
يَحْزَنُونَ لِإِفَادَةِ تَخْصِيصِهِمْ بِنَفْيِ الْحُزْنِ فِي الْآخِرَةِ أَيْ بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَلَمَّا كَانَ الْخَوْفُ وَالْحُزْنُ مُتَلَازِمَيْنِ كَانَتْ خُصُوصِيَّةُ كُلٍّ مِنْهُمَا سَارِيَةً فِي الْآخَرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ مُقَابل لقَوْله: وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ٦١] وَلِذَلِكَ قُرِنَ بِعِنْدَ الدَّالَّةِ عَلَى الْعِنَايَةِ وَالرِّضَى. وَقَوْلُهُ: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ مُقَابِلَ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [الْبَقَرَة: ٦١] لِأَنَّ الذِّلَّةَ ضِدُّ الْعِزَّةِ فَالذَّلِيلُ خَائِفٌ لِأَنَّهُ يَخْشَى الْعُدْوَانَ وَالْقَتْلَ وَالْغَزْوَ، وَأَمَّا الْعَزِيزُ فَهُوَ شُجَاعٌ لِأَنَّهُ لَا يَخْشَى ضُرًّا وَيَعْلَمُ أَنَّ مَا قَدَّرَهُ لَهُ فَهُوَ كَائِنٌ قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المُنَافِقُونَ: ٨] وَقَوْلُهُ: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ مُقَابِلَ قَوْلِهِ: وَالْمَسْكَنَةُ لِأَنَّ الْمَسْكَنَةَ تَقْضِي عَلَى صَاحِبِهَا بِالْحُزْنِ وَتَمَنِّي حُسْنِ الْعَيْشِ قَالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النَّحْل: ٩٧] فَالْخَوْفُ الْمَنْفِيُّ هُوَ الْخَوْفُ النَّاشِئُ عَنِ الذِّلَّةِ وَالْحُزْنُ الْمَنْفِيُّ هُوَ النَّاشِئُ عَن المسكنة.
[٦٣، ٦٤]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : الْآيَات ٦٣ إِلَى ٦٤]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤)
تَذْكِيرٌ بِقِصَّةٍ أُخْرَى أَرَى اللَّهَ تَعَالَى أَسْلَافَهُمْ فِيهَا بَطْشَهُ وَرَحْمَتَهُ فَلَمْ يَرْتَدِعُوا وَلَمْ يَشْكُرُوا وَهِيَ أَنَّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ بِوَاسِطَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَعْمَلُوا بِالشَّرِيعَةِ وَذَلِكَ حِينَمَا تَجَلَّى اللَّهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الطُّورِ تَجَلِّيًا خَاصًّا لِلْجَبَلِ فَتَزَعْزَعَ الْجَبَلُ وَتَزَلْزَلَ وَارْتَجَفَ وَأَحَاطَ بِهِ دُخَّانٌ وَضَبَابٌ وَرُعُودٌ وَبَرْقٌ كَمَا وَرَدَ فِي صِفَةِ ذَلِكَ فِي الْفَصْلِ التَّاسِعَ
عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ وَفِي الْفَصْلِ الْخَامِسِ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ فَلَعَلَّ الْجَبَلَ مِنْ شدَّة الزلازل وَمَا ظَهَرَ حَوْلَهُ مِنَ الْأَسْحِبَةِ وَالدُّخَانِ وَالرُّعُودِ صَارَ يَلُوحُ كَأَنَّهُ سَحَابَةٌ، وَلِذَلِكَ وُصِفَ فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ [١٧١] بِقَوْلِهِ: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ (نَتَقَهُ: زَعْزَعَهُ وَنَقَضَهُ) حَتَّى يُخَيَّلَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ يَهْتَزُّ وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِمُ اسْتَطَارَهُ إِذَا أَزْعَجَهُ فَاضْطَرَبَ فَأَعْطَوُا الْعَهْدَ وَامْتَثَلُوا لِجَمِيعِ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالُوا: «كُلُّ مَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ نَفْعَلُهُ فَقَالَ اللَّهُ لِمُوسَى فَلْيُؤْمِنُوا بِكَ إِلَى الْأَبَدِ» وَلَيْسَ فِي كُتُبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَلَعَ الطُّورَ مِنْ مَوْضِعِهِ وَرَفَعَهُ فَوْقَهُمْ وَإِنَّمَا وَرَدَ ذَلِكَ فِي أَخْبَارٍ ضِعَافٍ فَلِذَلِكَ لَمْ نَعْتَمِدْهُ فِي التَّفْسِيرِ.
وَضَمَائِرُ الْخِطَابِ لِتَحْمِيلِ الْخَلَفِ تَبِعَاتِ السَّلَفِ

كَيْلَا يَقَعُوا فِي مِثْلِهَا وَلِيَسْتَغْفِرُوا لِأَسْلَافِهِمْ عَنْهَا.
وَالْمِيثَاقُ فِي هَاتِهِ الْآيَةِ كَالْعَهْدِ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ مُرَادٌ بِهِ الشَّرِيعَةُ وَوَعَدَهُمْ بِالْعَمَلِ بِهَا وَقَدْ سَمَّتْهُ كُتُبُهُمْ عَهْدًا كَمَا قَدَّمْنَا وَهُوَ إِلَى الْآنِ كَذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ. وَهَذِهِ مُعْجِزَةٌ عِلْمِيَّةٌ لِرَسُولِنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالطُّورُ عَلَمٌ عَلَى جَبَلٍ بِبَرِّيَّةِ سِينَا، وَيُقَالُ إِنَّ الطُّورَ اسْمُ جِنْسٍ لِلْجِبَالِ فِي لُغَةِ الْكَنْعَانِيِّينَ نُقِلَ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ وَأَنْشَدُوا قَوْلَ الْعَجَّاجِ:
دَانَى جَنَاحَيْهِ مِنَ الطُّورِ فَمَرْ | تَقَضِّيَ الْبَازِي إِذَا الْبَازِي كَسَرْ |
وَقَوْلُهُ: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ مَقُولُ قَوْلٍ، مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ قَائِلِينَ لَهُمْ خُذُوا، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي أُخِذَ الْمِيثَاقُ عَلَيْهِ. وَالْأَخْذُ مَجَازٌ عَنِ التَّلَقِّي وَالتَّفَهُّمِ. وَالْقُوَّةُ مَجَازٌ فِي الْإِيعَاءِ وَإِتْقَانِ التَّلَقِّي وَالْعَزِيمَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ [مَرْيَم: ١٢].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ مَجَازًا عَنِ الِامْتِثَالِ أَيِ اذْكُرُوهُ عِنْدَ عَزْمِكُمْ عَلَى الْأَعْمَالِ حَتَّى تَكُونَ أَعْمَالُكُمْ جَارِيَةً عَلَى وَفْقِ مَا فِيهِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ التَّفَهُّمُ بِدَلِيلِ حَرْفِ (فِي) الْمُؤْذِنِ بِالظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ أَيِ اسْتِنْبَاطِ الْفُرُوعِ مِنَ الْأُصُولِ.
وَالْمُرَادُ بِمَا آتَاهُمْ مَا أَوْحَاهُ إِلَى مُوسَى وَهُوَ الْكَلِمَاتُ الْعَشْرُ الَّتِي هِيَ قَوَاعِدُ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ.
وَجُمْلَةُ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ عِلَّةٌ لِلْأَمْرِ بِقَوْلِهِ: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ بِدُونِ عَطْفٍ.
وَالرَّجَاءُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ حَرْفُ (لَعَلَّ) مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى تَقْرِيبِ سَبَبِ التَّقْوَى بِحَضِّهِمْ عَلَى الْأَخْذِ بِقُوَّةٍ، وَتَعَهُّدِ التَّذَكُّرِ لِمَا فِيهِ، فَذَلِكَ التَّقْرِيبُ وَالتَّبْيِينُ شَبِيهٌ بِرَجَاءِ الرَّاجِي.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (لَعَلَّ) قَرِينَةَ اسْتِعَارَةِ تَمْثِيلِ شَأْنِ اللَّهِ حِينَ هَيَّأَ لَهُمْ أَسْبَابَ الْهِدَايَةِ بِحَالِ الرَّاجِي تَقْوَاهُمْ وَعَلَى هَذَا مَحْمَلُ مَوَارِدِ كَلِمَةِ (لَعَلَّ) فِي الْكَلَامِ الْمُسْنَدِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [الْبَقَرَة: ٢١] الْآيَةَ.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ فِي مُدَّةِ مُنَاجَاةِ مُوسَى وَأَنَّ اللَّهَ تَابَ عَلَيْهِمْ بِفَضْلِهِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانُوا مِنَ الْخَاسِرِينَ الْهَالِكِينَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِيهَا وَفِي الْآخِرَةِ.
وَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى الْخَوْضِ فِي مَسْأَلَةِ التَّكْلِيفِ الْإِلْجَائِيِّ وَمُنَافَاةِ الْإِلْجَاءِ لِلتَّكْلِيفُُِ صفحة رقم 542