
الوقف وليس هذا الوجهَ الجيدَ. وزعم سيبويه أن الذين أبدلوا من الألف
الياء، أبدلوها في الوقف ليكون أبين لها.
وحكى أيضاً أن قوماً يقولون في الوقف حُبْلَوْ، وأفْعَوْ.
وإِنما يحكي أهل اللغة والعلم بها كل ما فيها، ليتميز الجيد
المستقيم المطرد من غيره، ويجتنب غير الجَيِّد. فالباب في هذه الأشياء أن
ئنْطق بها في الوصل والوقف بألفٍ، فليس إِليك أن تقلب الشيءَ لِعِلةٍ ثم تنطق
به على أصله والعلة لمْ تزل، فالقراءَة التي ينبغي أن تُلْزم أهي، (هدَايَ فَلَا
خَوْفٌ) إلا أن تثبت برواية صحيحة " هدَيّ " فيقرأ بها. ووجهه من القياس ما وصفنا.
فأمَّا قوله: (هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ).
وقوله: (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) فلا يجوز أن يقرأ هذا صراط علاي، ولا ثمَّ إلاي مرجعكم، لأن الوصل كان في هذا: " إلآي " و " عَلَاي " ولكن الألف أبْدِلَتْ منها مع المضمرات الياءُ، ليفصل بين ما آخره مِما يَجب أن نعْرَبَ ويتَمَكن، ومَا آخره مما لا يجب أن يعرب، فَقلبَتْ هذه الألف ياءً لهذه العلة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠)
نصب (بني إِسرائيل) لأنه نداء مضاف، وأصل النداءِ النصب لأن
معناه معنى " ناديت " و " دعوت " وإسرائيل في موضع خفض إِلا إنَّه فتح آخره لأنه لا يَنْصَرف، وفيه شيئان يوجبان منعَ الصرف، وهما إنَّه أعجمي وهو معرفة - وإذا كان الاسم كذلك لم يَنْصَرف، إِذا جاوز ثلاثة أحرف عند

النحويين، وفي قوله: (نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) وجْهان، أجودهما فتح
الياءِ لأنَّ الذي بعدها ساكبن وهو لام المعرلْة فإستعمالها كثيرَ في الكلام
فاختير فتح الياءِ معها لالتقاءِ " السَّاكنين، ولأن الياء لو لم يكن بعدها ساكن كانَ فتحها أقوى في اللغة، ويجوز ُأنْ تحذف الياءُ في اللفظ لالتقاءِ السَّاكنين فتقرأ - (نعمتِ التي) أنعمت بحذف الياءِ، والاختيار إثبات الياء وفتحها لأنه أقوى في العربية وأجزل في اللفظ وأتم للثواب، لأن القارئ يجازى على كل ما يقرؤُه من كتاب اللَّه بكل حرف حسنة، فإن إثباته، أوجَهُ في اللغة. فينبغي إثباته لما وصفنا.
فأما قوله عزَّ وجلَّ: (هَارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١).
فلم يكثر القراءُ فتح هذه الياء، وقال أكثرُهُم بفتحها مع الألف واللام.
ولعَمْري إن اللام المَعْرفَةَ أكثرُ في الاستعمال، ولكني أقول: الاختيار
" أخِيَ اشْدُدْ " بفتح الياءِ لالتقاءِ السَّاكنين، كما فتحوا مع اللام، لأن اجتماع ساكنين مع اللام وغيرها معنى واحد وإن حذفت فالحذف جائز حَسَن إلا أن الأحْسَنَ ما وَصَفْنَا.
وأمَّا معنى الآية في التذكير بالنعمة فإنهم ذُكرُوا بِمَا أنْعِمَ بِه على آبائهم
من قبلهم، وأنعم به عليهم، والدليل على ذلك قوله: (إذْ جَعَلَ فِيكُمْ أنبِيَاءَ
وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً)، فالذين صادفهم النبي - ﷺ - لم يكونوا أنبياء وإنَّما ذُكِّروا بما أنعم به على آبائهم وعليهم في أنفسهم وفي آبائهم، وهذا المعنى موجود في كلام العرب معلوم عندها.
يفاخر الرجلُ الرجُلَ فيقولُ هَزَمْناكُمْ يَوْمَ " ذي قار "،

ويقول قتلناكم يوم كذا، معناه قَتَل آباؤُنا آباءَكم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأوْفُوا بِعَهْدِي أوفِ بِعَهْدِكُمْ).
معناه - واللَّه أعلم - قوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) فتمام تبيينه أن يخبروا بما فيه من ذكر نبوة محمد - ﷺ - وقد بيَّنَّا ما يدُل على ذكر العهد قبل هذا وفيه كفاية.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ).
نصب بالأمر كأنه في المعنى " أرهبوني " ويكون الثاني تفسير هذا
الفعل المضمر، ولو كان في غير القرآن لجاز: " وَأنَا فَارْهَبُونِ "
ولكن الاختيار في الكلام والقرآن والشعر (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) حذفت الياء وأصله " فارهبونِي " - لأنها فاصلة، ومعنى فاصلة رأس آية ليكون النظم على لفظ مُتَسق، ويسمِّي أهلُ اللغة رؤوس الآي الفواصل، وأواخر الأبيات: القوافي.
ويقال وَفيْت له بالعهد فأنا وافٍ به، وأوفيت له بالعهد فأنا موف به.
والاختيار: - أوفيت، وعليه نزل القرآن كله قال الله عزَّ وجلَّ: