
وما لم يكن (١) فيه (الفاء) فعلى أصل الخبر مثال ذلك من الكلام أن تقول: (مالي فهو لك) [على أن يكون (ما) بمعنى (الذي) ولو أردت واحد الأموال لم يجز دخول الفاء، كما لا تقول: غلامي فهو لك، (٢)، وهذه المسألة (٣) يأتي بيانها في مواضع من هذا الكتاب إن شاء الله.
٤٠ - قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾. الكلام في (الابن) وأصله يذكر عند قوله: ﴿يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ﴾ (٤). و (إسرائيل) هو يعقوب (٥) عليه السلام ولا يتصرف لاجتماع العجمة والمعرفة (٦)، وكل اسم اجتمعتا فيه وزاد على ثلاثة أحرف لم ينصرف عند أحد من النحويين (٧).
وذكر في التفسير وجوه في اشتقاق هذا الاسم (٨)، والأصح عند أهل
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٣) انظر شرح هذه المسألة في "سر صناعة الأعراب" ١/ ٢٥٨.
(٤) سورة البقرة: ٤٩، وقد تكلم عن (ابن) هناك وتوسع في البحث.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ١/ ٢٥٤، و"تفسير ابن عطية" ١/ ٢٦٧، "زاد المسير" ١/ ٧٢.
(٦) أي: العلمية.
(٧) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٨٨، "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ١٦٧، "المشكل" لمكي ١/ ٤١، "الإملاء" ١/ ٣٣، "الدر المصون" ١/ ٣١٠.
(٨) من هذه الوجوه: أنه مركب من (إسرا) وهو العبد، و (إيل) اسم من أسماء الله تعالى، فكأنه عبد الله، وقيل معنا: "إسرا" صفوة، و"إيل" الله تعالى، ومعناه صفوة الله، وفيه وجوه أخرى ذكرها أبو حيان في "البحر" ١/ ١٧١، وقال بعدها: (وهذه أقاويل ضعاف)، وانظر: "تفسير الطبري" ١/ ٢٤٨ - ٢٤٩، و"تفسير الثعلبي" ١/ ٦٦ ب، "التعريف والأعلام" للسهيلي ص٢٠ و"تفسير القرطبي" ١/ ٢٨١ - ٢٨٢.

اللغة: أنه أعجمي لا اشتقاق له.
وقوله تعالى: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾. أراد نعمي (١)، فأوقع الواحد موقع الجماعة (٢)، كقوله: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ﴾ (٣). وذلك أن الله تعالى فلق لهم البحر، وأنجاهم من فرعون، وظلل عليهم الغمام إلى سائر ما أنعم الله به عليهم (٤)، وهو في قوله عز وجل: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ﴾ الآية [المائدة: ٢٠].
وأراد بقوله: ﴿عَلَيْكُمْ﴾ أي على آبائكم وأسلافكم، وجعلها عليهم لأن النعمة على آبائهم نعمة عليهم، ومثله في الكلام كثير، يفاخر الرجل الرجل فيقول هزمناكم يوم ذي قار، بمعنى (٥): هزم آباؤنا آباءكم (٦).
قال الفرزدق:
وَبَيْتَانِ:
بَيْتُ اللهِ نَحْنُ وُلاَتُهُ | وَبَيْتٌ بأعْلَى إِيلِيَاءَ مُشَرَّفُ (٧) |
(٢) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ١/ ٦٧ أ، وانظر: "تفسير ابن عطية" ١/ ٢٦٧، و"تفسير البغوي" ١/ ٦٦، و"تفسير القرطبي" ١/ ٢٨٢، "زاد المسير" ١/ ٧٢.
(٣) سورة إبراهيم: ٣٤، والنحل: ١٨.
(٤) انظر "تفسير الطبري" ١/ ٢٤٩، و"تفسير الثعلبي" ١/ ٦٧ أ، قال ابن عطية - بعد أن ذكر الأقوال في المراد بالنعمة: (وهذه الأقوال على جهة المثال، والعموم في اللفظة هو الحسن) ١/ ٢٦٧.
(٥) في (أ)، (ج): (معناه)
(٦) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٩٠، و"تفسير القرطبي" ١/ ٢٨٢، و"تفسير الثعلبي" ١/ ٦٧ أ، و"تفسير ابن عطية" ١/ ١٦٧، "زاد المسير" ١/ ٧٣.
(٧) البيت في "ديوان الفرزدق" ٢/ ٣٢، "معجم البلدان" ١/ ٢٩٣، وإيلياء: بيت المقدس.

يريد أن آباءه في القديم كانوا يلونهما، لا أنه كان يليه.
وقال آخر:
إِذا افْتَخَرَتْ يَوْمًا تَمِيمٌ بِقَوْسِهَا (١) | فَخَارًا عَلَى مَا أَطَّدَتْ مِنْ مَنَاقِبِ |
فَأَنْتُم بِذِي قَارٍ أَمَالَتْ سُيُوفُكُم | عُرُوشَ الذِينَ اسْتَرْهَنُوا قَوْسَ حَاجِبِ (٢) |
فإن قيل: هذه النعم التي أنعم الله بها على اليهود هم (٣) أبداً يذكرونها ويفخرون بها، فلم ذُكِّروا ما لم ينسوه؟ قيل: المراد بقوله: (اذكروا) اشكروا، وذكر النعمة شكرها، واذا لم يشكروها (٤) حق شكرها، فكأنهم نسوها وإن أكثروا ذكرها (٥).
وقال ابن الأنباري: أراد اذكروا ما أنعمت عليكم (٦) فيما استودعتكم
(٢) البيتان لأبي تمام، وقوله: "ذي قار" يوم من أيام العرب، كان لهم على الفرس، وحاجب: هو ابن زرارة بن عدس، كان أرهن سيفه لكسرى، انظر: "ديوان أبي تمام مع شرحه" ١/ ١٠٩، "معجم البلدن" ٤/ ٢٩٤.
(٣) (هم) ساقطة من (ب).
(٤) في (ب): (يشكرها).
(٥) انظر: "الكشاف" ١/ ٢٧٥، "زاد المسير" ١/ ٧٣، "تفسير البيضاوي" ١/ ٢٣، "تفسير الخازن" ١/ ١١٢، "تفسير النسفي" ١/ ٤٠، "تفسير القرطبي" ١/ ٢٨٢.
(٦) في (ب): (أنعمت به عليكم).

من علم التوراة وبينت لكم من صفة محمد، وألزمتكم من تصديقه واتباعه (١)، فلما بعث - ﷺ - ولم يتبعوه كانوا كالناسين لهذه النعمة (٢).
والأجود في ﴿نِعْمَتِيَ الَّتِي﴾ فتح الياء (٣)، وكل (ياء) كانت من المتكلم ففيها (٤) لغتان: الإرسال (٥) والفتح، فإذا لقيها ألف (٦) ولام اختارت العرب اللغة التي حركت فيها الياء، وكرهوا الأخرى، لأن اللام ساكنة (٧) فلو لم يفتحوا لأشبه (٨) أن تكون النعمة مجرورة على غير الإضافة (٩)، فأخذوا بأوثق الوجهين وأبينهما (١٠)، لأنه أدل على الأصل وأشكل بما يلزم في
(٢) في (ب): (النعم).
(٣) أجمع القراء العشرة على فتح (الياء) في قوله تعالى: ﴿نِعْمَتِيَ الَّتِي﴾ في مواضعها الثلاثة في البقرة، وقرأ بتسكينها الحسن وابن محيصن، انظر: "الإقناع" ١/ ٥٤٢، "النشر" ٢/ ١٦٢، "البدور الزاهرة" ص ٣٠، "القراءات الشاذة" للقاضي ص ٢٣، وقد سبق ذكر أصول القراء في ياءات الإضافة عند قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ﴾ [البقرة: ٣٠] ص ٣٤١.
(٤) في (ب): (فيه).
(٥) قوله: (الإرسال) أي: تسكينها ثم حذفها لالتقاء الساكنين، وفي "معاني القرآن" للفراء: (وأما نصب الياء من (نعمتي) فإن كل ياء كانت من المتكلم ففيها لغتان: الإرسال والسكون والفتح، ١/ ٢٩.
(٦) (ألف) ساقط من (ب).
(٧) في "معاني القرآن" للفراء: (لأن اللام ساكنة فتسقط الياء عندها لسكونها فاستقبحوا أن يقولوا: (نعمتي التي) فتكون كأنها مخفوضة على غير إضافة) ١/ ٢٩.
(٨) في (ب): (الا شبه).
(٩) المراد: أن الياء من (نعمتي) لو سكنت لحذفت لالتقاء الساكنين فتبقى النعمة مجرورة من دون إضافة للياء فيقال (نعمت).
(١٠) في (ب): (وأبينها).

الاستئناف من فتح ألف الوصل (١).
وقد يجوز إسكانها مع الألف واللام أيضا كقوله: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ [الزمر: ٥٣] قرئ بإرسال (الياء) وبنصبها (٢)، وإنما اختير الإرسال هاهنا لأن الاختيار ألا تثبت (٣) (ياء) الإضافة في النداء نحو قولك: (يا غلام أقبل) وإذا لم تثبت لم يكن سبيل إلى التحريك.
فأما قوله: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ﴾ [الزمر: ١٧، ١٨] الاختيار هاهنا الإرسال (٤)، لأن (الياء) لا تثبت في الفواصل، وقوله: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ﴾ آخر الآية (٥).
قال الزجاج: اختير فتح الياء مع اللام لالتقاء الساكنين، ويجوز أن تحذف (٦) الياء في اللفظ لالتقاء الساكنين، والاختيار الفتح، فأما قوله: ﴿أَخِي (٣٠) اشْدُدْ﴾ [طه: ٣٠، ٣١] فلم يكثر القراء فتح هذه الياء (٧)، وأكثرهم
(٢) في (ب): (ونصها). قرأ بسكون الياء حمزة والكسائي وأبو عمرو، ويعقوب وخلف، والبقية بالفتح، انظر: "التيسير" ص ٦٦، "الإقناع" ١/ ٥٤١، "النشر" ٢/ ١٧٠.
(٣) (أ)، (ج): (يثبت) في المواضع الثلاثة واثبت ما في (ب)، لأنه أنسب للسياق.
(٤) قال الداني: (تفرد أبو شعيب بفتح الياء وإثباتها في الوقف ساكنة وحذفها الباقون في الحالين) يريد بقية السبعة ورواتهم، "التيسير" ص ٦٧، وانظر "النشر" ٢/ ١٨٩.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٢٩.
(٦) في (أ)، (ج): (يحذف) وأثبتها بالتاء كما في (ب) و"معاني القرآن" للزجاج ١/ ٨١.
(٧) قوله تعالى: (أخي اشدد) قرأ بفتح الياء أبو عمرو وابن كثير والبقية على إسكانها، انظر: "التيسير" ص ٦٧، "النشر" ٢/ ١٧١، ٣٢٣.

يفتحها مع الألف واللام، ولعمري إن لام المعرفة أكثر استعمالا، ولكني أقول: فتح الياء هاهنا كفتحه (١) مع اللام، لأن اجتماع الساكنين مع اللام وغيرها واحد.
وقوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾. أبو عبيد عن الكسائي وأبي عبيدة: وفيت بالعهد وأوفيت به سواء (٢).
وقال شمر: يقال: وَفَى وأَوفْى، فمن قال: (وَفَى) فإنه يقول تَمَّ، كقولك: وَفَى لنا فلان، أي: تَمَّ لنا قوله ولم يغدر، وَوَفَى هذا الطعامُ قفيزا (٣) أى: تم.
قال: ومن قال: (أَوْفَى) فمعناه: أوفاني حقه، أي: أتمه ولم ينقص منه شيئا، وكذلك أَوْفَى الكيل أي أتمه ولم ينقص منه شيئا (٤). وقال أبو الهيثم فيما رد على شمر: الذي قال شمر (٥) في (وَفَى) و (أَوْفَى): باطل، إنما يقال: أَوْفَيْت بالعهد ووفيت بالعهد، وكل شيء في كتاب الله من هذا
(٢) "تهذيب اللغة" (وفا) ٤/ ٣٩٢٣ - ٣٩٢٤، وانظر: "اللسان" (وفي) ٨/ ٥٨٨٥.
(٣) في (أ)، (ج): (قفيز)، (ب): (فقيرا)
(٤) "تهذيب اللغة" (وفا) ٤/ ٣٩٢٤، وانظر: "اللسان" (وفى) ٨/ ٥٨٨٥. وقوله: (وكذلك أوفى الكيل..) غير موجود في "التهذيب" ضمن كلام شمر ومثبت في "اللسان" مع كلامه.
(٥) قوله: (الذي قال شمر) ساقط من (ب).

فهو بالألف قال الله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ (١) [البقرة: ٤٠] (٢) وقال: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: ١] (٣).
وقال الشاعر (٤) في الجمع بين اللغتين:
أَمَّا ابنُ طَوْقٍ فَقَدْ أَوْفَى بِذِمَّتِه | كَمَا وَفَى بِقِلاَصِ النَّجْمِ حَادِيهَا (٥) |
(٢) في "التهذيب" مكان الآية قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ﴾ [الإسراء: ٣٤] وفي "اللسان" آية البقرة.
(٣) كلام أبي الهيثم في "تهذيب اللغة" (وفا) ١٥/ ٨٨٦، وانظر "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٩١، و"اللسان" (وفى) ٨/ ٤٨٨٤.
(٤) هو طفيل الغنوي.
(٥) في "الكامل" (بيض) بدل (طوق) وعند الزجاج (عوف) وهو رجل شهر بالوفاء، وقلاص النجوم: هي كما تزعم العرب، أن الدبران جاء خاطبا للثريا وساق مهرها كواكبا صغارا تسمى القلاص، انظر (الكامل) ٢/ ١٨٧، "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٩١، "الخصائص" ١/ ٣٧٠، ٣/ ٣١٦، "شرح المفصل" ١/ ٤٢، "اللسان" (وفى) ٨/ ٤٨٨٤، "زاد المسير" ١/ ٧٣، "تفسير القرطبي" ٦/ ٣٢، "الدر المصون" ١/ ٣١٢.
(٦) في (ب): (جل وعلى).
(٧) في (ب): (جزاؤه).
(٨) في (ب)، (ج): (عز وجل).
(٩) ذكره الرازي في "تفسيره" عن ابن عباس ٣/ ٣٥، وابن كثير في "تفسيره" ولم يعزه =

وقوله تعالى: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾. موضع (إياي) نصب بإضمار فعل (١) تفسيره (٢) المذكور بعده (٣) كأنه قيل: (إياي فارهبوا (٤) فارهبون) ولكنه يستغني عنه بما يفسره فلا يظهر، وإن صح أنه مقدر، ولا يجوز أن يعمل فيه المذكور، لأنه مشغول بضمير (٥).
وحذفت (الياء) من ﴿فَارْهَبُونِ﴾ لأنها فاصلة أي رأس آية، ليكون النظم على لفظ متسق، وسمى أهل اللغة أواخر الآي الفواصل، وأواخِر الأبيات (٦) القوافي (٧). ومعناه: فخافوني في نقض العهد (٨).
(١) قال مكي: هذا هو الاختيار لأنه أمر، ويجوز: أنا فارهبون على الابتداء والخبر، "المشكل" ١/ ٤٢، وانظر "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ١٦٧.
(٢) في (ب): (يفسره) وهو أولى.
(٣) في (ج): (بعهده).
(٤) في (ب): (فارهبون).
(٥) في (ب): (بضميره) وهو أصح. الضمير هو (الياء) التي حذفت لأنها رأس آية، انظر. "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٣٣، "معاني القرآن" للأخفش ١/ ٢٤٦، "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ١٦٧، "المشكل" لمكي ١/ ٤٢، "الإملاء" ١/ ٩٠.
(٦) في (ب): (الايات).
(٧) "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٩٠، وانظر "اللسان" (فصل) ٦/ ٣٤٢٤، وبعضهم فرق بين رأس الآية والفاصلة، فكل رأس آية فاصلة ولا عكس. انظر "المكتفي في الوقف والابتداء" ص١٤٠، "البرهان" ١/ ٥٣، "الإتقان" ٢/ ٢٨٤، "الفاصلة في القرآن" لمحمد الحسناوي ص ٢٦.
(٨) "تفسير الثعلبي" ١/ ٦٧ ب، وانظر: "الطبري" ١/ ٢٥١، "زاد المسير" ١/ ٧٣.