آيات من القرآن الكريم

۞ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ۚ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ۗ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَفحلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) الإشارة هنا إلى جماعة الرسل الحاضرة في ذهن التالي للقرآن الكريم، المستقرة في وعيه بما ختمت به الآيات

صفحة رقم 917

السابقة، وهو قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ). والإشارة باللفظ الدال على البعيد، لبيان علو منزلتهم أجمعين، وأنهم المصطفون الاخيار، وأنهم مهما تتفاوت منازلهم في رسالاتهم، هم جميعًا ليسوا كسائر الناس، فلهم شرف البعث والرسالة والاصطفاء.
والتفضيل مشتق من الفضل وهو الزيادة؛ فمعنى (فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) هو كقوله تعالى: (وَلَقَدْ فَضلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ...)، أي جعلنا لبعضهم زيادة في بعض النواحي على البعض الآخر. والفضل هنا إضافي وليس بذاتي؛ أي أن هذا ليس من ذات الرسل، إنما هو بما يختص الله بعضهم من معجزات مغايرة لمعجزات الآخرين. ثم التفضيل إضافي لأنه يكون في ناحية من النواحي، وقد يكون هناك ناحية أخرى فَضَل بها المفضول غيره، فموسى فَضَل على عيسى بأنه كلمه الله، وعيسى فُضل على موسى بأنه أحيا الموتى؛ فالتفضيل إذن إضافي في موضوعه، وفي نوعه، وفي نواحيه.
وإن تفسير التفضيل على ذلك النحو فيه توفيق بين الآيات الكريمات المثبتة للتفضيل بين الرسل وبين ما ورد عن النبي - ﷺ - من النهي عن التخيير بين الأنبياء.
فقد روى الأئمة الثقات أن النبي - ﷺ -قال " " لا تخيروا بين الأنبياء " (١) " ولا تفضلوا بين أنبياء الله " (٢) وفوق ذلك فإن النهي عن أن يجري على ألسنة الناس تفضيل نبي بذاته على نبي آخر فتكون المشادة والملاحاة. وروى في الصحيحين عن أبي هريرة قال: " استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود، فقال اليهودي؛ والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده فلطم بها وجه اليهودي وقال: أيْ خبيث! وعلى محمد - ﷺ -؟! فاشتكى المسلم، فقال - ﷺ -: " لا تفضِّلوني على الأنبياء " (٣).
_________
(١) متفق عليه؛ رواه البخاري (٥ ٠ ٦٤): الديات - إذا لطم المسلم يهوديا عند الغضب، ومسلم (٤٣٧٨): الفضائل - من فضائل موسى عليه السلام، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه.
(٢) رواه البخاري: أحاديث الأنبياء (٣١٦٢)، ومسلم: الفضائل (٤٣٧٦).
(٣) راجع السابق، وبهذا اللفظ رواه البخاري (٢٢٣٥): الخصومات - ما يكون في الإشخاص والخصومة، عَنْ أبي سعيد الخدري رَضِي اللَّهُ عَنْهُ.

صفحة رقم 918

والنهي عن التفضيل منعا للمماراة لَا ينفي حقيقة التفضيل المقررة، كما أن النهي عن سب الأوثان لَا يثبت أنها واجبة الاحترام، إذ النهي لسد الذريعة، فلا يمنع ثبوت الحقيقة.
وإن هذه الآية الكريمة سيقت لبيان فضل بعض النبيين على بعض لكيلا يندفع بعض الناس إلى الجحود، فيقولوا: إننا نتبع النبي موسى أو عيسى دون محمد، وما داموا جميعًا أنبياء فأيهم نتبع يكون في اتباعه النجاة؛ فبين سبحانه أنه فضل بعض الرسل على بعض في الشريعة والزمان، فجعل محمدًا شريعته عامة ناسخة لما عداها، ورسالته للناس كافة، وهو خاتم النبيين، وذلك من فضل الله؛ كما أن من فضله أنه كلم موسى تكليمًا، ومن فضله أن جعل عيسى يحي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخبر الناس بما في بيوتهم، فليس لأحد أن يرفض شريعة محمد لأنه اختار شريعة عيسى، إذ إن من فضل الله الذي اختص به محمداً - ﷺ - أن جعل شريعته ناسخة لغيرها؛ لأنها آخر الشرائع، ولان محمدًا خاتم النبيين، ورسالته عامة شاملة للناس كافة، وكانت رحمة للعاملين.
(مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) في هذه الجملة السامية من الآية الكريمة بيان لبعض وجوه التفضيل التي اختص الله سبحانه وتعالى بها بعض النبيين، وهي في الحقيقة وجوه للتفضيل لا تتصل بأشخاصهم، بل تتصل برسالاتهم، وما تؤيده هذه المعجزات من شرائع، ومن تخاطبهم من أقوام تكون تلك المعجزات مناسبة لهم.
وفى هذه الجمل ذكر الله نبيين من أولي العزم من الرسل، وأشار إلى ثالث:
فأما الأول فهو موسى؛ قد أشير إليه بما يشبه النص بقوله: (مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ) فإن ذلك هو موسى عليه السلام، فقد قال سبحانه وتعالى في شأن موسى عليه السلام: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)، وقال سبحانه: (يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي...)، وقال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا).

صفحة رقم 919

فهذه الآيات الكريمات تدل على أن الله سبحانه وتعالى قد اختص موسى عليه السلام بكلامه، وهو إحدى طرق اتصال رب العالمين بالمبعوث من خلقه، فقد قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يرْسِلَ رَسولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)، وكلام الله سبحانه وتعالى مع موسى كان من النوع الثاني، وهو الكلام من وراء حجاب.
وكان خطاب الله سبحانه وتعالى بتكليمه من وراء حجاب مناسبًا لأقوام موسى، لأنهم قد غلبت عليهم المادية، وغلب عليهم الجحود وإنكار الألوهية لرب السماوات والأرض، حتى لقد قالوا: (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً...)، فكان المناسب لمثل هؤلاء الأقوام أن يكون كلام الله للمبعوث إليهم مباشرة ولا يكون وحيًا يوحى، ولا برسول من الملائكة يرسله إليه، فما كان ذلك تشريفًا فقط لموسى، بل كان مع ذلك التشريف مقصد يتفق مع حكمة الله سبحانه وتعالى، وهو العلي الحكيم.
وليس معنى ذلك الاختصاص أن الله سبحانه وتعالى قد رفع الله به موسى عليه السلام على كل الرسل، بل إن الله سبحانه رفع بعض الأنبياء درجات، وإن لم يكن لهم ذلك الاختصاص؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يرفع ويخفض، وهو الذي يختص برحمته واصطفائه من يشاء، ولذلك قال سبحانه وتعالى بعد ذكر تكليم الله لبعض رسله (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) فقرن هذه بكلام موسى لتدل على أن التكليم وإن كان شرفا عظيما لَا يقتضي أن يكون الملك فوق الأنبياء منزلة، بل إن بعض من لم يكلمه الله رفعه الله درجات.
والدرجات جمع درجة، وهي المنزلة الرفعية السامية، وفي التعبير بالجمع إشارة إلى علو المنزلة، وكبر التفاوت بينه وبين غيره ممن لم يؤت ما آتاه الله، وما نيط به من تكليف هو عين التشريف.
وإن الله سبحانه قد ذكر أنه رفع مقام بعض النبيين؛ فقد ذكر عن إدريس عليه السلام أنه رفعه مكانا عليا، فقال سبحانه: (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا)،

