
فإن شدة الحر من فيح جهنم، وإن النار اشتكت إلى ربها»، الحديث بكماله، فإما أنه نار على حقيقته وإلا فهو نفسها يوجد عنه كاثرها، قال السدي: الإعصار الريح، والنار السموم، وقال ابن عباس ريح فيها سموم شديدة، وقال ابن مسعود إن السموم التي خلق الله منها الجان جزء من سبعين جزءا من النار.
قال القاضي أبو محمد: يريد من نار الآخرة، وقال الحسن بن أبي الحسن إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ ريح فيها صر، برد، وقاله الضحاك، وفي المثل: إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا، والريح إعصار لأنها تعصر السحاب، والسحاب معصرات إما أنها حوامل فهي كالمعصر من النساء وهي التي هي عرضة للحمل وإما لأنها تنعصر بالرياح، وبهذا فسر عبيد الله بن الحسن العنبري القاضي، وحكى ابن سيده أن المعصرات فسرها قوم بالرياح لا بالسحاب، وقال الزجاج: الإعصار الريح الشديدة تصعد من الأرض إلى السماء وهي التي يقال لها الزوبعة، قال المهدوي: قيل لها إِعْصارٌ لأنها تلتف كالثوب إذا عصر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، والإشارة بذلك إلى هذه الأمثال المبينة، ولَعَلَّكُمْ ترجّ في حق البشر، أي إذا تأمل من يبين له هذا البيان رجي له التفكر وكان أهلا له. وقال ابن عباس تَتَفَكَّرُونَ في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧)
هذا الخطاب هو لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه صيغة أمر من الإنفاق، واختلف المتأولون هل المراد بهذا الإنفاق، الزكاة المفروضة أو التطوع، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبيدة السلماني ومحمد بن سيرين: هي في الزكاة المفروضة. نهى الناس عن إنفاق الرديء فيها بدل الجيد، وأما التطوع فكما للمرء أن يتطوع بقليل فكذلك له أن يتطوع بنازل في القدر، ودرهم زائف خير من تمرة، فالأمر على هذا القول للوجوب، والظاهر من قول البراء بن عازب والحسن بن أبي الحسن وقتادة، أن الآية في التطوع، وروى البراء بن عازب، وعطاء بن أبي رباح ما معناه أن الأنصار كانوا أيام الجداد يعلقون أقناء التمر في حبل بين أسطوانتين في المسجد فيأكل من ذلك فقراء المهاجرين فعلق رجل حشفا فرآه رسول الله ﷺ فقال: بئسما علق هذا، فنزلت الآية.
قال القاضي أبو محمد: والأمر على هذا القول على الندب، وكذلك ندبوا إلى أن لا يتطوعوا إلا بجيد مختار، والآية تعم الوجهين، لكن صاحب الزكاة يتلقاها على الوجوب وصاحب التطوع يتلقاها على الندب، وهؤلاء كلهم وجمهور المتأولين قالوا معنى مِنْ طَيِّباتِ من جيد ومختار ما كَسَبْتُمْ، وجعلوا الْخَبِيثَ بمعنى الرديء والرذالة، وقال ابن زيد معناه: من حلال ما كسبتم، قال: وقوله: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ أي الحرام.
قال القاضي أبو محمد: وقول ابن زيد ليس بالقوي من جهة نسق الآية لا من معناه في نفسه، وقوله:

مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ يحتمل أن لا يقصد به لا الجيد ولا الحلال، لكن يكون المعنى كأنه قال: أنفقوا مما كسبتم، فهو حض على الإنفاق فقط. ثم دخل ذكر الطيب تبيينا لصفة حسنة في المكسوب عاما وتعديدا للنعمة كما تقول: أطعمت فلانا من مشبع الخبز وسقيته من مروي الماء، والطيب على هذا الوجه يعم الجود والحل، ويؤيد هذا الاحتمال أن عبد الله بن مغفل قال: ليس في مال المؤمن خبيث، وكَسَبْتُمْ معناه كانت لكم فيه سعاية، إما بتعب بدن أو مقاولة في تجارة، والموروث داخل في هذا لأن غير الوارث قد كسبه، إذ الضمير في كَسَبْتُمْ إنما هو لنوع الإنسان أو المؤمنين، وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ النباتات والمعادن والركاز وما ضارع ذلك، وتَيَمَّمُوا معناه تعمدوا وتقصدوا، يقال تيمم الرجل كذا وكذا إذا قصده، ومنه قول امرئ القيس: [الطويل]
تيمّمت العين التي عند ضارج | يفيء عليها الظّلّ عرمضها طام |
تيمّمت قيسا وكم دونه | من الأرض من مهمه ذي شزن |
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: كأن هذا المعنى عتاب للناس وتقريع، والضمير في مِنْهُ عائد على الْخَبِيثَ. قال الجرجاني وقال فريق آخر: بل الكلام متصل إلى قوله فِيهِ.
قال القاضي أبو محمد: فالضمير في مِنْهُ عائد على ما كَسَبْتُمْ، ويجيء تُنْفِقُونَ كأنه في موضع نصب على الحال، وهو كقولك: إنما أخرج أجاهد في سبيل الله، واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ فقال البراء بن عازب وابن عباس والضحاك وغيرهم: معناه ولستم بآخذيه في ديونكم وحقوقكم عند الناس إلا بأن تساهلوا في ذلك، وتتركون من حقوقكم وتكرهونه ولا ترضونه، أي فلا تفعلوا مع الله ما لا ترضونه لأنفسكم، وقال الحسن بن أبي الحسن معنى الآية: لستم بآخذيه لو وجدتموه في السوق يباع، إلا أن يهضم لكم من ثمنه، وروي نحوه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذان القولان يشبهان كون الآية في الزكاة الواجبة وقال البراء بن صفحة رقم 362