آيات من القرآن الكريم

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
ﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ

يخصص - بالأجر على العمل الصالح مع الإيمان - بعض خلقه دون بعض منهم، والخبر بقوله: (من آمن بالله واليوم الآخر)، عن جميع ما ذكر في أول الآية.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾
قال أبو جعفر:"الميثاق"،"المفعال"، من"الوثيقة"، إما بيمين، وإما بعهد أو غير ذلك من الوثائق. (١)
ويعني بقوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم) الميثاق الذي أخبر جل ثناؤه أنه أخذ منهم في قوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [البقرة: ٨٣-٨٥] الآيات الذي ذكر معها. وكان سبب أخذ الميثاق عليهم - فيما ذكره ابن زيد - ما:-
١١١٥ - حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما رجع موسى من عند ربه بالألواح. قال لقومه بني إسرائيل: إن هذه الألواح فيها كتاب الله، فيه أمره الذي أمركم به ونهيه الذي نهاكم عنه. (٢) فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطلع الله إلينا فيقول: هذا كتابي فخذوه! فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا موسى، فيقول: هذا كتابي فخذوه؟ قال: فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة فصعقتهم، فماتوا أجمعون. قال: ثم أحياهم الله بعد موتهم، فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله. فقالوا: لا. قال: أي شيء أصابكم؟ قالوا: متنا ثم حيينا! (٣) قال: خذوا

(١) انظر ما سلف ١: ٤١٤، في قوله تعالى: "من بعد ميثاقه" [سورة البقرة: ٢٧].
(٢) في المطبوعة: "وأمره الذي أمركم"، والتصحيح من روايته في رقم: ٩٥٩.
(٣) في رقم: ٩٥٩: "قالوا أصابنا أنا متنا.. ".

صفحة رقم 156

كتاب الله. قالوا: لا. فبعث ملائكته فنتقت الجبل فوقهم، فقيل لهم: أتعرفون هذا؟ قالوا: نعم، هذا الطور، قال: خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم. قال: فأخذوه بالميثاق، وقرأ قول الله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) حتى بلغ: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة: ٨٣-٨٥]، قال: ولو كانوا أخذوه أول مرة، لأخذوه بغير ميثاق. (١).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾
قال أبو جعفر: وأما"الطور" فإنه الجبل في كلام العرب، ومنه قول العجاج:

دانَى جناحيه من الطور فمر تَقَضِّيَ البازي إذا البازي كسر (٢)
وقيل: إنه اسم جبل بعينه. وذكر أنه الجبل الذي ناجى الله عليه موسى. وقيل: إنه من الجبال ما أنبت دون ما لم ينبت. (٣)
* * *
(١) الأثر رقم: ١١١٥ - مضى أكثره في رقم: ٩٥٩.
(٢) ديوانه: ١٧، وهو من قصيدة جيدة يذكر فيها مآثر عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وقد ولي الولايات العظيمة، وفتح الفتوح الكثيرة، وقاتل الخوارج. والضمير في قوله: "دانى" يعود إلى متأخر، وهو"البازي" المذكور في البيت بعده. فإن قبله، ذكر عمر بن عبيد الله وكتائبه من حوله: إذا الكرام ابتدروا الباع ابتدر... دانى جناحيه.........
حول ابن غراء حصان إن وتر فات، وإن طالب بالوغم اقتدر
يريد: "ابتدر منقضا انقضاض البازي من الطور، دانى جناحيه.. فمر" فقدم وأخر. وهو من جيد التقديم والتأخير. وقوله: "دانى" أي ضم جناحيه وقر بهما وضيق ما بينهما تأهبا للانقضاض من ذروة الجبل. ومر: أسرع إسراعا شديدا. وقوله: "تقضى" أصلها"تقضض"، فقلب الضاد الأخيرة ياء، استثقل ثلاث ضادات، كما فعلوا في"ظنن""وتظنى" على التحويل. وتقضض الطائر: هوى في طيرانه يريد الوقوع. والبازي: ضرب من الصقور، شديد. وكسر الطائر جناحيه: ضم منهما شيئا - أي قليلا- وهو يريد السقوط.
(٣) هذا قول لم أجده في كتب اللغة في مادته.

صفحة رقم 157

* ذكر من قال: هو الجبل كائنا ما كان:
١١١٦ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: أمر موسى قومه أن يدخلوا الباب سجدا ويقولوا:"حطة" وطؤطئ لهم الباب ليسجدوا، فلم يسجدوا ودخلوا على أدبارهم، وقالوا حنطة. فنتق فوقهم الجبل - يقول: أخرج أصل الجبل من الأرض فرفعه فوقهم كالظلة = و"الطور"، بالسريانية، الجبل = تخويفا، أو خوفا، شك أبو عاصم، فدخلوا سجدا على خوف، وأعينهم إلى الجبل. هو الجبل الذي تجلى له ربه. (١)
١١١٧ - وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: رفع الجبل فوقهم كالسحابة، فقيل لهم: لتؤمنن أو ليقعن عليكم. فآمنوا. والجبل بالسريانية:"الطور".
١١١٨ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور) قال: الطور الجبل؛ كانوا بأصله، فرفع عليهم فوق رؤوسهم، فقال: لتأخذن أمري، أو لأرمينكم به.
١١١٩ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (ورفعنا فوقكم الطور)، قال: الطور الجبل. اقتلعه الله فرفعه فوقهم، فقال: (خذوا ما آتيناكم بقوة) فأقروا بذلك.
١١٢٠ - وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (ورفعنا فوقكم الطور) قال: رفع فوقهم الجبل، يخوفهم به.

(١) الأثر رقم: ١١١٦ - مضى صدر منه برقم: ١٠٢٧.

صفحة رقم 158

١١٢١ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن النضر، عن عكرمة قال: الطور الجبل.
١١٢٢ - وحدثنا موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: لما قال الله لهم: ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة. فأبوا أن يسجدوا، أمر الله الجبل أن يقع عليهم، فنظروا إليه وقد غشيهم، فسقطوا سجدا على شق، ونظروا بالشق الآخر، فرحمهم الله فكشفه عنهم فذلك قوله: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) [الأعراف: ١٧١]، وقوله: (وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ).
١١٢٣ - وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: الجبل بالسريانية الطور.
* * *
وقال آخرون:"الطور" اسم للجبل الذي ناجى الله موسى عليه.
* ذكر من قال ذلك:
١١٢٤ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: الطور، الجبل الذي أنزلت عليه التوراة - يعني على موسى - وكانت بنو إسرائيل أسفل منه. قال ابن جريج: وقال لي عطاء: رفع الجبل على بني إسرائيل، فقال: لتؤمنن به أو ليقعن عليكم. فذلك قوله: (كأنه ظلة).
* * *
وقال آخرون: الطور، من الجبال، ما أنبت خاصة.
* ذكر من قال ذلك:
١١٢٥ - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (الطور) قال: الطور من الجبال ما أنبت، وما لم ينبت فليس بطور.
* * *

صفحة رقم 159

القول في تأويل قوله تعالى ذكره ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل العربية في تأويل ذلك. فقال بعض نحويي أهل البصرة: هو مما استغني بدلالة الظاهر المذكور عما ترك ذكره له. وذلك أن معنى الكلام: ورفعنا فوقكم الطور، وقلنا لكم: خذوا ما آتيناكم بقوة، وإلا قذفناه عليكم.
وقال بعض نحويي أهل الكوفة: أخذ الميثاق قول فلا حاجة بالكلام إلى إضمار قول فيه، فيكون من كلامين، غير أنه ينبغي لكل ما خالف القول من الكلام -الذي هو بمعنى القول- أن يكون معه"أن" كما قال الله جل ثناؤه (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) [نوح: ١] قال: ويجوز أن تحذف"أن".
والصواب في ذلك عندنا: أن كل كلام نطق به -مفهوم به معنى ما أريد- ففيه الكفاية من غيره.
ويعني بقوله: (خذوا ما آتيناكم)، ما أمرناكم به في التوراة.
وأصل"الإيتاء"، الإعطاء. (١)
* * *
ويعني بقوله: (بقوة) بجد في تأدية ما أمركم فيه وافترض عليكم، كما:-
١١٢٦ - حدثت عن إبراهيم بن بشار قال،: حدثنا ابن عيينة قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (خذوا ما آتيناكم بقوة). قال: تعملوا بما فيه.
١١٢٧ - وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
١١٢٨ - وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن

(١) انظر ما سلف ١: ٥٧٤.

صفحة رقم 160

الربيع، عن أبي العالية: (خذوا ما آتيناكم بقوة)، قال: بطاعة.
١١٢٩ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (خذوا ما آتيناكم بقوة). قال:"القوة" الجد، وإلا قذفته عليكم. قال: فأقروا بذلك: أنهم يأخذون ما أوتوا بقوة.
١١٣٠ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (بقوة)، يعني: بجد واجتهاد.
١١٣١ - وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد - وسألته عن قول الله: (خذوا ما آتيناكم بقوة) - قال: خذوا الكتاب الذي جاء به موسى يصدق ويحق.
* * *
فتأويل الآية إذا: خذوا ما افترضناه عليكم في كتابنا من الفرائض، فاقبلوه، واعملوا باجتهاد منكم في أدائه، من غير تقصير ولا توان. وذلك هو معنى أخذهم إياه بقوة، بجد.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره ﴿وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ﴾
قال أبو جعفر: يعني: واذكروا ما فيما آتيناكم من كتابنا من وعد ووعيد شديد، وترغيب وترهيب، فاتلوه، واعتبروا به، وتدبروه إذا فعلتم ذلك، كي تتقوا وتخافوا عقابي، (١) بإصراركم على ضلالكم فتنتهوا إلى طاعتي، وتنزعوا عما أنتم عليه من معصيتي. كما:-
١١٣٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق، عن

(١) انظر ما مضى في بيان"لعل" بمعنى"كى" ١: ٣٦٤ -٣٦٥، وهذا الجزء ٢: ٦٨.

صفحة رقم 161
جامع البيان في تأويل آي القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري
تحقيق
أحمد شاكر
الناشر
مؤسسة الرسالة
الطبعة
الأولى، 1420 ه - 2000 م
عدد الأجزاء
24
التصنيف
كتب التفسير
اللغة
العربية