صفحة رقم 920

ولكن الرفع إلى مكان على غير الرفع درجات؛ لأن الرفع درجات يدل على التفاوت بينه وبين غيره كما قال تعالى في حقوق الرجال والنساء: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ...)، أما الرفع إلى مكان علِيٍّ فلا يدل على هذا التفاوت.
وإن ذلك الارتفاع درجات عن النبيين كان لنبينا محمد - ﷺ -، فهو ذو الدرجات الرفيعة؛ لمعجزته الباقية إلى يوم القيامة، ولشريعته الخالدة، ولعموم رسالته، ولأن أمته الآخذة بشرعه المتبعة له حقا وصدقا خير أمة أخرجت للناس.
ولقد قال الزمخشري في ذلك المقام ما نصه: " الظاهر أنه أراد محمدا - ﷺ -؛ لأنه هو المفضل عليهم، حيث أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة.. ولو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلا منيفا على سائر ما أوتي الأنبياء؛ لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات. وفي هذا الإبهام - (أي أنه لم يذكر اسم محمد) من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لَا يخفى؛ لما فيه من الشهادة على أنه العَلَم الذي لَا يشتبه، والمتميز الذي لَا يلتبس، ويقال للرجل من فعل هذا؟ فيقال أحدكم أو بعضكم، يريد به الذي تعورف واشتهر بنحوه من الأفعال، فيكون أفخم من التصريح به، وأنوه بصاحبه. وسئل الحطيئة عن أشعر الناس فذكر زهيرا والنابغة، ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث، أراد نفسه، ولو قال: ولو شئت لذكرت نفسي لم يفخم أمره ".
وإن القرآن الكريم قد جاء فيه ما يدل على رفعة محمد - ﷺ - درجات بشريعته، فقد كانت شريعته رحمة للعالمين كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا...)، ورفعه سبحانه بمعجزته الكبرى وهي القرآن، فقد قال فيه سبحانه: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِل إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم...) ولقد قال - ﷺ -: " بُعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم، وأعطيت الشفاعة " (١).
________
(١) رواه أحمد في مسنده (١٣٧٤٥). ورواه البخاري (٤١٩) ومسلم (٨١٠).

صفحة رقم 921

بعد أن أشار سبحانه إلى علو منزلة النبي - ﷺ -، ذكر ما اختص به عيسى عليه السلام من فضل فقال: (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) وكان ذكر فضل النبي - ﷺ - بين فضل النبيين قبله للمسارعة إلى أنه مهما يكن ما اختص كل واحد منهما من معجزات ترفعه فمقامه ليس أعلى من مقام النبي - ﷺ -، بل للنبي فوق ذلك درجات.
ذكر الله سبحانه ما اختص به عيسى من فضل (وَآتَيْنَا) أي أعطينا (عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ) أي المعجزات المبينة لصدق رسالته، من إحياء للموتى، وإبراء للأكمه والأبرص، وتصوير للطين كهيئة الطير، ثم يصير طيرًا بإذن الله، وإخبارهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، وغير ذلك مما يدل على علو روحي، وأنه مؤيد من رب العالمين، وقال سبحانه في فضله أيضا: (وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) والقدس أصل معناه الطهارة، وهو يطلق على الطهارة المعنوية، وروح القدس الذي أيد الله به عيسى عليه السلام هو جبريل الأمين، وهو في عبارات الإسلام وفي لغة القرآن يطلق عليه؛ فقد قال تعالى: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ...)، أي أن القرآن الكريم نزل به الروح القدس الأمين، ولذا قال سبحانه في آية أخرى (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِين عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ). وقد قيل إن روح القدس هو الإنجيل؛ وذلك لَا يختلف في الجملة عن سابقه، إذ إن جبريل هو الذي نزل بالإنجيل والتأييد بروح المقدس حينئذ يكون مقصورا على نزول الإنجيل، ولكن إطلاق العبارة في التأييد يشمل نزول جبريل بالإنجيل وتأييده بغير ذلك، فتفسير روح القدس بالإنجيل تفسير يؤدي إلى تأييد جزئي، أما تفسيره بجبريل الأمين فهو تفسير يؤدي إلى تأييد أوسع شمولا.
ولماذا خص سيدنا عيسى عليه السلام بأنه مؤيد بالروح القدس وهو جبريل، مع أن أكثر النبيين كانوا مؤيدين بنزول الشرائع من الله عليهم عن طريق جبريل؟ والجواب عن ذلك أن السيد المسيح عليه السلام لم يكن محاربا لخصومه، بل عاش حياته كلها بين خصومه وأعدائه الذين يتربصون به الدوائر، من رومان ووثنيين

صفحة رقم 922

ويهود ماديين، ولم يؤذن له في القتال، حتى يتولى حماية نفسه بسيفه وسيوف أنصار الحق معه، كالشأن بالنسبة لموسى وداود وسليمان، ومحمد - صلى الله عليهم وسلم -، فكان يتولى حمايته رب العالمين بملائكته الأطهار والأمين جبريل يعاونه، ولعله هو الذي أنقذه من بني إسرائيل وقد بسطوا أيديهم لقتله، وأغروا به الرومان ليقتلوه، فرفعه الله سبحانه وتعالى إليه.
(وَلَوْ شَاءَ اللَّه مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ) أرسل الله سبحانه وتعالى رسله، وخص كل رسول بمعجزات قاطعة من شأنها أن تهدي إلى الصراط المستقيم إن استقامت الفطرة، ولم تنحرف العقول، ولم يطمس على القلوب؛ ولكن الدليل وحده لَا يهدي، بل لابد من نفوس متقبلة، واتجاه لطلب الحق اتجاها مستقيما، ولذلك لم يكن الناس متفقين في تلقي ما جاء به الرسل بل كان منهم من غلبت عليه شقوته، فحارب الحق وحارب النبيين معه، ومنهم من آمن واهتدى، فكانت المغالبة بين الحق والباطل، والهداية والضلالة، وكان الاقتتال بين أنصار الحق، وأنصار الباطل، وبين الضالين والمهتدين؛ لَا يترك الضالون الحق يسير في مجراه، ويصل في القلوب إلى منتهاه، بل يقاومونه، وينزلون الأذى بأهله.
وهنا يتساءل العقل البشرى: لماذا لم يكن الناس جميعا على شرع سواء؛ ولماذا لم يكن الناس جميعا على الهداية؛ فبين سبحانه وتعالى أن تلك مشيئته، وهذا هو التكوين الذي كون الخلق عليه، ولذا قال سبحانه وتعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِم)، أي لو شاء ألا يقتتل الذين جاءوا من بعد الرسل ما اقتتلوا، فالمفعول للفعل شاء محذوف دل عليه جواب الشرط؛ والمعنى أن الذين جاءوا من بعد الرسل بعد أن بين لهم الرسل المحجة الواضحة البيضاء التي لَا يضل فيها سالك، قد اقتتلوا حولها ما بين مؤيد لها، ومعاند كافر بها، ولو شاء الله سبحانه ألا يكون في كل نفس استعداد للطاعة، واستعداد للعصيان، ونزوع إلى الشر، واتجاه إلى الخير، كما قال تعالى في تكوين الإنسان: (وَهَدَيْنَاة النَّجْدَيْنِ).

صفحة رقم 923

أي خلقناه وفي نفسه استعداد للسير في نجد الخير، واستعداد للسير في نجد الشر، وكما قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨).
وإذا كانت النفوس كذلك، فمنهم من يغلب عليه الخير فيطلب الحق ويهتدي به، ومنهم من يغلب عليه الشر فيعرض عن الخير فيطلب الحق ويهتدي به، ومنهم من يغلب عليه الشر فيعرض عن الخير وينأى بجانبه، فالأولون يؤمنون بما جاء به الرسل، والآخرون يكفرون بالحق الذي جاءوا به، ولذا قال سبحانه بعد ذلك: (وَلَكِنِ اخْتَلَفوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ) أي اختلفوا في النفوس والعقول والمدارك، واستقامة الفطرة وانحرافها؛ فترتب على ذلك أن كان منهم من آمن لانَ قلبه يتجه إلى الحق اتجاها مستقيما، ومنهم من كفر لأن قلبه عميَ عن إدراك الحق، واستولت عليه النزعات المردية، فاتخذ إلهه هواه.
وهنا إشارات بيانية من أسرار إعجاز القرآن، فلنذكر بعضها مما أدركته مداركنا:
- ومن هذه الإشارات البيانية الرائعة، أن الله سبحانه وتعالى ذكر المسبب قبل أن يذكر السبب، لأن الاختلاف في الإيمان هو سبب الاقتتال، فذكر الله سبحانه وتعالى أولاً الاقتتال الذي هو النتيجة لهذا الاختلاف، للإشارة إلى بيان أسوأ أحوال الاختلاف، ليبين للناس ما يتعرض له الدعاة إلى الحق من تعرضهم للقتل والقتال، وللإشارة إلى أنه سبحانه وتعالى قادر على إزالة الاقتتال في ذاته حتى مع وجود أسبابه؛ فالله سبحانه وتعالى لَا يتقيد بالأسباب والمسببات، لأنه سبحانه وتعالى خالق الأسباب والمسببات، وهو الرابط بين الأشياء ونتائجها، وليقرن سبحانه وتعالى أسوأ النتائج بخير المقدمات، فيتبين الناس مقدار ضلال العقل البشرى إن انحرف عن فطرته.
- ومن الإشارات البيانية قوله تعالى: (مِّنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ)، ففي ذلك بيان مقدار ما في حيز الإنسان من حب المنازعة، وما استقر في ثنايا الإنسان من تنازع بين الخير والشر في أنفس الآحاد وأنفس الجماعات؛ لأن ذلك الاقتتال بعد

صفحة رقم 924

أن جاءتهم البينات أي الأدلة الواضحة المعلنة للحق الكاشفة له، فليس اقتتالهم عن جهالة، بل هو بعد أن تبين الحق ووضحت معالمه؛ وذلك لأن الهوى يعمي، والأعمى لَا يبصر ولو كانت الشمس مشرقة.
- الإشارة الثالثة: الاستدراك في قوله تعالى: (وَلَكِنِ اخْتَلَفوا) فإن هذا الاستدراك يشير إلى أمرين:
أحدهما: أن الله سبحانه وتعالى لم يشأ أن يزيل القتال؛ لأنه سبحانه وتعالى خلق الناس مختلفي المنازع، منهم من يتقبل الحق ويصغي فؤاده إليه، ومنهم من يعرضون عنه (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ ورسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ منْهم مُّعْرِضونَ).
الأمر الثاني الذي دل عليه هذا الاستدراك: أن مجيء البينات المعلنة الكاشفة كانت توجب أن يكونوا جميعًا مجيبين، ولكنهم كانوا مختلفين، فالناس ليسوا سواء.
(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) الاقتتال خالد إلى يوم القيامة، لأن الله سبحانه وتعالى قال لآدم وزوجه وإبليس: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ...)، وقد كان القتال السابق بسبب الإيمان. والكفر أو بسبب إجابة بعض الناس للأنبياء وجحود الآخرين لرسالات الرسل بعد أن قامت عليها البينات، وثبتت دعوة الحق بالأدلة؛ وهنا يبين بشكل عام أن الله سبحانه لو شاء لمنع الاقتال سواء أكان الاختلاف على غرض من الأغراض، فإن المغالبة في طبيعة الإنسان؛ ذلك أن في الإنسان بطبعه حبًّا للعلو، والمنازع مختلفة، والقوى متباينة، والفرص قد تواتي فريقا، وتناوي فريقا، وإذا اتحدت القوى والفرص فقد يحدث موانع لهذا لا تحدث لذاك، وبهذا يعلو فريق على فريق، فيكون النزاع، ويكون الغلاب ويكون الاصطراع، ويسري ذلك التعالي في كل شيء في السلطان وفي التجارة، وفي الاقتصاد، بل في الذاهب الاجتماعية.
وإذا وجد ذلك الصراع فسيكون من ورائه - إن اشتد - القتال، ولو شاء الله لجعل بني آدم على طبيعة الملائكة لَا يتنازعون، ولا يتقاتلون، ولكن الله الذي خلق

صفحة رقم 925

السماوات والأرض فأتقن كل شيء خلقه، خلق طبيعة الإنسان تتأدى إلى ذلك النوع من المغالبة؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) فإنه لما وجد الاعتراض بقوله تعالى: (وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا) كرر مشيئة الله سبحانه، ليعقبها بقوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ).
ولكنا نميل إلى تعميم الاقتتال بتعدد أسبابه من غير نظر إلى مجرد الاختلاف
بسبب الإيمان والكفر.
والاستدراك في قوله تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) فيه الإشارة إلى أنه سبحانه لم يشأ منع الاقتتال، بل أراد أن تكون هكذا طبيعة الإنسان، وهو العلي القدير، فعال لما يريد.
* * *

صفحة رقم 926
زهرة التفاسير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن أحمد بن مصطفى بن أحمد المعروف بأبي زهرة
الناشر
دار الفكر العربي
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية