آيات من القرآن الكريم

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ

مجرد كما يقوله الفلاسفة. وعلى التقادير فلا امتناع في بقاء ذلك الشيء مع تطرق التغير إلى هذا الهيكل وهذا هو المسخ، وبهذا التأويل يجوز في الملك الذي تكون جثته في غاية العظم أن يدخل حجرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولأنه لم يتغير منهم إلا الخلقة والصورة والعقل، والفهم باق فإنهم يعرفون ما نالهم بشؤم المعصية من تغير الخلقة وتشوّه الصورة وعدم القدرة على النطق وسائر الخواص الإنسانية، فيتألمون بذلك ويتعذبون، ثم أولئك القرود بقوا أو أفناهم الله، وإن بقوا فهذه القرود التي في زماننا من نسلهم أم لا، الكل جائز عقلا إلا أن الرواية عن ابن عباس أنهم ما مكثوا إلا ثلاثة أيام ثم هلكوا فَجَعَلْناها أي المسخة أو القردة أو قرية أصحاب السبت أو هذه الأمة نَكالًا عقوبة شديدة رادعة عن الإقدام على المعصية. والنكول عن اليمين الامتناع عنها. ولم يقصد بذلك ما يقصده الناس من التشفي وإطفاء نائرة الغيظ، وإنما جعلناها عبرة لما قبلها ومعها وبعدها من الأمم والقرون، لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين فاعتبروا بها وسيبلغ خبرها إلى الآخرين فيعتبرون، أو أريد بما بين يديها ما بحضرتها من القرى والأمم، أو جعلناها عقوبة لجميع ما ارتكبوه قبل هذا الفعل وبعده، هكذا قال بعضهم، والأولى عندي أن يقال: جعلناها عقوبة لأجل ذنوب تقدمت المسخة، ولأجل ذنوب تأخرت عنها، لأنهم إن لم يكونوا ممسوخين لم ينتهوا عنها فهم في حكم المرتكبين لها. ولا يلزم من ذلك تجويز العقاب على الذنب المفروض الموهوم لأنه أمر اعتباري، والعقوبة في نفسها واحدة ثابتة على حالها لم تزدد لأجل الذنب المتأخر شيئا، فليس الأمر فيه كمن ضرب عبده لأجل الإباق المتقدم مائة جلدة، ولأجل الإباق المتأخر المترقب مائة أخرى، ولكنه كمن قيد عبده أو حبسه لأجل الإباق المتقدم والإباق المترقب والله أعلم وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ لأن منفعة الاتعاظ تعود إليهم لا إلى غيرهم مثل هُدىً لِلْمُتَّقِينَ أو ليعظ المتقون بعضهم بعضا. وقيل: للمتقين الذين نهوهم عن الاعتداء من
صالحي قومهم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٧ الى ٧٤]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤)

صفحة رقم 306

القراآت:
يَأْمُرُكُمْ بالاختلاس: أبو عمرو وكذلك كل فعل مستقبل مهموز من ذوات الراء. هُزُواً ساكنة الزاء مهموزة، حمزة وخلف وعباس والمفضل وإسماعيل. وقرأ حمزة مبدلة الواو من الهمزة في الوقف لمكان الخط، وقرأ حفض غير الخراز مثقلا غير مهموز، الباقون: مثقلا مهموزا جِئْتَ وبابه بغير همزة: أبو عمرو ويزيد والأعشى وحمزة في الوقت فَادَّارَأْتُمْ بغير همزة: أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف، عما يعملون بالياء التحتانية: ابن كثير.
الوقوف:
بَقَرَةً (ط) هُزُواً (ط) الْجاهِلِينَ (هـ) نصف الجزء ما هِيَ (ط) وَلا بِكْرٌ (ط) لأن التقدير هي عوان بَيْنَ ذلِكَ (ط) على تقدير قد تبين لكم فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (هـ) ما لَوْنُها (ط) صَفْراءُ (لا) إلى آخر الآية لأن الجملة صفة بعد صفة النَّاظِرِينَ (هـ) ما هِيَ (لا) لأن التقدير فإن البقر أو لأن البقر إيلاء لعذر تكرار السؤال عَلَيْنا (ط) لَمُهْتَدُونَ (هـ) الْحَرْثَ (ج) لأن قوله مُسَلَّمَةٌ صفة بقرة أو خبر محذوف أي هي مسلمة لا شِيَةَ فِيها (ط) جِئْتَ بِالْحَقِّ (ط) لأن التقدير فطلبوها فوجدوها فَذَبَحُوها (ط) يَفْعَلُونَ (هـ) فَادَّارَأْتُمْ فِيها (ط) تَكْتُمُونَ (هـ) ج للآية والفاء بعدها بِبَعْضِها
(ط) لأن التقدير فضربوه فحيي فقيل لهم كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
تَعْقِلُونَ
(هـ) قَسْوَةً (ط) الْأَنْهارُ (ط) الْماءُ (ط) خَشْيَةِ اللَّهِ (ط) لتفصيل دلائل القدرة تَعْمَلُونَ (هـ).
التفسير:
عن ابن عباس أن رجلا من بني إسرائيل قتل قريبا له لكي يرثه ثم رماه في مجمع الطريق ثم شكا ذلك إلى موسى عليه السلام، فاجتهد موسى في تعرف القاتل. فلما لم يظهر قالوا له: سل لنا ربك حتى يبينه، فسأله فأوحى الله إليه إن الله يأمرهم أن يذبحوا بقرة. فعجبوا من ذلك فشددوا على أنفسهم بالاستفهام حالا بعد حال، واستقصوا في طلب الوصف، فلما تعين لم يجدوها بذلك النعت إلا عند يتيم. وذلك أنه كان في بني إسرائيل

صفحة رقم 307

شيخ صالح له عجلة فأتى بها الغيضة وقال: اللهم إني أستودعكها لابني حتى يكبر، وكان برا بوالديه، فشبت وكانت من أحسن البقر وأسمنه، فساوموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مسكها ذهبا، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير، وكانوا طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة فذبحوها، وأمر موسى عليه السلام أن يأخذوا عضوا منها فيضربوا به القتيل فصار المقتول حيا وسمى لهم قاتله وهو الذي ابتدأ بالشكاية فقتلوه قودا. واعلم أن تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع بالاتفاق إلا عند مجوّز تكليف ما لا يطاق، وأما تأخيره إلى وقت الحاجة فمختلف فيه، فالمجوزون استدلوا بالآية قالوا: أمروا بذبح بقرة معينة بدليل تعيينها بسؤالهم آخرا، وبدليل أنه لم يؤمر بمتجدد بل المأمور به في الثانية هو المأمور به في الأولى بالاتفاق، وبدليل المطابقة لما ذبح. والمانعون قالوا: معناه اذبحوا أية بقرة شئتم بدليل تنكير بقرة، وهو ظاهر في أن المراد بقرة غير معينة، وبدليل أن ابن عباس قال: لو ذبحوا بقرة ما لأجزأهم، ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، وبدليل التعنيف في قوله وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ولو كانت معينة لما استحقوا التعنيف على السؤال. وأجيب بأن ترك الظاهر يجوز لموجب راجح، وما نقل عن ابن عباس خبر الواحد، والتعنيف يجوز أن يكون لتفريطهم في الامتثال بعد حصول البيان التام. ويتفرع على قول المانعين أن التكليف يكون متغايرا فكلفوا في الأول أيّ بقرة كانت، وثانيا أن تكون لا فارضا ولا بكرا بل عوانا، فلما لم يفعلوا ذلك كلفوا أن تكون صفراء، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكون لا ذلولا تثير الأرض ولا تسقي الحرث. ثم اختلف القائلون بهذا المذهب. منهم من قال في التكليف الواقع أخيرا يجب أن يكون مستوفيا كل صفة تقدمت حتى تكون البقرة مع الصفة الأخيرة لا فارضا ولا بكرا وصفراء فاقعا لونها. ومنهم من يقول: إنما يجب كونها بالصفة الأخيرة فقط، وهذا أشبه بظاهر الكلام إذا كان تكليفا بعد تكليف، وإن كان الأول أشبه بالروايات وبطريقة التشديد عليهم عند ترك الامتثال. وإذا ثبت أن البيان لا يتأخر وأنه تكليف بعد تكليف، دل على أن الأسهل قد ينسخ بالأشق، فإن المربي لولده قد يأمره بالسهل اختبارا، فإذا امتنع الولد منه فقد يرى المصلحة في أن يأمره بالصعب. ويدل أيضا على جواز النسخ قبل الفعل وإن لم يجز قبل وقت الفعل وإمكانه لأدائه إلى البداء، ويدل على وقوع النسخ في شرع موسى عليه السلام، ويدل أيضا على أن الزيادة في الخطاب نسخ له.
أَتَتَّخِذُنا هُزُواً استفهام بطريقة الإنكار، معناه لا تجعلنا مكان هزء أو أهل هزء أو مهزوءا بنا، أو الهزء نفسه لفرط الاستهزاء. كان القوم ظنوا أنه يداعبهم لأنه من المحتمل أن

صفحة رقم 308

موسى عليه السلام أمرهم بذبح البقرة، وما أعلمهم أنهم إذا ذبحوا البقرة وضربوا القتيل ببعضها صار حيا، فلا جرم وقع هذا القول منهم موقع الهزء. ويحتمل أنه وإن كان قد تبين لهم كيفية الحال إلا أنهم تعجبوا من أن القتيل كيف يحيا بأن يضرب ببعض أجزاء البقرة.
واختلف العلماء هاهنا فعن بعضهم تكفيرهم بهذا القول لأنهم إن شكوا في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى فقد كفروا، وإن شكوا في أن الذي أمرهم به موسى عليه السلام هل هو بأمر الله فقد جوزوا الخيانة على موسى عليه السلام في الوحي، وذلك أيضا كفر. وعن آخرين أنه لا يوجب الكفر لأن المداعبة على الأنبياء جائزة، فلعلهم ظنوا أنه يداعبهم مداعبة حقة، أو المراد ما أعجب هذا الجواب كأنك تستهزئ بنا لا أنهم حققوا على موسى الاستهزاء مِنَ الْجاهِلِينَ إطلاقا لاسم السبب على المسبب، فإن الاشتغال بالاستهزاء لا يكون إلا بسبب الجهل، ومنصب النبوّة يجل عن ذلك كما يقول الرجل عند مثل ذلك:
أعوذ بالله من عدم العقل وغلبة الهوى، أو أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين لما في الاستهزاء من نقصان الدين والعقاب الشديد. وقيل: نفس الهزء قد يسمى جهلا، فإن الجهل ضد الحلم، كما أنه ضد العلم. ثم إن قيل: إن المأمور بذبحه بقرة معينة في نفسها غير مبينة التعيين حسن موقع سؤالهم، لأن المأمور به لما كان مجملا حسن الاستفسار والاستعلام.
أما على قول القائل إنها للعموم فلا بد من بيان أنه ما الذي حملهم على هذا الاستفسار فذكروا وجوها أحدها: أنه لما أخبرهم بشأن البقرة تعجبوا وظنوا أن البقرة التي لها مثل هذه الخاصية لا تكون إلا بقرة معينة، فلا جرم استقصوا في السؤال عن وصفها كعصا موسى المخصوصة من سائر العصي بتلك الخواص، إلا أن القوم كانوا مخطئين في ذلك لأن هذه الآية العجيبة لا تكون خاصية البقرة، بل كانت معجزة يظهرها الله على يد موسى، أو لعل القوم أرادوا قتل أي بقرة كانت إلا أن القاتل خاف من الفضيحة فألقى شبهة في البين وقال:
المأمور به بقرة معينة لا مطلق البقرة، فلما وقعت المنازعة رجعوا إلى موسى، أو الخطاب وإن أفاد العموم إلا أن القوم أرادوا الاحتياط فسألوا مزيد البيان وإزالة الاحتمال، إلا أن المصلحة تغيرت واقتضت الأمر بذبح البقرة المعينة. فإن قيل: السؤال بما هو لطلب الحقيقة والحقيقة لا تعلم إلا بأجزائها ومقوماتها لا بصفاتها الخارجة، فالجواب بالأوصاف الخارجة لا يكون مطابقا للسؤال. قلنا: من البين أن مقصودهم من قولهم «ما البقرة» ليس طلب ماهيتها النوعية فإن ذلك كالمفروغ منه عندهم، وإنما وقع السؤال عن المشخصات.
فالظاهر يقتضي أن يقال: أي بقرة هي؟ فإن مطلب «أي» السؤال عن الصفات الذاتية والخواص. فسبب العدول إما إقامة الحقيقة الشخصية مقام الحقيقة النوعية فإن الشخص من

صفحة رقم 309

حيث هو شخص حقيقة أيضا قد يطلب تصورها، وإما لأنهم تصوروا أن البقرة التي لها هذه الخاصية العجيبة حقيقتها مغايرة لحقيقة سائر البقرات وإن كانت صورتها موافقة لصورتها، وإما لأن السؤال عن الجزئيات كزيد وعمرو إنما يكون ب «من» إذا كان طلبا للعوارض، وهاهنا الجزئي غير ذي عقل فناسب أن يقام ما مقام «من».
الفارض المسنة، وقد فرضت فروضا فهي فارض كطالق كأنها فرضت سنها أي قطعتها وبلغت آخرها. والبكر الفتية، وكان الأظهر أنها التي لم تلد كما في الإنسان. والعوان النصف قال:
نواعم بين أبكار وعون.
وقد غونت وقال:

فإن أتوك وقالوا إنها نصف فإن أطيب نصفيها الذي ذهبا
وقد يستدل من هذا على جواز الاجتهاد واستعمال غلبة الظن في الأحكام إذ لا يعلم أنها بين الفارض والبكر إلا بطريق الاجتهاد. وإنما جاز دخول «بين» على لفظة «ذلك» مع أنه لا يدخل إلا على متعدد، لأنها في معنى شيئين حيث وقع مشارا به إلى ما ذكر من الفارض والبكر. وإنما أشير بذلك إلى مؤنثين وهو للإشارة إلى واحد مذكر على تأويل ما ذكر وما تقدم للاختصار في الكلام ما تُؤْمَرُونَ مثل: أمرتك الخير فافعل ما أمرت به.
بمعنى ما تؤمرون به، أو أمركم بمعنى مأموركم تسمية المفعول بالمصدر كضرب الأمير، ولما بين لهم كمال حالها في السن شرعوا في تعرف حال اللون. والفقوع أشد ما يكون من الصفرة. يقال في التوكيد أصفر فاقع مثل أسود حالك، وأحمر قانىء، وارتفع اللون على أنه فاعل سببي لفاقع. والفرق بين قولك «صفراء فاقعة» و «صفراء فاقع لونها» أن في الثاني تأكيدا ليس في الأول، لأن اللون اسم للهيئة وهي الصفرة فكأنه قيل: شديد الصفرة صفرتها مثل جد جده، وجنونه مجنون. وعن وهب: إذا نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها. والسرور حالة نفسانية تعرض عند اعتقاد أو علم أو ظن بحصول شيء لذيذ أو نافع.
وعن علي عليه السلام: من لبس نعلا صفراء قل همه لقوله تَسُرُّ النَّاظِرِينَ
وعن الحسن البصري: صفراء فاقع لونها سوداء شديدة السواد، ولعله مستعار من صفة الإبل لأن سوادها يعلوه صفرة وبه فسر قوله تعالى جِمالَتٌ صُفْرٌ [المرسلات: ٣٣] إِنَّ الْبَقَرَ

صفحة رقم 310

تَشابَهَ عَلَيْنا
لأن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال «والذي نفس محمد بيده لو لم يقولوا إن شاء الله لحيل بينهم وبينها أبدا»
وفيه دليل على أن الاستثناء مندوب في كل عمل صالح يراد تحصيله، ففيه استعانة بالله وتفويض للأمر إليه، والاعتراف بقدرته ونفاذ مشيئته الأزلية وإرادته السرمدية، ما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن. والمعنى إنا بمشيئة الله نهتدي للبقرة المأمور بذبحها عند تحصيلنا أوصافها التي بها تمتاز عما عداها، أو إنا إن شاء الله على هدى في استقصاء السؤال أي نرجو أنا لسنا على ضلالة فيما نفعله من هذا البحث، أو إنا إن شاء الله تعريفنا إياها بالزيادة لنا في البيان نهتدي لها، أو إنا إن شاء الله نهتدي للقاتل لا ذَلُولٌ صفة لبقرة مثل لا فارض أي بقرة غير ذلول لم تذلل للكراب وإثارة الأرض، ولا هي من النواضح التي يسنى عليها لسقي الحرث. «لا» الأولى للنفي والثانية مزيدة للتوكيد، لأن المعنى لا ذلول تثير وتسقي، على أن الفعلين صفتان لذلول كأنه قيل: لا ذلول مثيرة وساقية. والذل بالكسر اللين ضد الصعوبة، ودابة ذلول بينة الذل «فعول» بمعنى «فاعل»، ولهذا استوى فيه المذكر والمؤنث. تقول: رجل صبور وامرأة صبور مُسَلَّمَةٌ سلمها الله تعالى من العيوب مطلقا، أو معفاة من العلم وحشية مرسلة عن الحبس، أو مخلسة اللون لم يشب صفرتها شيء من الألوان. وعلى هذا يكون لا شِيَةَ فِيها كالبيان. والشية كل لون يخالف معظم لون الفرس وغيره أي لا لون فيها يخالف سائر لونها فهي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها، وهي في الأصل مصدر «وشاة» إذا خلط بلونه لونا آخر، أصلها وشية حذف فاؤها كما هو «عدة» و «زنة» الْآنَ اسم للوقت الذي أنت فيه وهو ظرف غير متمكن وقع معرفة، وليس الألف واللام فيه للتعريف لأنه ليس له ما يشركه وهو يائي جِئْتَ بِالْحَقِّ أي بحقيقة وصف البقرة أو ما بقي إشكال في أمرها فحصلوا البقرة الجامعة لهذه الأوصاف فَذَبَحُوها والذبح هو قطع أعلى العنق وهو المستحب في الغنم والبقر. والنحر هو قطع اللبة أسفل العنق وهو المستحب في الإبل.
والمرعي في الحالتين قطع الحلقوم والمريء لكن عنق الإبل طويل، فإذا قطع أعلاه تباطأ الزهوق. ولا يكره الذبح في الإبل والنحر في البقر والغنم وإن كان خلاف المستحب وَما كادُوا يَفْعَلُونَ استبطاء لهم، وأنهم لكثرة استكشافهم ما كاد ينقطع خيط أشباههم.
وقيل: وما كادوا يذبحونها لغلاء ثمنها. وقيل: لخوف الفضيحة في ظهور القاتل. وقد يستدل بهذا على أن الأمر للوجوب بل للفور وإلا لما ترتب هذا الذم على تثاقلهم وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً خوطبت الجماعة لوجود القتل فيهم فَادَّارَأْتُمْ فِيها فاختلفتم واختصمتم في شأنها لأن المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضا أي يدفعه ويزحمه، أو ينفي كل واحد منكم القتل

صفحة رقم 311

عن نفسه ويضيفه إلى غيره أو يدفع بعضكم بعضا عن البراءة ويتهمه. وأصله تدارأتم أدغمت التاء في الدال فاحتيج إلى همزة الوصل، ويحتمل أن يرجع الضمير في «فيها» إلى القتلة المعلومة من قتلتم وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مظهر لا محالة ما كتمتم من أمر القتيل. وقد حكي ما كان مستقبلا في وقت التدارؤ كما حكي الحاضر في قوله وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ [الكهف:
١٨] فلهذا صح عمل اسم الفاعل. وهذه الجملة معترضة، وفيها دليل على جواز عموم النص الوارد على السبب الخاص، لأن هذا يتناول كل المكتومات. وفيها دليل على أن الله لا يحب الفساد، وأنه سيجعل إلى زواله سبيلا، وأن ما يسرّه العبد من خير أو شر ودام ذلك منه فالله سيظهره، ويعضده
قوله صلّى الله عليه وسلّم «إن عبدا لو أطاع الله من وراء سبعين حجابا لأظهر الله ذلك على ألسنة الناس»
وكذلك المعصية والضمير في اضْرِبُوهُ
عائد إلى النفس، والتذكير على تأويل الشخص أو الإنسان، ويحتمل أن يعود إلى القتيل بدلالة قَتَلْتُمْ أو ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ واختلف في البعض من البقرة فقيل لسانها، وقيل: فخذها اليمنى، وقيل:
عجبها، وقيل: العظم الذي يلي الغضروف وهو أصل الأذن، وقيل: الأذن، وقيل: البضعة من بين الكتفين، والظاهر أنهم كانوا مخيرين بين أيّ بعض أرادوا، وهاهنا محذوف بدلالة الفاء الفصيحة والمعنى فضربوه فحيي فقلنا كذلك يحيي الله الموتى.
روي أنهم لما ضربوه قام بإذن الله وأوداجه تشخب دما وقال: قتلني فلان وفلان- وهما ابنا عمه- ثم سقط ميتا فأخذا وقتلا ولم يورّث قاتل بعد ذلك،
ويؤيده
قوله نبينا صلّى الله عليه وسلّم «ليس للقاتل من الميراث شيء» «١»
والسر فيه أنه استعجل الميراث فناسب أن يعارض بنقيض مقصوده وهو قول الشافعي. ولم يفرق بين أن يكون القتل مستحقا كالعادل إذا قتل الباغي، أو غير مستحق عمدا كان أو خطأ. وعند أبي حنيفة لا يرث في العمد والخطأ إلا أن العادل إذا قتل الباغي فإنه يرثه.
وقال مالك: لا يرثه من ديته ويرثه من سائر أمواله. ومحل كَذلِكَ
نصب على المصدر أي يحيي الله الموتى مثل ذلك الإحياء. وهذا الكلام إما مع الذين حضروا حياة القتيل لأنهم وإن كانوا مؤمنين بذلك إلا أنهم لم يؤمنوا بذلك من طريق العيان والمشاهدة، وشتان بين عين اليقين وعلم اليقين. وإما أن يكون مع منكري البعث في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير «فقلنا» بعد تقدير «فضربوه فحيي» وَيُرِيكُمْ آياتِهِ
دلائله على أنه قادر على كل شيء. فدلالة هذه القصة على وجود الصانع القادر على كل المقدورات العالم بكل المعلومات المختار في الإيجاد والإعدام آية، ودلالتها على صدق موسى عليه السلام

(١) رواه ابن ماجه في كتاب الديات باب ١٤.

صفحة رقم 312

آية، ودلالتها على براءة ساحة من سوى القاتل آية، ودلالتها على حشر الأموات آية، فهي وإن كانت واحدة إلا أنها في الحقيقة آيات عدة. ويمكن أن يراد بالآيات غير هذه أي مثل هذه الإراءة يريكم سائر الإراءات، كما أن مثل هذا الإحياء يحيي سائر الأموات. وفي قوله كَذلِكَ
دون أن يقال كهذا تعظيم للمشار إليه بتبعيده كما قلنا في ذلِكَ الْكِتابُ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
تعملون على قضية عقولكم، فإن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء الأنفس كلها إذ لا أثر للمخصصات في ذلك. فإن قيل: ما الفائدة في ضرب المقتول ببعض البقرة مع أنه قادر على إحيائه ابتداء؟ قلنا: الفائدة فيه كون الحجة آكد وعن الحيلة أبعد، فقد كان يجوز لملحد أن يتوهم أن موسى عليه السلام إنما أحياه بضرب من السحر، وليعلم بما أمر من مس الميت بالميت وحصول الحياة عقيبه، أن المؤثر هو المسبب لا الأسباب، ولما في ذبح البقرة من القربان وأداء التكليف واكتساب الثواب والإشعار بحسن تقديم القربة على طلب الحوائج، وما في التشديد عليهم لأجل تشديدهم من اللطف لهم وللآخرين في ترك التشديد والمسارعة إلى امتثال أوامر الله على الفور ونفع اليتيم بالتجارة الرابحة، والدلالة على بركة البر بالأبوين والإشفاق على الأولاد، وتجهيل المستهزئ بما لا يعلم تأويله من كلام الحكيم، وبيان أن من حق المتقرب به إلى الرب أن يكون من أحسن ما يتقرب به، فتيّ السن حسن اللون بريئا من العيوب ثمينا نفيسا
«أسمنوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم»
فإن قيل: هلا قدم ذكر القتيل على الأمر بذبح البقرة كما هو حق القصة؟ قلنا: لأنها كانت تكون حينئذ قصة واحدة ويذهب الغرض في ثنية التقريع بالاستهزاء وترك المبادرة بالامتثال أولا، وبقتل النفس المحرمة وما تبعه من الآية ثانيا، على أنها دلت على اتحاد القصتين برجوع الضمير في بِبَعْضِها
إلى البقرة وهي مذكورة في الأولى.
قوله ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ الآية. خطاب لأولئك اليهود الذين كانوا في زمن موسى، أو للذين هم في زمن محمد صلّى الله عليه وسلّم من بعد ذلك الإحياء، أو من بعد ذلك الذي عددنا من جميع الآيات الباهرات والمعجزات الظاهرات. ومعنى «ثم» استبعاد القسوة من بعد ما يوجب اللين والرقة. وصفة القلوب بالقسوة والغلظ مثل لنبوّها عن الاعتبار والاتعاظ فهي كالحجارة مثلها في القسوة، أو هي أشد قسوة من الحجارة. فمن عرفها شبهها بالحجارة أو قال هي أقسى من الحجارة، ويجوز أن يقدر مضاف أي هي كالحجارة أو مثل أشد قسوة.
فمن عرفها شبهها بالحجارة أو بجوهر أقسى من الحجارة كالحديد مثلا. وإنما قيل: أشد قسوة مع إمكان بناء أفعل التفضيل من فعل القسوة، لكونه أدل على فرط القسوة، أو لأنه لم يقصد معنى الأقسى ولكن قصد وصف القسوة بالشدة كأنه قيل: اشتدت قسوة الحجارة

صفحة رقم 313

وقلوبهم أشد قسوة منها، وحذف هذا الراجع لعدم الالتباس نحو: زيد كريم وعمر أكرم.
وكلمة «أو» هاهنا ليست للشك، فعلام الغيوب لا يشك في شيء، وإنما هي للتخيير بأيهما شئت شبهت فكنت صدوقا، ولو جمعت بينهما جاز. ثم أخذ في بيان فضل قلوبهم على الحجارة في شدة القسوة فقال وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ أي إن منها للذي فيه خروق واسعة يتدفق منها الماء الغزير، وإن منها للذي ينشق انشقاقا طولا أو عرضا فينبع منه الماء وذلك بحسب كثرة المادة وقلتها، فإن الأبخرة تجمع في باطن الأرض. ثم إن كان ظاهر الأرض رخوا نفشت وانفصلت، وإن كان صلبا حجريا اجتمعت وصارت مياها، ولا يزال يتواتر مددها إلى أن تنشق الأرض من مزاحمتها وتسيل أنهارا أو عيونا. وأما قلوب هؤلاء فلا تنشرح للحق ولا تتأثر من الوعظ والنصح بعد مشاهدة الآيات ومعاينة الدلائل.
ويشقق أصله يتشقق فأدغم التاء في الشين كقولهم «يذكر» في «يتذكر» لَما يَهْبِطُ للذي يتردى من أعلى الجبل وذلك من خشية الله، إما لأنه تعالى خلق فيه الحياة والعقل والإدراك كما يروى من تسبيح الحصى في كف النبي صلى الله عليه وسلم، وإما لأن الخشية مجاز عن انقيادها لأمر الله وأنها لا تمتنع عما يريد بها من الإهباط والانفصال عن كلها، وقلوب هؤلاء لا تنقاد ولا تأتمر، وقيل: أن يتزلزل من أجل أن تحصل خشية الله في قلوب عباده فيفزعون إليه بالتضرع والدعاء وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وعيد، والمعنى أنه بالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم وحافظ لأعمالهم فيجازيهم في الدنيا والآخرة فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا [مريم:
٨٤] ووصفه تعالى بأنه ليس بغافل لا يوهم جواز الغفلة عليه لأن نفي الصفة عن الشيء لا يستلزم ثبوت صحتها مثل لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة: ٢٥٥].
التأويل:
ذبح البقرة إشارة إلى ذبح النفس البهيمية، فإن في ذبحها حياة القلب الروحاني وهو الجهاد الأكبر موتوا قبل أن تموتوا.
اقتلوني يا ثقاتي إن في قتلي حياتي وحياتي في مماتي ومماتي في حياتي مت بالإرادة تحيا بالطبيعة. وقال بعضهم: مت بالطبيعة تحيا بالحقيقة ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ نفس تصلح للذبح بسيف الصدق لا فارِضٌ في سن الشيخوخة فيعجز عن وظائف سلوك الطريق لضعف القوى البدنية كما قيل: الصوفي بعد الأربعين بارد وَلا بِكْرٌ في سن شرخ الشباب يستهويه سكره عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ لقوله حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [الأحقاف: ١٥]. بَقَرَةٌ صَفْراءُ إشارة إلى صفرة وجوه أصحاب الرياضات فاقِعٌ لَوْنُها يريد أنها صفرة زين لا صفرة شين فإنها سيماء الصالحين. لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ لا تحتمل ذلة الطمع ولا تثير بآلة الحرص أرض الدنيا لطلب زخارفها ومشتهياتها وَلا تَسْقِي

صفحة رقم 314
غرائب القرآن ورغائب الفرقان
عرض الكتاب
المؤلف
نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
تحقيق
زكريا عميرات
الناشر
دار الكتب العلميه - بيروت
سنة النشر
1416
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية