آيات من القرآن الكريم

قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ ۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ
ﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝ

وَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، وَعِنْدَ الْوُقُوفِ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَعْرِفُ أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ هُوَ النِّهَايَةُ فِي الْحُسْنِ وَالْجَوْدَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا من العالم بكل المعلومات.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٧ الى ٢١]
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يَا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١)
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ لَفْظَتَانِ، فَقَوْلُهُ: وَما تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَصَا، وَقَوْلُهُ: بِيَمِينِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْيَدِ، وَفِي هَذَا نُكَتٌ، إِحْدَاهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَشَارَ إِلَيْهِمَا جَعَلَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُعْجِزًا قَاهِرًا وَبُرْهَانًا بَاهِرًا، وَنَقَلَهُ مِنْ حَدِّ الْجَمَادِيَّةِ إِلَى مَقَامِ الْكَرَامَةِ، فَإِذَا صَارَ/ الْجَمَادُ بِالنَّظَرِ الْوَاحِدِ حَيَوَانًا، وَصَارَ الْجِسْمُ الْكَثِيفُ نُورَانِيًّا لَطِيفًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَنْظُرُ كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ نَظْرَةً إِلَى قَلْبِ الْعَبْدِ، فَأَيُّ عَجَبٍ لَوِ انْقَلَبَ قَلْبُهُ مِنْ مَوْتِ الْعِصْيَانِ إِلَى سَعَادَةِ الطَّاعَةِ وَنُورِ الْمَعْرِفَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ بِالنَّظَرِ الْوَاحِدِ صَارَ الْجَمَادُ ثُعْبَانًا يَبْتَلِعُ سِحْرَ السَّحَرَةِ، فَأَيُّ عَجَبٍ لَوْ صَارَ الْقَلْبُ بِمَدَدِ النَّظَرِ الْإِلَهِيِّ بِحَيْثُ يَبْتَلِعُ سِحْرَ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ. وَثَالِثُهَا: كَانَتِ الْعَصَا فِي يَمِينِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَبِسَبَبِ بَرَكَةِ يَمِينِهِ انْقَلَبَتْ ثُعْبَانًا وَبُرْهَانًا، وَقَلْبُ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ فَإِذَا حَصَلَتْ لِيَمِينِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ الْكَرَامَةُ وَالْبَرَكَةُ، فَأَيُّ عَجَبٍ لَوِ انْقَلَبَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ بِسَبَبِ إِصْبَعِي الرَّحْمَنِ مِنْ ظُلْمَةِ المعصية إلى نور العبودية، ثم هاهنا سؤالات: الأول: قوله: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى سُؤَالٌ، وَالسُّؤَالُ إِنَّمَا يَكُونُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَهُوَ عَلَى اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ. وَالْجَوَابُ فِيهِ فَوَائِدُ: إِحْدَاهَا: أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ مِنَ الشَّيْءِ الْحَقِيرِ شَيْئًا شَرِيفًا فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ وَيَعْرِضُهُ عَلَى الْحَاضِرِينَ وَيَقُولُ لَهُمْ: هَذَا مَا هُوَ؟ فَيَقُولُونَ هَذَا هُوَ الشَّيْءُ الْفُلَانِيُّ ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ إِظْهَارِ صِفَتِهِ الْفَائِقَةِ فِيهِ يَقُولُ لَهُمْ خُذَا مِنْهُ كَذَا وَكَذَا.
فاللَّه تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ مِنَ الْعَصَا تِلْكَ الْآيَاتِ الشَّرِيفَةَ كَانْقِلَابِهَا حَيَّةً، وَكَضَرْبِهِ الْبَحْرَ حَتَّى انْفَلَقَ، وَفِي الْحَجَرِ حَتَّى انْفَجَرَ مِنْهُ الْمَاءُ، عَرَضَهُ أَوَّلًا عَلَى مُوسَى فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: يَا مُوسَى هَلْ تَعْرِفُ حَقِيقَةَ هَذَا الَّذِي بِيَدِكَ وَأَنَّهُ خَشَبَةٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، ثُمَّ إِنَّهُ قَلَبَهُ ثُعْبَانًا عَظِيمًا، فَيَكُونُ بِهَذَا الطَّرِيقِ قَدْ نَبَّهَ الْعُقُولَ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَنِهَايَةِ عَظَمَتِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَظْهَرَ هَذِهِ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةَ مِنْ أَهْوَنِ الْأَشْيَاءِ عِنْدَهُ فَهَذَا هُوَ الْفَائِدَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَطْلَعَهُ عَلَى تِلْكَ الْأَنْوَارِ الْمُتَصَاعِدَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ إِلَى السَّمَاءِ وَأَسْمَعَهُ تَسْبِيحَ الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ أَسْمَعَهُ كَلَامَ نَفْسِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ مَزَجَ اللُّطْفَ بِالْقَهْرِ فَلَاطَفَهُ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ ثُمَّ قَهَرَهُ بِإِيرَادِ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ عَلَيْهِ وَإِلْزَامِهِ عِلْمَ الْمَبْدَأِ وَالْوَسَطِ وَالْمَعَادِ ثُمَّ خَتَمَ كُلَّ ذَلِكَ بِالتَّهْدِيدِ الْعَظِيمِ، تَحَيَّرَ مُوسَى وَدَهِشَ وَكَادَ لَا يَعْرِفُ الْيَمِينَ مِنَ الشِّمَالِ فقيل له: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى لِيَعْرِفَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ يَمِينَهُ هِيَ الَّتِي فِيهَا الْعَصَا، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا تَكَلَّمَ مَعَهُ أَوَّلًا بِكَلَامِ الْإِلَهِيَّةِ وَتَحَيَّرَ مُوسَى مِنَ الدَّهْشَةِ تَكَلَّمَ مَعَهُ بِكَلَامِ الْبَشَرِ إِزَالَةً لِتِلْكَ الدَّهْشَةِ وَالْحَيْرَةِ، وَالنُّكْتَةُ فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا غَلَبَتِ الدَّهْشَةُ عَلَى مُوسَى فِي الْحَضْرَةِ أَرَادَ رَبُّ الْعِزَّةِ إِزَالَتَهَا فَسَأَلَهُ عَنِ الْعَصَا وَهُوَ لَا يَقَعُ الْغَلَطُ فِيهِ. كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ إِذَا مَاتَ وَوَصَلَ إِلَى حَضْرَةِ ذِي الْجَلَالِ فَالدَّهْشَةُ

صفحة رقم 24

تَغْلِبُهُ وَالْحَيَاءُ يَمْنَعُهُ عَنِ الْكَلَامِ فَيَسْأَلُونَهُ عَنِ الْأَمْرِ الَّذِي لَمْ يَغْلَطْ فِيهِ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ التَّوْحِيدُ، فَإِذَا ذَكَرَهُ زَالَتِ الدَّهْشَةُ وَالْوَحْشَةُ عَنْهُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَرَّفَ مُوسَى كَمَالَ الْإِلَهِيَّةِ أَرَادَ أَنْ يُعَرِّفَهُ نُقْصَانَ الْبَشَرِيَّةِ، فَسَأَلَهُ عَنْ مَنَافِعِ الْعَصَا فَذَكَرَ بَعْضَهَا فَعَرَّفَهُ اللَّه تَعَالَى أَنَّ فِيهَا مَنَافِعَ أَعْظَمَ مِمَّا ذَكَرَ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْعُقُولَ قَاصِرَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ صِفَاتِ النَّبِيِّ الْحَاضِرِ فَلَوْلَا التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ كَيْفَ يُمْكِنُهُمُ الْوُصُولُ إِلَى مَعْرِفَةِ أَجَلِّ الْأَشْيَاءِ وَأَعْظَمِهَا. وَرَابِعُهَا:
فَائِدَةُ هَذَا السُّؤَالِ أَنْ يُقَرِّرَ عِنْدَهُ أَنَّهُ خَشَبَةٌ حَتَّى إِذَا قَلَبَهَا ثُعْبَانًا لَا يَخَافُهَا. السُّؤَالُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ/ يا مُوسى خِطَابٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُوسَى أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ. الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا خَاطَبَ مُوسَى فَقَدْ خَاطَبَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى
[النَّجْمِ: ١٠] إِلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْشَاهُ اللَّه إِلَى الْخَلْقِ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ سِرًّا لَمْ يَسْتَأْهِلْ لَهُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ. وَالثَّانِي:
إِنْ كَانَ مُوسَى تَكَلَّمَ مَعَهُ وَهُوَ [تَكَلَّمَ] مَعَ مُوسَى فَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَاطِبُونَ اللَّه فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّاتٍ عَلَى مَا
قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُصَلِّي يُنَاجِي رَبَّهُ»
وَالرَّبُّ يَتَكَلَّمُ مَعَ آحَادِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالتَّسْلِيمِ وَالتَّكْرِيمِ وَالتَّكْلِيمِ فِي قَوْلِهِ:
سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: ٥٨]. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا إِعْرَابُ قَوْلِهِ: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى الْجَوَابُ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» :(تِلْكَ بِيَمِينِكَ) كَقَوْلِهِ: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً [هُودٍ: ٧٢] فِي انْتِصَابِ الْحَالِ بِمَعْنَى الْإِشَارَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تِلْكَ اسْمًا مَوْصُولًا وَصِلَتُهُ بِيَمِينِكَ قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ وَمَا الَّتِي بِيَمِينِكَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ مَا هَذِهِ الَّتِي فِي يَمِينِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا سَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ ذَلِكَ أَجَابَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ، ثَلَاثَةٌ عَلَى التَّفْصِيلِ وَوَاحِدٌ عَلَى الْإِجْمَالِ. الْأَوَّلُ قَوْلُهُ: هِيَ عَصايَ قَرَأَ ابْنُ أَبِي إسحاق: (هي عصي) ومثلها: (يا بشرى) وقرأ الحسن (هي عصاي) بسكون الياء والنكث هاهنا ثَلَاثَةٌ. إِحْدَاهَا: أَنَّهُ قَالَ: هِيَ عَصايَ فَذَكَرَ الْعَصَا وَمَنْ كَانَ قَلْبُهُ مَشْغُولًا بِالْعَصَا وَمَنَافِعِهَا كَيْفَ يَكُونُ مُسْتَغْرِقًا فِي بَحْرِ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَلَكِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُرِضَ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى شَيْءٍ: مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النَّجْمِ: ١٧] وَلَمَّا قِيلَ لَهُ امْدَحْنَا،
قَالَ: «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ»
ثُمَّ نَسِيَ نَفْسَهُ وَنَسِيَ ثَنَاءَهُ
فَقَالَ: «أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ».
وَثَانِيهَا: لَمَّا قَالَ: عَصايَ قَالَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: أَلْقِها، فَلَمَّا أَلْقَاهَا فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى لِيَعْرِفَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّه فَالِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ شَاغِلٌ وَهُوَ كَالْحَيَّةِ الْمُهْلِكَةِ لَكَ. وَلِهَذَا قَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٧٧]
وَفِي الْحَدِيثِ: «يُجَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَاحِبِ الْمَالِ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ وَيُؤْتَى بِذَلِكَ الْمَالِ عَلَى صُورَةِ شُجَاعٍ أَقْرَعَ» الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَالَ هِيَ عَصَايَ فَقَدْ تَمَّ الْجَوَابُ، إِلَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ الْوُجُوهَ الْأُخَرَ لِأَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْمُكَالَمَةَ مَعَ رَبِّهِ فَجَعَلَ ذَلِكَ كَالْوَسِيلَةِ إِلَى تَحْصِيلِ هذا الغرض.
الثاني: قوله: أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَالتَّوَكِّي، وَالِاتِّكَاءُ، وَاحِدٌ كَالتَّوَقِّي، وَالَاتِّقَاءِ مَعْنَاهُ أَعْتَمِدُ عَلَيْهَا إِذَا عَيِيتُ أَوْ وَقَفْتُ عَلَى رَأْسِ الْقَطِيعِ أَوْ عِنْدَ الطَّفْرَةِ فَجَعَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَفْسَهُ مُتَوَكِّئًا عَلَى الْعَصَا
وَقَالَ اللَّه تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أتكئ على رحمتي»
بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَالِ: ٦٤] وَقَالَ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [الْمَائِدَةِ: ٦٧] فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَوْلُهُ: وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَقْتَضِي كَوْنَ مُحَمَّدٍ يَتَوَكَّأُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؟ قُلْنَا قوله: وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْكَافِ فِي قَوْلِهِ: حَسْبَكَ اللَّهُ وَالْمَعْنَى اللَّه حَسْبُكَ، وَحَسْبُ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي أَيْ أَخْبِطُ بِهَا فَأَضْرِبُ أَغْصَانَ الشَّجَرِ لِيَسْقُطَ وَرَقُهَا عَلَى غَنَمِي فَتَأْكُلُهُ. وَقَالَ أَهْلُ/ اللُّغَةِ: هش

صفحة رقم 25

عَلَى غَنَمِهِ، يَهُشُّ بِضَمِّ الْهَاءِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهَشَشْتُ الرَّجُلَ أَهَشُّ بِفَتْحِ الْهَاءِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهَشَّ الرَّغِيفَ يَهِشُّ بِكَسْرِ الْهَاءِ. قَالَهُ ثَعْلَبٌ، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: (وَأَهِسُّ) بِالسِّينِ غَيْرِ الْمَنْقُوطَةِ، وَالْهَشُّ زَجْرُ الْغَنَمِ، وَاعْلَمْ أَنَّ غَنَمَهُ رَعِيَّتُهُ فَبَدَأَ بمصالح نفسه في قوله: أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها ثُمَّ بِمَصَالِحِ رَعِيَّتِهِ فِي قَوْلِهِ: وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي فَكَذَلِكَ فِي الْقِيَامَةِ يَبْدَأُ بِنَفْسِهِ فَيَقُولُ: نَفْسِي نَفْسِي وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْتَغِلْ فِي الدُّنْيَا إِلَّا بِإِصْلَاحِ أَمْرِ الْأُمَّةِ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَالِ: ٣٣].
«اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»
فَلَا جَرَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَبْدَأُ أَيْضًا بِأُمَّتِهِ فَيَقُولُ: «أُمَّتِي أُمَّتِي». وَالرَّابِعُ: قَوْلُهُ: وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى أَيْ حَوَائِجُ وَمَنَافِعُ وَاحِدَتُهَا مَأْرَبَةٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا، وَحَكَى ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَقُطْرُبٌ بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْضًا، وَالْأَرَبُ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَالْإِرْبَةُ بِكَسْرِ الْأَلِفِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الْحَاجَةُ، وَإِنَّمَا قَالَ أُخْرَى لِأَنَّ الْمَآرِبَ فِي مَعْنَى جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ: جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَاجَاتِ أُخْرَى وَلَوْ جَاءَتْ أُخَرُ لَكَانَ صَوَابًا كَمَا قَالَ: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: ١٨٤] ثم هاهنا نُكَتٌ. إِحْدَاهَا: أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَ اللَّه تَعَالَى: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ عَرَفَ أَنَّ للَّه فِيهِ أَسْرَارًا عَظِيمَةً فَذَكَرَ مَا عَرَفَ وَعَبَّرَ عَنِ الْبَوَاقِي الَّتِي مَا عَرَفَهَا إِجْمَالًا لَا تَفْصِيلًا بِقَوْلِهِ: وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى. وَثَانِيهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَحَسَّ بِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا سَأَلَهُ عَنْ أَمْرِ الْعَصَا لِمَنَافِعَ عَظِيمَةٍ. فَقَالَ مُوسَى: إِلَهِي مَا هَذِهِ الْعَصَا إِلَّا كَغَيْرِهَا، لَكِنَّكَ لَمَّا سَأَلْتَ عَنْهَا عَرَفْتُ أَنَّ لِيَ فِيهَا مَآرِبَ أُخْرَى وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّكَ كَلَّمْتَنِي بِسَبَبِهَا فَوَجَدْتُ هَذَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَ الشَّرِيفَ بِسَبَبِهَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَجْمَلَ رجاء أن يسأل رَبُّهُ عَنْ تِلْكَ الْمَآرِبِ فَيَسْمَعَ كَلَامَ اللَّه مَرَّةً أُخْرَى وَيَطُولَ أَمْرُ الْمُكَالَمَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ بِسَبَبِ اللُّطْفِ انْطَلَقَ لِسَانُهُ ثُمَّ غَلَبَتْهُ الدَّهْشَةُ فَانْقَطَعَ لِسَانُهُ وَتَشَوَّشَ فِكْرُهُ فَأَجْمَلَ مَرَّةً أُخْرَى، ثُمَّ قَالَ وَهَبٌ: كَانَتْ ذَاتَ شُعْبَتَيْنِ كَالْمِحْجَنِ، فَإِذَا طَالَ الْغُصْنُ حَنَاهُ بِالْمِحْجَنِ، وَإِذَا حَاوَلَ كَسْرَهُ لَوَاهُ بِالشُّعْبَتَيْنِ، [وَ] إِذَا سَارَ وَضَعَهَا عَلَى عَاتِقِهِ يُعَلِّقُ فِيهَا أَدَوَاتِهِ مِنَ الْقَوْسِ وَالْكِنَانَةِ وَالثِّيَابِ، وَإِذَا كَانَ فِي الْبَرِّيَّةِ رَكَزَهَا وَأَلْقَى كِسَاءً عَلَيْهَا فَكَانَتْ ظِلًّا. وَقِيلَ: كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَقِي بِهَا فَتَطُولُ بِطُولِ الْبِئْرِ وَتَصِيرُ شُعْبَتَاهَا دَلْوًا وَيَصِيرَانِ شَمْعَتَيْنِ فِي اللَّيَالِي، وَإِذَا ظَهَرَ عَدُوٌّ حَارَبَتْ عَنْهُ. وَإِذَا اشْتَهَى ثَمَرَةً رَكَزَهَا فَأَوْرَقَتْ وَأَثْمَرَتْ. وَكَانَ يَحْمِلُ عَلَيْهَا زَادَهُ وَمَاءَهُ وَكَانَتْ تُمَاشِيهِ وَيَرْكِزُهَا فَيَنْبُعُ الْمَاءُ فَإِذَا رَفَعَهَا نصب وَكَانَتْ تَقِيهِ الْهَوَامَّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْجَوَابَاتِ أَمَرَهُ اللَّه تعالى بإلقاء العصا فقال: أَلْقِها يا مُوسى وَفِيهِ نُكَتٌ، إِحْدَاهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ: وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى أَرَادَ اللَّه أَنْ يُعَرِّفَهُ أَنَّ فِيهَا مَأْرَبَةً أُخْرَى لَا يَفْطَنُ لَهَا وَلَا يَعْرِفُهَا وَأَنَّهَا أَعْظَمُ مِنْ سائر مآربه فقال: أَلْقِها يَا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى. وَثَانِيَتُهَا:
كَانَ فِي رِجْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ النَّعْلُ وَفِي يَدِهِ شَيْءٌ وَهُوَ الْعَصَا، وَالرِّجْلُ آلَةُ الْهَرَبِ وَالْيَدُ آلَةُ الطَّلَبِ فَقَالَ أَوَّلًا: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه: ١٢] إِشَارَةً إِلَى تَرْكِ الْهَرَبِ، ثُمَّ قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْكِ الطَّلَبِ. كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: إِنَّكَ مَا دُمْتَ فِي مَقَامِ الْهَرَبِ وَالطَّلَبِ كُنْتَ مُشْتَغِلًا بِنَفْسِكَ/ وَطَالِبًا لِحَظِّكَ فَلَا تَكُونُ خَالِصًا لِمَعْرِفَتِي فَكُنْ تَارِكًا لِلْهَرَبِ وَالطَّلَبِ لِتَكُونَ خَالِصًا لِي. وَثَالِثَتُهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ عُلُوِّ دَرَجَتِهِ، وَكَمَالِ مَنْقَبَتِهِ لَمَّا وَصَلَ إِلَى الْحَضْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا النَّعْلَانِ وَالْعَصَا أَمَرَهُ بِإِلْقَائِهِمَا حَتَّى أَمْكَنَهُ الْوُصُولُ إِلَى الْحَضْرَةِ فَأَنْتَ مَعَ أَلْفِ وَقْرٍ مِنَ الْمَعَاصِي كَيْفَ يُمْكِنُكَ الْوُصُولُ إِلَى جنابه. وَرَابِعُهَا: أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُجَرَّدًا عَنِ الْكُلِّ مَا زَاغَ الْبَصَرُ فَلَا جَرَمَ وَجَدَ الْكُلَّ، لَعَمْرُكَ أَمَّا مُوسَى لَمَّا بَقِيَ مَعَهُ تِلْكَ الْعَصَا لَا جَرَمَ أَمَرَهُ بِإِلْقَاءِ الْعَصَا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَعْبِيَّ تَمَسَّكَ بِهِ فِي أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ قَبْلَ الْفِعْلِ فَقَالَ: الْقُدْرَةُ عَلَى إِلْقَاءِ الْعَصَا، إِمَّا أَنْ تُوجَدَ وَالْعَصَا فِي يَدِهِ أَوْ خَارِجَةٌ مِنْ يَدِهِ فَإِنْ أَتَتْهُ الْقُدْرَةُ وَهِيَ فِي يَدِهِ فَذَاكَ قَوْلُنَا: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [آلِ عمران: ١٨٢] وإذا

صفحة رقم 26

أَتَتْهُ وَلَيْسَتْ فِي يَدِهِ وَإِنَّمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يُلْقِيَ مِنْ يَدِهِ مَا لَيْسَ فِي يَدِهِ فَذَلِكَ مُحَالٌ، أَمَّا قَوْلُهُ: فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى فَفِيهِ أَسْئِلَةٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي قَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؟ الْجَوَابُ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا:
أَنَّهُ تَعَالَى قَلَبَهَا حَيَّةً لِتَكُونَ مُعْجِزَةً لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعْرِفُ بِهَا نُبُوَّةَ نَفْسِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ مَا سَمِعَ إِلَّا النِّدَاءَ، وَالنِّدَاءُ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلْعَادَاتِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُعْجِزًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ عَادَاتِ الْمَلَائِكَةِ أَوِ الْجِنِّ فَلَا جَرَمَ قَلَبَ اللَّه الْعَصَا حَيَّةً لِيَصِيرَ ذَلِكَ دَلِيلًا قَاهِرًا وَالْعَجَبُ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا فَصَدَقَهُ اللَّه تَعَالَى فِيهِ وَجَعَلَهَا مُتَّكَأً لَهُ بِأَنْ جَعَلَهَا مُعْجِزَةً لَهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ النِّدَاءَ كَانَ إِكْرَامًا لَهُ فَقَلَبَ الْعَصَا حَيَّةً مَزِيدًا فِي الْكَرَامَةِ لِيَكُونَ تَوَالِي الْخَلْعِ وَالْكَرَامَاتِ سَبَبًا لِزَوَالِ الْوَحْشَةِ عَنْ قَلْبِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عَرَضَ عَلَيْهِ لِيُشَاهِدَهُ أَوَّلًا فَإِذَا شَاهَدَهُ عِنْدَ فِرْعَوْنَ لَا يَخَافُهُ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ كَانَ رَاعِيًا فَقِيرًا ثُمَّ إِنَّهُ نُصِّبَ لِلْمَنْصِبِ الْعَظِيمِ فَلَعَلَّهُ بَقِيَ فِي قَلْبِهِ تَعَجُّبٌ مِنْ ذَلِكَ فَقَلَبَ الْعَصَا حَيَّةً تَنْبِيهًا عَلَى أَنِّي لَمَّا قَدَرْتُ عَلَى ذَلِكَ فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ مِنِّي نُصْرَةُ مِثْلِكَ فِي إِظْهَارِ الدِّينِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ لما قال: هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها إِلَى قَوْلِهِ: وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى فَقِيلَ لَهُ: أَلْقِها فَلَمَّا أَلْقَاهَا وَصَارَتْ حَيَّةً فَرَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهَا فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: ادَّعَيْتَ أَنَّهَا عَصَاكَ وَأَنَّ لَكَ فِيهَا مَآرِبَ أُخْرَى فَلِمَ تَفِرُّ مِنْهَا، تَنْبِيهًا عَلَى سِرِّ قَوْلِهِ: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذَّارِيَاتِ: ٥٠] وَقَوْلِهِ:
قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ [الْأَنْعَامِ: ٩١]. السُّؤَالُ الثَّانِي: قَالَ هاهنا حَيَّةٌ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ ثُعْبَانٌ وَجَانٌّ، أَمَّا الْحَيَّةُ فَاسْمُ جِنْسٍ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَأَمَّا الثُّعْبَانُ وَالْجَانُّ فَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ لِأَنَّ الثُّعْبَانَ الْعَظِيمَ مِنَ الْحَيَّاتِ وَالْجَانَّ الدَّقِيقُ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كَانَتْ وَقْتَ انْقِلَابِهَا حَيَّةً صَغِيرَةً دَقِيقَةً ثُمَّ تَوَرَّمَتْ وَتَزَايَدَ جِرْمُهَا حَتَّى صَارَتْ ثُعْبَانًا فَأُرِيدَ بِالْجَانِّ أَوَّلُ حَالِهَا وَبِالثُّعْبَانِ مَآلُهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا كَانَتْ فِي شَخْصِ الثُّعْبَانِ وَسُرْعَةِ حَرَكَةِ الْجَانِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تعالى: فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كَيْفَ كَانَتْ صِفَةُ الْحَيَّةِ. الْجَوَابُ كَانَ لَهَا عُرْفٌ كَعُرْفِ الْفَرَسِ وَكَانَ بَيْنَ لَحْيَيْهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَابْتَلَعَتْ كُلَّ مَا مَرَّتْ بِهِ مِنَ الصُّخُورِ وَالْأَشْجَارِ حَتَّى سَمِعَ مُوسَى صَرِيرَ الْحَجَرِ فِي فَمِهَا وَجَوْفِهَا، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لَمَّا نُودِيَ مُوسَى/ وَخُصَّ بِتِلْكَ الْكَرَامَاتِ الْعَظِيمَةِ وَعَلِمَ أَنَّهُ مَبْعُوثٌ مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى إِلَى الْخَلْقِ فَلِمَ خَافَ. وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ الْخَوْفَ كَانَ مِنْ نَفْرَةِ الطَّبْعِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا شَاهَدَ مِثْلَ ذَلِكَ قَطُّ. وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مَعْلُومَةٌ بِدَلَائِلِ الْعُقُولِ. وَعِنْدَ الْفَزَعِ الشَّدِيدِ قَدْ يَذْهَلُ الْإِنْسَانُ عَنْهُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى وَذَلِكَ الْخَوْفُ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى صِدْقِهِ فِي النُّبُوَّةِ لِأَنَّ السَّاحِرَ يَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي أَتَى بِهِ تَمْوِيهٌ فَلَا يَخَافُهُ الْبَتَّةَ. وَثَانِيهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: خَافَهَا لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَرَفَ مَا لَقِيَ آدَمُ مِنْهَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مُجَرَّدَ تلك الطاعة لكن قَوْلِهِ: لَا تَخَفْ لَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الخوف كقوله تعالى: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ [الأحزاب: ١] لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ تِلْكَ الطَّاعَةِ لَكِنَّ قَوْلَهُ: فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً [النَّمْلِ: ١٠] يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْخَوْفَ إِنَّمَا ظَهَرَ لِيَظْهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَظْهَرَ تَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِالْعَصَا وَالنَّفْرَةَ عَنِ الثُّعْبَانِ، وَأَمَّا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَمَا أَظْهَرَ الرَّغْبَةَ فِي الْجَنَّةِ وَلَا النَّفْرَةَ عَنِ النَّارِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: مَتَى أَخَذَهَا، بَعْدَ انْقِلَابِهَا عَصًا أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ. وَالْجَوَابُ:
رُوِيَ أَنَّهُ أَدْخَلَ يَدَهُ بَيْنَ أَسْنَانِهَا فَانْقَلَبَتْ خَشَبَةً
وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى وَذَلِكَ يَقَعُ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَأَيْضًا فَهَذَا أَقْرَبُ لِلْكَرَامَةِ لِأَنَّهُ كَمَا أَنَّ انْقِلَابَ الْعَصَا حَيَّةً مُعْجِزَةٌ فَكَذَلِكَ إِدْخَالُ يَدِهِ فِي فَمِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرِ مُعْجِزَةٌ وَانْقِلَابُهَا خَشَبًا مُعْجِزٌ آخَرُ فَيَكُونُ فِيهِ تَوَالِي الْمُعْجِزَاتِ فَيَكُونُ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كَيْفَ أَخَذَهُ،

صفحة رقم 27
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية