
قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ... ﴾.
قال (الزمخشري) : الإشارة إلى جماعة الرسل التي ذكرت فقط في السّورة، أو التي (ثبت) علمها عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال ابن عرفة: بل الإشارة إلى ما قبله يليه وهي الرسل المفهومة من قوله ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين﴾ قال ابن عرفة: فهذا التفضيل إما مطلقا / أي بعضهم أفضل من بعض (مطلقا)، أو من وجه دون وجه، فبعضهم أفضل من بعض في شيء والمفضول في ذلك أفضل من الفاضل في شيء آخر، فهل هو كالأعم مطلقا أو كالأعم من وجه دون وجه، والظاهر الأول. وما ورد في الحديث: «لا تفضلوني على موسى ولا ينبغي لأحد أن يقول: أنا أفضل من يونس بن متى» فلا يعارض هذا لأن الآية اقتضت تفضيل بعضهم على بعض من غير تعيين الفاضل من المفضول.
قيل له: معلوم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أفضل الخلق؟
(فقال) : بان ذلك يعتقده (الإنسان) ولا يقوله بمحضر الكفار لئلا يقعوا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بتنقيص (فيتركه) سدّا للذريعة، أو يجاب بأنه تواضع من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قاله الغزالي كقوله: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر».
وأجاب القاضي عياض في الإكمال عن معارضة حديث نوح
لحديث «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» وحديث «لا

تفضلوا بين الأنبياء» مع حديث «أنا سيد ولد آدم ولا فخر».
أحدها أن يكون قبل إعلام الله له أنه أفضل ولد آدم أو يكون على طريق الأدب والتواضع، أو المراد: لا تفضّلوا بينهم في النبوة وإنّما تفضيلهم بخصائص خص الله بها بعضهم كما قال ﴿فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ الله﴾ الآية.
قيل لابن عرفة: (إنّ) ابن عطية أخطأ في قوله هنا لأن يونس عليه السلام كان شابا وتشيخ تحت أعباء النبوة؟
فقال: لا شيء في مثل هذا.
قال ابن عرفة: وكون بعض الرسل أوتي ما لم يؤته النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (لا ينافي كون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) أفضل الخلق لأن المفضول قد يختص بفضيلة هي ليست في الفاضل كما قالوا: إن (أفضل) الصحابة أبو بكر مع أن لبعضهم من الخصوصيات ما ليست في أبي بكر، وكذلك كون عيسى (اختص) بإحياء الموتى وموسى بالكلام لا ينافي كون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أفضل منهم، وكذلك قوله في سورة النجم ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى﴾ وتكليم الله للرسل ليس بمعجزة، وكذلك رفع الدرجات مشترك بينهم، فلذلك لم يسنده إلى معين (ولما كان إيتاء البينات والتأييد خاصا بروح القدس أسنده إلى عيسى.
والكلام هنا المراد به) كلام الرحمة.

فإن قلت: وكل رسول أيّد بروح القدس وهو جبريل؟
قلت: عيسى اختص من ذلك بقدر زائد من صغره إلى كبره لتكونه من نفخ جبريل عليه السلام في فرج مريم وتكلّمه في المهد.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات... ﴾.
قال الزمخشري: مشيئته قَصْدٌ وَإلجاءٌ لأنّ العبد عنده يستقل بفعله وفعله بإرادته فيقول: إنّه لا تتعلق إرادة الله تعالى بذلك الفعل.
قال ابن عرفة: وفي هذه الآية عندي حجة لمن يقول: إنّ العدم الإضافي تتعلق به القدرة لأن المعنى: ولو شاء الله عدم اقتتالهم.
فقيل له: فرق بين الإرادة والقدرة؟
فقال: قد تقدم الخلاف في الإرادة هل هي مؤثرة أو لا؟ والصحيح أنه اختلاف لفظي (وأنَّه) خلاف في حال. فإن كان المقصود بها الإبراز من العدم إلى الوجود فليست مؤثرة، إن أريد به كون الشيء على صفة مخصوصة فهي مؤثرة، وإذا كانت مؤثرة فيه كالقدرة وقد تعلقت هنا بالعدم.
قال (السكاكي) : ومفعول (شاء) (لا يحذف) إلا إذا كان (عدما) أو أريد به العموم.

قوله تعالى: ﴿فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا... ﴾.
قدم المؤمن لشرفه وإلاّ فالكافر أكثر وأسبق وجودا.
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله﴾ إما تأكيد، أو المراد بالأول جميع الخلق. (والمراد) بهذا المؤمنون.
قوله تعالى: ﴿ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾.
صريح في مذهب أهل السنة وهو ينعكس بنفسه، فكل مراد مفعول لقوله ( ﴿ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾. وكل مفعول مراد). ولقوله: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا﴾ فدل على أنه أراد اقتتالهم إذ لو لم يرده لما وقع. انتهى.