
وَجُمْلُ. وإنما انصرفت إذا سمى بها النساء لأنها تردد وتكثر بها التسمية فتخف لكثرتها، وأسماء البلدان لا تكاد تعود «١». فإن شئت جعلت الألف التي فى «مصرا» ألفا يُوقَفُ عليها، فإذا وصلت لم تنوِّن فيها، كما كتبوا «سلاسلا» وَوارِيرَ»
«٢» بالألف، وأكثر القراء على ترك الإجراء فيهما. وإن شئت جعلت «مِصْر» غير المصر التي تُعرَف، يريد اهبطوا مِصرًا من الأمصار، فإن الَّذِي سألتم لا يكون إلا فِي القرى والأمصار. والوجه الأول أحب إلى لأنها فِي قراءة عَبْد اللَّه «اهْبِطوا مِصْرَ» بغير ألف، وفي قراءة أُبَيٍّ: «اهْبِطُوا فَإِنّ لَكُمْ ما سَأَلْتُم وَاسْكُنُوا مِصْر» «٣» وتصديق ذلك أنها فِي سورة يوسف بغير ألف: «ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ» «٤».
وقال الأعمش وسئل عَنْهَا فقال: هِيَ مصر التي عليها صالح بْن عليّ «٥».
وقوله: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ... (٦٣)
يقول: بجدٍّ وبتأدية ما افترض عليكم فِيهِ.
وقوله: فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها... (٦٦)
يعني المسخة التي مُسِخوها جُعلت نكالا لما مضى من الذنوب ولما يعمل بعدها: ليخافوا أن يعملوا بما عمل الذين مُسِخوا فَيْمسخوا.
وقوله: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ... (٦٧)
وهذا فِي القرآن كثير بغير الفاء، وذلك لأنه جوابٌ يستغنى أولهُ عن آخره بالوقفة عليه، فيقال: ماذا قَالَ لك؟ فيقول القائل: قال كذا وكذا فكأنّ «٦» حسن
(٢) آية ٤ وآية ١٥ سورة الإنسان.
(٣) هذه القراءة المنسوبة لأبى لم نقف عليها فى غير أصول الفرّاء مما بين أيدينا من المراجع.
(٤) آية ٩٩ من السورة المذكورة.
(٥) صالح بن على بن عبد الله بن العباس أوّل من ولى مصر من قبل أبى العباس السفاح سنة ١٣٣ وتوفى بقنسرين وهو عامل على حمص سنة ١٥٤.
(٦) فى ج، ش: «فلما حسن السكوت... إلخ».

السكوت يجوز به طرح الفاء. وأنت تراه فِي رءوس الآيات- لأنها فصولٌ- حَسَنًا «١» من ذلك: «قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ. قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا» «٢» والفاء حسنة مثل قوله: «فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا» «٣» ولو كان على كلمة واحدة لم تُسقط العرب منه الفاء. من ذلك: قُمتُ ففَعَلْت، لا يقولون: قمت فعلت، ولا قلت قال، حَتَّى يقولوا: قُلْتُ فقال، وَقُمْتُ فقام لأنها نَسَقٌ وليست باستفهام يوقف عليه ألا ترى أنه: «قالَ» فرعون «لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ. قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» «٤» فيما لا أحصيه. ومثله من غير الفعل كثيرٌ فِي كتاب اللَّه بالواو وبغير الواو فأما الذي بالواو فقوله: «قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ» «٥» ثُمَّ قَالَ بعد ذلك: «الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ». وقال فِي موضع آخر: «التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ» «٦» وقال فِي غير هذا: «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» «٧» ثُمَّ قال فِي الآية بعدها: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا» ولم يقل: وإنّ.
فاعْرِفْ بما جَرى تفسير ما بقي، فإنه لا يأتي إلا على الَّذِي أنْبَاتك به من الفصول أو الكلام المكتفى يأتي له جوابٌ. وأنشدني بعضُ العرب:
لما رأيتُ نَبَطًا أنْصَارا... شَمَّرتُ عن رُكْبَتِيَ الإزَارَا
كُنْتُ لها مِنَ النَّصارى جَارَا وقوله: لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ... (٦٨)
والعَوان ليست بنَعْتٍ لِلْبِكْرِ لأنها ليست بَهرِمَة ولا شابةً انقطع الكلام عند قوله: وَلا بِكْرٌ ثم استأنف فقال: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ والعوان يقال منه
(٢) آية ٣١ و ٣٢ سورة الذاريات.
(٣) آية ٢٧ سورة هود.
(٤) آية ٢٥ و ٢٦ سورة الشعراء.
(٥) آية ١٥ و ١٧ سورة آل عمران.
(٦) آية ١١٢ سورة التوبة.
(٧) آية ١٠ سورة البروج.

قد عوَّنَت. والفارِضُ: قد فرضت، وبعضهم: قد فرَضت (وأما البكر فلم «١» ) نسمع فيها بِفعْل. والبِكر يُكْسر أوّلها إذا كانت بِكرْا من النساء «٢». والبكر مفتوح أَوّلَه من بِكَارَة الإبل. ثم قال «بَيْنَ ذلِكَ» و «بَيْنَ» لا تصلح إلا مع اسمين فما زاد، وإنّما صلحت مع «ذلِكَ» وحْدَه لأنه فِي مذهب اثنين، والفعلان قد يجمعان ب «ذلك» و «ذاك» ألا ترى أنك تقول: أظنُّ زيدا أخاك، وكان زيدٌ أخاك، فلا بد لكان من شيئين، ولا بد لأظن من شيئين «٣»، ثُمَّ يجوز أن تقول: قد كان ذاك، وأظنُّ ذلك. وإنما المعنى فِي الاسمين اللذين ضَمَّهما ذلك: بين الهرم والشباب. ولو قال فِي الكلام: بين هاتين، أو بين تَيْنِك، يريد الفارض والبكر كان صوابا، ولو أعيد ذكرهما «٤» (لم يظهر إلا بتثنية) «٥» لانهما اسمان ليسا بفعلين، وأنت تقول فِي الأفعال فتوحِّد فعلهما بعدها.
فتقول: إِقْبالك وإِدْبارُك يَشُقُّ على، ولا تقول: أخوك وأبوك يزورُنِي. ومما يجوز أن يقع عليه «بَيْنَ» وهو واحدٌ فِي اللفظ مما يؤدي عن الاثنين «٦» فما زاد قوله:
«لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ» «٧» ولا يجوز: لا نفرق بين رَجُل منهم لأن أحدا لا يُثَنّى كما يثنى الرجل ويُجَمع، فإن شئت جعلت أحدا فِي تأويل اثنين، وإن شئت فِي تأويل أكثر من ذلك قول اللَّه عزّ وجل: «فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» «٨» وتقول: بَيْنَ أَيِّهِم الْمَالُ؟ وبين من قسم المال؟ فتجرى «من» و «أى».
مجرى «٩» أحد لانهما قد يكونان لواحد ولجمع.
(٢) فى ج، ش: «من الجواري».
(٣) فى ج، ش: «بين هاتين من شيئين». ولا وجه له.
(٤) أي ضميرهما.
(٥) فى ج، ش: «لم تكن إلا بتثنية».
(٦) ساقط من ج.
(٧) آية ١٢٦ سورة البقرة.
(٨) آية ٤٧ سورة الحاقة.
(٩) فى ش، ج: «على مجرى».

وقوله: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها... (٦٩)
اللَّوْنُ مرفوعٌ لأنك لم ترد أن تجعل «ما» صلةً فتقول: بين لنا ما لونها «١» ولو قرأ به قارئٌ كان صوابا، ولكنه أراد- والله أعلم-: ادع لنا ربك يبين لنا أي شيءٍ لونُها، ولم يصلح للفعل الوقوع على أي لأن أصل «أي» تفرق «٢» جمع من الاستفهام، ويقول القائل: بين لنا أسوداءُ هِيَ أم صَفْراء؟ فلما لم يصلح للتَّبَيُّن أن يقع على الاستفهام فِي تفرقه لم يقع على أيّ لأنها جمعُ ذلك المتفرق، وكذلك ما كان فِي القرآن مثله، فأعمل فِي «ما» «وأي» الفعل الَّذِي بعدهما، ولا تعمل الَّذِي قبلهما إذا كان مُشتقًّا من العِلْم كقولك:
ما أعلم أَيُّهم قال ذاك، ولا أعلمنّ أَيُّهم قال ذاك، وما أدري أَيَّهم ضربت، فهو فِي العلم والأخبار والأنباء وما أشبهها على ما وصفت لك. منه قول اللَّه تبارك وتعالى: «وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ» «٣» «وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ» «٤» «ما» «٥» الثانية رفعٌ، فرفعتها بيوم كقولك: ما أدراك أيُّ شيء يومُ الدين، وكذلك قول اللَّه تبارك وتعالى: «لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى» «٦» رفعته بأَحْصَى، وتقول إذا كان الفعل واقعا على أيّ «٧» : ما أدري أَيَّهم ضربت. وإنما امتنعت من أن توقع على أي
(٢) يريد أن أيا نابت عن جمع من الاستفهام متفرّق. فبدل أن يقال: بين أسوداء هى أم صفراء أم حمراء. يقال: بين أي شىء لونها، فتغنى أي عن هذا الجمع من الاستفهام، فمن ثمّ كان أصلا لها.
وعبارة الطبري: «لأن أصل «أي» و «ما» جمع متفرق الاستفهام». ويريد الطبري بالأصل ما يوضع له اللفظ ويدل عليه، وهذا غير ما يريد الفراء. وكل صحيح.
(٣) آية ١٠ سورة القارعة.
(٤) آية ١٧ سورة الانفطار.
(٥) فى ش، ج: «وموضع ما».
(٦) آية ١٢ سورة الكهف. [.....]
(٧) أي: اسم استفهام عما يعقل وعما لا يعقل، وأدوات الاستفهام (كغيرها من المعلقات) تعلق العامل عن العمل لفظا لأن لها صدر الكلام، فلو أعمل ما قبلها فيها أو فيما بعدها لخرجت عن أن يكون لها صدر الكلام. ولا يكون التعليق إلا فى أفعال القلوب التي تلغى نحو علم وظن، ولذلك لا تقول: لأضربن أيهم قام (بالرفع) لأنه فعل مؤثر لا يجوز إلغاؤه فلا يجوز تعليقه.
وقال الفرّاء: «أي» يعمل فيه ما بعده ولا يعمل فيه ما قبله، وإنما يرفعها أو ينصبها ما بعدها كقوله تعالى: «لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى» فرفع، وقوله: «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» -

الفعل الَّذِي قبلها من العلم وأشباهه لأنك تجد الفعل غير واقع على أي فِي المعنى ألا ترى أنك إذا قلت: اذهب فاعلم أيهما قام أنك تسأل غيرهما عن حالهما فتجد الفعل واقعا على الَّذِي أعلمك، كما أنك تقول: سل أَيُّهُمْ قام، والمعنى: سل الناس أيُّهُمْ قام. ولو أوقعت الفعل على «أَيَّ» فقلت: أسأل أيَّهُمْ قام لكنت كأنك تضمر أيًّا مرة أخرى لأنك تقول: سل زيدًا أيُّهُمْ قام، فإذا أوقعت الفعل على زَيْدُ فقد جاءت «أي» بعده. فكذلك «أي» إذا أوقعت عليها الفعل خرجت من معنى الاستفهام، وذلك أن أردته، جائز، تقول: لاضْرِبَنَّ أيَّهُم يقول ذاك لأن الضرب لا يقع على [اسم ثُمَّ يأتي بعد ذلك استفهام، وذلك لأن الضرب لا يقع على «١» ] اثنين، وأنت تقول فِي المسألة: سل عَبْد اللَّه عن كذا، كأنك قلت:
سله عن كذا، ولا يجوز ضربت عَبْد اللَّه كذا وكذا إلا أن تريد صفة الضرب، فأما الأسماء فلا. وقول اللَّه: «ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا» «٢» من نصب أيًّا أوقع عليها النزع وليس باستفهام، كأنه قال: ثُمَّ لنستخرجن العاتي الَّذِي هُوَ أشد. وفيها وجهان من الرفع أحدهما أن تجعل الفعل مكتفيا بمن فِي الوقوع عليها، كما تقول: قد قتلنا من كل قوم، وأصبنا «٣» من كل طعام، ثُمَّ تستأنف أيّا فترفعها بالذي بعدها، كما قال جل وعز: «يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ»
والكوفيون يجرون «أيا» مجرى من وما فى الاستفهام والجزاء، فإذا وقع عليها الفعل وهى بمعنى الذي نصبوها لا محالة، فيقولون: اضرب أيهم أقبح، وأكرم أيهم هو أفضل. وحكى أنهم قرءوا بالنصب فى الآية «ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا».
(١) ما بين المربعين ساقط فى أ.
(٢) آية ٦٩ سورة مريم.
(٣) فى ج، ش: وأكلنا.