آيات من القرآن الكريم

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ
ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ

قوله - عز وجل -:
﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ الآية: (٣٥) - سورة البقرة.
قيل: ما الفرق بين أن يقال: افعل أنت وقومك كذا وبين أن يقال: افعلوا كذا، قيل: الأول تنبيه أن المقصود هو المخاطب، وغيره تبع له، وأنه لولاه لما كانوا مأمورين بذلك، وعلى نحوه: ﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى﴾ وليس كذلك إذا قال: افعلوا، وقال بعضهم: إنما قال: اسكن فاستعمل السكن تنبيهاً أنه يعرض النقل، عنها وأنه لا يجب أن يركن إليها.
إن قيل: ما الفرق بين الإرادة والمشيئة؟ قيل: الإرادة قد تكون بحسب القوة التسخيرية، والفكرية والحسية ولذلك تستعمل في الجماد، نحو: ﴿جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ﴾ وفي الحيوان وفي العقلاء والمشيئة لا تكون إلا مع اختيار ولذلك لا يقال إلا للعالم والمتفكر، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ فالقصد بالنهي عن قرب الشيء تأكيد للحظر والمبالغة في النهي، وذاك أن القرب من الشيء مقتض الألفة، والألفة داعية للمحبة، ومحبة الشيء كما قيل: " حبك الشيء يعمي ويصم، والعمى عن القبيح والصم عن النهي عنهما الموقعان فيه، والسبب الداعي إلى الشر منهي عنه، كما أن السبب الداعي إلى الخير مأمور به، وعلى ذلك قال - عليه السلام -: (العينان تزنيان) لما كان النظر داعياً إلى الألفة، والألفة إلى المحبة، وذلك

صفحة رقم 152

مقتض لارتكابه، فصار النظر مبدأ للزنا، وعلى هذا قال: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾، و ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ وعلى هذا قال في الخمر: ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ وبهذا النظر قال عليه الصلاة والسلام: " الحلال بين، والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهة، وسأضرب مثلاً، إن لله حماً، وإن حمى الله محارمه، ومن رتع حول الحما أوشك أن يقع فيه ".
والشجرة: قيل: كانت الحنطة، وقيل: الكرم، وقيل: التين، وقوله: (فتكونا): الأظهر: أنه جواب النهي، وقد قيل: يصح أن يكون عطفاً، لأنك تقول: " لا تجب والدك فتعص ربك كما تقول: فتعصي ربك، والظلم في الحقيقة: الإخلال بما يقتضيه داعياً الله: " العقل والشرع " وهو الخروج عن الحظر ولهذا قيل: هو وضع الشيء في غير موضعه، وقد تقدم أن الظلم ضربان: ظلم النفس، وظلم الغير، وظلم الغير لا ينفك من ظلم النفس، وظلم النفس قد ينفك من ظلم الغير، ولأجل أن الظلم خروج عن الحق، وأن الحق يجري مجرى النقطة من الدائرة، ومجرى القرطاس من الهدف، صار من تعداه يصح أن يقال: " هو ظالم " وإن كان بين الظالم والظالم بون ولذلك قد يطلق " الظالم " على من ارتكب صغيرة وعلى من ارتكب كبيرة، إن قيل كيف جاز أن ينهي عن الشجرة ثم يتناولها وقد أنكرتم أن يرتكب الأنبياء الكبائر؟ قيل: قد أجيب عن ذلك بأن آدم [عليه السلام] أشير له إلى شجرة، فقيل له: " لا تقربا هذه الشجرة " وأريد به الجنس لا العين نحو ما روي أن النبي - عليه

صفحة رقم 153

السلام - خرج وفي إحدى يديه ذهب، وفي الأخرى حرير، فقال: " هذا حرام على ذكور أمتي حل لإناثها.
ولم يرد به العين، وإنما أراد به الجنس، فحمل آدم متأولاً الإشارة إلى العين دون الجنس، فوقع عليه السهو من هذا الوجه، وقيل: أنه حمل النهي على الندب دون الحتم، ونسي الوعيد المقرون به، ولذلك قال: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ﴾ أي: " نسي الوعيد ".
واختلف في الجنة التي أسكنها آدم - عليه السلام - فقال بعض المتكلمين: كان بستاناً جعله الله تعالى له امتحاناً ولم يكن جنة المأوى فإن تلك لم تخلق بعد، إذ هي للخلود، وقد ثبت أن الله تعالى يفني الأشياء كلها حتى لا يبقى إلا وجهه ولو كانت مخلوقة الآن لم يصح أن يخص بهذه الصفة، وقال أكثر الناس: كانت جنة المأوى، وتسميتها بجنة الخلد اعتباراً بدوامها بعد أن يدخلها المثابون.
والشيء الواحد قد يسمى بأسماء كثيرة - اعتباراً بمعان متفاوته، ألا ترى إلى ما حكي عن الحسن أنه قال: " خلقنا للأبد، ولكنا ننقل من دار إلى دار " وذلك اعتباراً بحال الإعادة، ومن قال: لم تكن تلك جنة الخلد، لأنه لا تكليف في الجنة، وآدم [عليه السلام] كان مكلفاً، [فقد قيل في جوابه: إنما لا يكون دار التكليف في الآخرة، ولا يمتنع أن يكون في وقت دار تكليف، ولا يكون في وقت كذلك، كما أن الإنسان يكون] مكلفاً في وقت دون وقت، وقال بعض الناس: " إن الله تعالى لما خلق الإنسان لاستخلافه في أرضه واستعماره فيها كما قال: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ ﴿وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ وقال ﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ وأراد أن يوصله بذلك إلى جنة المأوى وعلم بسابق علمه أنه لسوء تدبيره

صفحة رقم 154

قد يختار العاجل الخسيس على الأجل النفيس لعجلته كما وصفه بقوله تعالى: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ وأنه قد تتبع هواه كما قال: ﴿وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ وعلم ما يكون منه أدخله الجنة ليعرف النعيم الذي أعد له عياناً، فيكون إليه أشوق، ويتذوق طعم المخالفة فيكون منها أخوف، فمعلوم من حال الإنسان أن المحنة تهذبه، والاشتياق إلى ما عاينه من الخيرات يرغبه، فصار ما جرى [على آدم] من الأحوال من تمام النعمة عليه، والله أعلم بوجوه المصالح، وفي الآية حث على قبول قول من هو أعلم منك وتحري نصحك والمصلحة، وإن الإنسان إذا حفظ في دنياه قرناءه المتصلة به من قواه الشهوية والغضبية، وقرناءه المتصلة به من قواه الشهوية والغضبية وقرناءه المنفصلة عنه من أهله وولده وساس نفسه وأهله، ورعى من الله أوامره، وتجنب زواجره كان في الجنة عاجلاً وأجلاً، وإلا صار معاونة عليه ومنافعه راجعة بالمضرة إليه، كما قال تعالى: ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾.

صفحة رقم 155
تفسير الراغب الأصفهاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى
تحقيق
هند بنت محمد سردار
الناشر
كلية الدعوة وأصول الدين - جامعة أم القرى
سنة النشر
1422
عدد الأجزاء
2
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية