آيات من القرآن الكريم

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ
ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ ﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ

بذلك الوجه عليه ولنا- والحمد لله تعالى- في ذلك المطلب أدلة شتى، وكذا لا دليل للمجسمة القائلين بأنه تعالى في مكان في ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لأن المراد بالرجوع إليه الجمع في المحشر حيث لا يتولى الحكم سواه والأمر يومئذ لله، ووراء هذا من المقال ما لا يخفى على العارفين، وفي قوله تعالى: تُرْجَعُونَ على البناء للمفعول دون- يرجعكم- المناسب للسياق مراعاة لتناسب رؤوس الآي مع وجود التناسب المعنوي للسياق، ولهذا قيل: إن قراءة الجمهور أفصح من قراءة يعقوب ومجاهد، وجماعة «ترجعون» مبنيا للفاعل، ولا يرد أن الآية إذا كانت خطابا للكفار- ومعنى العلم ملاحظ فيها- امتنع خطابهم بما بعد- ثم وثم- من الفعلين لأنهم لا يعلمون ذلك لأن تمكنهم من العلم لوضوح الأدلة آفاقية وأنفسية- وسطوع أنوارها عقلية ونقلية- منزل منزل العلم في إزاحة العذر، وبهذا يندفع أيضا ما قيل: هم شاكون في نسبة ما تقدم إليه تعالى فكيف يتأتى ذلك الخطاب به، ويحتمل كما قيل: أن يكون الخطاب في الآية للمؤمن والكافر فإنه سبحانه لما بين دلائل التوحيد أيضا من قوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّاسُ إلى فَلا تَجْعَلُوا ودلائل النبوة من وَإِنْ كُنْتُمْ إلى إِنْ كُنْتُمْ وأوعد ب فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا الآية، ووعد ب وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا إلخ أكد ذلك بأن عدد عليهم النعم العامة من قوله وَكُنْتُمْ أَمْواتاً إلى هُمْ فِيها خالِدُونَ والخاصة من يا بَنِي إِسْرائِيلَ [البقرة: ٤٠] إلى ما نَنْسَخْ [البقرة: ١٠٦] واستقبح صدور الكفر- مع تلك النعم منهم- توبيخا للكافر وتقريرا للمؤمن وعد الإماتة نعمة لأنها وصلة إلى الحياة الأبدية واجتماع المحب بالحبيب، وقد يقال: إن المعدود عليهم كذلك هو المعنى المنتزع من القصة بأسرها.
«ومن الإشارة» قول ابن عطاء وَكُنْتُمْ أَمْواتاً بالظاهر فَأَحْياكُمْ بمكاشفة الأسرار ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عن أوصاف العبودية ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بأوصاف الربوبية، وقال فارس: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً بشواهدكم فَأَحْياكُمْ بشواهده ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عن شاهدكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بقيام الحق ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ عن جميع ما لكم فتكونون له.

صفحة رقم 216

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً معطوف على قوله تعالى: وَكُنْتُمْ وترك الحرف إما لكونه كالنتيجة له أو للتنبيه على الاستقلال في إفادة ما أفاده، وذكر أنه بيان نعمة أخرى مترتبة على الأولى، وأريد بترتبها أن الانتفاع بها يتوقف عليها فإن النعمة إنما تسمى نعمة من حيث الانتفاع بها، وهُوَ لغير المتكلم والمخاطب، وفيه لغات: تخفيف الواو مفتوحة، وحذفها في الشعر، وتشديدها لهمدان، وتسكينها لأسد وقيس، وهُوَ عند أهل الله تعالى اسم من أسمائه تعالى ينبىء عن كنه حقيقته المخصوصة المبرأة عن جميع جهات الكثرة، وهُوَ اسم مركب من حرفين الهاء والواو، والهاء- أصل، والواو- زائدة بدليل سقوطها في التثنية والجمع فليس في الحقيقة إلا حرف واحد دال على الواحد الفرد الذي لا موجود سواه وكل شيء هالك إلا وجهه، ولمزيد ما فيه من الأسرار اتخذه الأجلّة مدارا لذكرهم وسراجا لسرهم، وهو جار مع الأنفاس، ومسماه غائب عن الحدس والقياس، وفي «جعل» الضمير مبتدأ والموصول خبرا من الدلالة على الجلالة ما لا يخفى، وتقديم الظرف على المفعول الصريح لتعجيل المسرة واللام للتعليل والانتفاع- أي خلق لأجلكم جميع ما في الأرض- لتنتفعوا به في أمور دنياكم بالذات أو بالواسطة وفي أمور دينكم بالاستدلال والاعتبار، واستدل كثير من أهل السنة- الحنفية، والشافعية- بالآية على إباحة الأشياء النافعة قبل ورود الشرع، وعليه أكثر المعتزلة، واختاره الإمام في المحصول، والبيضاوي في المنهاج.
واعترض بأن اللام تجيء لغير النفع ك إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء: ٧] وأجيب بأنها مجاز لاتفاق أئمة اللغة على أنها للملك ومعناه الاختصاص النافع، وبأن المراد النفع بالاستدلال، وأجيب بأن التخصيص خلاف الظاهر مع أن ذلك حاصل لكل مكلف من نفسه فيحمل على غيره، وذهب قوم إلى أن الأصل في الأشياء قبل الحظر، وقال قوم بالوقف لتعارض الأدلة عندهم، واستدلت الإباحية بالآية على مدعاهم قائلين إنها تدل على أن ما في الأرض جميعا خلق للكل فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلا، ويرده أنها تدل على أن الكل للكل، ولا ينافي اختصاص البعض بالبعض لموجب، فهناك شبه التوزيع، والتعيين يستفاد من دليل منفصل، ولا يلزم اختصاص كل شخص بشيء واحد كما ظنه الساليكوتي، وما تعم جميع ما في الأرض لأنفسها إذ لا يكون الشيء ظرفا لنفسه إلا أن يراد بها جهة السفل كما يراد بالسماء جهة العلو ويكفي في التحدر العرش المحيط، أو تجعل الجهة اعتبارية، نعم قيل: تعم كل جزء من أجزاء الأرض- فإنه من جملة ضروراتها- ما فيها ضرورة وجود الجزء في الكل والمغايرة اعتبارية والقول: بأن الكلام على تقدير معطوف أي خلق ما في الأرض والأرض- لا أرضى به، وبعضهم لم يتكلف شيئا من ذلك، واستغنى بتقدم الامتنان بالأرض في قوله تعالى: جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً [البقرة: ٢٢] وجَمِيعاً حال مؤكدة من كلمة «ما» ولا دلالة لها كما ذكره البعض على الاجتماع الزماني وهذا بخلاف معا، وجعله حالا من ضمير لَكُمْ يضعفه السياق لأنه لتعداد النعم دون المنعم عليه مع أن مقام الامتنان يناسبه المبالغة في كثرة النعم، ولاعتبار المبالغة لم يجعلوه حالا من الأرض أيضا ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أي علا إليها وارتفع من غير تكييف ولا تمثيل ولا تحديد- قاله الربيع- أو قصد إليها بإرادته قصدا سويا بلا صارف يلويه ولا عاطف يثنيه من قولهم: استوى إليه- كالسهم المرسل- إذا قصده قصدا مستويا من غير أن يلوي على شيء- قاله الفراء- وقيل: استولى وملك كما في قوله:

صفحة رقم 217

وهو خلاف الظاهر لاقتضائه كون إِلَى بمعنى على، وأيضا الاستيلاء مؤخر عن وجود المستولى عليه فيحتاج إلى القول بأن المراد استولى على إيجاد السماء فلا يقتضي تقدم الوجود ولا يخفى ما فيه. والمراد بالسماء الأجرام العلوية أو جهة العلو. وثم قيل: للتراخي في الوقت، وقيل: لتفاوت ما بين الخلقين، وفضل خلق السماء على خلق الأرض، والناس مختلفون في خلق السماء وما فيها، والأرض وما فيها باعتبار التقدم والتأخر لتعارض الظواهر في ذلك، فذهب بعض إلى تقدم خلق السماوات لقوله تعالى: أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَالْجِبالَ أَرْساها [النازعات: ٢٧- ٣٢] وذهب آخرون إلى تقدم خلق الأرض لقوله تعالى: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: ٩] إلى قوله سبحانه:
وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها [فصلت: ١٠- ١٢] وجمع بعضهم فقال: إن أَخْرَجَ مِنْها ماءَها بدل أو عطف بيان «لدحاها» أي بسطها مبين للمراد منه فيكون تأخرها ليس بمعنى تأخر ذاتها بل بمعنى تأخر- خلق ما فيها- وتكميله وترتيبه بل خلق التمتع والانتفاع به فإن البعدية كما تكون باعتبار نفس الشيء تكون باعتبار جزئه الأخير. وقيده المذكور كما لو قلت: بعثت إليك رسولا ثم كنت بعثت فلانا لينظر ما يبلغه فبعث الثاني، وإن تقدم لكن ما بعث لأجله متأخر فجعل نفسه متأخرا وما رواه الحاكم والبيهقي- بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في التوفيق بين الآيتين- يشير إلى هذا، ولا يعارضه ما
رواه ابن جرير وغيره وصححوه عنه أيضا- «إن اليهود أتت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فسألته عن خلق السماوات والأرض فقال: خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال وما فيهن من المنافع يوم الثلاثاء، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب، فهذه أربعة فقال تعالى: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ إلى سَواءً لِلسَّائِلِينَ وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة» -
لجواز أن يحمل على أنه خلق مادة ذلك وأصوله إذ لا يتصور المدائن والعمران والخراب قبل، فعطفه عليه قرينة لذلك، واستشكال الإمام الرازي تأخر التدحية عن خلق السماء بأن الأرض جسم عظيم فامتنع انفكاك خلقها عن التدحية فإذا كانت التدحية متأخرة كان خلقها أيضا متأخرا مبني كما قيل: على الغفلة لأن من يقول بتأخر دحوها عن خلقها لا يقول بعظمها ابتداء بل يقول. إنها في أول الخلق كانت كهيئة الفهر ثم دحيت، فيتحقق الانفكاك ويصح تأخر دحوها عن خلقها، وقوله قدس سره: إن خلق الأشياء في الأرض- لا يمكن إلا إذا كانت مدحوة- لا يخفى دفعه بناء على أن المراد بذلك خلق المواد والأصول لا خلق الأشياء فيها كما هو اليوم وقال بعض المحققين: اختلف المفسرون في أن خلق السماء مقدم على خلق الأرض أو مؤخر؟ نقل الإمام الواحدي عن مقاتل الأول- واختاره المحققون- ولم يختلفوا في أن جميع ما في الأرض مما ترى مؤخر عن خلق السماوات السبع بل اتفقوا عليه، فحينئذ يجعل- الخلق- في الآية الكريمة بمعنى التقدير لا الإيجاد أو بمعناه ويقدر الإرادة- ويكون المعنى أراد خلق ما في الأرض جميعا- لكم على حد إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة: ٦] وفَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ [الإسراء: ٤٥] ولا يخالفه وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها فإن المتقدم على خلق السماء إنما هو تقدير الأرض وجميع ما فيها، أو إرادة إيجادها والمتأخر عن خلق السماء إيجاد الأرض وجميع ما فيها فلا إشكال، وأما قوله سبحانه وتعالى: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: ٩] فعلى تقدير الإرادة، والمعنى أراد خلق الأرض، وكذا وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ [الرعد: ٣، فصلت: ١٠] ينبغي أن يكون بمعنى أراد أن يجعل، ويؤيد ذلك قوله تعالى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: ١١] فإن الظاهر أن المراد ائتيا في الوجود، ولو كانت الأرض موجودة سابقة لما صح هذا فكأنه سبحانه قال: أئنكم

صفحة رقم 218

لتكفرون بالذي أراد إيجاد الأرض وما فيها من الرواسي والأقوات في أربعة أيام ثم قصد إلى السماء فتعلقت إرادته بإيجاد السماء والأرض فأطاعا بأمر التكوين فأوجد سبع سماوات في يومين وأوجد الأرض وما فيها في أربعة أيام.
«بقي هاهنا» بيان النكتة في تغيير الأسلوب حيث قدم في الظاهر هاهنا وفي «حم» السجدة خلق الأرض وما فيها على خلق السماوات وعكس في- النازعات- ولعل ذلك لأن المقام في الأولين مقام الامتنان فمقتضاه تقديم ما هو نعمة نظرا إلى المخاطبين فكأنه قال سبحانه وتعالى: هو الذي دبر أمركم قبل خلق السماء ثم خلق السماء، والمقام في الثالثة مقام بيان كمال القدرة فمقتضاه تقديم ما هو أدل على كمالها، هذا والذي يفهم من بعض عبارات القوم قدس الله تعالى أسرارهم أن المحدد- ويقال له سماء أيضا- مخلوق قبل الأرض وما فيها، وأن الأرض نفسها خلقت بعد، ثم بعد خلقها خلقت السماوات السبع، ثم بعد السبع خلق ما في الأرض من معادن ونبات، ثم ظهر عالم الحيوان، ثم عالم الإنسان، فمعنى خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ حينئذ قدره أو أراد إيجاده أو أوجد مواده، ومعنى وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ إلخ في الآية الأخرى على نحو هذا، «وخلق الأرض فيها» على ظاهرة ولا يأباه قوله سبحانه: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا إلخ لجواز حمله على معنى ائتيا بما خلقت فيكما من التأثير والتأثر وإبراز ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة والكائنات المتنوعة، أو إتيان السماء حدوثها وإتيان الأرض أن تصير مدحوة أو ليأت كل منكما الأخرى في حدوث ما أريد توليده منكما، وبعد هذا كله لا يخلو البحث من صعوبة، ولا زال الناس يستصعبونه من عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلى الآن، ولنا فيه إن شاء الله تعالى عودة بعد عودة، ونسأل الله تعالى التوفيق فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ الضمير للسماء إن فسرت بالأجرام، وجاز أن يرجع إليها بناء على أنها جمع أو مؤولة به، وإلا فمبهم يفسره ما بعده على حد- نعم رجلا- وفيه من التفخيم والتشويق والتمكين في النفس ما لا يخفى، وفي نصب سَبْعَ خمسة أوجه: البدل من المبهم، أو العائد إلى السماء، أو مفعول به أي سوى منهن، أو حال مقدرة، أو تمييز، أو مفعول ثان لسوى بناء على أنها بمعنى صير- ولم يثبت- والبدلية أرجح لعدم الاشتقاق وبعدها الحالية- كما في البحر- وأريد «بسواهن» أتمهن وقومهن وخلقهن ابتداء مصونات عن العوج والفطور لا أنه سبحانه وتعالى سواهن بعد أن لم يكن كذلك فهو على حد قولهم: ضيق فم البئر ووسع الدار، وفي مقارنة التسوية والاستواء حسن لا يخفى «لا يقال» إن أرباب الأرصاد أثبتوا تسعة أفلاك، وهل هي إلا سماوات؟ لأنا نقول هم شاكّون إلى الآن في النقصان والزيادة فإن ما وجدوه من الحركات يمكن ضبطها بثمانية وسبعة بل بواحد، وبعضهم أثبتوا بين فلك الثوابت والأطلس كرة لضبط الميل الكلي، وقال بعض محققيهم: لم يتبين لي إلى الآن أن كرة الثوابت كرة واحدة أو كرات منطوية بعضها على بعض، وأطال الإمام الرازي الكلام في ذلك وأجاد، على أنه إن صح ما شاع فليس في الآية ما يدل على نفي الزوائد بناء على ما اختاره الإمام من أن مفهوم العدد ليس بحجة، وكلام البيضاوي في تفسيره يشير إليه خلافا لما في منهاجه الموافق لما عليه الإمام الشافعي ونقله عنه الغزالي في المنخول، وذكر الساليكوتي أن الحق أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد- والخلاف في ذلك مشهور- وإذا قلنا بكروية العرش والكرسي لم يبق كلام.
وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تذييل مقرر لما قبله من خلق السماوات والأرض وما فيها على هذا النمط العجيب والأسلوب الغريب ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك: ٣، ٤] وفي عَلِيمٌ من المبالغة ما ليس في عالم وليس ذلك راجعا إلى نفس الصفة لأن علمه تعالى واحد لا تكثّر فيه لكن لما تعلق بالكلي والجزئي والموجود والمعدوم والمتناهي وغير المتناهي وصف نفسه سبحانه بما دل على المبالغة- والشيء- هنا عام باق على عمومه لا تخصيص فيه بوجه خلافا

صفحة رقم 219

لمن ضل عن سواء السبيل، والجار والمجرور متعلق ب عَلِيمٌ وإنما تعدى بالباء مع أنه من علم وهو متعد بنفسه، والتقوية تكون باللام لأن أمثلة المبالغة كما قالوا: خالفت أفعالها لأنها أشبهت أفعل التفضيل لما فيها من الدلالة على الزيادة فأعطيت حكمه في التعدية وهو أنه إن كان فعله متعديا فإن أفهم علما أو جهلا تعدى بالباء- كأعلم به وأجهل به، وعليم به وجهول به- وأعلم من يضل على التأويل وإلا تعدى باللام- كالضرب لزيد فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [هود:
١٠٧]- وإلا تعدى بما يتعدى به فعله- كما صبر على النار، وصبور على كذا- ولعل ذلك أغلبي إذ يقال رحيم به فافهم وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً لما امتنّ سبحانه على من تقدم بما تقدم أتبع ذلك بنعمة عامة وكرامة تامة والإحسان إلى الأصل إحسان إلى الفرع والولد سر أبيه وَإِذْ ظرف زمان للماضي مبني لشبهه بالحرف وضعا وافتقارا ويكون ما بعدها جملة فعلية أو اسمية، ويستفاد الزمان منها بأن يكون ثاني جزأيها فعلا أو يكون مضمونها مشهورا بالوقوع في الزمان المعين، وإذا دخلت على المضارع قلبته إلى الماضي، وهي ملازمة للظرفية إلا أن يضاف إليها زمان، وفي وقوعها مفعولا به أو حرف تعليل أو مفاجأة أو ظرف مكان أو زائدة خلاف، وفي البحر أنها لا تقع، وإذا استفيد شيء من ذلك فمن المقام، واختلف المعربون فيها هنا فقيل: زائدة وبمعنى قد، وفي موضع رفع أي ابتداء خلقكم إذ وفي موضع نصب بمقدر- أي ابتدأ خلقكم أو أحياكم إذ- ويعتبر وقتا ممتدا لا حين القول، ويقال: بعدها ومعمول- لخلقكم- المتقدم والواو زائدة والفصل بما يكاد أن يكون سورة، ومتعلق- باذكر- ويكفي في صحة الظرفية ظرفية المفعول- كرميت الصيد في الحرم- وهذه عدة أقوال بعضها غير صحيح والبعض فيه تكلف، فاللائق أن تجعل منصوبة- بقالوا- الآتي وبينهما تناسب ظاهر والجملة بما فيها عطف على ما قبلها عطف القصة على القصة كذا قيل، وأنت تعلم أن المشهور القول الأخير ولعله الأولى فتدبر، ولا يخفى لطف الرب هنا مضافا إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم بطريق الخطاب وكان في تنويعه والخروج من عامه إلى خاصه رمزا إلى أن المقبل عليه بالخطاب له الحظ الأعظم والقسم الأوفر من الجملة المخبر بها فهو صلى الله تعالى عليه وسلم على الحقيقة الخليفة الأعظم في الخليقة والإمام المقدم في الأرض والسماوات العلى، ولولاه ما خلق آدم بل «ولا، ولا» ولله تعالى در سيدي ابن الفارض حيث يقول عن لسان الحقيقة المحمدية:

فلما «علونا واستوينا عليهم» تركناهم صرعى لنسر وكاسر
وإني وإن كنت ابن آدم صورة فلي فيه معنى شاهد بأبوتي
واللام الجارة للتبليغ، و «الملائكة» جمع ملأك على وزن شمائل وشمأل وهو مقلوب مالك صفة مشبهة عند الكسائي، وهو مختار الجمهور من الألوكة وهي الرسالة، فهم رسل إلى الناس وكالرسل إليهم، وقيل: لا قلب فابن كيسان إلى أنه فعال من الملك بزيادة الهمزة لأنه مالك ما جعله الله تعالى إليه أو لقوته فإن «م ل ك» يدور مع القوة والشدة يقال: ملكت العجين شددت عجنه، وهو اشتقاق بعيد، وفعال قليل، وأبو عبيدة إلى أنه مفعل من لاك إذا أرسل مصدر ميمي بمعنى المفعول أو اسم مكان على المبالغة، وهو اشتقاق بعيد أيضا، ولم يشتهر لاك، وكثر في الاستعمال الكني إليه- أي كن لي رسولا- ولم يجىء سوى هذه الصيغة فاعتبره مهموز العين، وإن أصله ألا كنى، وبعض جعله أجوف من لاك يلوك، والتاء لتأنيث الجمع، وقيل: للمبالغة ولم يجعل لتأنيث اللفظ كالظلمة لاعتبارهم التأنيث المعنوي في كل جمع حيث قالوا: كل جمع مؤنث بتأويل الجماعة وقد ورد بغير تاء في قوله:
أبا خالد صلت عليك الملائك
واختلف الناس في حقيقتها بعد اتفاقهم على أنها موجودة سمعا أو عقلا، فذهب أكثر المسلمين إلى أنها أجسام نورانية، وقيل: هوائية قادرة على التشكل والظهور بأشكال مختلفة بإذن الله تعالى، وقالت النصارى: إنها الأنفس

صفحة رقم 220

الناطقة المفارقة لأبدانها الصافية الخيرة، والخبيثة عندهم شياطين، وقال عبدة الأوثان: إنها هذه الكواكب السعد منها ملائكة الرحمة، والنحس ملائكة العذاب. والفلاسفة يقولون: إنها جواهر مجردة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة، وصرح بعضهم بأنها العقول العشرة والنفوس الفلكية التي تحرك الأفلاك، وهي عندنا منقسمة إلى قسمين. قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحق والتنزه عن الاشتغال بغيره يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وهم العليون والملائكة المقربون. وقسم يدبر الأمر من السماء إلى الأرض على ما سبق به القضاء وجرى به القلم لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم: ٦] وهم فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً [النازعات: ٥] فمنهم سماوية ومنهم أرضية، ولا يعلم عددهم إلا الله.
وفي الخبر «أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع»
وهم مختلفون في الهيئات متفاوتون في العظم، لا يراهم على ما هم عليه إلا أرباب النفوس القدسية. وقد يظهرون بأبدان يشترك في رؤيتها الخاص والعام وهم على ما هم عليه، حتى قيل: إن جبريل عليه السلام في وقت ظهوره في صورة دحية الكلبي بين يدي المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يفارق سدرة المنتهى، ومثله يقع للكمل من الأولياء، وهذا ما وراء طور العقل- وأنا به من المؤمنين- وقد ذكر أهل الله- قدس الله تعالى أسرارهم- أن أول مظهر للحق جل شأنه العما، ولما انصبغ بالنور فتح فيه صور الملائكة المهيمين الذين هم فوق عالم الأجساد الطبيعية ولا عرش ولا مخلوق تقدمهم. فلما أوجدهم تجلى لهم باسمه الجميل فهاموا في جلال جماله، فهم لا يفيقون، فلما شاء أن يخلق عالم التدوين والتسطير عين واحدا من هؤلاء- وهو أول ملك ظهر عن ملائكة ذلك النور- سماه العقل والقلم، وتجلى له في مجلى التعليم الوهبي بما يريد إيجاده من خلقه لا إلى غاية، فقبل بذاته علم ما يكون، وما للحق من الأسماء الإلهية الطالبة صدور هذا العالم الخلقي، فاشتق من هذا العقل ما سماه اللوح، وأمر القلم أن يتدلى إليه ويودع فيه ما يكون إلى يوم القيامة لا غير. فجعل لهذا العلم ثلاثمائة وستين سنا من كونه قلما، ومن كونه عقلا ثلاثمائة وستين تجليا أو رقيقة كل سن أو رقيقة تفترق من ثلاثمائة وستين صنفا من العلوم الإجمالية فيفصلها في اللوح، وأول علم حصل فيه علم الطبيعة فكانت دون النفس، وهذا كله في عالم النور الخالص، ثم أوجد سبحانه الظلمة المحضة التي هي في مقابلة هذا النور بمنزلة العدم المطلق المقابل للوجود المطلق فأفاض عليها النور إفاضة ذاتية بمساعدة الطبيعة، فلأم شعثها ذلك النور فظهر العرش، فاستوى عليه اسم الرحمن بالاسم الظاهر فهو أول ما ظهر من عالم الخلق، وخلق من ذلك النور فظهر العرش، فاستوى عليه اسم الرحمن بالاسم الظاهر فهو أول ما ظهر من عالم الخلق، وخلق من ذلك النور الممتزج الملائكة الحافين، وليس لهم شغل إلا كونهم- حافين من حول العرش يسبحون بحمده- ثم أوجد الكرسي في جوف هذا العرش، وجعل فيه ملائكة من جنس طبيعته، فكل فلك أصل لما خلق فيه من عماره، كالعناصر فيما خلق فيها من عمارها، وقسم في هذا الكرسي الكلمة إلى خبر وحكم، وهما القدمان اللتان تدلتا له من العرش كما ورد في الخبر. ثم خلق في جوف الكرسي الأفلاك، فلكا في جوف فلك، وخلق في كل فلك عالما منه يعمرونه، وزينها بالكواكب وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها [فصلت: ١٢] إلى أن خلق صور المولدات، وتجلى لكل صنف منها بحسب ما هي عليه، فتكون من ذلك أرواح الصور وأمرها بتدبيرها وجعلها غير منقسمة بل ذاتا واحدة، وميز بعضها عن بعض فتميزت وكان تمييزها بحسب قبول الصور من ذلك التجلي، وهذه الصور في الحقيقة كالمظاهر لتلك الأرواح، ثم أحدث سبحانه الصور الجسدية الخيالية بتجلّ آخر، وجعل لكل من الأرواح والصور غذاء يناسبه، ولا يزال الحق سبحانه يخلق من أنفاس العالم ملائكة ما داموا متنفسين، وسبحان من يقول للشيء كن فيكون.
إذا علمت ذلك فاعلم أنهم اختلفوا في الملائكة المقول لهم، فقيل: كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص،

صفحة رقم 221

فشمل المهيمين وغيرهم، وقيل: ملائكة الأرض بقرينة أن الكلام في خلافة الأرض، وقيل: إبليس ومن كان معه في محاربة الجن الذين أسكنوا الأرض دهرا طويلا ففسدوا فبعث الله تعالى عليهم جندا من الملائكة يقال لهم الجن أيضا وهم خزان الجنة- اشتق لهم اسم منها- فطردوهم إلى شعوب الجبال والجزائر. والذي عليه السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم، أنهم ما عدا العالمين ممن كان مودعا شيئا من أسماء الله تعالى وصفاته، وأن العالمين غير داخلين في الخطاب ولا مأمورين بالسجود لاستغراقهم وعدم شعورهم بسوى الذات، وقوله تعالى: أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ [ص: ٧٥] يشير إلى ذلك عندهم، وجعلوا من أولئك الملك المسمى بالروح وبالقلم الأعلى وبالعقل الأول وهو المرآة لذاته تعالى، فلا يظهر بذاته إلا في هذا الملك، وظهوره في جميع المخلوقات إنما هو بصفاته فهو قطب العالم الدنيوي والأخروي وقطب أهل الجنة والنار وأهل الكثيب والأعراف، وما من شيء إلا ولهذا الملك فيه وجه يدور ذلك المخلوق على وجهه فهو قطبه، وهو قد كان عالما بخلق آدم ورتبته، فإنه الذي سطر في اللوح ما كان وما يكون، واللوح قد علم علم ذوق ما خطه القلم فيه، وقد ظهر هذا الملك بكماله في الحقيقة المحمدية كما يشير إليه قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: ٥٢] ولهذا كان صلى الله تعالى عليه وسلم أفضل خلق الله تعالى على الإطلاق، بل هو الخليفة على الحقيقة في السبع الطباق، وليس هذا بالبعيد فليفهم.
وجاعِلٌ اسم فاعل من الجعل بمعنى التصيير فيتعدى لاثنين، والأول هنا خليفة، والثاني فِي الْأَرْضِ أو بمعنى الخلق فيتعدى لواحد، ف فِي الْأَرْضِ متعلق بخليفة، وقدم للتشويق وعمل الوصف لأنه بمعنى الاستقبال ومعتمد على مسند إليه، ورجح في البحر كونه بمعنى الخلق لما في المقابل، ويلزم- على كونه بمعنى التصيير- ذكر خليفة أو تقديره فيه. والمراد من الأرض إما كلها وهو الظاهر، وبه قال الجمهور، أو أرض مكة، وروي هذا مرفوعا والظاهر أنه لم يصح، وإلا لم يعدل عنه، وخص سبحانه الأرض لأنها من عالم التغيير والاستحالات، فيظهر بحكم الخلافة فيها حكم جميع الأسماء الإلهية التي طلب الحق ظهوره بها بخلاف العالم الأعلى والخليفة- من يخلف غيره وينوب عنه، والهاء للمبالغة، ولهذا يطلق على المذكر، والمشهور أن المراد به آدم عليه السلام وهو الموافق للرواية ولإفراد اللفظ ولما في السياق، ونسبة سفك الدم والفساد إليه حينئذ بطريق التسبب أو المراد- بمن يفسد- إلخ من فيه قوة ذلك، ومعنى كونه خَلِيفَةً أنه خليفة الله تعالى في أرضه، وكذا كل نبي استخلفهم في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم لا لحاجة به تعالى، ولكن لقصور المستخلف عليه لما أنه في غاية الكدورة والظلمة الجسمانية، وذاته تعالى في غاية التقدس، والمناسبة شرط في قبول الفيض على ما جرت به العادة الإلهية فلا بد من متوسط ذي جهتي تجرد وتعلق ليستفيض من جهة ويفيض بأخرى، وقيل: هو وذريته عليه السلام، ويؤيده ظاهر قول الملائكة، فإلزامهم حينئذ بإظهار فضل آدم عليهم لكونه الأصل المستتبع من عداه، وهذا كما يستغني بذكر أبي القبيلة عنهم، إلا أن ذكر الأب بالعلم وما هنا بالوصف، ومعنى كونهم خلفاء أنهم يخلفون من قبلهم من الجن بني الجان أو من إبليس ومن معه من الملائكة المبعوثين لحرب أولئك على ما نطقت به الآثار، أو أنه يخلف بعضهم بعضا، وعند أهل الله تعالى المراد بالخليفة آدم وهو عليه السلام خليفة الله تعالى وأبو الخلفاء والمجلى له سبحانه وتعالى، والجامع لصفتي جماله وجلاله، ولهذا جمعت له اليدان وكلتاهما يمين، وليس في الموجودات من وسع الحق سواه، ومن هنا
قال الخليفة الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الله تعالى خلق آدم على صورته أو- على- صورة الرحمن»
وبه جمعت الأضداد وكملت النشأة وظهر الحق، ولم تزل تلك الخلافة في الإنسان الكامل إلى قيام الساعة وساعة القيام، بل متى فارق هذا الإنسان العالم مات العالم لأنه الروح الذي به قوامه، فهو العماد المعنوي

صفحة رقم 222

للسماء، والدار الدنيا جارحة من جوارح جسد العالم الذي الإنسان روحه. ولما كان هذا الاسم الجامع قابل الحضرتين بذاته صحت له الخلافة وتدبير العالم والله سبحانه الفعال لما يريد، ولا فاعل على الحقيقة سواه وفي المقام ضيق، والمنكرون كثيرون ولا مستعان إلا بالله عز وجل. وفائدة قوله تعالى هذا للملائكة تعليم المشاورة لأن هذه المعاملة تشبهها أو تعظيم شأن المجعول وإظهار فضله ويحتمل أنه سبحانه أراد بذلك تعريف آدم عليه السلام لهم ليعرفوا قدره لأنه باطن عن الصورة الكونية بما عنده من الصورة الإلهية وما يعرفه لبطونه من الملأ الأعلى إلا اللوح والقلم، وكان هذا القول على ما ذكره الشيخ الأكبر قدس سره في دولة السنبلة بعد مضي سبعة عشر ألف سنة من عمر الدنيا ومن عمر الآخرة التي (١) لا نهاية له في الدوام ثمانية آلاف سنة، ومن عمر العالم الطبيعي المفيد بالزمان المحصور بالمكان إحدى وسبعون ألف سنة من السنين المعروفة الحاصلة أيامها من دورة الفلك الأول وهو يوم وخمسا يوم من أيام ذي المعارج ولله تعالى الأمر من قبل ومن بعد، وقرأ زيد بن علي- خليقة- بالقاف والمعنى واضح قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ استكشاف عن الحكمة الخفية وعما يزيل الشبهة وليس استفهاما عن نفس الجعل والاستخلاف لأنهم قد علموه قبل، فالمسؤول عنه هو الجعل ولكن لا باعتبار ذاته بل باعتبار حكمته ومزيل شبهته، أو تعجب من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد فيها، أو يستخلف مكان أهل الفساد مثلهم أو مكان أهل الطاعة أهل المعصية، وقيل: استفهام محض حذف فيه المعادل- أي أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ أم تجعل من لا يفسد- وجعله بعضهم من الجملة الحالية- أي أَتَجْعَلُ فِيها- كذا- وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ أم نتغير- واختار ذلك شيخنا علاء الدين الموصلي روح الله تعالى روحه، والأدب يسكتني عنه، وعلى كل تقدير ليست الهمزة للإنكار كما زعمته الحشوية مستدلين بالآية على عدم عصمة الملائكة لاعتراضهم على الله تعالى وطعنهم في بني آدم، ومن العجيب أن مولانا الشعرائي- وهو من أكابر أهل السنة بل من مشايخ أهل الله تعالى- نقل عن شيخه الخواص أنه خص العصمة بملائكة السماء معللا له بأنهم عقول مجردة بلا منازع ولا شهوة، وقال: إن الملائكة الأرضية غير معصومين ولذلك وقع إبليس فيما وقع إذ كان من ملائكة الأرض الساكنين بجبل الياقوت بالمشرق عند خط الاستواء فعليه لا يبعد الاعتراض ممن كان في الأرض والعياذ بالله تعالى، ويستأنس له بما ورد في بعض الأخبار أن القائلين كانوا عشرة آلاف نزلت عليهم نار فأحرقتهم، وعندي أن ذلك غير صحيح، وقيل: إن القائل إبليس وقد كان إذ ذاك معدودا في عداد الملائكة ويكون نسبة القول إليهم على حد- بنو فلان قتلوا فلانا- والقاتل واحد منهم، والوجه ما قررنا وتكرار الظرف للدلالة على الإفراط في الفساد ولم يكرره بعد للاكتفاء مع ما في التكرار مما لا يخفى و «السفك» الصب والإراقة ولا يستعمل إلا في الدم أو فيه وفي الدمع والعطف من عطف الخاص على العام للإشارة إلى عظم هذه المعصية لأنه بها تتلاشى الهياكل الجسمانية، والدِّماءَ جمع دم لامه ياء أو واو وقصره وتضعيفه مسموعان، وأصله فعل أو فعل، والمراد بها المحرمة بقرينة المقام، وقيل: الاستغراق فيتضمن جميع أنواعها من المحظور وغيره والمقصود عدم تمييزه بينها، وقرأ ابن أبي عبلة «يسفك» - بضم الفاء، ويسفك من أسفك وبالتضعيف من سفك، وقرأ ابن هرمز بنصب الكاف وخرج على النصب في جواب الاستفهام، وقرىء على البناء للمجهول، والراجع إلى من حينئذ سواء جعل موصولا أو موصوفا محذوف- أي فيهم- وحكم الملائكة بالإفساد والسفك على الإنسان بناء على بعض هاتيك الوجوه ليس من ادعاء علم الغيب أو الحكم بالظن والتخمين ولكن

(١) قوله التي إلخ كذا بخط المؤلف اهـ مصححه.

صفحة رقم 223

بأخبار من الله تعالى ولم يقص علينا فيما حكي عنهم اكتفاء بدلالة الجواب عليه للإيجاز كما هو عادة القرآن، ويؤيد ذلك ما روي في بعض الآثار أنه لما قال الله تعالى ذلك قالوا: وما يكون من ذلك الخليفة؟ قال: تكون له ذرية يفسدون في الأرض ويقتل بعضهم بعضا فعند ذلك قالوا: ربنا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وقيل:
عرفوا ذلك من اللوح ويبعده عدم علم الجواب، ويحتاج الجواب إلى تكلف، وقيل: عرفوه استنباطا عما ركز في عقولهم من عدم عصمة غيرهم المفضي إلى العلم بصدور المعصية عمن عداهم المفضي إلى التنازع والتشاجر إذ من لا يرحم نفسه لا يرحم غيره، وذلك يفضي إلى الفساد وسفك الدماء، وقيل: قياسا لأحد الثقلين على الآخر بجامع اشتراكهما في عدم العصمة ولا يخفى ما في القولين، ويحتمل أنه علموا ذلك من تسميته خليفة لأن الخلافة تقتضي الإصلاح وقهر المستخلف عليه وهو يستلزم أن يصدر منه فساد إما في ذاته بمقتضى الشهوة أو في غيره من السفك أو لأنها مجلى الجلال كما أنها مجلى الجمال، ولكل آثار، والإفساد والسفك- من آثار الجلال وسكتوا عن آثار الجمال إذ لا غرابة فيها وهم على كل تقدير ما قدروا الله تعالى حق قدره ولا يخل ذلك بهم ففوق كل ذي علم عليم وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ حال من ضمير الفاعل في أَتَجْعَلُ وفيها تقرير لجهة الإشكال، والمعنى تستخلف من ذكر ونحن المعصومون وليس المقصود إلا الاستفسار عن المرجح لا العجب والتفاخر حتى يضر بعصمتهم كما زعمت الحشوية، ولزوم الضمير، وترك الواو في الجملة الاسمية إذا وقعت حالا مؤكدة غير مسلم كما في شرح التسهيل وصيغة المضارع للاستمرار، وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للاختصاص، ومن الغريب جعل الجملة استفهامية حذف منها الأداة، وكذا المعادل والتسبيح في الأصل مطلق التبعيد، والمراد به تبعيد الله تعالى عن السوء وهو متعد بنفسه ويعدى باللام إشعارا بأن إيقاع الفعل لأجل الله تعالى وخالصا لوجهه سبحانه فالمفعول المقدر هاهنا يمكن أن يكون باللام على وفق قرينه، وأن يكون بدونه كما هو أصله، و «بحمدك» في موضع الحال والباء لاستدامة الصحبة والمعية، وإضافة الحمد إما إلى الفاعل والمراد لازمه مجازا من التوفيق والهداية، أو إلى المفعول أي متلبسين بحمدنا لك على ما وفقتنا لتسبيحك، وفي ذلك نفي ما يوهمه الإسناد من العجب، وقيل: المراد به تسبيح خاص وهو- سبحان ذي الملك والملكوت سبحان ذي العظمة والجبروت سبحان الحي الذي لا يموت- ويعرف هذا بتسبيح الملائكة، أو- سبحان الله وبحمده-
وفي حديث عن عبادة بن الصامت عن أبي ذر «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سئل أي الكلام أفضل؟ قال ما اصطفى الله تعالى لملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده»
أي وبحمده نسبح، والتقديس- في المشهور كالتسبيح معنى، واحتاجوا لدفع التكرار إلى أن أحدهما باعتبار الطاعات والآخر باعتبار الاعتقادات، وقيل: التسبيح تنزيهه تعالى عما لا يليق به، والتقديس تنزيهه في ذاته عما لا يراه لائقا بنفسه فهو أبلغ ويشهد له أنه حيث جمع بينهما أخر نحو- سبوح قدوس- ويحتمل أن يكون بمعنى التطهير، والمراد نسبحك ونطهر أنفسنا من الأدناس أو أفعالنا من المعاصي فلا نفعل فعلهم من الإفساد والسفك أو نطهر قلوبنا عن الالتفات إلى غيرك، ولام «لك» إما للعلة متعلق- بنقدس- والحمل على التنازع مما فيه تنازع أو معدية للفعل كما في- سجدت لله تعالى- أو للبيان كما في- سفها لك (١) - فمتعلقها حينئذ خبر مبتدأ محذوف أو زائدة والمفعول هو المجرور، ثم الظاهر أن قائل هذه الجملة هو قائل الجملة الأولى، وأغرب الشيخ صفي الدين الخزرجي في كتابه- فك الأزرار- فجعل القائل مختلفا، وبين ذلك بأن الملائكة كانوا حين ورود الخطاب عليهم مجملين وكان إبليس مندرجا في

(١) قوله سفها لك كذا بخطه اهـ مصححه.

صفحة رقم 224

جملتهم فورد الجواب منهم مجملا، فلما انفصل إبليس عن جملتهم بإبائه انفصل الجواب إلى نوعين، فنوع الاعتراض منه، ونوع التسبيح والتقديس ممن عداه، فانقسم الجواب إلى قسمين كانقسام الجنس إلى جنسين، وناسب كل جواب من ظهر عنه، فالكلام شبيه بقوله تعالى: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا [البقرة: ١٣٥] وهو تأويل لا تفسير قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ أي أعلم من الحكم في ذلك ما أنتم بمعزل عنه، وقيل: أراد بذلك علمه بمعصية إبليس وطاعة آدم، وقيل: بأنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء وصالحون، وقيل: الأحسن أن يفسر هذا المبهم بما أخبر به تعالى عنه بقوله سبحانه: إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ويفهم من كلام القوم قدس الله تعالى أسرارهم، أن المراد من الآية بيان الحكمة في الخلافة على أدق وجه وأكمله، فكأنه قال جل شأنه- أريد الظهور بأسمائي وصفاتي ولم يكمل ذلك بخلقكم- فإني أعلم ما لا تعلمونه لقصور استعدادكم ونقصان قابليتكم، فلا تصلحون لظهور جميع الأسماء والصفات فيكم، فلا تتم بكم معرفتي ولا يظهر عليكم كنزي، فلا بد من إظهار من تم استعداده، وكملت قابليته ليكون مجلى لي ومرآة لأسمائي وصفاتي ومظهرا للمتقابلات فيّ، ومظهرا لما خفي عندي، وبي يسمع وبي يبصر وبي وبي، وبعد ذاك يرق الزجاج والخمر، وإلى الله عز شأنه يرجع الأمر. وأَعْلَمُ فعل مضارع، واحتمال أنه أفعل تفضيل مما لا ينبغي أن يخرج عليه كتاب الله سبحانه كما لا يخفى وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها عطف على «قال»، وفيه تحقيق لمضمون ما تقدم، وظاهر الابتداء بحكاية التعليم يدل على أن ما مر من المقاولة إنما جرت بعد خلقه عليه السلام بمحضر منه بأن قيل أثر نفخ الروح فيه: إني جاعل إياه خليفة، فقيل ما قيل، وقيل: إنه معطوف على محذوف، أي فخلق وعلم، أو فخلقه وسواه ونفخ فيه الروح وعلم، أو فجعل في الأرض خليفة وعلم، وإبراز اسمه عليه السلام للتنصيص عليه والتنويه بذكره. وآدَمَ صرح الجواليقي وكثيرون أنه عربي ووزنه أفعل من الأدمة- بضم فسكون- السمرة وياما أحيلاها في بعض، وفسرها أناس بالبياض أو الأدمة- بفتحتين- الأسوة والقدوة أو من أديم الأرض ما ظهر منها. وقد أخرج أحمد والترمذي وصححه غير واحد، أنه تعالى قبض قبضة من جميع الأرض سهلها وحزنها، فخلق منها آدم، فلذلك تأتي بنوه أخيافا (١)، أو من الأدم أو الأدمة، الموافقة والألفه، وأصله أآدم- بهمزتين- فأبدلت الثانية ألفا لسكونها بعد فتحة، ومنع صرفه للعلمية ووزن الفعل، وقيل: أعجمي ووزنه فاعل- بفتح العين- ويكثر هذا في الأسماء- كشالخ وآزر- ويشهد له جمعه على أوادم- بالواو- لا- أآدم- بالهمزة، وكذا تصغيره على- أويدم- لا- أؤيدم- واعتذر عنه الجوهري بأنه ليس للهمزة أصل في البناء معروف، فجعل الغالب عليها- الواو- ولم يسلموه له، وحينئذ لا يجري الاشتقاق فيه لأنه من تلك اللغة لا نعلمه ومن غيرها لا يصح، والتوافق بين اللغات بعيد، وإن ذكر فيه فذاك للإشارة إلى أنه بعد التعريب ملحق بكلامهم، وهو اشتقاق تقديري اعتبروه لمعرفة الوزن والزائد فيه من غيره، ومن أجراه فيه حقيقة كمن جمع بين الضب والنون، ولعل هذا أقرب إلى الصواب. والْأَسْماءَ جمع اسم وهو باعتبار الاشتقاق ما يكون علامة للشيء ودليلا يرفعه إلى الذهن من الألفاظ الموضوعة بجميع اللغات والصفات والأفعال، واستعمل عرفا في الموضوع لمعنى مفردا كان أو مركبا مخبرا عنه أو خبرا أو رابطة بينهما، وكلا المعنيين محتمل. والعلم بالألفاظ المفردة والمركبة تركيبا خبريا أو إنشائيا يستلزم العلم بالمعاني التصورية والتصديقية. وإرادة المعنى المصطلح مما لا يصلح لحدوثه بعد القرآن. وقال الإمام: المراد بالأسماء صفات الأشياء ونعوتها وخواصها، لأنها علامات دالة على ماهياتها، فجاز أن يعبر عنها بالأسماء، وفيه كما قال الشهاب نظر إذ

(١) أي مختلفين اهـ منه. [.....]

صفحة رقم 225

لم يعهد إطلاق الاسم على مثله حتى يفسر به النظم، وقيل: المراد بها أسماء ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وعزي إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: اللغات، وقيل: أسماء الملائكة، وقيل: أسماء النجوم، وقال الحكيم الترمذي: أسماؤه تعالى، وقيل وقيل وقيل. والحق عندي ما عليه أهل الله تعالى، وهو الذي يقتضيه منصب الخلافة الذي علمت، وهو أنها أسماء الأشياء علوية أو سفلية جوهرية أو عرضية، ويقال لها أسماء الله تعالى عندهم باعتبار دلالتها عليه، وظهوره فيها غير متقيد بها، ولهذا قالوا: إن أسماء الله تعالى غير متناهية، إذ ما من شيء يبرز للوجود من خبايا الجود، إلا وهو اسم من أسمائه تعالى وشأن من شؤونه عز شأنه، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن، ومن هنا قال قدس سره:

إن الوجود وإن تعدد ظاهرا وحياتكم ما فيه إلا أنتم
لكن للفرق مقام وللجمع مقام ولكل مقام مقال، ولولا المراتب لتعطلت الأسماء والصفات، وتعليمها له عليه السلام على هذا ظهور الحق جل وعلا فيه منزها عن الحلول والاتحاد والتشبيه بجميع أسمائه وصفاته المتقابلة حسب استعداده الجامع بحيث علم وجه الحق في تلك الأشياء، وعلم ما انطوت عليه وفهم ما أشارت إليه، فلم يخف عليه منها خافية ولم يبق من أسرارها باقية، فيا لله هذا الجرم الصغير كيف حوى هذا العلم الغزير. واختلف الرسميون بينهم في كيفية التعليم بعد أن فسر بأنه فعل يترتب عليه العلم غالبا، وبعد حصول ما يتوقف عليه من جهة المتعلم كاستعداده لقبول الفيض وتلقيه من جهة المعلم لا تخلف فقيل: بأن خلق فيه- عليه السلام- بموجب استعداده- علما ضروريا تفصيليا بتلك الأسماء وبمدلولاتها وبدلالتها ووجه دلالتها، وقيل: بأن خلقه من أجزاء مختلفة وقوى متباينة مستعدا لإدراك أنواع المدركات، وألهمه معرفة ذوات الأشياء وأسمائها وخواصها ومعارفها وأصول العلم وقوانين الصناعات وتفاصيل آلاتها وكيفيات استعمالاتها فيكون ما مر من المقاولة قبل خلقه عليه السلام والقول: بأن التعليم على ظاهره- وكان بواسطة ملك غير داخل في عموم الخطاب ب أَنْبِئُونِي- مما لا أرتضيه، اللهم إلا إن صح خبر في ذلك، ومع هذا أقول: للخبر محمل غير ما يتبادر مما لا يخفى على من له ذوق، وقيل: غير ذلك. ثم إن هذا التعليم لا يقتضي تقدم لغة اصطلاحية كما زعمه أبو هاشم واحتج عليه بوجوه ردت في التفسير الكبير، إذ لو افتقر لتسلسل الأمر أو دار، والإمام الأشعري يستدل بهذه الآية على أن الواضع للغات كلها هو الله تعالى ابتداء ويجوز حدوث بعض الأوضاع من البشر كما يضع الرجل علم ابنه. والمعتزلة يقولون: الواضع من البشر آدم أو غيره ويسمى مذهب الاصطلاح. وقيل: وضع الله تعالى بعضها ووضع الباقي البشر وهو مذهب التوزيع وبه قال الأستاذ، والمسألة مفصلة بأدلتها وما لها وما عليها في أصول الفقه. وقرأ اليماني «علّم» مبنيا للمفعول، وفي البحر أن التضعيف للتعدية وهي به سماعية، وقيل: قياسية، والحريري- في شرح لمحته- يزعم أن- علم- المتعدي لاثنين يتعدى به إلى ثلاثة، وقد وهم في ذلك ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ
أي المسميات المفهومة من الكلام وتذكير الضمير على بعض الوجوه لتغليب ما اشتملت عليه من العقلاء، وللتعظيم بتنزيلها منزلتهم في رأي على البعض الآخر، وقيل: الضمير للأسماء باعتبار أنها المسميات مجازا على طريق الاستخدام. ومن قال: الاسم عين المسمى قال: الأسماء هي المسميات والضمير لها بلا تكلف- وإليه ذهب مكي والمهدوي- ويرد عليه أن أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ يدل على أن العرض للسؤال عن أسماء المعروضات- لا عن نفسها- وإلا لقيل: أنبئوني بهؤلاء، فلا بد أن يكون المعروض غير المسئول عنه فلا يكون نفس الأسماء، ومعنى عرض المسميات تصويرها لقلوب الملائكة، أو إظهارها لهم كالذر، أو إخبارهم بما سيوجده من العقلاء وغيرهم إجمالا، وسؤالهم عما لا بد لهم منه من العلوم والصنائع التي بها نظام معاشهم

صفحة رقم 226

ومعادهم إجمالا أيضا، وإلا فالتفصيل لا يمكن علمه لغير اللطيف الخبير، فكأنه سبحانه قال: سأوجد كذا وكذا فأخبروني بما لهم وما عليهم، وما أسماء تلك الأنواع من قولهم: عرضت أمري على فلان فقال لي كذا، فلا يرد أن المسميات عند بعض أعيان ومعان، وكيف تعرض المعاني كالسرور والحزن والجهل والعلم، وعندي أن عرض المسميات عليهم يحتمل أن يكون عبارة عن اطلاعهم على الصور العلمية والأعيان الثابتة التي قد يطلع عليها في هذه النشأة بعض عباد الله تعالى المجردين، أو إظهار ذلك لهم في عالم تتجسد فيه المعاني- وهذا غير ممتنع على الله تعالى- بل إن المعاني الآن متشكلة في عالم الملكوت بحيث يراها من يراها، ومن أحاط خبرا بعالم المثال لم يستبعد ذلك، وقيل: إنهم شهدوا تلك المسميات في آدم عليه السلام، وهو المراد بعرضها.
وتزعم أنك جرم صغير... وفيك انطوى العالم الأكبر
وقرأ أبيّ «ثم عرضها» وعبد الله «عرضهن» والمعنى عرض مسمياتها أو مسمياتهن، وقيل: لا تقدير.
فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ تعجيز لهم، وليس من التكليف بما لا يطاق- على ما وهم- وفيه إشارة إلى أن أمر الخلافة والتصرف والتدبير وإقامة المعدلة بغير وقوف على مراتب الاستعدادات ومقادير الحقوق مما لا يكاد يمكن، فكيف يروم الخلافة من لا يعرف ذلك، أو من لا يعرف الألفاظ أنفسها؟! هيهات- ذلك أبعد من العيوق، وأعز من بيض الأنوق- وعندي أن المراد إظهار عجزهم وقصور استعدادهم عن رتبة الخلافة الجامعة للظاهر والباطن بأمرهم بالإنباء بتلك الأسماء على الوجه الذي أريد منها، والعاجز عن نفس الإنباء أعجز عن التحلي المطلوب في ذلك المنصب المحبوب.
كيف الوصول إلى سعاد ودونها... قلل الجبال ودونهن حتوف
الرجل حافية ومالي مركب... والكف صفر والطريق مخوف
والإنباء- في الأصل مطلق الاخبار- وهو الظاهر هنا- ويطلق على الاخبار بما فيه فائدة عظيمة ويحصل به علم أو غلبة ظن، وقال بعضهم: إنه إخبار فيه إعلام، ولذلك يجري مجرى كل منهما، واختاره هنا- على ما قيل- للإيذان برفعة شأن الأسماء وعظم خطرها وهذا مبني على أن النبأ إنما يطلق على الخبر الخطير والأمر العظيم، وفي استعمال- ثم- فيما تقدم- والفاء- هنا ما لا يخفى من الاعتناء بشأن آدم عليه السلام وعدمه في شأنهم.
وقرأ الأعمش «أنبوني» بغير همز إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي فيما اختلج في خواطركم من أني لا أخلق خلقا إلا أنتم أعلم منه وأفضل- وهذا هو التفسير المأثور- فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الملائكة قالوا:
لن يخلق الله تعالى خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم، وفي الكلام دلالة عليه، فإن وَنَحْنُ نُسَبِّحُ إلخ يدل على أفضليتهم، وتنزيه الله تعالى وتقديسه- أو تقديسهم أنفسهم- يدل على كمال العلم أيضا. وقيل: إن المعنى إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في زعمكم أنكم أحق بالاستخلاف أو في أن استخلافهم لا يليق فأثبتوه ببيان ما فيكم من الشرائط السابقة- وليس هذا من المعصية في شيء- لأنه شبهة اختلجت، وسألوا عما يزيحها وليس باختياري، ولا يرد أن الصدق والكذب إنما يتعلق بالخبر- وهم استخبروا ولم يخبروا- لأنا نقول: هما يتطرقان إلى الإنشاءات بالقصد الثاني، ومن حيث ما يلزم مدلولها، وإن لم يتطرقا إليها بالقصد الأول ومن حيث منطوقها، وجواب إِنْ في مثل هذا الموضع محذوف عند سيبويه وجمهور البصريين يدل عليه السابق، وهو هنا أَنْبِئُونِي وعند الكوفيين وأبي زيد والمبرد أن الجواب هو المتقدم، وهذا هو النقل الصحيح عمن ذكر في المسألة، ووهم البعض فعكس الأمر، ومن زعم أن إِنْ هنا بمعنى إذا الظرفية- فلا تحتاج إلى جواب- فقد وهم، وكأنه لما رأى عصمة الملائكة وظن من الآية ما يخل بها،

صفحة رقم 227

ولم يجد لها محملا مع إبقاء إِنْ على ظاهرها افتقر إلى ذلك، والحمد لله تعالى على ما أغنانا من فضله ولم يحوجنا إلى هذا ولا إلى القول بأن الغرض من الشرطية التوكيد لما نبههم عليه من القصور والعجز، فحاصل المعنى حينئذ أخبروني ولا تقولوا إلا حقا- كما قال الإمام-.
قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا استئناف واقع موقع الجواب كأنه قيل: فماذا؟ قالُوا إذ ذاك:
هل خرجوا عن عهدة ما كلفوه أو لا؟ فقيل: قالُوا: إلخ. وذكر غير واحد أن الجمل المفتتحة بالقول- إذا كانت مرتبا بعضها على بعض في المعنى- فالأفصح أن لا يؤتى فيها بحرف اكتفاء بالترتيب المعنوي، وقد جاء في سورة الشعراء من ذلك كثير، بل القرآن مملوء منه، و «سبحان» قيل: إنه مصدر، وفعله- سبح- مخففا بمعنى نزه، ولا يكاد يستعمل إلا مضافا، إما للمفعول أو الفاعل منصوبا بإضمار فعل وجوبا، وقوله:

سبحانه ثم سبحانا نعوذ به وقبلنا سبح الجوديّ والجمد
شاذ كقوله:
سبحانك اللهم ذا السبحان
ومجيئه منادى مما زعمه الكسائي- ولا حجة له- وذهب جماعة إلى أنه علم للتسبيح- بمعنى التنزيه- لا مصدر سبح- بمعنى قال: سبحان الله- لئلا يلزم الدور (١) ولأن مدلول ذلك لفظ- ومدلول هذا معنى- واستدل على ذلك بقوله:
قد قلت لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر
إذ لولا أنه علم لوجب صرفه. لأن الألف والنون في غير الصفات إنما تمنع مع العلمية، وأجيب بأن- سبحان- فيه على حذف المضاف إليه أي- سبحان الله- وهو مراد للعلم به، وأبقى المضاف على حاله مراعاة لأغلب أحواله- وهو التجرد عن التنوين- وقيل: «من» زائدة والإضافة لما بعدها على التهكم والاستهزاء به، ومن الغريب قول بعض: إن معنى سُبْحانَكَ تنزيه لك بعد تنزيه، كما قالوا في- لبيك- إجابة بعد إجابة، ويلزم على هذا ظاهرا أن يكون مثنى ومفرده- سبحا- وأن لا يكون منصوبا- بل مرفوع- وأنه لم تسقط النون للإضافة وإنما التزم فتحها، ويا سبحان الله تعالى لمن يقول ذلك، والغرض من هذا الجواب الاعتراف بالعجز عن أمر الخلافة، والقصور عن معرفة الأسماء على أبلغ وجه كأنهم قالوا: لا علم لنا إلا ما علمتنا- ولم تعلمنا الأسماء- فكيف نعلمها؟ وفيه إشعار بأن سؤالهم لم يكن إلا استفسارا، إذ لا علم لهم إلا من طريق التعليم، ومن جملته علمهم بحكمة الاستخلاف مما تقدم- فهو بطريق التعليم أيضا- فالسؤال المترتب هو عليه سؤال مستفسر لا معترض وثناء عليه تعالى بما أفاض عليهم مع غاية التواضع ومراعاة الأدب وترك الدعوى، ولهذا كله لم يقولوا- لا علم لنا بالأسماء- مع أنه كان مقتضى الظاهر ذلك، ومن زعم عدم العصمة جعل هذا توبة، والإنصاف أنه يشبهها ولكن لا عن ذنب مخل بالعصمة بل عن ترك أولى بالنسبة إلى علو شأنهم ورفعة مقامهم إذ اللائق بحالهم على العلات أن يتركوا الاستفسار ويقفوا مترصدين لأن يظهر حقيقة الحال وما عند الجمهور موصولة حذف عائدها وهى إما في موضع رفع على البدل أو نصب على الاستثناء. وحكى ابن عطية عن الزهراوي أنها في موضع نصب ب عَلَّمْتَنا ويتكلف لتوجيهه بأن الاستثناء منقطع، ف إِلَّا بمعنى لكن وما شرطية والجواب محذوف كأنهم نفوا أولا سائر العلوم ثم استدركوا أنه في المستقبل أي شيء علمهم علموه ويكون ذلك أبلغ في ترك الدعوى كما لا يخفى إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ تذييل يؤكد مضمون الجملة السابقة، ولما نفوا العلم عن أنفسهم أثبتوه لله تعالى على أكمل أوصافه وأردفوه بالوصف بالحكمة لما تبين لهم ما تبين- وأصل
(١) لأن التسبيح بمعنى أن يقال: سبحان الله فرع على سبحان الله فيكون فرعا له- والعلم بعد الجنس- وهل هذا إلا دور؟ اهـ منه.

صفحة رقم 228

الحكمة- المنع ومنه حكمة الدابة لأنها تمنعها عن الاعوجاج، وتقال للعلم لأنه يمنع عن ارتكاب الباطل، ولإتقان الفعل لمنعه عن طرق الفساد والاعتراض- وهو المراد هاهنا- لئلا يلزم التكرار، فمعنى الحكيم ذو الحكمة، وقيل: المحكم لمبدعاته، قال في البحر: وهو على الأول صفة ذات، وعلى الثاني صفة فعل، والمشهور أنه إن أريد به الْعَلِيمُ- كان من صفات الذات أو الفاعل لما- لا اعتراض عليه كان من صفات الفعل فافهم.
وقدم سبحانه الوصف بالعلم على الوصف بالحكمة لمناسبة ما تقدم من أَنْبِئُونِي ولا عِلْمَ لَنا ولأن الحكمة لا تبعد عن العلم وليكون آخر مقالتهم مخالفا لما يتوهم من أولها، وأَنْتَ يحتمل أن يكون فصلا- لا محل له على المشهور- يفيد تأكيد الحكم، والقصر المستفاد من تعريف المسند، وقيل: هو تأكيد لتقرير المسند إليه، ويسوغ في التابع ما لا يسوغ في المتبوع. وقيل: مبتدأ خبره ما بعد، والْحَكِيمُ إما خبر بعد خبر أو نعت له وحذف متعلقهما لإفادة العموم، وقد خصهما بعض فقال: الْعَلِيمُ بما أمرت ونهيت الْحَكِيمُ فيما قضيت وقدرت والعموم أولى.
قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ نادى سبحانه آدم باسمه العلم كما هو عادته جل شأنه مع أنبيائه ما عدا نبينا صلّى الله عليه وسلّم حيث ناداه ب يا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال: ٦٤، ٦٥، ٧٠ وغيرها] ويا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة: ٤١، ٦٧] لعلو مقامه ورفعة شأنه إذ هو الخليفة الأعظم، والسر في إيجاد آدم. ولم يقل سبحانه أنبئني كما وقع في أمر الملائكة مع حصول المراد معه أيضا، وهو ظهور فضل آدم إبانة لما بين الرتبتين من التفاوت، وإنباء للملائكة بأن علمه عليه السلام واضح لا يحتاج إلى ما يجري مجرى الامتحان وأنه حقيق أن يعلم غيره أو لتكون له عليه السلام منة التعليم كاملة حيث أقيم مقام المفيد وأقيموا مقام المستفيدين منه، أو لئلا تستولي عليه الهيبة فإن إنباء العالم ليس كإنباء غيره.
والمراد بالإنباء هنا الإعلام لا مجرد الاخبار كما تقدم.
وفيه دليل لمن قال إن علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة، ومنع قوم ذلك في الطبقة العليا منهم، وحمل عليه وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: ١٦٤]، وأفهم كلام البعض منع حصول العلم المرقي لهم فلعل ما يحصل علم قال: لا حال والفرق ظاهر لمن له ذوق، وقرأ ابن عباس «أنبئهم» بالهمز وكسر الهاء- «وأنبيهم» - بقلب الهمزة ياء، وقرأ الحسن- «أنبهم» - كأعطهم، والمراد بالأسماء ما عجزوا عن علمها واعترفوا بالقصور عن بلوغ مرتبتها، والضمير عائد على المعروضين على ما تقدم فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ عطف على جملة محذوفة والتقدير- فانبأهم بها- فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ إلخ، وحذفت لفهم المعنى، وإظهار الأسماء في موقع الإضمار لإظهار كمال العناية بشأنها مع الإشارة إلى أنه عليه السلام- أنبأهم بها- على وجه التفصيل دون الإجمال. وعلمهم بصدقه من القرائن الموجبة له والأمر أظهر من أن يخفى، ولا يبعد أن عرفهم سبحانه الدليل على ذلك واحتمال أن يكون لكل صنف منهم لغة أو معرفة بشيء ثم حضر جميعهم فعرف كل صنف إصابته في تلك اللغة أو ذلك الشيء بعيد.
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ.
جواب ل «ما» وتقرير لما مر من الجواب الإجمالي واستحضار له على وجه أبسط من ذلك وأشرح. ولا يخفى ما في الآية من الإيجاز، إذ كان الظاهر أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وشهادتهما وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وما ستبدون وتكتمون، إلا أنه سبحانه اقتصر على غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لأنه يعلم منه شهادتهما بالأولى، واقتصر من الماضي على المكتوم لأنه يعلم منه البادي كذلك- وعلى المبدأ من المستقبل- لأنه قبل الوقوع خفي، فلا فرق بينه وبين غيره من خفياته- وتغيير الأسلوب حيث لم يقل: وتكتمون- لعله لإفادة استمرار

صفحة رقم 229

الكتمان- فالمعنى- أعلم ما تبدون قبل أن تبدوه وأعلم ما تستمرون على كتمانه، وذكر الساليكوتي أن كلمة- كان- صلة غير مفيدة لشيء إلا محض التأكيد المناسب للكتمان، ثم الظاهر من الآية العموم ومع ذلك ما لا تَعْلَمُونَ أعم مفهوما لشموله- غيب الغيب- الشامل لذات الله تعالى وصفاته- وخصها قوم- فمن قائل: غَيْبَ السَّماواتِ أكل آدم وحواء من الشجرة، وغيب الْأَرْضِ قتل قابيل هابيل، ومن قائل: «الأول» ما قضاه من أمور خلقه «والثاني» ما فعلوه فيها بعد القضاء، ومن قائل: «الأول» ما غاب عن المقربين مما استأثر به تعالى من أسرار الملكوت الأعلى «والثاني» ما غاب عن أصفيائه من أسرار الملك الأدنى وأمور الآخرة، والأولى- وما أبدوه- قبل قولهم أَتَجْعَلُ فِيها وما كتموه، قولهم: لن يخلق الله تعالى أكرم عليه منا، وقيل: ما أظهروه بعد من الامتثال. وقيل: ما أسره إبليس من الكبر، وإسناد الكتم إلى الجميع حينئذ من باب- بنو فلان قتلوا فلانا والقاتل واحد منهم- ومعنى الكتم على كل حال عدم إظهار ما في النفس لأحد ممن كان في الجمع، وليس المراد أنهم كتموا الله تعالى شيئا بزعمهم- فإن ذلك لا يكون حتى من إبليس- وأبدى سبحانه العامل في ما تُبْدُونَ إلخ اهتماما بالإخبار بذلك المرهب لهم- والظاهر عطفه على الأول- فهو داخل معه تحت ذلك القول، ويحتمل أن يكون عطفا على جملة أَلَمْ أَقُلْ فلا يدخل حينئذ تحته.
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ الظرف متعلق بمقدر دل عليه الكلام- كانقادوا وأطاعوا- والعطف من عطف القصة على القصة وفي كل تعداد النعمة- مع أن الأول تحقيق للفضل وهذا اعتراف به- ولا يصح عطف الظرف على الظرف بناء على اللائق الذي قدمناه لاختلاف الوقتين، وجوز على أن نصب السابق بمقدر، والسجود في الأصل تذلل مع انخفاض بانحناء وغيره، وفي الشرع وضع الجبهة على قصد العبادة- وفي المعنى المأمور به هنا خلاف- فقيل: المعنى الشرعي، والمسجود له في الحقيقة هو الله تعالى- وآدم إما قبلة أو سبب- واعترض بأن لو كان كذلك ما امتنع إبليس، وبأنه لا يدل على تفضيله عليه السلام عليهم. وقوله تعالى: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ [الإسراء: ٦٢] يدل عليه- ألا ترى أن الكعبة ليست بأكرم ممن سجد إليها- وأجيب بالتباس الأمر على إبليس، وبأن التكريم يجعله جهة لهذه العبادة دونهم، ولا يخفى ما فيه من الدلالة على عظمة الشأن- كما في جعل الكعبة قبلة من بين سائر الأماكن- ومن الناس من جوّز كون المسجود له آدم عليه السلام حقيقة مدعيا أن السجود للمخلوق- إنما منع في شرعنا- وفيه أن السجود الشرعي عبادة، وعبادة غيره سبحانه شرك محرم في جميع الأديان والأزمان- ولا أراها حلت في عصر من الأعصار. وقيل: المعنى اللغوي- ولم يكن فيه وضع الجباه- بل كان مجرد تذلل وانقياد، فاللام إما باقية على ظاهرها، وإما بمعنى- إلى- مثلها في قول حسان رضي الله عنه:

أليس أول من صلى «لقبلتكم» وأعرف الناس بالقرآن والسنن
أو للسببية، مثلها في قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء: ٧٨] وحكمة الأمر بالسجود إظهار الاعتراف بفضله عليه السلام، والاعتذار عما قالوا فيه مع الإشارة إلى أن حق الأستاذ على من علمه حق عظيم، وغير سبحانه الأسلوب حيث قال أولا: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ وهنا وَإِذْ قُلْنا- بضمير العظمة- لأن في الأول خلق آدم واستخلافه. فناسب ذكر الربوبية مضافا إلى أحب خلفائه إليه- وهنا المقام مقام إيراد أمر يناسب العظمة- وأيضا في السجود تعظيم، فلما أمر بفعله لغيره أشار إلى كبريائه الغنية عن التعظيم. وقرأ أبو جعفر بضم تاء «الملائكة» اتباعا لضم الجيم، وهي لغة أزد شنوءة وهي لغة غريبة عربية- وليست بخطأ كما ظن الفارسي- فقد روي أن امرأة رأت بناتها مع رجل، فقالت- أفي السوأ نتنه- تريد أفي السوأة أنتنه.

صفحة رقم 230

فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ الفاء لإفادة مسارعتهم في الامتثال وعدم تثبطهم فيه، وإِبْلِيسَ اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، ووزنه- فعليل- قاله الزجاج. وقال أبو عبيدة وغيره: إنه عربي مشتق من الإبلاس وهو الإبعاد من الخير أو اليأس من رحمة الله تعالى، ووزنه على هذا مفعيل، ومنعه من الصرف حينئذ لكونه لا نظير له في الأسماء. واعترض بأن ذلك لم يعد من موانع الصرف مع أن له نظائر- كإحليل وإكليل- وفيه نظر، وقيل: لأنه شبيه بالأسماء الأعجمية إذ لم يسم به أحد من العرب، وليس بشيء، واختلف الناس فيه، هل هو من الملائكة أم من الجن؟ فذهب إلى الثاني جماعة مستدلين بقوله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ [الكهف: ٥] وبأن الملائكة لا يستكبرون وهو قد استكبر، وبأن الملائكة- كما روى مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها- خلقوا من النور، وخلق الجن مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرحمن: ١٥] وهو قد خلق مما خلق الجن كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عنه: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: ١٢] وعد تركه السجود- إباء واستكبارا حينئذ- إما لأنه كان ناشئا بين الملائكة مغمورا بالألوف منهم فغلبوا عليه وتناوله الأمر ولم يمتثل، أو لأن الجن أيضا كانوا مأمورين مع الملائكة، لكنه استغنى بذكرهم لمزيد شرفهم عن ذكر الجن، أو لأنه- عليه اللعنة- كان مأمورا صريحا لا ضمنا كما يشير إليه ظاهر قوله تعالى: إِذْ أَمَرْتُكَ [الأعراف: ١٢] وضمير فَسَجَدُوا راجع للمأمورين بالسجود وذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين إلى الأول مستدلين بظاهر الاستثناء- وتصحيحه بما ذكر تكلف- لأنه وإن كان واحدا منهم لكن كان رئيسهم ورأسهم- كما نطقت به الآثار- فلم يكن مغمورا بينهم، ولأن صرف الضمير إلى مطلق المأمورين مع أنه في غاية البعد لم يثبت، إذ لم ينقل أن الجن سجدوا لآدم سوى إبليس، وكونه مأمورا صريحا الآية غير صريحة فيه- ودون إثباته خرط القتاد- واقتضاء ما ذكر من الآية كونه من جنس الجن ممنوع لجواز أن يراد كونه منهم فعلا، وقوله تعالى: فَفَسَقَ كالبيان له، ويجوز أيضا أن يكون كانَ بمعنى صار- كما روي أنه مسخ بسبب هذه المعصية- فصار جنيا- كما مسخ اليهود فصاروا قردة وخنازير- سلمنا، لكن لا منافاة بين كونه جنا وكونه ملكا، فإن الجن- كما يطلق على ما يقابل الملك- يقال على نوع منه على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وكانوا خزنة الجنة أو صاغة حليهم. وقيل: صنف من الملائكة لا تراهم الملائكة مثلنا، أو أنه يقال للملائكة جن أيضا- كما قاله ابن إسحاق- لاجتنانهم واستتارهم عن أعين الناس، وبذلك فسر بعضهم قوله تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصافات: ١٥٨] وورد مثله في كلام العرب، فقد قال الأعشى في سيدنا سليمان عليه السلام:

وسخر من جن الملائك تسعة قياما لديه يعملون بلا أجر
وكون الملائكة لا يستكبرون- وهو قد استكبر- لا يضر، إما لأن من الملائكة من ليس بمعصوم- وإن كان الغالب فيهم العصمة على العكس منا- وفي عقيدة أبي المعين النسفي ما يؤيد ذلك، وإما لأن إبليس سلبه الله تعالى الصفات الملكية وألبسه ثياب الصفات الشيطانية- فعصى عند ذلك- والملك ما دام ملكا لا يعصى.
ومن ذا الذي يا ميّ لا يتغير
وكونه مخلوقا من نار وهم مخلوقون من نور غير ضار أيضا- ولا قادح في ملكيته- لأن النار والنور متحدا المادة بالجنس واختلافهما بالعوارض، على أن ما في أثر عائشة رضي الله تعالى عنها من خلق الملائكة من النور جار مجرى الغالب- وإلا خالفه كثير من ظواهر الآثار- إذ فيها أن الله تعالى خلق ملائكة من نار وملائكة من ثلج وملائكة من هذا وهذه،
وورد أن تحت العرش نهرا إذا غتسل فيه جبريل عليه السلام وانتفض يخلق من كل قطرة منه ملك،
وأفهم كلام البعض أنه يحتمل أن ضربا من الملائكة لا يخالف الشياطين بالذات- وإنما يخالفهم بالعوارض والصفات- كالبررة والفسقة من الإنس- والجن يشملهما- وكان إبليس من هذا الصنف، فعده ما

صفحة رقم 231

شئت من- ملك، وجن، وشيطان- وبذلك يحصل الجمع بين الأقوال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
ثم المشهور أن الاستثناء متصل إن كان من الملائكة، ومنقطع إن لم يكن منهم، وقد علمت تكلفهم لاتصاله مع قولهم بالثاني، وقد شاع عند النحاة والأصوليين أن المنقطع هو المستثنى من غير جنسه، والمتصل هو المستثنى من جنسه، قال القرافي في العقد المنظوم: وهو غلط فيهما، فإن قوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً [النساء: ٢٩] لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان: ٥٦] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً [النساء: ٩٢] الاستثناء فيه منقطع مع أن المستثنى من جنس ما قبله فيبطل الحدان، والحق أن المتصل ما حكم فيه على جنس ما حكمت عليه أو لا بنقيض ما حكمت به- ولا بد من هذين القيدين- فمتى انخرم أحدهما فهو منقطع بأن كان غير الجنس- سواء حكم عليه بنقيضه أو لا- نحو رأيت القوم إلا فرسا، فالمنقطع نوعان، والمتصل نوع واحد، ويكون المنقطع كنقيض المتصل، فإن نقيض المركب بعدم اجزائه، فقوله تعالى: لا يَذُوقُونَ إلخ منقطع بسبب الحكم بغير النقيض، لأن نقيضه ذاقوه فيها- وليس كذلك- وكذلك إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً لأنها لا تؤكل بالباطل- بل بحق- وكذلك إِلَّا خَطَأً لأنه ليس له القتل مطلقا- وإلا لكان مباحا- فتنوع المنقطع حينئذ إلى ثلاثة، الحكم على الجنس بغير النقيض، والحكم على غيره به أو بغيره، والمتصل نوع واحد- فهذا هو الضابط- وقيل: العبرة بالاتصال والانفصال الدخول في الحكم وعدمه لا في حقيقة اللفظ وعدمه، فتأمل ترشد.
وأفهم كلام القوم- نفعنا الله تعالى بهم- أن جميع المخلوقات علويها وسفليها سعيدها وشقيها مخلوق من الحقيقة المحمدية صلى الله تعالى عليه وسلم كما يشير إليه قول النابلسي قدس سره دافعا ما يرد على الظاهر:

طه النبي تكونت من نوره كل الخليقة ثم لو ترك القطا
وفي الآثار ما يؤيد ذلك، إلا أن الملائكة العلويين خلقوا منه عليه الصلاة والسلام من حيث الجمال، وإبليس من حيث الجلال، ويؤول هذا بالآخرة إلى أن إبليس مظهر جلال الله سبحانه وتعالى، ولهذا كان منه ما كان ولم يجزع ولم يندم ولم يطلب المغفرة لعلمه أن الله تعالى يفعل ما يريده وأن ما يريده سبحانه هو الذي تقتضيه الحقائق، فلا سبيل إلى تغييرها وتبديلها، واستشعر ذلك من ندائه بإبليس- ولم يكن اسمه من قبل- بل كان اسمه عزازيل، أو الحارث، وكنيته أبا مرة- ووراء ذلك ما لم يمكن كشفه- والله تعالى يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب:
٤] وفي قوله تعالى: أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ نوع إشارة إلى بعض ما ذكر، والجملة استئناف جواب لمن قال ما فعل، وقيل: إن الفعلين الأولين في موضع نصب على الحال أي آبيا مستكبرا وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ مستأنف أو في موضع الحال، وقيل: الجمل الثلاث تذييل بعد تذييل، والإباء الامتناع مع الأنفة والتمكن من الفعل، ولهذا كان قولك- أبى زيد الظلم أبلغ من لم يظلم- ولإفادة الفعل النفي صح بعده الاستثناء المفرغ ك يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة: ٣٢] وقوله:
أبى الله إلا عدله ووفاءه فلا النكر معروف ولا العرف ضائع
والفعل منه- أبى- بالفتح، وعليه لا يكون يأبى قياسيا. وقد سمع- أبي- كرضي فالمضارع حينئذ قياسي والمفعول هنا محذوف أي السجود، والاستكبار- التكبر وهو مما جاء فيه استفعل بمعنى تفعل، وقيل: التكبر أن يرى الشخص نفسه أكبر من غيره وهو مذموم وإن كان أكبر في الواقع، والاستكبار طلب ذلك بالتشبع، وقدم الإباء عليه وإن كان متأخرا عنه في الرتبة لأنه من الأحوال الظاهرة بخلاف الاستكبار فإنه نفساني أو لأن المقصود الإخبار عنه بأنه خالف حاله حال الملائكة فناسب أن يبدأ أولا بتأكيد ما حكم به عليه في الاستثناء أو بإنشاء الاخبار عنه بالمخالفة فبدأ

صفحة رقم 232

بذلك على أبلغ وجه- وكان على بابها- والمعنى كان في علم الله تعالى من الكافرين أو كان من القوم الكافرين الذين كانوا في الأرض قبل خلق آدم، وقيل: بمعنى صار وهو مما أثبته بعض النحاة قال ابن فورك: وترده الأصول ولأنه كان الظاهر حينئذ فكان بالفاء ثم إن كفره ليس لترك الواجب كما زعم الخوارج متمسكين بهذه الآية لأنه لا يوجب ذلك في ملتنا على ما دلت عليه القواطع، وإيجابه قبل ذلك غير مقطوع به بل باستقباحه أمر الله تعالى بالسجود لمن يعتقد أنه خير منه وأفضل- كما يدل عليه الإباء والاستكبار- وقال أبو العالية: معنى مِنَ الْكافِرِينَ من العاصين ثم الظاهر أن كفره كان عن جهل بأن استرد سبحانه منه ما أعاره من العلم الذي كان مرتديا به حين كان طاووس الملائكة- وأظافير القضاء إذا حكت أدمت، وقسى القدر إذا رمت أصمت.

وكان سراج الوصل أزهر بيننا فهبت به ريح من البين فانطفى
وقيل: عن عناد حمله عليه حب الرئاسة والإعجاب بما أوتي من النفاسة ولم يدر المسكين إنه لو امتثل ارتفع قدره وسما بين الملأ الأسمى فخره ولكن.
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
وكم أرقت هذه القصة جفونا، وأراقت من العيون عيونا فإن إبليس كان مدة في دلال طاعته يختال في رداء مرافقته ثم صار إلى ما ترى وجرى ما به القلم جرى.
وكنا وليلى في صعود من الهوى فلما توافينا ثبت وزلّت
ومن هنا قال الشافعية والأشعرية- وبقولهم أقول- في هذه المسألة: إن العبرة بالإيمان الذي يوافي العبد عليه ويأتي متصفا به في آخر حياته وأول منازل آخرته، ولذا يصح أنا مؤمن إن شاء الله تعالى بالشك، ولكن ليس في الإيمان الناجز بل في الإيمان الحقيقي المعتبر عند الموت وختم الأعمال. وقد صح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه- كما أورده الزرقاني- إن من تمام إيمان العبد أن يستثني إذ عواقب المؤمنين مغيبة عندهم وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ [الإنعام:
١٨، ٦١]
وفي الصحيح عن جابر «كان صلّى الله عليه وسلّم يكثر من قوله يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك»
وخبر «من قال أنا مؤمن إن شاء الله تعالى فليس له من الإسلام نصيب»
موضوع باتفاق المحدثين، وأنا مؤمن بغيره إن شاء الله تعالى، هذا واعلم أن الذي تقتضيه هذه الآية الكريمة، وكذا التي في الأعراف، وبني إسرائيل، والكهف، وطه أن سجود الملائكة ترتب على الأمر التنجيزي الوارد بعد خلقه، ونفخ الروح فيه، وهو الذي يشهد له النقل والعقل إلا أن ما في- الحجر- من قوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الحجر: ٢٨، ٣٠] وكذا ما في- ص- تستدعي ظاهرا ترتبه على ما فيها من الأمر التعليقي من غير أن يتوسط بينهما شيء غير الخلق وتوابعه، وبه قال بعضهم، وحمل ما في تلك الآيات من الأمر على حكاية الأمر التعليقي بعد تحقق المعلق به إجمالا فإنه حينئذ يكون في حكم التنجيز، و «ثم» في آية- الأعراف- للتراخي الرتبي، أو التراخي في الأخبار، أو يقال: إن الأمر التعليقي لما كان قبل تحقق المعلق به بمنزلة العدم في عدم إيجاب المأمور به جعل كأنه إنما حدث بعد تحققه، فحكي على صورة التنجيز، ولما رأى بعضهم أن هذا مؤد إلى أن ما جرى في شأن الخلافة- وما قالوا: وما سمعوا- إنما جرى بعد السجود المسبوق بمعرفة جلالة قدره عليه السلام، وخروج إبليس من البين باللعن، وبعد مشاهدتهم لكل ذلك وهو خرق لقضية النقل بل خرق في العقل اضطر إلى القول بأن السجود كان مرتين، وهيهات لا يصلح العطار ما أفسد الدهر، فالحق الحقيق ما دلت عليه هاتيك الآيات، وما استدل به المخالف لا ينتهض دليلا لأن الشرط إن كان قيدا للجزاء كان معناه على تقدير

صفحة رقم 233

صدق- إذا سويته- أطلب بناء على أن الشرط قيد للطلب على ما صرح به العلامة التفتازاني من أن معنى قولنا: إن جاءك زيد فأكرمه، أي على تقدير صدق إن جاءك زيد أطلب منك إكرامه، وإن كان الحكم بين الشرط والجزاء فالجزاء الطلبي لا بد من تأويله بالخبر أي يستحق أن يقال في حقه أكرمه، وعلى التقديرين كان مدلول فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [الحجر: ٢٩] طلبا استقباليا لا حاليا فلا يلزم تحقق الأمر بالسجود قبل التسوية، نعم لو كان الشرط قيدا للمطلوب لا للطلب يكون المعنى الطلب في الحال للسجود وقت التسوية فيفيد تقدم الأمر على التسوية، وقول مولانا الرازي قدس سره: إن الآية كما تدل على تقدم الأمر بالسجود على التسوية تفيد أن التعليم والإنباء كان بعد السجود لأنها تدل على أن آدم عليه السلام كما صار حيا صار مسجودا للملائكة لأن الفاء في فَقَعُوا للتعقيب لا يخفى ما فيه لأن الفاء للسببية لا للعطف، وهو لا يقتضي التعقيب كما في قوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا [الجمعة: ٩]، وقوله سبحانه: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ، ومن الناس من حمل نفخ الروح في الآية على التعليم لما اشتهر أن العلم حياة والجهل موت، وأنت في غنى عنه، والله الموفق.
وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ عطف على- إذ قلنا- بتقدير إذ أو بدونه أو على- قلنا- والزمان ممتد واسع للقولين، وتصدير الكلام بالنداء لتنبيه المأمور لما يلقى إليه من الأمر وتحريكه لما يخاطب به إذ هو من الأمور التي ينبغي أن يتوجه إليها، واسْكُنْ أمر من السكنى بمعنى اتخاذ المسكن لا من السكون ترك الحركة إذ ينافيه ظاهرا حَيْثُ شِئْتُما وذكر متعلقه بدون في وليس بمكان مبهم وأَنْتَ توكيد للمستكن في اسْكُنْ، والمقصد منه بالذات صحة العطف إذ لولاه لزم العطف على الضمير المتصل بلا فصل وهو ممتنع في الفصيح على الصحيح، وإفادة تقرير المتبوع مقصودة تبعا، وصح العطف مع أن المعطوف لا يباشره فعل الأمر لأنه وقع تابعا، ويغتفر فيه ما لا يغتفر في المتبوع، وقيل: هناك تغليبان تغليب المخاطب على الغائب والمذكر على المؤنث، ولكون التغليب مجازا ومعنى السكون والأمر موجودا فيهما حقيقة خفي الأمر، فإما أن يلتزم أن التغليب قد يكون مجازا غير لغوي بأن يكون التجوز في الإسناد، أو يقال: إنه لغوي لأن صيغة الأمر هنا للمخاطب وقد استعملت في الأعم، وللتخلص عن ذلك قيل: إنه معطوف بتقدير فليسكن، وفيه أنه حينئذ يكون من عطف الجملة على الجملة فلا وجه للتأكيد، والأمر يحتمل أن يكون للإباحة- كاصطادوا- وأن يكون للوجوب كما أن النهي فيما بعد للتحريم وإيثاره على- اسكنا- للتنبيه على أنه عليه السلام المقصد بالحكم في جميع الأوامر وهي تبع له كما أنها في الخلقة كذلك، ولهذا قال بعض المحققين: لا يصح إيراد- زوجك- بدون العطف بأن يكون منصوبا على أنه مفعول معه، والجنة- في المشهور دار الثواب للمؤمنين يوم القيامة لأنها المتبادرة عند الإطلاق ولسبق ذكرها في السورة وفي ظواهر الآثار ما يدل عليه، ومنها ما في الصحيح من محاجة آدم وموسى عليهما السلام فهي إذن في السماء حيث شاء الله تعالى منها، وذهب المعتزلة وأبو مسلم الأصفهاني وأناس إلى أنها جنة أخرى خلقها الله تعالى امتحانا لآدم عليه السلام وكانت بستانا في الأرض بين فارس وكرمان، وقيل: بأرض عدن، وقيل: بفلسطين كورة بالشام ولم تكن الجنة المعروفة، وحملوا الهبوط على الانتقال من بقعة إلى بقعة كما في اهْبِطُوا مِصْراً [البقرة: ٦١] أو على ظاهره، ويجوز أن تكون في مكان مرتفع قالوا: لأنه لا نزاع في أنه تعالى خلق آدم في الأرض ولم يذكر في القصة أنه نقله إلى السماء ولو كان نقله إليها لكان أولى بالذكر ولأنه سبحانه قال في شأن تلك الجنة وأهلها لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً [الواقعة: ٢٥] ولا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ [الطور: ٢٣] وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ [الحجر: ٤٨] وقد لغا إبليس فيها وكذب وأخرج منها آدم وحواء مع إدخالهما فيها على وجه السكنى لا كإدخال النبي صلى الله تعالى

صفحة رقم 234

عليه وسلم ليلة المعراج ولأن جنة الخلد دار للنعيم وراحة وليست بدار تكليف، وقد كلف آدم أن لا يأكل من الشجرة ولأن إبليس كان من الكافرين وقد دخلها للوسوسة ولو كانت دار الخلد ما دخلها ولا كاد لأن الأكابر صرحوا بأنه لو جيء بالكافر إلى باب الجنة لتمزق ولم يدخلها لأنه ظلمة وهي نور ودخوله مستترا- في الجنة على ما فيه- لا يفيد، ولأنها محل تطهير فكيف يحسن أن يقع فيها العصيان والمخالفة ويحل بها غير المطهرين ولأن أول حمل حواء كان في الجنة على ما في بعض الآثار ولم يرد أن ذلك الطعام اللطيف يتولد منه نطفة هذا الجسد الكثيف، والتزام الجواب عن ذلك كله لا يخلو عن تكلف، والتزام ما لا يلزم- وما في حيز المحاجة يمكن حمله على هذه الجنة وكون حملها على ما ذكر يجري مجرى الملاعبة بالدين والمراغمة لإجماع المسلمين- غير مسلم، وقيل: كانت في السماء وليست دار الثواب بل هي جنة الخلد، وقيل: كانت غيرهما ويرد ذلك أنه لم يصح أن في السماء بساتين غير بساتين الجنة المعروفة، واحتمال أنها خلقت إذ ذاك ثم اضمحلت مما لا يقدم عليه منصف، وقيل: الكل ممكن والله تعالى على ما يشاء قدير. والأدلة متعارضة، فالأحوط والأسلم هو الكف عن تعيينها والقطع به، وإليه مال صاحب
التأويلات، والذي ذهب إليه بعض ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم أنها في الأرض عند جبل الياقوت تحت خط الاستواء- ويسمونها جنة البرزخ- وهي الآن موجودة وإن العارفين يدخلونها اليوم بأرواحهم لا بأجسامهم ولو قالوا: إنها جنة المأوى- ظهرت حيث شاء الله تعالى وكيف شاء كما ظهر لنبينا صلّى الله عليه وسلّم على ما ورد في الصحيح في عرض حائط المسجد- لم يبعد على مشربهم ولو أن قائلا قال بهذا لقلت به لكن للتفرد في مثل هذه المطالب آفات. وكما اختلف في هذه الجنة اختلف في وقت خلق زوجه عليه السلام، فذكر السدي عن ابن مسعود، وابن عباس وناس من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن الله تعالى لما أخرج إبليس من الجنة وأسكنها آدم بقي فيها وحده وما كان معه من يستأنس به فألقى الله تعالى عليه النوم ثم أخذ ضلعا من جانبه الأيسر ووضع مكانه لحما وخلق حواء منه فلما استيقظ وجدها عند رأسه قاعدة فسألها من أنت؟ قالت: امرأة قال ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إليّ فقالت الملائكة تجربه لعلمه: من هذه؟
قال: امرأة قالوا: لم سميت امرأة؟ قال: لأنها خلقت من المراء فقالوا: ما اسمها؟ قال: حواء قالوا: لم سميت حواء؟
قال: لأنها خلقت من شيء حي. وقال كثيرون- ولعلي أقول بقولهم- إنها خلقت قبل الدخول ودخلا معا، وظاهر الآية الكريمة يشير إليه وإلا توجه الأمر إلى معدوم وإن كان في علمه تعالى موجودا، وأيضا في تقديم زَوْجُكَ على الْجَنَّةَ نوع إشارة إليه وفي المثل، الرفيق قبل الطريق. وأيضا هي مسكن القلب، والجنة مسكن البدن، ومن الحكمة تقديم الأول على الثاني، وأثر السدي- على ما فيه مما لا يخفى عليك- معارض بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: بعث الله جندا من الملائكة فحملوا آدم وحواء على سرير من ذهب كما تحمل الملوك ولباسهما النور حتى أدخلوهما الجنة فإنه كما ترى يدل على خلقها قبل دخول الجنة وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما الضمير المجرور للجنة على حذف مضاف أي من مطاعمها من ثمار وغيرها فلم يحظر عليهما شيئا إلا ما سيأتي، وأصل كُلا أأكلا بهمزتين الأولى للوصل، والثانية فاء الكلمة فحذفت الثانية لاجتماع المثلين حذف شذوذ وأتبعت بالأولى لفوات الغرض، وقيل: حذفا معا لكثرة الاستعمال- والرغد بفتح الغين- وقرأ النخعي- بسكونها- الهنيّ الذي لا عناء فيه أو الواسع، يقال: رغد عيش القوم، ورغد- بكسر الغين وضمها- كانوا في رزق واسع كثير، وأرغد القوم أخصبوا وصاروا في رغد من العيش، ونصبه على أنه نعت لمصدر محذوف، أي أكلا رغدا. وقال ابن كيسان: إنه حال بتأويل راغدين مرفهين، وحَيْثُ ظرف مكان مبهم لازم للظرفية، وإعرابها لغة بني فقعس ولا تكون ظرف زمان خلافا للأخفش، ولا يجزم بها دون «ما» خلافا للفراء، ولا تضاف للمفرد خلافا للكسائي ولا يقال: زيد حيث عمرو- خلافا للكوفيين- ويعتقب على آخرها الحركات الثلاث- مع الياء والواو والألف- ويقال: حايث على قلة- وهي هنا

صفحة رقم 235

متعلقة بكلا، والمراد بها العموم لقرينة المقام وعدم المرجح أي أي مكان من الجنة شِئْتُما وأباح لهما الأكل كذلك إزاحة للعذر في التناول مما حظر. ولم تجعل متعلقة ب اسْكُنْ، لأن عموم الأمكنة مستفاد من جعل- الجنة- مفعولا به له، مع أن التكريم في الأكل من كل ما يريد منها لا في عدم تعيين السكنى ولأن قوله تعالى في آية أخرى:
فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما [الأعراف: ١٩] يستدعي ما ذكرنا، وكذا قوله سبحانه:
وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ ظاهر هذا النهي التحريم، والمنهي عنه الأكل من الشجرة، إلا أنه سبحانه نهى عن قربانها مبالغة، ولهذا جعل جل شأنه العصيان المرتب على الأكل مرتبا عليه، وعدل عن فتأثما إلى التعبير بالظلم الذي يطلق على الكبائر، ولم يكتف بأن يقول: ظالمين، بل قال: مِنَ الظَّالِمِينَ بناء على ما ذكروا أن قولك: زيد من العالمين، أبلغ من زيد عالم لجعله غريقا في العلم أبا عن جد، وإن قلنا بأن فَتَكُونا دالة على الدوام ازدادت المبالغة، ومن الناس من قال: لا تقرب- بفتح الراء- نهي عن التلبس بالشيء- وبضمها- بمعنى لا تدن منه، وقال الجوهري: قرب- بالضم- يقرب قربا دنا وقربته- بالكسر- قربانا دنوت منه. والتاء في الشَّجَرَةَ للوحدة الشخصية- وهو اللائق بمقام الإزاحة- وجاز أن يراد النوع، وعلى التقديرين- اللام- للجنس- كما في الكشف- ووقع خلاف في هذه الشجرة، فقيل: الحنطة، وقيل: النخلة،
وقيل: شجرة الكافور- ونسب إلى علي كرم الله تعالى وجهه-
وقيل: التين، وقيل: الحنظل، وقيل: شجرة المحبة، وقيل: شجرة الطبيعة والهوى «وقيل، وقيل... » والأولى عدم القطع والتعيين- كما أن الله تعالى لم يعينها باسمها في الآية- ولا أرى ثمرة في تعيين هذه الشجرة- ويقال: فيها شجرة- بكسر الشين- وشيرة- بإبدال الجيم ياء مفتوحة مع فتح الشين وكسرها- وبكل قرأ بعض، وعن أبي عمرو أنه كره- شيرة- قائلا: إن برابر مكة وسودانها يقرؤون بها- ولا يخفى ما فيه، والشجر ما له ساق أو كل ما تفرع له أغصان وعيدان، أو أعم من ذلك لقوله تعالى: شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ [الصافات: ١٤٦] وقوله تعالى: فَتَكُونا إما مجزوم- بحذف النون- معطوفا على تَقْرَبا فيكون منهيا عنه وكان على أصل معناها، أو منصوب على أنه جواب للنهي كقوله سبحانه: وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ [طه: ٨١] والنصب بإضمار «أن» عند البصريين- وبالفاء نفسها- عند الجرمي، وبالخلاف عند الكوفيين- وكان- حينئذ بمعنى صار، وأيّا ما كان من تفهم سببية ما تقدم لكونها مِنَ الظَّالِمِينَ أي الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب المعصية أو نقصوا حظوظهم بمباشرة ما يخل بالكرامة والنعيم أو تعدوا حدود الله تعالى، ولعل القربان المنهي عنه الذي يكون سببا للظلم المخل بالعصمة هو ما لا يكون مصحوبا بعذر- كالنسيان هنا مثلا- المشار إليه بقوله تعالى: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: ١١٥] فلا يستدعي حمل النهي على التحريم، والظلم- المقول بالتشكيك على ارتكاب المعصية عدم عصمة آدم عليه السلام- بالأكل المقرون بالنسيان- وإن ترتب عليه ما ترتب- نظرا إلى أن حسنات الأبرار سيئات المقربين- وللسيد أن يخاطب عبده بما شاء، نعم لو كان ذلك غير مقرون بعذر كان ارتكابه حينئذ مخلا- ودون إثبات هذا خرط القتاد- فإذا لا دليل في هذه القصة على عدم العصمة، ولا حاجة إلى القول إن ما وقع كان قبل النبوة لا بعدها- كما يدعيه المعتزلة- القائلون بأن ظهوره مع علمه بالأسماء معجزة على نبوته إذ ذاك. وصدور الذنب قبلها جائز عند أكثر الأصحاب- وهو قول أبي هذيل وأبي علي من المعتزلة- ولا إلى حمل النهي على التنزيه والظلم على نقص الحظ مثلا- والتزمه غير واحد- وقرىء تَقْرَبا- بكسر التاء- وهي لغة الحجازيين، وقرأ ابن محيصن «هذي» بالياء فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها أي حملهما على الزلة بسببها، وتحقيقه أصدر زلتهما عنها وعن هذه مثلها في قوله تعالى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ [التوبة: ١١٤] والضمير على هذا للشجرة، وقيل: أزلهما أي أذهبهما، ويعضده قراءة حمزة فأزالهما وهما

صفحة رقم 236

متقاربان في المعنى غير أن أزلّ يقتضي عثرة مع الزوال- والضمير حينئذ للجنة وعوده إلى الشجرة بتجوز، أو تقدير مضاف- أي محلها- أو إلى الطاعة المفهومة من الكلام- بعيد، وإزلاله- عليه اللعنة- إياهما- عليهما السلام- كان بكذبه عليهما ومقاسمته على ما قص الله تعالى في كتابه، وفي كيفية توسله إلى ذلك أقوال، فقيل: دخل الجنة ابتلاء لآدم وحواء، وقيل: قام عند الباب فناداهما وأفسد حالهما، وقيل: تمثل بصورة دابة فدخل ولم يعرفه الخزنة، وقيل:
أرسل بعض أتباعه إليهما. وقيل: بينما هما يتفرجان في الجنة إذ راعهما طاووس تجلى لهما على سور الجنة فدنت حواء منه، وتبعها آدم فوسوس لهما من وراء الجدار، وقيل: توسل بحية تسورت الجنة- ومشهور حكاية الحية- وهذان الأخيران يشير أولهما عند ساداتنا الصوفية إلى توسله من قبل الشهوة خارج الجنة، وثانيهما إلى توسله بالغضب، وتسور جدار الجنة عندهم إشارة إلى أن الغضب أقرب إلى الأفق الروحاني والحيز القلبي من الشهوة، وقيل: توسله إلى ما توسل إليه إذ ذاك مثل توسله اليوم إلى إذلال من شاء الله تعالى وإضلاله، ولا نعرف من ذلك إلا الهواجس والخواطر التي تفضي إلى ما تفضي، ولا جزم عند كثير في دخول الشيطان في القلب بل لا يعقلونه، ولهذا قالوا: خبر إن الشيطان- يجري من بني آدم مجرى الدم- محمول على الكناية عن مزيد سلطانه عليهم وانقيادهم له، وكأني بك تختار هذا القول، وقال أبو منصور: ليس لنا البحث عن كيفية ذلك، ولا نقطع القول بلا دليل، وهذا من الإنصاف بمكان، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «فوسوس لهما الشيطان عنها» (١) والضمير في هذه القراءة- للشجرة- لا غير، وعوده إلى- الجنة- بتضمين الإذهاب ونحوه بعيد فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ أي من النعيم والكرامة أو من الجنة. «الأول» جار على تقدير رجوع ضمير عَنْها إلى- الشجرة- أو- الجنة- «الثاني» مخصوص بالتقدير الأول- لئلا يسقط الكلام. وقيل: أخرجهما من لباسهما الذي كانا فِيهِ لأنهما لما أكلا تهافت عنهما، وفي الكلام من التفخيم ما لا يخفى وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ- الهبوط- النزول، وعين المضارع تكسر وتضم، وقال المفضل: هو الخروج من البلد، والدخول فيها من الأضداد- ويقال في انحطاط المنزلة- والبعض في الأصل مصدر بمعنى القطع ويطلق على الجزء، وهو ككل ملازم للإضافة- لفظا أو نية- ولا تدخل عليه اللام، ويعود عليه الضمير مفردا ومجموعا- إذا أريد به جمع- والعدو- من- العداوة- مجاوزة الحد أو التباعد أو الظلم، ويطلق على الواحد المذكر ومن عداه بلفظ واحد، وقد يقال:- أعداء وعدوة- والخطاب لآدم وحواء، لقوله تعالى: قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً [طه: ١٢٣] والقصة واحدة، وجمع الضمير لتنزيلهما منزلة البشر كلهم، ولما كان في الأمر بالهبوط انحطاط رتبة المأمور لم يفتتحه بالنداء- كما افتتح الأمر بالسكنى- واختار الفراء أن المخاطب- هما وذريتهما- وفيه خطاب المعدوم، والمأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وكثير من السلف- أنه هما وإبليس- واعترض بخروجه قبلهما. وأجيب بأن الاخبار عما قال لهم مفرقا- على أنه لا مانع من المعية- وقيل: هم والحية، واعترض بعدم تكليفها، وأجيب بأن الأمر تكويني، والجملة الاسمية منصوبة المحل على الحال المقدرة، والحكم باعتبار الذرية. وإذا دخل إبليس والحية- كان الأمر أظهر، ولا يرد أنه كيف يقيد الأمر بالتعادي- وهو منهي عنه- لأنا نقول بصرف توجه النظر عن القيد كون العداوة طبيعية- والأمور الطبيعية غير مكلف بها- وإن كلف فبالنظر إلى أسبابها، وإذا جعل الأمر تكوينيا زال الإشكال- إلا أن فيه بعدا- وبعضهم يجعل الجملة مستأنفة على تقدير السؤال فرارا عن هذا السؤال- مع ما في الاكتفاء بالضمير دون الواو في الجملة الاسمية الحالية من- المقال، حتى ذهب الفراء إلى

(١) سورة الأعراف الآية: ٢٠

صفحة رقم 237

شذوذه، وإن كان التحقيق ما ذكره بعض المحققين أن الجملة الحالية لا تخلو من أن تكون من سبب ذي الحال أو أجنبية- فإن كانت من سببه لزمها العائد والواو- كجاء زيد، وأبوه منطلق- إلا ما شذ من نحو كلمته- فوه- إلى- في- وإن أجنبية لزمتها- الواو- نائبة عن العائد، وقد يجمع بينهما- كقدم بشر وعمرو قادم إليه- وقد جاءت- بلا ولا- كقوله:

ثم انتصبنا جبال الصغد معرضة عن اليسار وعن أيماننا جدد
وقد تكون صفة ذي الحال ك تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [البقرة: ٨٣] وهذه يجوز فيها الوجهان باطراد، وما نحن فيه من هذا القبيل فتدبر وإفراد العدو إما للنظر إلى لفظ البعض، وإما لأن وزانه وزان المصدر كالقبول، وبه تعلق ما قبله واللام- كما في البحر- مقوية، وقرأ أبو حيوة اهْبِطُوا- بضم الباء- وهو لغة فيه، وبهذا الأمر نسخ الأمر والنهي السابقان وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ أراد بالأرض محل الإهباط، وليس المراد شخصه الذي هو لآدم عليه السلام- موضع بجبل سرنديب- ولحواء موضع بجدة، ولإبليس موضع بالأبلة، ولصاحبته موضع بنصيبين أو أصبهان أو سجستان- والمستقر- اسم مكان أو مصدر ميمي، ويحتمل- على بعد- كونه اسم مفعول بمعنى ما استقر ملككم عليه وتصرفكم فيه- وأبعد منه- احتمال كونه اسم زمان وهو مبتدأ خبره لَكُمْ وفيه متعلق بما تعلق به- والمتاع- البلغة، مأخوذ من متع النهار- إذا ارتفع- ويطلق على الانتفاع الممتد وقته- ولا يختص بالحقير- والحين مقدار من الزمان- قصيرا أو طويلا- والمراد هنا إلى وقت الموت- وهو القيامة الصغرى- وقيل: إلى يوم القيامة الكبرى، وعليه تجعل السكنى في القبر تمتعا في الأرض، أو يجعل الخطاب شاملا لإبليس- ويراد الكل المجموعي- والجار متعلق بمتاع، قيل: أو به، وبمستقر على التنازع- أو بمقدار صفة لمتاع- وهذه الجملة كالتي قبلها استئنافا وحالية.
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ المراد- بتلقي- الكلمات استقبالها بالأخذ والقبول والعمل بها، فهو مستعار من استقبال الناس بعض الأحبة- إذا قدم بعد طول الغيبة- لأنهم لا يدعون شيئا من الإكرام إلا فعلوه، وإكرام الكلمات الواردة من الحضرة الأخذ والقبول والعمل بها، وفي التعبير- بالتلقي- إيماء إلى أن آدم عليه السلام كان في ذلك الوقت في مقام البعد ومِنْ رَبِّهِ حال من كَلِماتٍ مقدم عليها، وقيل: متعلق ب فَتَلَقَّى وهي من تلقاه منه بمعنى تلقنه، ولولا خلوّه عما في الأول من اللطافة لتلقيناه بالقبول، وقرأ ابن كثير بنصب آدَمُ ورفع كَلِماتٍ على معنى- استقبلته- فكأنها مكرمة له لكونها سبب العفو عنه، وقد يجعل الاستقبال مجازا عن البلوغ بعلاقة السببية، والمروي في المشهور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن هذه الكلمات هي رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا [الأعراف: ٢٣] الآية، وعن ابن مسعود أنها، سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، لا إله إلا أنت، ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. وقيل: رأى مكتوبا على ساق العرش، محمد رسول الله فتشفع به، وإذا أطلقت الكلمة على عيسى عليه السلام، فلتطلق الكلمات على الروح الأعظم، والحبيب الأكرم صلى الله تعالى عليه وسلم، فما عيسى، بل وما موسى، بل «وما، وما..» إلا بعض من ظهور أنواره، وزهرة من رياض أنواره، وروي غير ذلك فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ التوبة أصلها الرجوع وإذا أسندت إلى العبد كانت- كما في الاحياء- عبارة عن مجموع أمور ثلاثة- علم- وهو معرفة ضرر الذنب، وكونه حجابا عن كل محبوب، وحال يثمره ذلك العلم، وهو تألم القلب بسبب فوات المحبوب، ونسميه ندما، وعمل يثمره الحال- وهو الترك والتدارك- والعزم على عدم العود، وكثيرا ما تطلق على الندم وحده لكونه لازما للعلم مستلزما للعمل.
وفي الحديث «الندم توبة»
وطريق

صفحة رقم 238

تحصيلها تكميل الإيمان بأحوال الآخرة وضرر المعاصي فيها، وإذا أسندت إليه سبحانه كانت عبارة عن قبول التوبة والعفو عن الذنب ونحوه، أو التوفيق لها والتيسير لأسبابها بما يظهر للتائبين من آياته، ويطلعهم عليه من تخويفاته، حتى يستشعروا الخوف فيرجعوا إليه، وترجع في الآخرة إلى معنى التفضل والعطف، ولهذا عديت- بعلى- وأتى سبحانه بالفاء لأن تلقي الكلمات عين التوبة، أو مستلزم لها، ولا شك أن القبول مترتب عليه، فهي إذا لمجرد السببية، وقد يقال: إن التوبة لما دام عليها صح التعقيب- باعتبار آخرها إذ لا فاصل حينئذ- وعلى كل تقدير لا ينافي هذا ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنهما بكيا مائتي سنة على ما فاتهما، ولم يقل جل شأنه- فتاب عليهما- لأن النساء تبع يغني عنهن ذكر المتبوع، ولذا طوى ذكرهن في كثير من الكتاب والسنة، وفي الجملة الاسمية ما يقوي رجاء المذنبين، ويجبر كسر قلوب الخاطئين حيث افتتحها ب «أن» وأتى بضمير الفصل وعرف المسند وأتى به من صيغ المبالغة إشارة إلى قبوله التوبة كلما تاب العبد، ويحتمل أن ذلك لكثرة من يتوب عليهم، وجمع بين وصفي كونه توابا وكونه رحيما إشارة إلى مزيد الفضل، وقدم التَّوَّابُ لظهور مناسبته لما قبله، وقيل في ذكر الرَّحِيمُ بعده.
إشارة إلى أن قبول التوبة ليس على سبيل الوجوب- كما زعمت المعتزلة- بل على سبيل الترحم والتفضل، وأنه الذي سبقت رحمته غضبه، فيرحم عبده في عين غضبه- كما جعل هبوط آدم سبب ارتفاعه، وبعده سبب قربه- فسبحانه من تواب ما أكرمه، ومن رحيم ما أعظمه، وإذا فسر التواب بالرجاع إلى المغفرة- كان الكلام تذييلا- لقوله تعالى:
فَتابَ عَلَيْهِ أو بالذي يكثر الإعانة على التوبة- كان تذييلا- لقوله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ إلخ، وقرأ نوفل إِنَّهُ بفتح الهمزة على تقدير- لأنه- قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً كرر للتأكيد، فالفصل لكمال الاتصال- والفاء- في فَتَلَقَّى للاعتراض، إذ لا يجوز تقدم المعطوف على التأكيد، وفائدته الإشارة إلى مزيد الاهتمام بشأن التوبة وأنه يجب المبادرة إليها- ولا يمهل- فإنه ذنب آخر مع ما في ذلك من إظهار الرغبة بصلاح حاله عليه السلام وفراغ باله، وإزالة ما عسى يتشبث به الملائكة عليهم السلام، وقد فضل عليهم وأمروا بالسجود له، أو كرر ليتعلق عليه معنى آخر غير الأول، إذ ذكر إهباطهم «أولا» للتعادي وعدم الخلود، والأمر فيه تكويني «وثانيا» ليهتدي من يهتدي، ويضل من يضل، والأمر فيه تكليفي، ويسمى هذا الأسلوب في البديع- الترديد- فالفصل حينئذ للانقطاع لتباين الغرضين، وقيل:
إن إنزال القصص للاعتبار بأحوال السابقين، ففي تكرير الأمر تنبيه على أن الخوف الحاصل من تصور إهباط آدم عليه السلام المقترن بأحد هذين الأمرين من التعادي والتكليف كاف لمن له حزم، وخلا عن عذر أن تعوقه عن مخالفة حكمه تعالى، فكيف المخالفة الحاصلة من تصور الإهباط المقترن بهما؟؟ فلو لم يعد الأمر لعطف فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ على «الأول» فلا يفهم إلا إهباط مترتب عليه جميع هذه الأمور، ويحتمل- على بعد- أن تكون فائدة التكرار التنبيه على أنه تعالى هو الذي أراد ذلك، ولولا إرادته لما كان ما كان ولذلك أسند الإهباط إلى نفسه مجردا عن التعليق بالسبب بعد إسناد إخراجهما إلى الشيطان، فهو قريب من قوله عز شأنه: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: ١٧] وقال الجبائي: إن «الأول» من الجنة إلى السماء «والثاني» منها إلى الأرض، ويضعفه ذكر وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ عقيب الأول وجَمِيعاً حال من فاعل اهْبِطُوا أي مجتمعين، سواء كان في زمان واحد أو لا، وقد يفهم الاتحاد في الزمان من سياق الكلام، كما قيل به في فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الحجر: ٣٠] وأبعد ابن عطية فجعله تأكيدا لمصدر محذوف أي هبوطا جميعا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
لا يدخل في الخطاب غير المكلف، وأدرج الكثيرون إِبْلِيسَ لأنه مخاطب بالإيمان- والفاء- لترتيب ما

صفحة رقم 239

بعدها على الهبوط المفهوم من الأمر وإما مركبة من إن الشرطية و «ما» الزائدة للتأكيد، وكثر تأكيد الفعل بعدها بالنون، ولم يجب كما يدل عليه قول سيبويه: إن شئت لم تقحم النون، كما أنك إن شئت لم تجئ «بما» وقد ورد ذلك في قوله:

يا صاح إما تجدني غير ذي جدة فما التخلي عن الخلان من شيمي
وقوله:
إما أقمت وإما كنت مرتحلا فالله يحفظ ما تبقي وما تذر
وحمل ذلك من قال بالوجوب على الضرورة وهو مما لا ضرورة إليه، والقول بأنه يلزم حينئذ مزية التابع الذي هو حرف الشرط على المتبوع وهو الفعل- يدفعه أن التابع ومؤكده تابع فلا مزية، أو أن «ما» لتأكيد الفعل في أوله كما أن النون إذا كانت تأكيدا له في آخره وجيء بحرف الشك إذ لا قطع بالوقوع فإنّه تعالى لا يجب عليه شيء بل إن شاء هدى وإن شاء ترك، وقيل: بالقطع واستعمال «إن» في مقامه لا يخلو عن نكتة كتنزيل العالم منزلة غيره بعدم جريه على موجب العلم، ويحسنه سبق ما سيق وقوعه من آدم، وقيل: إن زيادة «ما» والتوكيد بالثقيلة لا يتقاعد في إفادة القطع عن إذا، نعم لا ينظر فيه إلى الزمان بل إلى أنه محقق الوقوع أبهم وقته، وأنت تعلم أن ما اخترناه أسلم وأبعد عن التكلف مما ذكر- وإن جل قائله فتدبر- و «مني» متعلق بما قبله، وفيه شبه الالتفات- كما في البحر- وأتى بالضمير الخاص هنا للرمز إلى أن اللائق- بمن- هدى التوحيد الصرف وعدم الالتفات إلى الكثرة، ونكر- الهدى- لأن المقصود هو المطلق ولم يسبق فيه عهد فيعرف، وفي المراد به هنا أقوال، فقيل الكتب المنزلة، وقيل: الرسل، وقيل: محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. ولعل المراد هديه الذي جاء به نوابه عليهم الصلاة والسلام، والفاء في «فمن» للربط و «ما» بعد جملة شرطية وقعت جوابا للشرط الأول على حدّ- إن جئتني فإن قدرت أحسنت إليك- وقال السجاوندي: جوابه محذوف أي فاتبعوه، واختار أبو حيان كون «من» هذه موصولة لما في المقابل من الموصول، ودخلت الفاء في خبرها لتضمنها معنى الشرط، ووضع المظهر موضع المضمر في هداي إشارة للعلية لأن الهدى بالنظر إلى ذاته واجب الاتباع، وبالنظر إلى أنه أضيف إليه تعالى إضافة تشريف أحرى وأحق أن يتبع، وقيل: لم يأت به ضميرا لأنه أعم من الأول لشموله لما يحصل بالاستدلال والعقل، ولم يقل الهدى لئلا تتبادر العينية أيضا لأن النكرة في الغالب إذا أعيدت معرفة كانت عين الأول مع ما في الإضافة إلى نفسه تعالى من التعظيم ما لا يكون لو أتى به معرفا باللام، والخوف الفزع في المستقبل، والحزن ضد السرور مأخوذ من الحزن- وهو ما غلظ من الأرض- فكأنه ما غلظ من الهمّ، ولا يكون إلا في الأمر الماضي على المشهور، ويؤول حينئذ نحو إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ [يوسف: ١٣] بعلم ذلك الواقع، وقيل: إنه والخوف كلاهما في المستقبل لكن الخوف استشعارهم لفقد مطلوب، والحزن استشعار غم لفوت محبوب، وجعل هنا نفي الخوف كناية عن نفي العقاب، ونفي الحزن كناية عن نفي الثواب وهي أبلغ من الصريح وآكد لأنها كدعوى الشيء ببينة، والمعنى- لا خوف عليهم- فضلا عن أن يحل بهم مكروه، ولا هم يفوت عنهم محبوب فيحزنوا عليه، فالمنفي عن الأولياء خوف حلول المكروه والحزن في الآخرة، وفيه إشارة إلى أنه يدخلهم الجنة التي هي دار السرور والأمن لا خوف فيها ولا حزن، وحينئذ يظهر التقابل بين الصنفين في الآيتين، وقال بعض الكبراء: خوف المكروه منفي عنهم مطلقا. وأما خوف الجلال ففي غاية الكمال والمخلصون على خطر عظيم، وقيل: المعنى- لا خوف عليهم- من الضلالة في الدنيا، ولا حزن من الشقاوة في العقبى، وقدم انتفاء الخوف لأن انتفاء الخوف فيما هو آت أكثر من انتفاء الحزن على ما فات. ولهذا صدر بالنكرة التي هي أدخل في النفي، وقدم

صفحة رقم 240
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية