ونرجح أن القصص الثلاث نزلت متتابعة ووضعت في ترتيبها بسبب ذلك، بل لا نستبعد أن تكون نزلت دفعة واحدة لتكون بمثابة تعقيب على الآيتين [٢٥٦ و ٢٥٧] وبينهما لبيان مواقف متنوعة لكافر ومؤمنين، والله تعالى أعلم.
وهذه القصة والتي قبلها تنطويان على تبرير الرغبة في الطمأنينة والاستزادة من معرفة آلاء الله ومشاهد عظمته وبراهين قدرته إذا لم تكن منبعثة عن خبث ومكر وجحود ومكابرة. فليس ما يمنع المؤمن من ذلك وليس في هذا ما يمكن أن يكون دليلا أو مظهرا على شك المؤمن في إيمانه بالله وقدرته. فالشك والإيمان لا يمكن أن يجتمعا وكل ما هناك أنه يصح أن يود المؤمن رؤية ما يجعل يقينه الغيبي يقينا عيانيا. ولقد روى البخاري ومسلم حديثا نبويا جاء فيه: «نحن أحقّ بالشكّ من إبراهيم إذ قال ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي».
وروى المفسرون أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال ذلك حينما رأى ناسا يظنون أن إبراهيم شكّ في قدرة ربّه وإيمانه به، وأوّلوا الحديث على ضوء هذه الرواية بقصد نفي الشك عن إبراهيم وكأنما أراد أن يقول نحن لا نشك فأولى بإبراهيم أن لا يشك «١».
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٦١ الى ٢٧٤]
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠)
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤).
(١) منا: الكلمة هنا بمعنى تعداد النعمة على المنعم عليه على سبيل التفضل وتحميل الجميل.
صفحة رقم 480
(٢) الأذى: هنا بمعنى أي عمل أو قول أو إشارة فيها جرح نفس المتصدق عليه وأذيتها.
(٣) صفوان: الصخرة الملساء.
(٤) وابل: المطر الكثير المنهمر.
(٥) صلدا: أجرد أو أملس.
(٦) لا يقدرون على شيء مما كسبوا: لا يحصلون على شيء مما زرعوه ولا ينتفعون به.
(٧) ربوة: الأرض السمينة العميقة التراب أو الأرض المرتفعة عن الماء الجارف.
(٨) طل: الرذاذ أو المطر الخفيف أو الندى.
(٩) إعصار فيه نار: كناية عن الريح الشديدة الحارة أو ريح السموم.
(١٠) الطيبات: هنا بمعنى الثمر الجيد لا الرديء ولا الفاسد.
(١١) ولا تيمموا: ولا تقصدوا.
(١٢) الخبيث: هنا بمعنى الشيء الرديء من الثمر.
(١٣) إلا أن تغمضوا فيه: إلا أن تأخذوه على كره وغضاضه إذا أهدي أو أعطي لكم أو تبخسون ثمنه عن ثمن الجيد حينما تتقاضون مالكم على أصحابها من دين وحقوق.
(١٤) الحكمة: هنا بمعنى الإصابة والسداد في القول والعمل.
(١٥) الذين أحصروا في سبيل الله: قيل إنّها تعني الذين حبسوا أنفسهم أو حبسوا على الجهاد. وقيل إنها بمعنى الذين حصروا أو حوصروا من العدو في أرضه.
(١٦) ضربا في الأرض: بمعنى سعيا في سبيل الرزق.
(١٧) التعفف: عدم الطلب والسؤال.
(١٨) إلحافا: تشديدا بالسؤال والطلب.
تعليقات على الآية مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ... إلخ وما بعدها من [٢٦١- ٢٧٤]
في هذه الآيات:
١- تمثيل لأجر الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، فهم كمن زرع زرعا الحبة منه تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. وتعقيب على ذلك بسبيل الحثّ، فالله يضاعف أجر الأعمال الصالحة ما يشاء من فضله وهو واسع الفضل عليم بأعمال الناس ونواياهم.
٢- تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله من دون منّ ولا أذى. سواء أكان بالإشارة أم بالكلام أم بالعمل، فهؤلاء لهم أجرهم العظيم عند الله ولن يلقوا لديه ما يخيفهم أو يحزنهم.
٣- ونهي عن المنّ والأذى وتنبيه على أن الكلمة الطيبة وإظهار الرأفة والعاطفة للمحتاج إلى الصدقة خير من الصدقة إذا أعطيت مع المنّ والأذى، وأن الله غني عن مثل هذه الصدقات حليم لا يتعجل بالغضب على مستحقه الذي يمنّ ويؤذي في سياق ما يعطيه من صدقات.
٤- وتشديد ثان في النهي عن ذلك فهو مبطل لأجر الصدقة، وحري بالمؤمنين أن لا يصدر ذلك منهم. ومثل الذي يحدث منه كمثل من ينفق ماله رياء، ولا يكون مؤمنا بالله واليوم الآخر، وتمثيل صدقات هؤلاء وأولئك بالتراب القليل الذي تحته صخر فمهما نزل عليه من وابل المطر لا يصلح للنبات والنماء ولا يلبث الوابل أن يجرفه وتظهر من تحته الصخرة صلداء ملساء، ولا يمكن أن ينتفعوا بأي شيء مما أنفقوه لأنه ليس صادرا منهم عن حبّ التقرب إلى الله وابتغاء الخير لذاته وهؤلاء هم جاحدون ساءت نياتهم وخبثت سرائرهم فليس لهم إلى هدى الله ورضائه من سبيل.
٥- وتمثيل للذين ينفقون أموالهم ابتغاء وجه الله ورضائه وإيقانا ورغبة صادقة في فعل الخير فهم كأرض بستان سمينة جيدة تنبت نباتها حسنا وتؤتي أكلها مضاعفا سواء أكان المطر الذي ينزل عليها وابلا أو طلا.
٦- وتساؤل على سبيل التمثيل عما إذا كان أحد يودّ لنفسه أن تكون له جنة من نخيل وأعناب جيدة النماء والثمر وفيها المياه الكافية فتهب عليها ريح سموم فتحرقها في وقت يكون فيه في آخر عمره غير مستطيع إصلاح ما فسد منها وله ذرية ضعفاء ليس لهم طاقة على هذا الإصلاح كأنما أريد بذلك تشبيه الإنفاق رياء ومع المنّ والأذى كالنار المحرقة التي تعصف بأجره حين يكون في موقفه الحرج أمام الله في ظرف لا يكون إمكان لتلافي الأمر فيه.
٧- وأمر موجه إلى المسلمين بوجوب التصدق من أحسن ما يكون عندهم من مال وغلّة. ونهي عن قصد اختيار الرديء الفاسد الذي لا يقبلون هم أنفسهم أن يأخذوه إلّا بثمن بخس ومع الغضاضة والاستكراه. وتنبيه على أن الله غني عن مثل هذه الصدقات في حين أنه يحمد لمستحق الحمد عمله الطيب. وإشارة تذكيرية إلى أن ما في أيديهم هو مما رزقهم إياه الله فيجب عليهم الإنفاق مما يسر لهم من الكسب ومن ثمرات الأرض الطيبة.
٨- وتنبيه على أن الإمساك أو الإنفاق من الخبيث الرديء دون الطيب إنما يكون استجابة لوسوسة الشيطان الذي يخوف المرء من الفقر حتى يمنعه عن الإنفاق والذي لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء والمعاصي. في حين أن الله إذ يأمر بالإنفاق من طيب المال وبدون أذى ولا رياء ويحثّ عليه إنما يدعوهم إلى ما فيه خيرهم واعدا إياهم بالرحمة والغفران وزيادة الفضل وأنه واسع الفضل عليم بنوايا الناس وأعمالهم.
٩- وتنويه بالذين يفهمون الأمور حق الفهم فذلك هو الحكمة التي يهبها الله لمن يشاء، ومن رزقها فقد رزق الخير الكثير ولا يرزقها وينتفع بها إلا ذوو العقول النيرة والقلوب السليمة.
١٠- وتقرير بأن الله يعلم بكل نفقة ينفقها الناس وبكل نذر يقيدون به أنفسهم في سبيل الخير والبرّ والقربى. ولن يكون للظالمين المجرمين والأشرار نصير عند الله كأنما تحث الجملة القرآنية على حسن النية في الإنفاق والنذور ووفاء الصدقات والنذور التي يقطع المرء على نفسه عهدا بإعطائها دون بخس ولا تقصير.
١١- وإشارة إلى أن الصدقات هي فضيلة وخير وقربى في كل حال، سواء أظهرها أصحابها أم أخفوها وهم يعطونها للمحتاجين. واستدراك بأن إعطاءها خفية أفضل وتنبيه على أن الله خبير بأعمال الناس ونواياهم ويكفر عن الصادقين المخلصين ذنوبهم وهفواتهم.
١٢- وخطاب موجه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أو إلى السامع إطلاقا بأنه ليس عليه أن يهدي الناس جميعا فالهدى هدى الله. والتفات في الخطاب إلى المسلمين: فمما ينفقونه إنما هو لخيرهم إذا ما كان ابتغاء وجه الله وأن أجرهم عليه يوفّى دون بخس أو نقص.
١٣- وتنبيه على وجوب الاهتمام لأمر فقراء المسلمين الذين حبسوا على سبيل الله ولم يعد في إمكانهم التكسب والارتزاق من جهة وهم متعففون لا يتشددون في السؤال من جهة أخرى. فواجب إعطاء هؤلاء أعظم وألزم والله عليم بما ينفقه الناس على أمثالهم وموفيهم عليه أجورهم.
١٤- وتنويه أخير بالذين ينفقون أموالهم في كل حال بالليل وبالنهار وبالسر وبالعلن فلهم أجرهم العظيم عند الله ولن يكون لهم ما يخيفهم أو يحزنهم.
وننبه على أن الآيات وإن كانت بدأت بآية فيها تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله وحثّ على ذلك فإن فيها ما يفيد أن التنويه والحثّ شاملان للذين يتصدقون على الفقراء مطلقا بحيث يصح أن يقال إن القرآن اعتبر هذا أيضا إنفاقا في سبيل الله.
وبذلك تكون الآيات فصلا رائعا في الإنفاق في سبيل الله والتصدق على
الفقراء وفضائل ذلك ومستحباته ومكروهاته وآدابه وشروطه. مع التنبيه على أن المتبادر من روح الآيات وفحواها أنها ليست في صدد الزكاة الواجب أداؤها بل هي في صدد الإنفاق بصورة مطلقة بحيث تشمل الواجب والتطوع معا.
ولقد روى المفسرون روايات في مناسبة نزول بعض هذه الآيات فروى الخازن أن الآية [٢٦١] نزلت في مناسبة ما بذله عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنهما) من مال طائل في تجهيز غزوة تبوك. وروى الطبري وغيره أن قوما من الأنصار كانوا يأتون بالخشف من التمر فيجعلونه فيما يعطونه من زكاة أو يعلقون أقناء فيها خشف في حبل بين اسطوانتي مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليأكل منها الفقراء فنزلت الآية [٢٦٧] لتنهى عن ذلك. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت في جماعة كانوا يتصدقون من ربا دخل عليهم في الجاهلية. وروى الطبري وغيره أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يمنع الصدقات عن المحتاجين من المشركين ليحملهم على الإسلام أو بعض المسلمين كانوا يفعلون ذلك بالنسبة لأقاربهم وأنسبائهم فأنزل الله الآية [٢٧٢] في صدد إجازة إعطاء الصدقات للمحتاجين ولو كانوا غير مسلمين. وروى ابن كثير أن الآية [٢٧١] نزلت في التنويه بأبي بكر وعمر لتسابقهما إلى إعطاء الصدقات وفعل الخير. وروى الطبري وغيره أن الآية [٢٧٣] نزلت في أهل الصفة، وهم جماعة من فقراء المسلمين الغرباء كانوا يبقون في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويعيشون مما يعطيهم إياه المسلمون ويتقدمون للخروج في كل سرية أو غزوة جهادية ويتعففون عن السؤال ولا يستطيعون السعي في سبيل الرزق. وهناك رواية أخرى تذكر أنها نزلت في جماعة من المسلمين حال عداء الكفار الذين هم خارج المسلمين دون سعيهم وخروجهم للكسب. وروى الطبري أن الآية [٢٧٦] عنت أصحاب الخيل المربوطة في سبيل الله لأنهم ينفقون على دوابهم. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت تنويها بعلي بن أبي طالب لأنه كان ينفق ماله في الليل والنهار والسر والعلن وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح باستثناء حديث رواه الترمذي في صدد الآية [٢٦٧] حيث روى عن البراء قال: «كنّا معشر الأنصار أصحاب نخل فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته وكان
الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه بالمسجد. وكان أهل الصفة يأكلون منه وكان أناس ممن لا يرغب في الخير يأتي أحدهم بالقنو فيه الشيص والخشف فأنزل الله الآية» «١». ويمكن أن يورد ملاحظات على بعض هذه الروايات مثل كون الآية [٢٦١] في صدد ما أنفقه عثمان وعبد الرحمن في غزوة تبوك التي كانت في أواخر حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم بينما الآيات كما يبدو مبكرة. والروايات المروية في صدد الآيات [٢٦٧ و ٢٧٢ و ٢٧٤] منطبقة على الآيات وقد تكون صحيحة، وحديث البراء يدعم صحة الرواية المروية في نزول الآية [٢٦٧].
على أننا نلحظ من جهة أخرى أن آيات الفصل منسجمة مع بعضها وتؤلف مجموعة أو وحدة مترابطة بحيث يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة. ونرجح أن فيها عودا على بدء وأنها متصلة بأول الفصل السابق الذي فيه دعوة إلى القتال والإنفاق في سبيل الله وأن الآيات التي جاءت بين هذه وتلك جاءت على سبيل الاستطراد والتمثيل والموعظة. وهو أسلوب مألوف في القرآن ولا يقتضي هذا أن تكون جميع هذه الفصول نزلت دفعة واحدة إذ من المحتمل أن تكون نزلت متتابعة أو شيئا بعد شيء ثم وضعت في ترتيب وسياق واحد للتناسب أو التقارب. ولا يمنع هذا أن يكون شيء مما ذكرته الرواية المروية في صدد الآيات [٢٦٧ و ٢٧٢ و ٢٧٤] كان يقع في ظروف نزول الآيات فاحتوت الآيات تنبيهات ومواعظ في صددها.
ولقد احتوت الآيات من بليغ التلقينات وجليل المواعظ والتوجيهات ما بلغ الذروة العليا التي لا يطاولها شيء في بابها والتي تظل عنوانا خالدا من عناوين التلقينات القرآنية الخالدة سواء أفي التنبيه والتشديد على تقبيح المن والأذى وتفضيل الكلمة الطيبة على الصدقة التي يرافقها منّ وأذى، أم في إيجاب الإنفاق من الطيب الحلال دون الخبيث. والتنبيه على أن الله هو الذي ييسر للناس ما ينالونه من رزق، فهو ماله وعليهم أن ينفقوا الطيب الحلال منه، أم في الحث
الشديد على الإنفاق في سبيل الله أولا وعلى الفقراء إطلاقا في أي وقت وحال ثانيا، وبقطع النظر عن الجنس والدين لأن المتصدق إنما يتصدق قربة عن نفسه وابتغاء وجه الله وأن الهدى الله فلا ينبغي أن يضيع الفقير ويحرم لمجرد أن دينه غير دين الغني، أم في التنبيه على فضل إخفاء الصدقات لتكون خالصة لوجه الله غير مؤذية وجارحة للمتصدق عليه، أم في التنبيه على أن الامتناع عن التصدق هو من وساوس الشيطان وتخويفه صاحب المال من الفقر مع أن الله يعد المتصدقين المغفرة وزيادة الفضل، أم في وجوب الاهتمام للفقراء الذين يتعففون عن السؤال أو الذين يمنعهم حبسهم أنفسهم على سبيل الله ومصلحة المسلمين أو حبس الظروف القاهرة لهم عن التكسب وضمان رزقهم، أم في التنبيه على أن التزام وصايا الله هو من الحكمة البليغة التي يجب أن يتذكرها ويعمل بها ذوو العقول النيرة والقلوب السليمة، أم في التنبيه على أن المنحرفين منها هم الظالمون لأنفسهم الذين لا يمكن أن ينصرهم الله أم في التشويق العظيم المنطوي في وعد الله عز وجل بمضاعفة أجر ما ينفقه المسلم أضعافا مضاعفة.
وإذا لوحظ أن في القرآن المكي والمدني آيات كثيرة أخرى في الحضّ على الإنفاق في سبيل الله والتصدق على الفقراء والمساكين والتنويه بمن يفعل ذلك والتنديد بمن يقصر في ذلك مما مرّت أمثلة كثيرة في السور التي سبق تفسيرها وما يأتي في سور آتية يظهر عظم عناية حكمة التنزيل بهذين الأمرين الخطيرين من حيث إن الأول هو سبيل قوة الإسلام والمسلمين ودفع العدوان عنهما وضمان عزتهما وحريتهما والدعوة إلى الدين الإسلامي ومبادئه وما يؤدي ذلك إليه من انتشار هذا الدين الذي رسخه الله ليظهر على الدين كله وكل هذا منطو في تعبير سَبِيلِ اللَّهِ ومن حيث أن الثاني هو سبيل سد حاجة المعوزين من المسلمين الذين يؤلفون طوائف كبيرة جدا في كل مجتمع وإيجاب ذلك على الميسورين الذين هم الأقلية حتى لا تتعطل الدعوة إلى الإسلام ولا يتعرض المسلمون للأخطار والعدوان وحتى تخف المرارة في نفوس تلك الطوائف ضد الأقلية الموسرة ويتفادى بذلك اضطراب المجتمع الإسلامي.
وإذا لوحظ أن القرآن قرر في هذه الآيات وأمثالها مما سبق تفسيره وما يأتي في سور أخرى أن ما في أيدي أصحاب الأموال من أموال هي أموال الله وأنه إنما جعلهم مستخلفين فيها وأنه هو الذي رزقهم بها ويسرها لهم بدا جانب آخر من روعة التلقين القرآني فيه تخفيف لوقع الإنفاق والأمر به على النفوس وإيذان للأغنياء بأنهم ليسوا إلا وكلاء على مال الله فيجب عليهم أن يطيعوا أمر صاحبه وينفقوه فيما يأمرهم به، وبأنهم ليس لهم حقّ في المنّ على من يعطونه إياه من عباد الله وأذيتهم بسبب ذلك.
ولقد روى المفسرون في سياق آيات هذه السلسلة أحاديث نبوية عديدة فيها هي الأخرى توجيهات وتلقينات بليغة المدى متسقة مع توجيهات الآيات وتلقيناتها وتوضيح لما سكت عنه القرآن. ومن هذه الأحاديث ما ورد في الكتب الخمسة المعتبرة ومنها ما ورد في كتب ومساند أئمة آخرين. من ذلك حديث رواه الطبري في صيغ عديدة ومن طرق مختلفة في سياق الآية [٢٦٨] عن عبد الله قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ للشيطان لمّة من ابن آدم وللملك لمّة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشرّ وتكذيب بالحقّ. وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله وليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ثم قرأ الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) «١».
ومن ذلك حديث أورده ابن كثير في صدد الآية [٢٦٣] برواية مسلم عن أبي ذرّ قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم: المنّان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفّق سلعته بالحلف الكاذب» «٢». وحديث آخر في صدد الآية أورده ابن كثير بإخراج ابن مردويه جاء فيه: «لا يدخل الجنّة منّان» وأورد ابن كثير في صدد الآية [٢٧٠]
(٢) انظر هذا الحديث في التاج ٢ ص ٣٩ و ٤٠ وانظر هذا الحديث في التاج ج ٣ ص ٤٠. [.....]
حديثا رواه الشيخان أيضا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء فيه: «سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه منهم رجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفقه يمينه» «١». وأورد ابن كثير في سياق الآية [٢٧٣] حديثا عن سعد بن أبي وقاص قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت درجة أو رفعة». وأورد ابن كثير في سياق الآية [٢٦٨] حديثا رواه البزار عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الرجل ليتصدق بالصدقة من الكسب الطيّب ولا يقبل الله إلا الطيب فيتلقاها الرحمن تبارك وتعالى بيده فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو وصيفه أو فصيله» «٢». وحديثا آخر رواه البزار جاء فيه: «إن الخبيث لا يكفّر الخبيث ولكن الطيب يكفّر الخبيث» «٣». وهناك أحاديث يرويها المفسرون في صدد التنديد بالإلحاح والإلحاف في السؤال وفي سياق ما جاء في الآية [٢٧٣] من التنويه بالذين لا يسألون الناس إلحافا منها حديثان أوردهما الطبري عن قتادة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول إن الله يحبّ المتعفّف ويبغض السائل الملحف» و «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: يقول الله تعالى كره لكم ثلاثا: قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال».
وفي كتب التفسير أحاديث أخرى من باب بما أوردناه فاكتفينا بما أوردناه.
وهناك أحاديث أخرى في تعريف المسكين ومن تحلّ عليه الصدقة ومن يحلّ له السؤال أجلنا إيرادها إلى تفسير آية مصارف الصدقات في سورة التوبة لأنها أكثر ملاءمة. وهناك أحاديث كثيرة في الإنفاق ووعد الله بالإخلاف على المنفقين أوردنا طائفة منها في سياق تفسير الآية [٣٩] من سورة سبأ فلم نر ضرورة لإيرادها ثانية في مناسبة ما في الآيات من حثّ على الإنفاق وتنويه بالمنفقين واكتفينا بهذا التذكير. وبمناسبة التنديد بالذين ينفقون أموالهم رئاء الناس الوارد في الآية [٢٦٤] نذكر أننا أوردنا طائفة من الأحاديث في ذلك في سياق تفسير سورة الماعون ونكتفي بهذا التذكير دون إيرادها ثانية.
(٢) انظر هذين الحديثين في مجمع الزوائد ج ٣ ص ١١٢.
(٣) انظر هذين الحديثين في مجمع الزوائد ج ٣ ص ١١٢.