم امرأته وكانت تحب موسى عليه السّلام:
إنما هو صبي لا يفرق بين الياقوت والجمر فاحضرا وأراد أن يمد يده إلى الياقوت فحول جبريل عليه السّلام يده إلى الجمرة فأخذها فوضعها في فيه فاحترق لسانه.

صفحة رقم 496

وفي هذا دليل على فساد قول القائلين بأن النار تحرق بالطبيعة من غير مدخلية لإذن الله تعالى في ذلك إذ لو كان الأمر كما زعموا لأحرقت يده. وذكر في حكمة إذن الله تعالى لها بإحراق لسانه دون يده أن يده صارت آلة لما ظاهره الإهانة لفرعون. ولعل تبييضها كان لهذا أيضا وإن لسانه كان آلة لضد ذلك بناء على ما روي أنه عليه السّلام دعاه بما يدعو به الأطفال الصغار آبائهم. وقيل: احترقت يده عليه السّلام أيضا فاجتهد فرعون في علاجها فلم تبرأ.
ولعل ذلك لئلا يدخلها عليه السّلام مع فرعون في قصة واحدة فتفقد بينهما حرمة المؤاكلة فلما دعاه قال: إلى أي رب تدعوني؟ قال: إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنه. وكان الظاهر على هذا أن يطرح عليه السّلام النار من يده ولا يوصلها إلى فيه. ولعله لم يحس بالألم إلا بعد أن أوصلها فاه أو أحس لكنه لم يفرق بين إلقائها في الأرض وإلقائها في فمه وكل ذلك بتقدير الله تعالى ليقضي الله أمرا كان مفعولا. وقيل: كانت العقدة في لسانه عليه السّلام خلقة. وقيل:
إنها حدثت بعد المناجاة وفيه بعد.
واختلف في زوالها بكمالها فمن قال به كالحسن تمسك بقوله تعالى قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى [طه: ٣٦] من لم يقل به كالجبائي احتج بقوله تعالى هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي [القصص: ٣٤] وقوله سبحانه وَلا يَكادُ يُبِينُ [الزخرف: ٥٢].
وبما
روي أنه كان في لسان الحسين رضي الله تعالى عنه رتة وحبسة فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه: إنه ورثها من عمه موسى عليه السّلام
. وأجاب عن الأول بأنه عليه السّلام لم يسأل حل عقدة لسانه بالكلية بل عقدة تمنع الإفهام ولذلك نكرها ووصفها بقوله مِنْ لِسانِي ولم يضفها مع أنه أخصر ولا يصلح ذلك للوصفية إلا بتقدير مضاف وجعل مِنْ تبعيضية أي عقدة كائنة من عقد لساني فإن العقدة للسان لا منه. وجعل قوله تعالى: يَفْقَهُوا قَوْلِي جواب الطلب وغرضا من الدعاء فبحلها في الجملة يتحقق إيتاء سؤله عليه السّلام. واعترض على ذلك بأن قوله تعالى هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي قال عليه السّلام قبل استدعاء الحل على أنه شاهد على عدم بقاء اللكنة لأن فيه دلالة على أن موسى عليه السّلام كان فصيحا غايته أن فصاحة أخيه أكثر وبقية اللكنة تنافي الفصاحة اللغوية المرادة هنا بدلالة قوله لسانا. ويشهد لهذه المنافاة ما قاله ابن هلال في كتاب الصناعتين: الفصاحة تمام آلة البيان ولذا لا يقال لله تعالى: فصيح وإن قيل لكلامه سبحانه فصيح ولذلك لا يسمى الألثغ والتمتام فصيحين لنقصان آلتهما عن إقامة الحروف وبأن قوله تعالى وَلا يَكادُ يُبِينُ معناه لا يأتي ببيان وحجة، وقد قال ذلك اللعين تمويها ليصرف الوجوه عنه عليه السّلام، ولو كان المراد نفي البيان وإفهام الكلام لاعتقال اللسان لدل على عدم زوال العقدة أصلا ولم يقل به أحد، وبأنا لا نسلم صحة الخبر، وبأن تنكير عُقْدَةً يجوز أن يكون لقلتها في نفسها. ومن يجوز تعلقها بأحلل كما ذهب إليه الحوفي واستظهره أبو حيان فإن المحلول إذا كان متعلقا بشيء ومتصلا به فكما يتعلق الحل به يتعلق بذلك الشيء أيضا باعتبار إزالته عنه أو ابتداء حصوله منه، وعلى تقدير تعلقها بمحذوف وقع صفة لعقدة لا نسلم وجوب تقدير مضاف وجعل من تبعيضية، ولا مانع من أن تكون بمعنى في ولا تقدير أي عقدة في لساني بل قيل: ولا مانع أيضا من جعلها ابتدائية مع عدم التقدير وأي فساد في قولنا: عقدة ناشئة من لساني. والحاصل أن ما استدل به على بقاء عقدة ما في لسانه عليه السّلام وعدم زوالها بالكلية غير تام لكن قال بعضهم: إن الظواهر تقتضي ذلك وهي تكفي في مثل هذه المطالب وثقل ما في اللسان لا يخفف قدر الإنسان. وقد ذكر أن في لسان المهدي المنتظر رضي الله تعالى عنه حبسة وربما يتعذر عليه الكلام حتى يضرب بيده اليمنى فخذ رجله اليسرى وقد بلغك ما ورد في فضله. وقال بعضهم: لا تقاوم فصاحة الذات إعراب الكلمات. وأنشد قول القائل:

صفحة رقم 497

سر الفصاحة كامن في المعدن لخصائص الأرواح لا للألسن
وقول الآخر:
لسان فصيح معرب في كلامه فيا ليته في موقف الحشر يسلم
وما ينفع الإعراب إن لم يكن تقى وما ضر ذا تقوى لسان معجم
نعم ما يخل بأمر التبليغ من رتة تؤدي إلى عدم فهم الوحي معها ونفرة السامع عن سماع ذلك مما يجل عنه الأنبياء عليهم السّلام فهم كلهم فصحاء اللسان لا يفوت سامعهم شيء من كلامهم ولا ينفر عن سماعه وإن تفاوتوا في مراتب تلك الفصاحة وكأنه عليه السّلام إنما لم يطلب أعلى مراتب فصاحة اللسان وطلاقته عند الجبائي ومن وافقه لأنه لم ير في ذلك كثير فضل، وغاية ما قيل فيه أنه زينة من زينة الدنيا وبهاء من بهائها والفضل الكثير في فصاحة البيان بالمعنى المشهور في عرف أهل المعاني والبيان وما ورد مما يدل على ذم ذلك فليس على إطلاقه كما بين في شروح الأحاديث. ثم إن المشهور تفسير اللسان بالآلة الجارحة نفسها وفسره بعضهم بالقوة النطقية القائمة بالجارحة. والفقه العلم بالشيء والفهم له كما في القاموس وغيره، وقال الراغب: هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد فهو أخص من العلم.
والظاهر هنا الفهم أي احلل عقدة من لساني يفهموا قولي وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي أي معاونا في تحمل أعباء ما كلفته على أن اشتقاقه من الوزر بكسر فسكون بمعنى الحمل الثقيل فهو في الأصل صفة من ذلك ومعناه صاحب وزر أي حامل حمل ثقيل، وسمي القائم بأمر الملك بذلك لأنه يحمل عنه وزر الأمور وثقلها أو ملجأ اعتصم برأيه على أن اشتقاقه من الوزر بفتحتين وأصله الجبل يتحصن به ثم استعمل بمعنى الملجأ مطلقا كما في قوله:
شر السباع الضواري دونه وزر والناس شرهم ما دونهم وزر
كم معشر سلموا لم يؤذهم سبع وما ترى بشرا لم يؤذه بشر
وسمي وزير الملك بذلك لأن الملك يعتصم برأيه ويلتجىء إليه في أمره فهو فعيل بمعنى مفعول على الحذف والإيصال أي ملجوء إليه أو هو للنسب، وقيل: أصله أزير من الأزر بمعنى القوة ففعيل بمعنى مفاعل كالعشير والجليس قلبت همزته واوا كقلبها في موازر وقلبت فيه لانضمام ما قبلها ووزير بمعناه فحمل عليه وحمل النظير على النظير كثير في كلامهم إلا أنه سمع مؤازر من غير إبدال ولم يسمع أزير بدونه على أنه مع وجود الاشتقاق الواضح وهو ما تقدم لا حاجة إلى هذا الاشتقاق وادعاء القلب. ونصبه على أنه مفعول ثان ل اجْعَلْ قدم على الأول الذي هو قوله تعالى هارُونَ اعتناء بشأن الوزارة لأنها المطلوبة ولِي صلة للجعل أو متعلق بمحذوف وقع حالا من وزيرا وهو صفة له في الأصل ومِنْ أَهْلِي إما صفة لوزيرا أو صلة لأجعل، وقيل: مفعولاه لِي وَزِيراً ومِنْ أَهْلِي على ما مر من الوجهين وهارُونَ عطف بيان للوزير بناء على ما ذهب إليه الزمخشري والرضي من أنه لا يشترط التوافق في التعريف والتنكير، وقيل: هو بدل من وزيرا. وتعقب بأنه يكون حينئذ هو المقصود بالنسبة مع أن وزارته هي المقصودة بالقصد الأول هنا.
وجوز كونه منصوبا بفعل مقدر في جواب من اجعل؟ أي اجعل هارون، وقيل: مفعولاه وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ولِي تيبين كما في سقيا له.

صفحة رقم 498

واعترض بأن شرط المفعولين في باب النواسخ صحة انعقاد الجملة الاسمية منهما ولو ابتدأت بوزيرا وأخبرت عنه بمن أهلي لم يصح إذ لا مسوغ للابتداء به، وأجيب بأن مراد القائل: إن «من أهلي» هو المفعول الأول لتأويله ببعض أهلي كأنه قيل اجعل بعض أهلي وزيرا فقدم للاهتمام به وسداد المعنى يقتضيه ولا يخفى بعده، ومن ذلك قيل الأحسن أن يقال: إن الجملة دعائية والنكرة يبتدأ بها فيها كما صرح به النحاة فكذا بعد دخول الناسخ وهو كما ترى، وقيل: إن المسوغ للابتداء بالنكرة هنا عطف المعرفة وهو هارُونَ عليها عطف بيان هو غريب، وجوز في هارُونَ أيضا على هذا القول كونه مفعولا لفعل مقدر وكونه بدلا وقد سمعت ما فيه.
والظاهر أنه يجوز في لِي عليه أيضا أن يكون صلة للجعل كما يجوز فيه على بضع الأوجه السابقة أن يكون تبيينا. ولم يظهر لي وجه عدم ذكر هذا الاحتمال هناك ولا وجه عدم ذكر احتمال كونه صلة للجعل هنا. ويفهم من كلام البعض جواز كلّ من الاحتمالين هنا وهناك. وكذا يجوز أيضا أن يكون حالا من وَزِيراً ولعل ذلك مما يسهل أمر الانعقاد على ما قيل وفيه ما فيه، وأَخِي على الوجوه عطف بيان للوزير ولا ضير في تعدده لشيء واحد أو لهارون. ولا يشترط فيه كون الثاني أشهر كما توهم لأن الإيضاح حاصل من المجموع كما حقق في المطول وحواشيه. ولا حاجة إلى دعوى أن المضاف إلى الضمير أعرف من العلم لما فيها من الخلاف. وكذا إلى ما في الكشف من أن أَخِي في هذا المقام أشهر من اسمه العلم لأن موسى عليه السّلام هو العلم المعروف والمخاطب الموصوف بالمناجاة والكرامة والمتعرف به هو المعرفة في الحقيقة ثم إن البيان ليس بالنسبة إليه سبحانه لأنه جل شأنه لا تخفى عليه خافية وإنما إتيان موسى عليه السّلام به على نمط ما تقدم من قوله هِيَ عَصايَ إلخ. وجوز أن يكون أَخِي مبتدأ خبره اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي وتعقبه أبو حيان بأنه خلاف الظاهر فلا يصار إليه لغير حاجة. والكلام في الأخبار بالجملة الإنشائية مشهور. والجملة على هذا استئنافية. والأزر القوة، وقيدها الراغب بالشديدة. وقال الخليل وأبو عبيدة: هو الظهر وروي ذلك عن ابن عطية، والمراد أحكم به قوتي وأجعله شريكي في أمر الرسالة حتى نتعاون على أدائها كما ينبغي.
وفصل الدعاء الأول عن الدعاء السابق لكمال الاتصال بينهما فإن شد الأزر عبارة عن جعله وزيرا وأما الإشراك في الأمر فحيث كان من أحكام الوزارة توسط بينهما العاطف كذا قيل لكن في مصحف ابن مسعود «واشدد» بالعطف على الدعاء السابق وعن أبي «أشركه في أمري واشدد به أزري» فتأمل.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والحسن وابن عامر «أشدد» بفتح الهمزة «وأشركه» بضمها على أنهما فعلان مضارعان مجزومان في جواب الدعاء أعني قوله: اجْعَلْ، وقال صاحب اللوامح: عن الحسن أنه قرأ «أشدّد به» مضارع شدد للتكثير والتكرير. وليس المراد بالأمر على القراءة السابقة الرسالة لأن ذلك ليس في يد موسى عليه السّلام بل أمر الإرشاد والدعوة إلى الحق، وكان هارون كما أخرج الحاكم عن وهب أطول من موسى عليهما السّلام وأكثر لحما وأبيض جسما وأعظم ألواحا وأكبر سنا، قيل: كان أكبر منه بأربع سنين، وقيل: بثلاث سنين. وتوفي قبله بثلاث أيضا. وكان عليه السّلام ذا تؤدة وحلم عظيم.
كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً غاية للأدعية الثلاثة الأخيرة فإن فعل كل واحد منهما من التسبيح والذكر مع كونه مكثرا لفعل الآخر ومضاعفا له بسبب انضمامه إليه مكثر له في نفسه أيضا بسبب تقويته وتأييده إذ ليس المراد بالتسبيح والذكر ما يكون منهما بالقلب أو في الخلوات حتى لا يتفاوت حاله عند التعدد والانفراد بل ما يكون منهما في تضاعيف أداء الرسالة ودعوة المردة العتاة إلى الحق وذلك مما لا ريب في اختلاف حالة في حالتي

صفحة رقم 499

التعدد والانفراد فإن كلا منهما يصدر عنه بتأييد الآخر من إظهار الحق ما لا يكاد يصدر عنه مثله حال الانفراد، وكَثِيراً في الموضعين نعت لمصدر محذوف أو زمان محذوف أي ننزهك عما لا يليق بك من الصفات والأفعال التي من جملتها ما يدعيه فرعون الطاغية ويقبله منه فئته الباغية من الشركة في الألوهية ونصفك بما يليق بك من صفات الكمال ونعوت الجمال والجلال تنزيها كثيرا ووصفا كثيرا أو زمانا كثيرا من جملته زمان دعوة فرعون وأوان المحاجة معه كذا في إرشاد العقل السليم.
وجوز أبو حيان كونه منصوبا على الحال أي نسبحك التسبيح في حال كثرته، وكذا يقال في الأخير وليس بذاك، وتقديم التسبيح على الذكر من باب تقديم التخلية على التحلية، وقيل: لأن التسبيح تنزيه عما يليق ومحله القلب والذكر ثناء بما يليق ومحله اللسان والقلب مقدم على اللسان، وقيل: إن المعنى كي نصلي لك كثيرا ونحمدك ونثني عليك كثيرا بما أوليتنا من نعمك ومننت به علينا من تحميل رسالتك، ولا يخفى أنه لا يساعده المقام.
إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً عالما بأحوالنا وبأن ما دعوتك به مما يصلحنا ويفيدنا في تحقيق ما كلفته من إقامة مراسم الرسالة وبأن هارون نعم الردء في أداء ما أمرت به، والباء متعلقة ببصيرا قدمت عليه لمراعاة الفواصل، والجملة في موضع التعليل للمعلل الأول بعد اعتبار تعليله بالعلة الأولى، وروى عبد بن حميد عن الأعمش أنه سكن كاف الضمير في المواضع الثلاثة، وجاء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دعا بمثل هذا الدعاء إلا أنه أقام عليا كرم الله تعالى وجهه مقام هارون عليه السّلام،
فقد أخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن أسماء بنت عميس قالت: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإزاء ثبير وهو يقول أشرق ثبير أشرق ثبير اللهم إني أسألك مما أسألك أخي موسى أن تشرح لي صدري وأن تيسر لي أمري وأن تحل عقدة من لساني يفقه قولي واجعل لي وزيرا من أهلي عليا أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا»
، ولا يخفى أنه يتعين هنا حمل الأمر على أمر الإرشاد والدعوة إلى الحق ولا يجوز حمله على النبوة، ولا يصح الاستدلال بذلك على خلافة علي كرم الله تعالى وجهه بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم بلا فصل. ومثله فيما ذكر ما صح من
قوله عليه الصلاة والسّلام له حين استخلفه في غزوة تبوك على أهل بيته: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»
كما بين في التحفة الاثني عشرية، نعم في ذلك من الدلالة على مزيد فضل علي كرم الله تعالى وجهه ما لا يخفى، وينبغي أيضا أن يتأول طلبه صلّى الله عليه وسلّم حل العقدة بنحو استمرار ذلك لما أنه عليه الصلاة والسّلام كان أفصح الناس لسانا قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى أي قد أعطيت سؤلك ففعل بمعنى مفعول كالخبز والأكل بمعنى المخبوز والمأكول، والإيتاء عبارة عن تعلق إرادته تعالى بوقوع تلك المطالب وحصولها له عليه السّلام البتة وتقديره تعالى إياها حتما فكلها حاصلة له عليه السّلام وإن كان وقوع بعضها بالفعل مرتبا بعد كتيسير الأمر وشد الأزر وباعتباره قيل: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ [القصص: ٣٥] وظاهر بعض الآثار يقتضي أن شركة هارون عليه السّلام في النبوة أي استنبائه كموسى عليه السّلام وقعت في ذلك المقام وإن لم يكن عليه السّلام فيه مع أخيه، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في قوله: وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي نبىء هارون ساعتئذ حين نبىء موسى عليهما السّلام، ونداؤه عليه السّلام تشريف له بالخطاب إثر تشريف.
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ استئناف مسوق لتقرير ما قبله وزيادة توطين لنفس موسى عليه السّلام بالقبول ببيان أنه تعالى حيث أنعم عليه بتلك النعم التامة من غير سابقة دعاء وطلب منه فلأن ينعم عليه بمثلها وهو طالب له وداع أولى وأحرى. وتصديره بالقسم لكمال الاعتناء بذلك أي وبالله لقد أنعمنا مَرَّةً أُخْرى أي في وقت غير هذا الوقت على أن أخرى تأنيث آخر بمعنى مغايرة ومَرَّةً ظرف زمان والمراد به الوقت الممتد الذي وقع فيه ما سيأتي إن شاء الله

صفحة رقم 500

تعالى ذكره في المنن العظيمة الكثيرة وهو في الأصل اسم للمرور الواحد ثم أطلق على كل فعلة واحدة متعدية كانت أو لازمة ثم شاع في كل فرد واحد من أفراد ما له أفراد متجددة فصار علما في ذلك حتى جعل معيارا لما في معناه من سائر الأشياء فقيل هذا بناء المرة ويقرب منه الكرة والتارة والدفعة. وقال أبو حيان: المراد منه غير هذه المنة وليست أُخْرى تأنيث آخر بكسر الخاء لتكون مقابلة للأولى. وتوهم ذلك بعضهم فقال: سماها سبحانه أخرى وهي أولى لأنها أخرى في الذكر.
إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى ظرف لمننا سواء كان بدلا من مرة أم لا، وقيل: تعليل وهو خلاف الظاهر، والمراد بالإيحاء عند الجمهور ما كان بالهام كما في قوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل: ٦٨] وتعقب بأنه بعيد لأنه قال تعالى في سورة القصص: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص: ٧] ومثله لا يعلم بالإلهام وليس بشيء لأنها قد تكون شاهدت منه عليه السّلام ما يدل على نبوته وأنه تعالى لا يضيعه، وإلهام الأنفس القدسية مثل ذلك لا بعد فيه فإنه نوع من الكشف. ألا ترى قول عبد المطلب وقد سمي نبينا صلّى الله عليه وسلّم محمدا فقيل له: لم سميت ولدك محمدا وليس في أسماء آبائك؟: إنه سيحمد، وفي رواية رجوت أن يحمد في السماء والأرض مع أن كون ذلك داخلا في الملهم ليس بلازم.
واستظهر أبو حيان أنه كان يبعث ملك إليها لا على جهة النبوة كما بعث إلى مريم وهو مبني على أن الملك يبعث إلى غير الأنبياء عليهم السّلام وهو الصحيح لكن قيل: عليه أنه حينئذ ينتقض تعريف النبي بأنه من أوحي إليه، على وجه النبوة دار التعريف وأجيب بأنه لا يتعين ذلك. ولو قيل: من أوحى إليه بأحكام شرعية لكنه لم يؤمر بتبليغها لم يلزم محذور. وقال الجبائي: أنه كان بالإراءة مناما. وقيل: كان على لسان نبي في وقتها كما في قوله تعالى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ [المائدة: ١١١] وتعقب بأن خلاف الظاهر فإنه لم ينقل إنه كان نبي في مصر زمن فرعون قبل موسى عليه السّلام.
وأجيب بأن ذلك لا يتوقف على كون النبي في مصر، وقد كان شعيب عليه السّلام نبيا في زمن فرعون في مدين فيمكن أن يكون أخبرها بذلك على أن كثرة أنبياء بني إسرائيل عليهم السّلام مما شاع وذاع، والحق أن إنكار كون ذلك خلاف الظاهر مكابرة. واختلف في اسم أمه عليه السّلام والمشهور أنه يوحانذ، وفي الإتقان هي محيانة بنت يصهر بن لاوي، وقيل: بارخا وقيل: بازخت وما اشتهر من خاصية فتح الأقفال به بعد رياضة مخصوصة له مما لم نجد فيه أثرا ولعله حديث خرافة، والمراد بما يوحى ما قصه الله تعالى فيما بعد من الأمر بقذفه في التابوت. وقذفه في البحر أبهم أو لا تهويلا له وتفخيما لشأنه، ثم فسر ليكون أقر عند النفس، وقيل: معناه ما ينبغي أن يوحي ولا يخل به لعظم شأنه وفرط الاهتمام به كما يقال هذا مما يكتب، وقيل: لا يعلم إلا بالوحي، والأول أوفق بكل من المعاني السابقة المرادة بالإيحاء إلا أنه قيل: عليه إنه لو كان المراد منه التفخيم والتهويل لقيل إذ أوحينا إلى أمك ما أوحينا كما قال سبحانه فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
[النجم: ١٠]، وقال تعالى: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ [طه: ٧٨] فإن تم هذا فما قيل في معناه ثانيا أولى فتدبر.
وأن في قوله تعالى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ مفسرة لأن الوحي من باب القول أو مصدرية حذف عنها الباء أي بأن اقذفيه، وقال ابن عطية: أَنِ وما بعدها في تأويل مصدر بدل من ما، وتقدم الكلام في وصل أن المصدرية بفعل الأمر، والمراد بالقذف ها نها الوضع، وأما في قوله تعالى فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فالمراد به الإلقاء والطرح، ويجوز أن يكون المراد به الوضع في الموضعين، والْيَمِّ البحر لا يكسر ولا يجمع جمع سلامة، وفي البحر هو اسم للبحر

صفحة رقم 501

العذب، وقيل: اسم للنيل خاصة وليس بصحيح، وهذا التفصيل هنا هو المراد بقوله تعالى فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [القصص: ٧] لا القذف بلا تابوت فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ أي بشاطئه وهو الجانب الخالي عن الماء مأخوذ من سحل الحديد أي برده وقشره وهو فاعل بمعنى مفعول لأن الماء يسحله أي يقشره أو هو للنسب أي ذو سحل يعود الأمر إلى مسحول، وقيل: هو على ظاهره على معنى أنه يسحل الماء أي يفرقه ويضيعه وقيل: هو من السحيل وهو النهيق لأنه يسمع منه صوت، والمراد به هنا ما يقابل الوسط وهو ما يلي الساحل من البحر حيث يجري ماؤه إلى نهر فوعون.
وقيل: المراد بالساحل الجانب والطرف مطلقا والمراد من الأمر الخبر واختير للمبالغة، ومن ذلك
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «قوموا فلأصل لكم»
ولا خراج ذلك مخرج الأمر حسن الجواب فيما بعد، وقال غير واحد: إنه لما كان إلقاء البحر إياه بالساحل أمرا واجب الوقوع لتعلق الإرادة الربانية به جعل البحر كأنه ذو تمييز مطيع أمر بذلك، وأخرج الجواب مخرج الأمر ففي اليم استعارة بالكناية وإثبات الأمر تخييل، وقيل: إن في قوله تعالى فَلْيُلْقِهِ استعارة تصريحية تبعية والضمائر كلها لموسى عليه السّلام إذ هو المحدث عنه والمقذوف في البحر والملقى بالساحل وإن كان هو التابوت أصالة لكن لما كان المقصود بالذات ما فيه جعل التابوت تبعا له في ذلك، وقيل: الضمير الأول لموسى عليه السّلام والضميران الأخيران للتابوت، ومتى كان الضمير صالحا لأن يعود على الأقرب وعلى الأبعد كان عوده على الأقرب راجحا كما نص عليه النحويون، وبهذا رد على أبي محمد بن حزم في دعواه عود الضمير في قوله تعالى فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الأنعام: ١٤٥] على لحم لأنه المحدث عنه لا على خنزير فيحل شحمه وغضروفه وعظمه وجلده عنده لذلك، والحق أن عدم التفكيك فيما نحن فيه أولى، وما ذكره النحويون ليس على إطلاقه كما لا يخفى يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ جواب للأمر بالإلقاء وتكرير العدو للمبالغة من حيث إنه يدل على أن عداوته كثيرة لا واحدة، وقيل:
إن الأول للواقع والثاني للمتوقع وليس من التكرير للمبالغة في شيء لأن ذلك فرع جواز أن يقال: عدو لي وله وهو لا يجوز إلا عند القائلين بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز، وأجيب بأن ذلك جائز وليس فيه الجمع المذكور فإن فرعون وقت الأخذ متصف بالعداوة لله تعالى وله في الواقع أما اتصافه بعداوة الله تعالى فظاهر وأما اتصافه بعداوة موسى فمن حيث إنه يبغض كل مولود في تلك السنة، ولو قلنا بعدم الاتصاف بعداوة موسى عليه السّلام إذ ذاك يجوز أن يقال ذلك أيضا ويعتبر عموم المجاز وهو المخلص عن الجمع بين الحقيقة والمجاز فيما يدعي فيه ذلك.
وقال الخفاجي: إنه لا يلزم الجمع لأن عَدُوٌّ صفة مشبهة دالة على الثبوت الشامل للواقع والمتوقع. ولا يخفى أن هذا قول بأن الثبوت في الصفة المشبهة بمعنى الدوام، وقد قال هو في الكلام على تفسير قوله تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً [الإسراء: ٣٧، لقمان: ١٨] : إن معنى دلالتها على الثبوت أنها لا تدل على تجدد وحدوث لا أنها تدل على الدوام كما ذكره النحاة، فما يقال إن مَرَحاً صفة مشبهة تدل على الثبوت ونفيه لا يقتضي نفي أصله مغالطة نشأت من عدم فهم معنى الثبوت فيها انتهى، على أن كلامه هنا بعد الإغماض عن منافاته لما ذكره قبل لا يخلو عن شيء.
ومما ذكره فيما تقدم من تفسير معنى الثبوت يعلم أن الاستدلال بهذه الآية على أن فرعون لم يقبل إيمانه ومات كافرا كما هو الحق ليس بصحيح وكم له من دليل صحيح. والظاهر أنه تعالى أبهم لها هذا العدو ولم يعلمها باسمه وإلا لما قالت لأخته قُصِّيهِ [القصص: ١١].
وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي كلمة (من) متعلقة بمحذوف وقع صفة لموصوف مؤكدة لما في تنكيرها

صفحة رقم 502

من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي محبة عظيمة كائنة مني قد زرعتها في القلوب فكل من رآك أحبك بحيث لا يصبر عنك، قال مقاتل: كان في عينيه ملاحة ما رآه أحد إلا أحبه، وقال ابن عطية: جعلت عليه مسحة جمال لا يكاد يصبر عنه من رآه، روي أن أمه عليه السّلام حين أوحي إليها ما أوحي جعلته في تابوت من خشب، وقيل: من بردى عمله مؤمن آل فرعون وسدت خروقه وفرشت فيه نطعا، وقيل: قطنا محلوجا وسدت فمه وجصصته وقيرته وألقته في اليم فبينما فرعون في موضع يشرف على النيل وامرأته معه إذ رأى التابوت عند الساحل فأمر به ففتح فإذا صبي أصبح الناس وجها فأحبه هو وامرأته حبا شديدا.
وقيل: إن التابوت جاء في الماء إلى المشرعة التي كانت جواري امرأة فرعون يستقين منها الماء فأخذن التابوت وجئن به إليها وهن يحسبن أن فيه مالا فلما فتحنه رأته عليه السّلام فأحبته وأعلمت فرعون وطلبت منه أن يتخذه ولدا، وقالت: قرة عين لي ولك لا تقتلوه، فقال لها: يكون لك وأما أنا فلا حاجة لي فيه. ومن هنا
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما رواه النسائي وجماعة عن ابن عباس: «والذي يحلف به لو أقر فرعون بأن يكون قرة عين له كما قالت امرأته لهداه الله تعالى به كما هدى به امرأته ولكن الله عز وجل حرمه ذلك»
، وقيل: إن فرعون كان جالسا على رأس بركة له في بستان ومعه امرأته فرأى التابوت وقد دفعه الماء إلى البركة من نهر يشرع من اليم فأمر بإخراجه فأخرج ففتح فإذا صبي أجمل الناس وجها فأحبه حتى لا يكاد يصبر عنه، وروي أنه كان بحضرته حين رأى التابوت أربعمائة غلام وجارية فحين أشار بأخذه وعد من يسبق إلى ذلك بالإعتاق فتسابقوا جميعا ولم يظفر بأخذه إلا واحد منهم فاعتق الكل، وفي هذا ما يطمع المقصر في العمل من المؤمنين برحمة الله تعالى فإنه سبحانه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، وقيل: كلمة من متعلقة بألقيت فالمحبة الملقاة بحسب الذوق هي محبة الله تعالى له أي أحببتك ومن أحبه الله تعالى أحبته القلوب لا محالة، واعترض القاضي على هذا بأن في الصغر لا يوصف الشخص بمحبة الله تعالى إياه فإنها ترجع إلى إيصال الثواب وهو إنما يكون للمكلف. ورد بأن محبة الله تعالى عند المؤولين عبارة عن إرادة الخير والنفع وهو أعم من أن يكون جزاء على عمل أولا يكون والرد عند من لا يؤول أظهر، وجوز بعضهم إرادة المعنى الثاني على القول الأول في التعلق وإرادة المعنى الأول على القول الثاني فيه، وزعم أن وجه التخصيص غير ظاهر وهو لا يخفى على ذي ذهن مستقيم وذوق سليم.
وقوله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي متعلق بألقيت على أنه عطف على علة مضمرة أي ليتعطف عليك ولتصنع أو متعلق بفعل مضمر مؤخر أي ولتصنع إلخ فعلت ذلك أي إلقاء المحبة عليك، وزعم أنه متعلق بألقيت على أن الواو مقحمة ليس بشيء وعلى عيني أي بمرأى مني متعلق بمحذوف وقع حالا من المستتر في «تصنع» وهو استعارة تمثيلية للحفظ والصون فإن المصون يجعل بمرأ والصنع الإحسان، قال النحاس: يقال صنعت الفرس إذا أحسنت إليه.
والمعنى وليفعل بك الصنيعة والإحسان وتريى بالحنو والشفقة وأنا مراعيك ومراقبك كما يراعي الرجل الشيء بعينه إذا اعتنى به. ويجعل ذلك تمثيلا يندفع ما قاله الواحدي من أن تفسير عَلى عَيْنِي بما تقدم صحيح ولكن لا يكون في ذلك تخصيص لموسى عليه السّلام فإن جميع الأشياء بمرأى من الله تعالى على أنه قد يقال: هذا الاختصاص للتشريف كاختصاص عيسى عليه السّلام بكلمة الله تعالى والكعبة ببيت الله تعالى مع أن الكل موجود بكن وكل البيوت بيت الله سبحانه، وقال قتادة: المعنى لتغذى على محبتي وإرادتي وهو اختيار أبي عبيدة. وابن الأنباري وزعم الواحدي أنه الصحيح. وقرأ الحسن وأبو نهيك ولتصنع» بفتح التاء، قال ثعلب: المعنى لتكون حركتك وتصرفك على عين مني لئلا تخالف أمري.
وقرأ أبو جعفر في رواية «ولتصنع» بكسر اللام وجزم الفعل بها لأنها لام الأمر وأمر المخاطب باللام شاذ لكن لما

صفحة رقم 503

كان الفعل مبنيا للمفعول هنا وكان أصله مسندا للغائب ولا كلام في أمره باللام استصحب ذلك بعد نقله إلى المفعول للاختصار، والظاهر أن العطف على قوله تعالى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي إلا أن فيه عطف الإنشاء على الخبر وفيه كلام مشهور لكن قيل هنا: إنه هون أمره كون الأمر في معنى الخبر.
وقال صاحب اللوامح: إن العطف على قوله تعالى: فَلْيُلْقِهِ فلا عطف فيه للإنشاء على الخبر.
وقرأ شيبة وأبو جعفر في رواية أخرى كذلك إلا أنه سكن اللام وهي لام الأمر أيضا وبقية الكلام نحو ما مر.
ويحتمل أن تكون لام كي سكنت تخفيفا ولم يظهر فتح العين للإدغام، قال الخفاجي: وهذا حسن جدا.
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ ظرف لتصنع كما قال الحوفي وغيره على أن المراد به وقت وقع فيه مشي الأخت وما ترتب عليه من القول والرجع إلى أمها وتربيتها له بالحنو وهو المصداق لقوله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي إذ لا شفقة أعظم من شفقة الأم وصنيعها على موجب مراعاته تعالى. وجوز أن يكون ظرفا لألقيت وإن يكون بدلا من إِذْ أَوْحَيْنا على أن المراد بها وقت متسع فيتحد الظرفان وتصح البدلية ولا يكون من إبدال أحد المتغايرين الذي لا يقع في فصيح الكلام.
ورجح هذا صاحب الكشف فقال: هو الأوفق لمقام الامتنان لما فيه من تعداد المنة على وجه أبلغ ولما في تخصيص الإلقاء أو التربية بزمان مشي الأخت من العدول إلى الظاهر فقبله كان عليه السّلام محبوبا محفوظا، ثم أولى الوجهين جعله ظرفا لِتُصْنَعَ، وأما النصب بإضمار اذكر فضعيف اه. وأنت تعلم أن الظاهر كونه ظرفا لتصنع والتقييد بعلى عيني يسقط التربية قبل في غير حجر الأم عن العين.
واعترض أبو حيان وجه البدلية بأن كلا من الظرفين ضيق ليس بمتسع لتخصيصه بما أضيف إليه وليس ذلك كالسنة في الامتداد وفيه تأمل، واسم أخته عليه السّلام مريم، وقيل: كلثوم وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية، وكذا يقال في قوله تعالى: فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ أي يضمه إلى نفسه ويربيه.
فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ الفاء فصيحة أي فقالوا: دلينا على ذلك فجاءت بأمك فرجعناك إليها كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها بلقائك. وقرىء «تقرّ» بكسر القاف. وقرأ جناح بن حبيش «تقرّ» بالبناء للمفعول وَلا تَحْزَنَ أي لا يطرأ عليها الحزن بفراقك بعد ذلك وإلا فزوال الحزن مقدم على السرور المعبر عنه بقرة العين فإن التخلية مقدمة على التحلية.
وقيل: الضمير المستتر في تَحْزَنَ لموسى عليه السّلام أي ولا تحزن أنت بفقد إشفاقها، وهذا وإن لم يأبه النظم الكريم إلا أن حزن الطفل غير ظاهر، وما في سورة القصص يقتضي الأول والقرآن يفسر بعضه بعضا.
أخرج جماعة من خبر طويل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن آسية حين أخرجت موسى عليه السّلام من التابوت واستوهبته من فرعون فوهبه لها أرسلت إلى من حولها من كل امرأة لها لبن لتختار لها ظئرا فلم يقبل ثدي واحدة منهن حتى أشفقت أن يمتنع من اللبن فيموت فأحزنها ذلك فأمرت به فأخرج إلى السوق مجمع الناس ترجو أن تجد له ظئرا يأخذ ثديها فلم يفعل وأصبحت أمه والهة فقالت لأخته: قصي أثره واطلبيه هل تسمعين له ذكرا أحيا ابني أم قد أكلته الدواب؟ ونسيت الذي كان وعدها الله تعالى فبصرت به عن جنب فقالت من الفرح: أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فأخذوها فقالوا: وما يدريك ما نصحهم له هل يعرفونه؟ وشكوا في ذلك فقالت:
نصحهم له وشفقتهم عليه لرغبتهم في رضا الملك والتقرب إليه فتركوها وسألوها الدلالة فانطلقت إلى أمه فأخبرتها

صفحة رقم 504

الخبر فجاءت فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصه حتى امتلأ جنباه ريا وانطلق البشرى إلى امرأة فرعون يبشرونها إنا قد وجدنا لابنك ظئرا فأرسلت إليها فأتيت بها وبه فلما رأت ما يصنع بها قالت لها: امكثي عندي أرضعي ابني هذا فإني لم أحب حبه شيئا قط قالت: لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيرا فعلت وإلا فإني غير تاركة بيتي وولدي فذكرت أم موسى ما كان الله عز وجل وعدها فتعاسرت على امرأة فرعون لذلك وأيقنت أن الله عز وجل منجز وعده فرجعت بابنها إلى بيتها من يومها فأنبته الله تعالى نباتا حسنا وحفظه لما قد قضى فيه فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأمه: أريني ابني فوعدتها يوما تزورها به فيه فقالت لخزانها وقهارمتها: لا يبق منكم أحد إلا استقبل ابني بهدية وكرامة أرى ذلك فيه وأنا باعثة أمينا يحصي ما صنع كل إنسان منكم فلم تزل الهدايا والنحل والكرامة تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل عليها فلما دخل أكرمته ونحلته وفرحت به ونحلت أمه لحسن أثرها عليه ثم انطلقت به إلى فرعون لينحله وليكرمه فكان ما تقدم من جذب لحيته، ومن هذا الخبر يعلم أن المراد إذ تمشي أختك في الطريق لطلبك وتحقيق أمرك فتقول: لمن أنت بأيديهم يطلبون لك ظئرا ترضعك هل أدلكم إلخ.
وفي رواية أنه لما أخذ من التابوت فشا الخبر بأن آل فرعون وجدوا غلاما من النيل لا يرتضع ثدي امرأة واضطروا إلى تتبع النساء فخرجت أخته لتعرف خبره فجاءتهم متنكرة فقالت ما قالت وقالوا ما قالوا، فالمراد على هذا إذ تمشي أختك إلى بيت فرعون فتقول لفرعون وآسية أو لآسية هَلْ أَدُلُّكُمْ إلخ.
وَقَتَلْتَ نَفْساً هي نفس القبطي واسمه قانون الذي استغاثه عليه الإسرائيلي واسمه موسى بن ظفر وهو السامري، وكان سنه عليه السّلام حين قتل على ما في البحر اثنتي عشرة سنة، وفي الخبر عن الحبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه عليه السّلام حين قتل القبطي كان من الرجال وكان قتله إياه بالوكز كما يدل عليه قوله تعالى: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ [القصص: ١٥] وكان المراد وقتلت نفسا فأصابك غم فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وهو الغم الناشئ من القتل وقد حصل له من وجهين خوف عقاب الله تعالى حيث لم يقع القتل بأمره سبحانه وخوف اقتصاص فرعون وقد نجاه الله تعالى من ذلك بالمغرة حين قال: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص: ١٦] وبالمهاجرة إلى مدين، وقيل: هو غم التابوت، وقيل: غم البحر وكلا القولين ليس بشيء، والغم في الأصل ستر الشيء ومنه الغمام لستره ضوء الشمس، ويقال: لما يغم القلب بسبب خوف أو فوات مقصود، وفرق بينه وبين الهم بأنه من أمر ماض والهم من أمر مستقبل، وظاهر كلام كثير عدم الفرق وشمول كل ما يكون من أمر ماض وأمر مستقبل وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً أي ابتليناك ابتلاء على أن فُتُوناً مصدر على فعول في المتعدي كالثبور والشكور والكفور، والأكثر في هذا الوزن أن يكون مصدر اللازم أو فتونا من الابتلاء على أنه جمع فتن كالظنون جمع ظن أو جمع فتنة على ترك الاعتداد بالتاء لأنها في حكم الانفصال كما قالوا في حجوز جمع حجزة (١) وبدور جمع بدرة (٢)، ونظم الابتلاء في سلك المنن قيل:
باعتبار أن المراد ابتليناك واختبرناك بإيقاعك في المحن وتخليصك منها، وقيل: إن المعنى أوقعناك في المحنة وهو ما يشق على الإنسان، ونظم ذلك في ذلك السلك باعتبار أنه موجب للثواب فيكون من قبيل النعم وليس بشيء، وقيل: إن فَتَنَّاكَ بمعنى خلصناك من قولهم: فتنت الذهب بالنار إذا خلصته بها من الغش ولا يخفى حسنه، والمراد سواء اعتبر

(١) ما يوضع فيه تكة السراويل ونحوها اه منه.
(٢) مقدار من النقد معروف اه منه.

صفحة رقم 505

الفتون مصدرا أو جمعا خلصناك مرة بعد أخرى وهو ظاهر على اعتبار الجمعية، وأما على اعتبار المصدرية فلاقتضاء السياق ذلك، وهذا إجمال ما ناله عليه السّلام في سفره من الهجرة عن الوطن ومفارقة الآلاف والمشي راجلا وفقد الزاد.
وقد روى جماعة أن سعيد بن جبير سأل ابن عباس عن الفتون فقال له: استأنف النهار يا ابن جبير فإن لها خبرا طويلا فلما أصبح غدا عليه فأخذ ابن عباس يذكر ذلك فذكر قصة فرعون وقتله أولاد بني إسرائيل ثم قصة إلقاء موسى عليه الصلاة والسّلام في اليم والتقاط آل فرعون إياه وامتناعه من الارتضاع من الأجانب وإرجاعه إلى أمه ثم قصة أخذه بلحية فرعون وغضب فرعون من ذلك وإرادته قتله ووضع الجمرة والجوهرة بين يديه وأخذه الجمرة، ثم قصة قتله القبطي ثم هربه إلى مدين وصيرورته أجيرا لشعيب عليه السّلام ثم عوده إلى مصر وإخطاء الطريق في الليلة المظلمة وتفرق غنمه فيها وكان رضي الله تعالى عنه عند تمام كل واحدة يقول هذه من الفتون يا ابن جبير، ولكن قيل: الذي يقتضيه النظم الكريم أن لا يعد إجارة نفسه وما بعدها من تلك الفتون ضرورة أن المراد بها ما وقع قبل وصوله عليه السّلام إلى مدين بقضية الفاء في قوله تعالى: فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ إذ لا ريب في أن الإجارة المذكورة وما بعدها مما وقع بعد الوصول إليهم وقد أشير بذكر لبثه عليه السّلام فيهم دون وصوله إليهم إلى جميع ما قاساه عليه السّلام من فنون الفتون في تضاعيف مدة اللبث وهي فيما قيل عشر سنين، وقال وهب: ثمان وعشرون سنة أقام في عشر منها يرعى غنم شعيب عليه السّلام مهرا لابنته وفي ثماني عشرة مع زوجته وولد له فيها وهو الأوفق بكونه عليه السّلام نبىء على رأس الأربعين إذا قلنا بأن سنه عليه السّلام حين خرج إلى مدين اثنتا عشرة سنة، ومدين بلدة شعيب عليه السّلام على ثمان مراحل من مصر.
ثُمَّ جِئْتَ أي إلى المكان الذي ناديتك فيه، وفي كلمة التراخي إيذان بأن مجيئه عليه السّلام كان بعد اللتيا والتي من ضلال الطريق وتفرق الغنم في الليلة المظلمة الشاتية وغير ذلك عَلى قَدَرٍ أي تقدير والمراد به المقدر أي جئت على وفق الوقت الذي قدرته وعينته لتكليمك واستنبائك بلا تقدم ولا تأخر عنه، وقيل: هو بمعنى المقدار أي جئت على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء عليهم السّلام وهو رأس أربعين سنة.
وضعف بأن المعروف في هذا المعنى القدر بالسكون لا التحريك، وقيل: المراد على موعد وعدنا كه وروي ذلك عن مجاهد وهو يقتضي تقدم الوعد على لسان بعض الأنبياء عليهم السّلام وهو كما ترى، وقوله تعالى يا مُوسى تشريف له عليه السّلام وتنبيه على انتهاء الحكاية التي هي تفصيل المرة الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكية أولا، وقوله سبحانه وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي تذكير لقوله تعالى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ [طه: ١٣] وتمهيد لإرساله عليه السّلام إلى فرعون مؤيدا بأخيه حسبما استدعاه بعد تذكير المنن السابقة تأكيدا لوثوقه عليه السّلام بحصول نظائرها اللاحقة، ونظم ذلك الإمام في سلك المنن المحكية وظاهر توسيط النداء يؤيد ما تقدم، والاصطناع افتعال من الصنع بمعنى الصنيعة وهي الإحسان فمعنى اصطنعه جعله محل صنيعته وإحسانه، وقال القفال: يقال اصطنع فلان فلانا إذا أحسن إليه حتى يضاف إليه فيقال: هذا صنيع فلان وخريجه، ومعنى لِنَفْسِي ما روي عن ابن عباس لوحيي ورسالتي، وقيل: لمحبتي، وعبر عنها بالنفس لأنها أخص شيء بها، وقال الزجاج: المراد اخترتك لإقامة حجتي وجعلتك بيني وبين خلقي حتى صرت في التبليغ عني بالمنزلة التي أكون أنا بها لو خاطبتهم واحتجبت عليهم، وقال غير واحد من المحققين: هذا تمثيل لما خوله عز وجل من جعله نبيا مكرما كليما منعما عليه بحلائل النعم بتقريب الملك من يراه أهلا لأن يقرب فيصطنعه بالكرامة والأثرة ويجعله من خواص نفسه وندمائه. ولا يخفى حسن هذه الاستعارة وهي أوفق بكلامه تعالى وقوله تعالى لِنَفْسِي عليها ظاهر.

صفحة رقم 506

وحاصل المعنى جعلتك من خواصي واصطفيتك برسالتي وبكلامي، وفي العدول عن نون العظمة الواقعة في قوله سبحانه وَفَتَنَّاكَ ونظيريه السابقين تمهيد لإفراد النفس اللائق بالمقام فإنه أدخل في تحقيق معنى الاصطناع والاستخلاص، وقوله تعالى اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي استئناف مسوق لبيان ما هو المقصود بالاصطناع، وَأَخُوكَ فاعل بفعل مضمر أي وليذهب أخوك حسبما استدعيت، وقيل: معطوف على الضمير المستتر المؤكد بالضمير البارز، ورب شيء يصح تبعا ولا يصح استقلالا.
والآيات المعجزات، والمراد بها في قول اليد والعصا وحل العقدة، وعن ابن عباس الآيات التسع، وقيل:
الأولان فقط وإطلاق الجمع على الاثنين شائع ويؤيد ذلك أن فرعون لما قال له عليه السّلام: فات بآية ألقى العصا ونزع اليد، وقال: فَذانِكَ بُرْهانانِ [القصص: ٣٢] وقال بعضهم: إنهما وإن كانتا اثنتين لكن في كل منهما آيات شتى كما في قوله تعالى: آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ [آل عمران: ٩٧] فإن انقلاب العصا حيوانا آية. وكونها ثعبانا عظيما لا يقادر قدره آية أخرى. وسرعة حركته مع عظم جرمه آية أخرى. وكونه مع ذلك مسخرا له عليه السّلام بحيث يده في فمه فلا يضره آية أخرى ثم انقلابها عصا كما كانت آية أخرى وكذلك اليد البيضاء فإن بياضها في نفسه آية وشعاعها آية ثم رجوعها إلى حالتها الأولى آية أخرى. وقيل: المراد بها ما أعطى عليه السّلام من معجزة ووحي، والذي يميل إليه القلب أنها العصا واليد لما سمعت من المؤيد مع ما تقدم من أنه تعالى بعد ما أمره بإلقاء العصا وأخذها بعد انقلابها حية قال سبحانه: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى [طه: ٢٢] ثم قال سبحانه: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [طه: ٢٤] من غير تنصيص على غير تلك الآيتين ولا تعرض لوصف حل العقدة ولا غيره بكونه آية، ثم إن الباء للمصاحبة لا للتعدية إذ المراد ذهابهما إلى فرعون ملتبسين بالآيات متمسكين بها في إجراء أحكام الرسالة وإكمال الدعوة لا مجرد إذهابها وإيصالها إليه وهذا ظاهر في تحقق الآيات إذ ذاك وأكثر التسع لم يتحقق بعد.
وَلا تَنِيا من الوني بمعنى الفتور وهو فعل لازم وإذا عدي عدي بفي وبعن، وزعم بعض البغداديين أنه فعل ناقص من أخوات زال وبمعناها واختاره ابن مالك، وفي الصحاح فلان لايني يفعل كذا أي لا يزال يفعل كذا وكان هذا المعنى مأخوذ من نفي الفتور، وقرأ ابن وثاب «ولا تنيا» بكسر التاء اتباعا لحركة النون. وفي مصحف عبد الله «لا تهنا» وحاصله أيضا لا تفترا فِي ذِكْرِي بما يليق بي من الصفات الجليلة والأفعال الجميلة عند تبليغ رسالتي والدعاء إلى عبادتي، وقيل: المعنى لا تنيا في تبليغ رسالتي فإن الذكر يقع مجازا على جميع العبادات وهو من أجلها وأعظمها.
وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: لا تنسياني حيثما تقلبتما واستمدا به العون والتأييد واعلما أن أمرا من الأمور لا يتأتى ولا يتسنى إلا بذكري.
وجمع هارون مع موسى عليه السّلام في صيغة نهي الحاضر بناء على القول بغيبته إذ ذاك للتغليب ولا بعد في ذلك كما لا يخفى، وكذا جمعه في صيغة أمر الحاضر بناء على ذلك أيضا في قوله تعالى اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى وروي أنه أوحي إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى عليهما السّلام، وقيل: ألهم ذلك، وقيل: سمع بإقباله فتلقاه، ويحتمل أنه ذهب إلى الطور واجتمعا هناك فخوطبا معا، ويحتمل أن هذا الأمر بعد إقبال موسى عليه السّلام من الطور إلى مصر واجتماعه بهارون عليه السّلام مقبلا إليه من مصر، وفرق بعضهم بين هذا، وقوله تعالى اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بأنه لم يبين هناك من يذهب إليه وبين هنا، وبعض آخر بأنه أمرا هنا بالذهاب إلى فرعون وكان الأمر هناك بالذهاب إلى عموم أهل الدعوة، وبعض آخر بأنه لم يخاطب هارون هناك وخوطب هنا، وبعض آخر بأن الأمر هناك

صفحة رقم 507

بذهاب كل منهما على الانفراد نصا أو احتمالا والأمر هنا بالذهاب على الاجتماع نصا، ولا يخفى ما في بعض هذه الفروق من النظر، والفرق ظاهر بين هذا الأمر والأمر في قوله تعالى أولا خطابا لموسى عليه السّلام اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً قرأ أبو معاذ لَيِّناً بالتخفيف، والفاء لترتيب ما بعدها على طغيانه فإن تليين القول مما يكسر سورة عناد العتاة ويلين قسوة الطغاة، ويعلم من ذلك أن الأمر بإلانة القول ليس لحق التربية كما قيل، والمعنى كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لا تعنفاه في قولكما وارفقا به في الدعاء ويتحقق ذلك بعبارات شتى منها ما سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا وهو إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ إلخ ومنها ما في النازعات وهو هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى [النازعات: ٨، ١٩] وهذا ظاهر غاية الظهر وفي الرفق في الدعاء فإنه في صورة العرض والمشورة، وقيل:
كنياه، واستدل به على جواز تكنية الكافر، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه
وابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا وسفيان الثوري، وله كنى أربع أبو الوليد وأبو مصعب وأبو العباس وأبو مرة، وقيل:
عداه شبابا لا يهرم بعده وملكا لا ينزع منه إلا بالموت وأن يبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته، وعن الحسن قولا له: إن لك ربا وإن لك معادا وإن بين يديك جنة ونارا فآمن بالله تعالى يدخلك الجنة ويقك عذاب النار، وقيل: أمرهما سبحانه بأن يقدما له الوعد على الوعيد من غير تعيين قول كما قيل:

أقدم بالوعد قبل الوعيد لينهى القبائل جهالها
وروي عن عكرمة أن القول اللين لا إله إلا الله ولينه خفته على اللسان، وهذا أبعد الأقوال وأقربها الأول، وكان الفضل بن عيسى الرقاشي إذا تلا هذه الآية قال: يا من يتحبب إلى من يعاديه فكيف بمن يتولاه ويناديه وقرأت عند يحيى بن معاذ فبكى وقال: إلهي هذا رفقك بمن يقول أنا الإله فكيف رفقك بمن يقول أنت الله؟ وفيها دليل على استحباب إلانة القول للظالم عند وعظه لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ ويتأمل فيبذل النصفة من نفسه والإذعان للحق فيدعوه ذلك إلى الإيمان أَوْ يَخْشى أن يكون الأمر كما تصفان فيجره إنكاره إلى الهلكة وذلك يدعوه إلى الإيمان أيضا إلا أن الأول للراسخين ولذا قدم، وقيل: يتذكر حاله حين احتبس النيل فسار إلى شاطئه وأبعد وخر لله تعالى ساجدا راغبا أن لا يخجله ثم ركب فأخذ النيل يتبع حافر فرسه فيستدل بذلك على عظيم حلم الله تعالى وكرمه أو يخشى ويحذر من بطش الله تعالى وعذابه سبحانه، والمعول على ما تقدم.
ولعل للترجي وهو راجع للمخاطبين، والجملة محل النصب حال من ضمير هما في قَوْلًا أي فقولا له قولا لينا راجيين أن يتذكر أو يخشى، وكلمة أو لمنع الخلو.
وحاصل الكلام باشرا الأمر مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله ولا يخيب سعيه فهو يجتهد بطوعه ويحتشد بأقصى وسعه، وقيل: حال من ضمير هما في اذْهَبا والأول أولى، وقيل: لعل هنا للاستفهام أي هل يتذكر أو يخشى. وأخرج ذلك ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قيل: وهو القول اللين، وأخرج ذلك مخرج قولك: قل لزيد هل يقوم.
وقال الفراء: هي هنا بمعنى كي التعليلية وهي أحد معانيها كما ذهب إليه جماعة منهم الأخفش. والكسائي بل حكى البغوي عن الواقدي أن جميع ما في القرآن من لعل فإنها للتعليل إلا قوله تعالى «لعلكم تخلدون» فإنها للتشبيه كما في صحيح البخاري وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك قال: لعل في القرآن بمعنى كي غير آية في [الشعراء: ١٢٩] لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ فإن المعنى كأنكم تخلدون، وأخرج عن قتادة أنه قال: قرىء كذلك، ولا يخفى أن كونها للتشبيه غريب لم يذكره النحاة، وحملها على الاستفهام هنا بعيد، ولعل التعليل أسبق إلى كثير من

صفحة رقم 508
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية