
في قتله، فأخبرهم بقاتله، وما وبالسبب الذي من أجله قتله، (١) كما قد وصفنا قبل على ما جاءت الآثار والأخبار - وفصل الله تعالى ذكره بخبره بين المحق منهم والمبطل (٢). وكانت قساوة قلوبهم التي وصفهم الله بها، أنهم -فيما بلغنا- أنكروا أن يكونوا هم قتلوا القتيل الذي أحياه الله، فأخبر بني إسرائيل بأنهم كانوا قتلته، بعد إخباره إياهم بذلك، وبعد ميتته الثانية، كما:-
١٣١٤ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما ضرب المقتول ببعضها - يعني ببعض البقرة - جلس حيا، فقيل له: من قتلك؟ فقال: بنو أخي قتلوني. ثم قبض فقال بنو أخيه حين قبض: والله ما قتلناه! فكذبوا بالحق بعد إذ رأوه، فقال الله: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك) -يعني بني أخي الشيخ- (فهي كالحجارة أو أشد قسوة).
١٣١٥ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك)، يقول: من بعد ما أراهم الله من إحياء الموتى، وبعد ما أراهم من أمر القتيل - ما أراهم،"فهي كالحجارة أو أشد قسوة".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (فهي) :"قلوبكم". يقول: ثم صلبت قلوبكم -بعد إذ رأيتم الحق فتبينتموه وعرفتموه- عن الخضوع له والإذعان لواجب حق الله عليكم، فقلوبكم كالحجارة صلابة ويبسا وغلظا وشدة، أو أشد قسوة"،
(٢) سياق العبارة بلا فصل"من بعد أن أحيى المقتول لهم.. وفصل بخبره بين المحق منهم والمبطل".

يعني: قلوبهم - عن الإذعان لواجب حق الله عليهم، والإقرار له باللازم من حقوقه لهم- أشد صلابة من الحجارة. (١)
* * *
فإن سأل سائل فقال: وما وجه قوله: (فهي كالحجارة أو أشد قسوة)، و"أو" عند أهل العربية، إنما تأتي في الكلام لمعنى الشك، والله تعالى جل ذكره غير جائز في خبره الشك؟
قيل: إن ذلك على غير الوجه الذي توهمته، من أنه شك من الله جل ذكره فيما أخبر عنه، ولكنه خبر منه عن قلوبهم القاسية، أنها - عند عباده الذين هم أصحابها، الذين كذبوا بالحق بعد ما رأوا العظيم من آيات الله - كالحجارة قسوة أو أشد من الحجارة، عندهم وعند من عرف شأنهم.
* * *
وقد قال في ذلك جماعة من أهل العربية أقوالا فقال بعضهم: إنما أراد الله جل ثناؤه بقوله: (فهي كالحجارة أو أشد قسوة)، وما أشبه ذلك من الأخبار التي تأتي ب"أو"، كقوله: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات: ١٤٧]، وكقول الله جل ذكره: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ: ٢٤] [الإبهام على من خاطبه] (٢) فهو عالم أي ذلك كان. قالوا: ونظير ذلك قول القائل: أكلت بسرة أو رطبة، (٣) وهو عالم أي ذلك أكل، ولكنه أبهم على المخاطب، كما قال أبو الأسود الدؤلي:
أحب محمدا حبا شديدا | وعباسا وحمزة والوصيا (٤) |
(٢) اللسان (سكن). غاله الشيء يغوله: ذهب به فلم تدر أين هو وأجن: ستر وأخفى.
(٣) ما بين القوسين زيادة لا بد منها حتى يستقيم الكلام، استظهرته من قوله بعد: "ولكنه أبهم على المخاطب"، ومن تفسير ابن كثير ١: ٢٠٩، ٢١٠.
(٤) ديوانه: ٣٢ (من نفائس المخطوطات)، والأغاني ١١: ١١٣، وإنباه الرواة ١: ١٧، وسيأتي البيت الثاني وحده في ٢٢: ٦٥ (بولاق) ورواية الديوان: "وفيهم أسوة إن كان غيا".

فإن يك حبهم رشدا أصبه | ولست بمخطئ إن كان غيا |
* * *
وقال بعضهم: ذلك كقول القائل:"ما أطعمتك إلا حلوا أو حامضا"، وقد أطعمه النوعين جميعا. فقالوا: فقائل ذلك لم يكن شاكا أنه قد أطعم صاحبه الحلو والحامض كليهما، ولكنه أراد الخبر عما أطعمه إياه أنه لم يخرج عن هذين النوعين. قالوا: فكذلك قوله: (فهي كالحجارة أو أشد قسوة)، إنما معناه: فقلوبهم لا تخرج من أحد هذين المثلين، إما أن تكون مثلا للحجارة في القسوة، وإما أن تكون أشد منها قسوة. ومعنى ذلك على هذا التأويل: فبعضها كالحجارة قسوة، وبعضها أشد قسوة من الحجارة.
وقال بعضهم:"أو" في قوله: (أو أشد قسوة)، بمعنى، وأشد قسوة، كما قال تبارك وتعالى: (ولا تطع منهم آثما أو كفورا) [الإنسان: ٢٤] بمعنى: وكفورا، وكما قال جرير بن عطية:
نال الخلافة أو كانت له قدرا | كما أتى ربه موسى على قدر (٢) |
قالت:
ألا ليتما هذا الحمام لنا | إلى حمامتنا أو نصفه فقد (٣) |
(٢) سلف هذا البيت وتخريجه في ١: ٣٣٧.
(٣) ديوانه: ٣٢، وروايته هناك"ونصفه". وهو من قصيدته المشهورة التي يعتذر فيها إلى النعمان. والضمير في قوله: "قالت" إلى"فتاة الحي، المذكورة في شعر قبله، وهي زرقاء اليمامة. وهو خبر مشهور، لا نطيل بذكره.

يريد. ونصفه
* * *
وقال آخرون:"أو" في هذا الموضع بمعنى"بل"، فكان تأويله عندهم: فهي كالحجارة بل أشد قسوة، كما قال جل ثناؤه: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات: ١٤٧]، بمعنى: بل يزيدون.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فهي كالحجارة، أو أشد قسوة عندكم.
* * *
قال أبو جعفر: ولكل مما قيل من هذه الأقوال التي حكينا وجه ومخرج في كلام العرب. غير أن أعجب الأقوال إلي في ذلك ما قلناه أولا ثم القول الذي ذكرناه عمن وجه ذلك إلى أنه بمعنى: فهي أوجه في القسوة: إما أن تكون كالحجارة، أو أشد، (١) على تأويل أن منها كالحجارة، ومنها أشد قسوة. لأن"أو"، وإن استعملت في أماكن من أماكن"الواو" حتى يلتبس معناها ومعنى"الواو"، لتقارب معنييهما في بعض تلك الأماكن - (٢) فإن أصلها أن تأتي بمعنى أحد الاثنين. فتوجيهها إلى أصلها - ما وجدنا إلى ذلك سبيلا (٣) أعجب إلي من إخراجها عن أصلها، ومعناها المعروف لها.
* * *
قال أبو جعفر: وأما الرفع في قوله: (أو أشد قسوة) فمن وجهين: أحدهما: أن يكون عطفا على معنى"الكاف" في قوله: (كالحجارة)، لأن معناها الرفع. وذلك أن معناها معنى"مثل"، [فيكون تأويله] (٤) فهي مثل الحجارة أو أشد قسوة من الحجارة.
(٢) انظر ما سلف في ١: ٣٢٧ - ٣٢٨.
(٣) في المطبوعة: "من وجد إلى ذلك سبيلا". وهو خطأ.
(٤) زدت ما بين القوسين، ليستقيم الكلام.

والوجه الآخر: أن يكون مرفوعا، على معنى تكرير"هي" عليه. فيكون تأويل ذلك: فهي كالحجارة، أو هي أشد قسوة من الحجارة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ذكره: (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار) : وإن من الحجارة حجارة يتفجر منها الماء الذي تكون منه الأنهار، فاستغنى بذكر الأنهار عن ذكر الماء. (١) وإنما ذكر فقال"منه"، للفظ"ما". (٢)
* * *
و"التفجر":"التفعل" من"تفجر الماء"، (٣) وذلك إذا تنزل خارجا من منبعه. وكل سائل شخص خارجا من موضعه ومكانه، فقد"انفجر"، ماء كان ذلك أو دما أو صديدا أو غير ذلك، ومنه قوله عمر بن لجأ:
ولما أن قرنت إلى جرير | أبى ذو بطنه إلا انفجارا (٤) |
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: وإن منها لما يشقق"،
(٢) في المطبوعة: "وإنما ذكر فقيل.. "، وهو لا شيء.
(٣) في المطبوعة: "من: فجر الماء"، وهو خطأ يدل السياق على خلافه، وهو ما أثبت.
(٤) طبقات فحول الشعراء: ٣٦٩، والأغاني ٨: ٧٢، وروايتهما"إلا انحدارا"، وراوية الطبري أعرق في الشعر. وفي المطبوعة"قربت"، وهو خطأ محض. قاله عمر بن لجأا حين أخذهما أبو بكر ابن حزم - بأمر الوليد بن عبد الملك - فقرنهما، وأقامهما على البلس يشهر بهما، فكان التميمي ينشد هذا البيت في هجاء جرير. وقوله: "ذو بطنه"، كناية جيدة عما يشمأز من ذكره.

وإن من الحجارة لحجارة يشقق. وتشققها: تصدعها. (١) وإنما هي: لما يتشقق، ولكن التاء أدغمت في الشين فصارت شينا مشددة.
وقوله: (فيخرج منه الماء) فيكون عينا نابعة وأنهارا جارية.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن من الحجارة لما يهبط - أي يتردى من رأس الجبل إلى الأرض والسفح - (٢) من خوف الله وخشيته. وقد دللنا على معنى"الهبوط" فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٣)
* * *
قال أبو جعفر: وأدخلت هذه"اللامات" اللواتي في"ما"، توكيدا للخبر.
وإنما وصف الله تعالى ذكره الحجارة بما وصفها به - من أن منها المتفجر منه الأنهار، وأن منها المتشقق بالماء، وأن منها الهابط من خشية الله، بعد الذي جعل منها لقلوب الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بني إسرائيل، (٤) مثلا - معذرة منه جل ثناؤه لها، (٥) دون الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بني إسرائيل إذ كانوا بالصفة التي وصفهم الله بها من التكذيب لرسله، والجحود لآياته، بعد الذي أراهم من الآيات والعبر، وعاينوا من عجائب الأدلة والحجج، مع ما أعطاهم تعالى ذكره من صحة العقول، ومن به عليهم من سلامة النفوس التي لم
(٢) تردى من الجبل ترديا: طاح وسقط.
(٣) انظر ما سلف ١: ٥٣٤، وهذا الجزء ٢: ١٣٢.
(٤) سياق هذه العبارة: جعل منها مثلا لقلوب الذين.
(٥) وسياق هذه الجملة: وإنما وصف الله بما وصفها به.. معذرة منه لها" أي للحجارة، وما بين ذلك فصل كدأب جعفر رحمه الله.

يعطها الحجر والمدر، ثم هو مع ذلك منه ما يتفجر بالأنهار، ومنه ما يتشقق بالماء، ومنه ما يهبط من خشية الله، فأخبر تعالى ذكره أن من الحجارة ما هو ألين من قلوبهم لما يدعون إليه من الحق، كما:-
١٣١٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق.
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٣١٧ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله)، قال: كل حجر يتفجر منه الماء، أو يتشقق عن ماء، أو يتردى من رأس جبل، فهو من خشية الله عز وجل، نزل بذلك القرآن.
١٣١٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
١٣١٩ - حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (فهي كالحجارة أو أشد قسوة) ثم عذر الحجارة ولم يعذر شقي ابن آدم. فقال: (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله).
١٣٢٠ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أحبرنا معمر، عن قتادة مثله.
١٣٢١ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: ثم عذر الله الحجارة فقال: (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء).
١٣٢٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن

جريج أنه قال: فيها كل حجر انفجر منه ماء، أو تشقق عن ماء، أو تردى من جبل، فمن خشية الله. نزل به القرآن.
* * *
قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في معنى هبوط ما هبط من الحجارة من خشية الله.
فقال بعضهم: إن هبوط ما هبط منها من خشية الله تفيؤ ظلاله. (١)
وقال آخرون: ذلك الجبل الذي صار دكا إذ تجلى له ربه. (٢)
وقال بعضهم: ذلك كان منه ويكون، بأن الله جل ذكره أعطى بعض الحجارة المعرفة والفهم، فعقل طاعة الله فأطاعه.
١٣٢٤ - كالذي روي عن الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله ﷺ إذا خطب، فلما تحول عنه حن. (٣)
١٣٢٥ - وكالذي روي عن النبي ﷺ أنه قال:"إن حجرا كان يسلم علي في الجاهلية إني لأعرفه الآن". (٤)
(٢) يريد قوله تعالى في سورة الأعراف: ١٤٣: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا).
(٣) الحديث: ١٣٢٤ - قصة حنين الجذع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، متواترة صحيحة، لا يشك في صحتها إلا من لا يريد أن يؤمن. وقد عقد الحافظ ابن كثير في التاريخ بابا لذلك ٦: ١٢٥ - ١٣٢ قال في أوله: "باب حنين الجذع شوقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشفقا من فراقه. وقد ورد من حديث جماعة من الصحابة، بطرق متعددة، تفيد القطع عند أئمة هذا الشأن، وفرسان هذا الميدان، ثم ساق من الأحاديث الصحاح من دواوين السنة. وانظر منها في المسند: ٢٢٣٦، ٣٤٣٠ من حديث ابن عباس. و٢٢٣٧، ٣٤٣١، من حديث أنس. و٣٤٣٢ من حديث ابن عباس وأنس. وصحيح البخاري ٦: ٤٤٣ (من الفتح).
(٤) الحديث: ١٣٢٥ - روى مسلم في صحيحه ٢: ٢٠٣ - ٢٠٤، عن جابر بن سمرة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعرف حجرا بمكة، كان يسلم عليّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن". وذكره ابن كثير في التاريخ ٦: ١٣٤، من مسند أحمد، ثم نسبه لصحيح مسلم، ومسند الطيالسي.

وقال آخرون: بل قوله: (يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) كقوله: (جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) ولا إرادة له. قالوا وإنما أريد بذلك أنه من عظم أمر الله، يرى كأنه هابط خاشع من ذل خشية الله، كما قال زيد الخيل:
بجمع تضل البلق في حَجَراته | ترى الأكْمَ منه سجدا للحوافر (١) |
ساجد المنخر لا يرفعه | خاشع الطرف أصم المستمع (٢) |
وكما قال جرير بن عطية:
لما أتى خبر الرسول تضعضعت | سور المدينة والجبال الخشع (٤) |
وقال آخرون: معنى قوله: (يهبط من خشية الله)، أي: يوجب الخشية لغيره، بدلالته على صانعه، كما قيل:"ناقة تاجرة"، إذا كانت من نجابتها وفراهتها تدعو الناس إلى الرغبة فيها، كما قال جرير بن عطية:
(٢) المفضليات: ٤٠٧، والأضداد لابن الأنباري: ٢٥٧. من قصيدته المحكمة. و"ساجد" منصوب إذ قبله، في ذكر عدوه هذا:
ثم ولى وهو لا يحمى استه | طائر الإتراف عنه قد وقع |
فر مني هاربا شيطانه | حيث لا يعطى، ولا شيئا منع |
(٤) سلف هذا البيت وتخرجه في هذا الجزء ٢: ١٧، وروايته هناك "خبر الزبير"، وهي أصح وأجود.

وأعور من نبهان، أما نهاره | فأعمى، وأما ليله فبصير (١) |
* * *
وهذه الأقوال، وإن كانت غير بعيدات المعنى مما تحتمله الآية من التأويل، فإن تأويل أهل التأويل من علماء سلف الأمة بخلافها، فلذلك لم نستجز صرف تأويل الآية إلى معنى منها. (٢)
* * *
وقد دللنا فيما مضى على معنى"الخشية"، وأنها الرهبة والمخافة، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (وما الله بغافل عما تعملون)، وما الله بغافل -يا معشر المكذبين بآياته، والجاحدين نبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والمتقولين عليه الأباطيل من بني إسرائيل وأحبار اليهود- عما تعملون من أعمالكم الخبيثة، وأفعالكم الرديئة، ولكنه محصيها عليكم، فمجازيكم بها في الآخرة، أو معاقبكم بها في الدنيا. (٤)
(٢) ليت من تهور من أهل زماننا، فاجترأ على جعل كتاب ربه منبعا يستقى منه ما يشاء لأهوائه وأهواء أصحاب السلطان - سمع ما يقول أبو جعفر، فيما تجيزه لغة العرب، فكيف بما هو تهجم على كلام ربه بغير علم ولا هدى ولا حجة؟ اللهم إنا نبرأ إليك منهم، ونستعيذ بك أن نضل على آثارهم.
(٣) انظر ما سلف ١: ٥٥٩ - ٥٦٠، وهو من تفسير" فارهبون"، ولم ترد مادة (خشي) في القرآن قبل هذا الموضع، فلذلك قطعت بأنه أحال على هذه الآية.
(٤) كانت في المطبوعة"يحصيها،.. فيجازيكم.. أو يعاقبكم" بالياء في أولها جميعا، واستجزت أن أردها إلى الاسمية، لأن الطبري هكذا يقول، وقد سلف مثل ذلك مرارا، ورأيت النساخ تصرفوا فيه كما بيناه في موضعه. فاستأنست بنهجه في بيانه، وهو أبلغ وأقوم.