آيات من القرآن الكريم

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ

بعض حالات مخالفة اليهود الميثاق
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨٤ الى ٨٦]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦)
الإعراب:
ثُمَّ أَنْتُمْ... أنتم مبتدأ، وهؤُلاءِ خبره وتَقْتُلُونَ جملة فعلية حال من «أولاء». وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى أسارى: حال من ضمير الفاعل في يَأْتُوكُمْ وأسارى على وزن فعالى، وأكثر ما يجيء «فعالى» في جمع فعلان نحو سكران وكسلان، ولما كان الأسير محبوسا عن التصرف في الأمور أشبه السكران والكسلان، لأنهما كالمحبوسين عن التصرف لاستيلاء السكر والكسل عليهما. وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ هو: أي الإخراج الذي دل عليه قوله: وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مبتدأ، ومُحَرَّمٌ خبره، وإِخْراجُهُمْ بدل من هُوَ ويصح جعل هُوَ ضمير الشأن، وهو مبتدأ أول، وإخراجهم مبتدأ ثان، ومحرم: خبر مقدم، والجملة من المبتدأ والخبر خبر المبتدأ الأول ومفسرة له، وتكون جملة: هو والخبر اعتراضية فَما جَزاءُ.. ما: استفهامية:
أي، أي شيء جزاء من يفعل ذلك منكم، وفَما مبتدأ، وجَزاءُ خبره، وخِزْيٌ بدل من جزاء. يَوْمَ الْقِيامَةِ ظرف زمان منصوب، وعامله ما بعده وهو يُرَدُّونَ.

صفحة رقم 213

البلاغة:
تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ أي بعضكم، ومن قتل غيره فكأنما قتل نفسه، فهو مجاز.
أَفَتُؤْمِنُونَ استفهام إنكاري للتوبيخ. خِزْيٌ تنكيره للتفخيم والتهويل.
المفردات اللغوية:
تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ تريقونها بقتل بعضكم بعضا. وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ لا يخرج بعضكم بعضا من داره. ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ قبلتم ذلك الميثاق. وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ على أنفسكم.
تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ يقتل بعضكم بعضا. تَظاهَرُونَ تتظاهرون أي تتعاونون عليهم.
بِالْإِثْمِ بالمعصية أو الذنب: وهو الفعل الذي يستحق فاعله الذم واللوم. وَالْعُدْوانِ الظلم والاعتداء. أُسارى أسرى جمع أسير، أي مأسورين. تُفادُوهُمْ تنقذوهم من الأسر بالفداء من مال أو غيره، وهو مما عهد إليهم. خِزْيٌ هوان وذل.
اشْتَرَوُا استبدلوا.
المناسبة التاريخية المتجددة:
كان سفك الدماء وتقاتل اليهود وطرد بعضهم بعضا من ديارهم ظاهرة شائعة فيهم، وظللت هذه الظاهرة إلى عصر التنزيل القرآني، فكان يهود بني قريظة حالفوا الأوس، ويهود بني النضير حالفوا الخزرج، فإذا نشبت الحرب بينهم، كان كل فريق من اليهود يقاتل مع حلفائه، فيقتل اليهودي يهوديا آخر، ويخرب بعضهم ديار بعض، ويخرجونهم من بيوتهم، وينهبون ما فيها من الأثاث والمال، مع أن ذلك محرم عليهم بنص التوراة، وإذا أسر بعضهم فدوهم بالمال، وكانوا إذا سئلوا، لم تقاتلونهم وتفدونهم، قالوا: أمرنا- أي في التوراة- بالفداء، فيقال: فلم تقاتلونهم؟ فيقولون: حياء أن تستذل حلفاؤنا، فأنزل الله: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ «١»

(١) تفسير ابن كثير: ١/ ١٢١

صفحة رقم 214

وكانت الآيات السابقة تذكيرا لبني إسرائيل الذين كانوا في عصر موسى عليه السلام بأهم الأوامر التي أمروا بها من عبادة الله وحده والإحسان إلى الوالدين وذوي القربى وغير ذلك، أما هذه الآيات فكانت للتذكير بأهم المنهيات التي خطرت عليهم، والخطاب للحاضرين في عصر النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو دليل على تضامن الأمة، وأنها كالفرد يصيب خلفها أثر ما كان عليه سلفها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
التفسير والبيان:
واذكر يا محمد لليهود وقت أخذنا عليهم في التوراة العهد بأن لا يقتل بعضهم بعضا، ولا يخرج بعضهم بعضا من دياره ووطنه. وفي تعبير «دماءكم، وأنفسكم، ودياركم» إشارة إلى أن دم غيره من المجتمع كدم نفسه، فمن قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، وهو ما تقرره الآية (٣٢) من سورة المائدة.
ثم أقررتم أيها اليهود المعاصرون بالميثاق الذي أخذ على أسلافكم، ولم تنكروه، فالحجة قائمة عليكم.
ثم أنتم بعد الاعتراف بالميثاق تنقضون العهد، فيقتل بعضكم بعضا، كما كان يفعل من قبلكم، فكانت بنو قينقاع أعداء بني قريظة، وكان يهود بني قريظة حلفاء الأوس يقاتلون يهود بني النضير حلفاء الخزرج، إذا تقاتل الأوس والخزرج، وكان مقتضى الاتفاق في الدين واللغة والنسب بين اليهود أن يكونوا جميعا صفا واحدا.
وكذلك كان كل من اليهود يعاون حلفاءه على إخوانه اليهود بالإثم كالقتل والسلب والنهب، والعدوان كالإخراج من الديار. وكانوا إذا تم الاتفاق على مفاداة الأسرى، يفدي بالمال كل فريق من اليهود أبناء جنسه، عملا بالكتاب

صفحة رقم 215

المقدس، مع أن السبب الذي أدى إلى الأسر وهو الطرد والإجلاء محرم عليكم في التوراة كتحريم القتل، فكيف تؤمنون ببعض الكتاب وتمتثلون حكم مفاداة الأسرى، وتكفرون بالأحكام الأخرى، فترتكبون جرائم القتل والإخراج والتعاون بالإثم والاعتداء، علما بأن الإيمان بشيء لا يتجزأ، والكفر ببعضه كالكفر بكله؟
فمن آمن ببعض التوراة، وكفر ببعضها الآخر، ليس له جزاء على هذا الفعل المتناقض المستهجن إلا ذل وهوان في الدنيا، وعذاب أليم دائم في الآخرة، وما الله بغافل عن عمل إنسان، فهو يجازيه على سيئاته.
ثم قررت الآيات حكما عاما لأولئك اليهود وغيرهم: وهو أن من آثروا الحياة الدنيا كالزعامة الفارغة وأخذ المال، على الآخرة وما فيها من نعيم مقيم، فهم باعوا آخرتهم بدنياهم بتقديم حظوظهم العاجلة الفانية على حظوظهم الدائمة الخالدة، وبترك أوامر الله في كتابه، فلا يخفف عنهم العذاب الأخروي، ولا يفتر عنهم ساعة واحدة، ولا هم ينصرون في الدنيا والآخرة، فلا شافع يشفع بهم، ولا ولي يدفع عنهم العقاب في جهنم، لأن خطاياهم كثيرة، أحاطت بهم، فحجبتهم عن الرحمة الإلهية، وأبعدتهم عن الفيض الإلهي.
وهكذا كل أمة ذات دين، تؤدي بعض أحكامه كالصلاة والصوم والحج، وتخالف أحكامه الأخرى، فلم تؤد الزكاة وامتنع الأغنياء عن أداء حقوق الفقراء، وشاع فيها الربا والزنا والسرقة والرشوة والبغي والظلم، وأهملت الأسس التي يقوم عليها بنيان النظام الحكومي من العدل، والمساواة، والشورى، والجهاد في سبيل الله ونصرة المؤمنين المستضعفين، فإنها معرّضة للخزي (الهوان) في الدنيا، والعذاب في نار جهنم في الآخرة.

صفحة رقم 216

فقه الحياة أو الأحكام:
الوفاء بالعهد من صفات المؤمنين المخلصين، والإخلال بالعهد من صفات الكافرين والمنافقين، ومن ألزم العهود والمواثيق الواجب تنفيذها واحترامها هو عهد الله، فمن أخل به ولم يرع جميع بنوده وأحكامه، استحق العقاب والتوبيخ والاستهجان. وفي تعبير القرآن عن المخالفة والمعصية بالكفر دليل على أن من يقدم على الذنب، ولا يبالي بنهي الله، فهو كافر به.
وإن تجزئة أحكام الله، بأخذ بعضها وقبوله، ورفض بعضها والإعراض عنه، كفر بجميع الأحكام الإلهية. قال العلماء: كان الله تعالى قد أخذ على اليهود أربعة عهود: ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، وفداء أساراهم، فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء، فوبخهم الله على ذلك توبيخا يتلى، فقال: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وهو التوراة وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ «١».
وقد أكدت شريعتنا حكم فداء الأسارى وأنه واجب، قال علماء المالكية وغيرهم: فداء الأسرى واجب، وإن لم يبق درهم واحد. قال ابن خويز منداد:
تضمنت الآية وجوب فك الأسرى، وبذلك وردت الآثار عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه فك الأسارى وأمر بفكّهم، وجرى بذلك عمل المسلمين، وانعقد به الإجماع. ويجب فك الأسارى من بيت المال، فإن لم يكن فهو فرض على كافة المسلمين، ومن قام به منهم أسقط الفرض عن الباقين «٢».

(١) تفسير القرطبي: ٢/ ٢٢
(٢) المرجع والمكان السابق، أحكام القرآن للجصاص: ١/ ٤٠

صفحة رقم 217
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية