
قال: يعني الزكاة المفروضة، وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ يعني التطوّع.
وعن معد بن سويد الكلبي يرفعه: إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الجهر بالقراءة والإخفاء بها فقال:
«هي بمنزلة الصدقة فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ».
كثير بن مرّة عن عقبة بن عامر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «المسرّ بالقرآن كالمسر بالصدقة والجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة» [١٩٤] «١».
وروى علي بن طلحة عن ابن عباس في هذه قال: جعل الله عزّ وجلّ صدقة التطوّع في السر تفضل علانيتها بسبعين ضعفا، وصدقة الفريضة تفضل علانيتها بخمسة وعشرين ضعفا، وكذلك جميع الفرائض والنوافل.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٧٢ الى ٢٧٣]
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣)
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ
قال الكلبي: اعتمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمرة القضاء وكانت معه في تلك العمرة أسماء بنت أبي بكر، فجاءتها أمّها قتيلة وجدّتها تسألانها وهما مشركتان، فقالت:
لا أعطيكما شيئا حتّى أستأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنّكما لستما على ديني، فاستأمرته في ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأمرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد نزول هذه الآية أن تتصدّق عليهما فأعطتهما ووصلتهما.
قال الكلبي: ولها وجه آخر وذلك إنّ ناسا من المسلمين كانت لهم رضاع في اليهود وكانوا ينفقونهم قبل أن يسلموا فلما أسلموا كرهوا أن ينفقونهم وأرادوهم أن يسلموا، فاستأمروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية فأعطوهم بعد نزولها.
وقال سعيد بن جبير: كانوا يتصدّقون على فقراء أهل الذمّة، فلما كثر فقراء المسلمين قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تتصدّقوا إلّا على أهل دينكم» [١٩٥] «٢». فأنزل الله: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ فتمنعهم الصدقة ليدخلوا في الإسلام حاجة منهم إليها.
(٢) زاد المسير: ١/ ٢٨٣.

وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وأراد بالهدى: التوفيق والتعريف لأنّه كان على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هدى البيان والدعوة.
وعن عمر بن عبد العزيز قال: بلغني أن عمر بن الخطاب رأى رجلا من أهل الذمّة يسأل على أبواب المسلمين فقال: ما أنصفناك يأخذوا منك الجزية ما دمت شابا ثم ضيّعناك اليوم، فأمر أن تجرى علية قوته من بيت المال.
وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ شرط وجزاء، والخير هاهنا المال وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ شرط كالأوّل لذلك حذف النون منها [في الموضعين].
يُوَفَّ إِلَيْكُمْ جزاؤه، كأن معناه: يؤدّى إليكم، فكذلك أدخل إلى وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ لا تظلمون من ثواب أعمالكم شيئا.
وأعلم إنّ هذه الآية في صدقة التطوّع، أباح الله أن يتصدّق المسلم على المسلم والذمّي، فأمّا صدقة الفرض فلا يجوز إلّا للمسلمين، وهما أهل السهمين الذين ذكرهم الله تعالى في سورة التوبة، ثم دلّهم على خير الصدقات وأفضل النفقات، فقال الله تعالى:
لِلْفُقَراءِ واختلف العلماء في موضع هذا اللام، فقال بعضهم: هو مردود على موضع اللام من قوله فَلِأَنْفُسِكُمْ كأنّه قال: وما تنفقوا من خير فللفقراء وإنّما تنفقون لأنفسكم ثوابها راجع إليكم، فلمّا اعترض الكلام قوله فَلِأَنْفُسِكُمْ وأدخل الفاء التي هي جواب الجزاء فيها، تركت أعادتها في قوله لِلْفُقَراءِ إذ كان معنى الكلام مفهوما.
وقال بعضهم: خبر محذوف تقديره: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ صفتهم كذا، حق واجب،
وهم فقراء المهاجرين وكانوا نحوا من أربعمائة رجل ليس لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر جعلوا أنفسهم في المسجد يتعلّمون القرآن بالليل ويرضخون بالنهار [... ] «١» وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [فخرج] «٢» يوما على أصحاب الصفّة فرأى فقرهم وجهدهم فثبّت قلوبهم فقال: «أبشروا يا أصحاب الصفّة، فمن بقي من أمّتي على النعت الذي أنتم عليه راضيا بما فيه فإنّهم من رفقائي».
وروي إنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرسل إلى سعيد بن عامر بألف درهم فجاء كئيبا حزينا فقالت له امرأته: حدث أمر، قال: أشدّ من ذلك، ثم قال: أريني درعك الخلق فشقّه وجعله صررا ثم قام يصلّي ويبكي إلى الغداة، فلما أصبح قام بالطريق فجعل [ينفق كل] صرّة حتّى أتى
(٢) غير مقروءة في المخطوط والظاهر ما أثبتناه.

على آخرها، ثم قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يجيء فقراء المهاجرين يوم القيامة للحساب فيقولون هل أعطيتمونا شيئا فتحاسبوننا عليه فيدخلون الجنّة قبل الأغنياء بخمس مائة عام، حتّى إنّ الرجل من الأغنياء ليدخل في غمارهم فيؤخذ فيستخرج، فأراد عمر أن يجعلني ذلك الرجل وما يسرّني إنّي كنت ذلك الرجل وإن لي الدنيا وما فيها» [١٩٦] «١».
أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي حبسوا ومنعوا في طاعة الله لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً سيرا فِي الْأَرْضِ وتصرّفا فيها للتجارة وطلب المعيشة، نظيره قوله تعالى: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ «٢».
قال الشاعر:
قليل المال يصلحه فيبقى | ولا يبقى الكثير مع الفساد |
وحفظ المال أيسر من بغاه | [وضرب] في البلاد بغير زاد «٣» |
وقال سعيد: هؤلاء قوم أصابتهم جراحات مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصاروا زمنى فأحصرهم المرض والزمانة عن الضرب في الأرض، واختاره الكسائي، قال: أُحْصِرُوا من المرض، فلو أراد الحبس لقال: حصروا، وإنّما الإحصار من الخوف أو المرض، والحصر الحبس في غيرهما «٤».
يَحْسَبُهُمُ قرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة والأعمش وحمزة وعاصم يحسب وبابه بفتح السين في جميع القرآن.
والباقون بالكسر. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم وقيل إنّها لغة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
عن عاصم بن لقيط بن صبرة عن أبيه وافد بني المشفق قال: قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنا وصاحب لي فذكر حديثا فقال صلّى الله عليه وسلّم للراعي: «أذبح لنا شاة»، ثم قال: «لا تحسبن أنا أنّما ذبحناها من أجلكم- ولم يقل يحسبن أنا إنما ذبحناها لك-، ولكن لنا مائة من الغنم فإذا زادت
(٢) سورة المزمّل: ٢٠.
(٣) تاريخ دمشق: ١١/ ٣٧٢، وفيه: وعسف في البلاد، وكذا في السيرة النبوية لابن كثير: ١/ ١١٢.
(٤) زاد المسير: ١/ ٢٨٣. [.....]

شاة ذبحنا شاة لا نريد أن تزيد على المائة» [١٩٧] «١».
الْجاهِلُ بأمرهم وحالهم أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ من تعففهم عن السؤال، والتعفف:
[التفعل] من العفّة وهو الترك، يقال: عفّ عن الشيء إذا كفّ عنه، وعفيف إذا تكلّف في الإمساك.
قال رؤبة:
فعفّ عن إسرارها بعد الغسق
وقال محمد بن الفضل: يمنعهم علوّ همّتهم رفع جوابهم إلى مولاهم.
تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ قرأ حمزة والكسائي بالإمالة. الباقون بالتفخيم، والسيما والسيميا:
العلّامة التي يعرف بها الشيء، وأصلها من السّمة، واختلفوا في السيميا التي يعرفون بها.
فقال مجاهد: هو التخشّع والتواضع. الربيع والسدي: أثر الجهد من الحاجة والفقر.
الضحاك: صفرة ألوانهم من الجوع والضر، ابن زيد: رثاثة ثيابهم فالجوع خفي على الناس، يمان: النحول والسكينة. الثوري: فرحهم بفقرهم واستقامة أحوالهم عند موارد البلاء عليهم، [المرتضى] : غيرتهم على فقرهم وملازمتهم إياه. أبو عثمان: إيثار ما يملكون مع الحاجة إليه.
قال بعضهم: تطيب قلوبهم وبشاشة وجوههم وحسن حالهم ونور أسرارهم وجولان أرواحهم في ملكوت ربّهم.
لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً قال عطاء: يعني إذا كان عنده غداء لا يسأل عشاء، فإذا كان عنده عشاء لم يسأل غداء. وقال أهل المعاني: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً ولا غير إلحاف لأنّه قال مِنَ التَّعَفُّفِ، والتعفف ترك السؤال أصلا وقال أيضا: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ ولو كانت المسألة من شأنهم لما كان [للنبي صلّى الله عليه وسلّم] إلى معرفتهم بالعلامة والدلالة حاجة، إذ السؤال يغني عن حالهم وهذا كما قلت في الكلام: قال ما رأيت مثل هذا الرجل، ولعلّك لم تر مثله قليلا ولا كثيرا، قال الله عزّ وجلّ فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ «٢» وهم كانوا لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا.
وأنشد الزجاج:
على لا حب لا يهتدى لمنارة «٣» | إذا ساقه العود النباطي جرجرا «٤» |
(٢) سورة البقرة: ٨٨.
(٣) لسان العرب: ١٥/ ٣٢١.
(٤) تفسير كنز الدقائق: ١/ ٦٦١.

معناه: ليس له منار فيهتدي له.
كذلك معنى الآية: ليس لهم سؤال فيقع فيه، الحاف، والإلحاف: الإلحاح واللجاج في السؤال، وهو مأخوذ من لحف الحبل وهو خشونته، كأنّه استعمل الخشونة في الطلب.
روى هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) يقول: «من سأل وله أربعون درهما فقد ألحف» [١٩٨] «١».
قال هشام: قال الحسن: صاحب الخمسين درهما [غني]
عطاء بن يسار عن أبي هريرة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، إنّما المسكين المتعفّف». اقرءوا إن شئتم لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً [١٩٩] «٢».
الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله عزّ وجلّ يحب أن يرى أثر النعمة على عبده، ويكره البؤس والتبأوس، ويحب الحليم المتعفّف من عباده ويبغض الفاحش البذي السائل اللحف» [٢٠٠] «٣».
وعن قبيصة بن مخارق قال: أتيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم استعنته في حمالة فقال: «أقم عندنا حتّى تأتينا الصدقة فإما أن نحملها وإما أن نعينك فيها، وأعلم إنّ المسألة لا تحل إلّا لثلاثة: لرجل يحمل حمالة عن قوم فسأل فيها حتّى يؤديها ثم يمسك، ورجل أصابته حاجة فأذهبت ماله فسأل حتّى يصيب سدادا من عيش أو قواما من عيش ثم يمسك، ورجل أصابته فاقة حتّى شهد له ثلاثة من ذوي الحجا من قومه فسأل حتّى يصيب سدادا أو قواما من عيش ثم يمسك، فما سوى ذلك من المسائل سحت يأكله صاحبه يا قبيصة سحتا» «٤».
وروى قتادة عن هلال بن حصن عن أبي سعيد الخدري قال: أعوزنا مرّة فقيل لي: لو أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألته، فانطلقت إليه معتفيا، فقال أوّل ما واجهني به: «من استعفف عفّه الله ومن استغنى أغناه الله ومن سألنا لم ندّخر عنه شيئا نجده».
قال: فرجعت إلى نفسي فقلت: ألا استعفف فعفّني الله، فرجعت فما سألت نبي الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا بعد ذلك من حاجة حتّى مالت علينا الدنيا فغرقتنا «٥» إلّا من عصمه الله محمد صلّى الله عليه وسلّم «٦» إنّ الله
(٢) مسند أحمد: ٢/ ٣٩٥.
(٣) كنز العمال: ٦/ ٦٤٣ ح ١٧١٩٢ بتفاوت وفي تفسير مجمع البيان: ٢/ ٢٠٣ بتمامه.
(٤) مسند أحمد: ٥/ ٦٠.
(٥) في تاريخ دمشق (٢٠/ ٣٨٨) ففرقتنا أو عرقتنا.
(٦) في تفسير الطبري (٣/ ١٣٧) إلّا من عصم الله.