
قوله - عز وجل:
﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾
الآية: (٢٥٣) - سورة البقرة.
إن قيل: على أي وجه تفضيل بعضهم على بعض؟
أبتخصيص بعضهم بمنحة؟ كقولك: " فضلت فلاناً في العطاء؟ أو بالحكم والقول "، كقولك: " فضلت زيداً على عمرو في العلم "؟ قيل: بالأمرين جميعاً، فإن الله تعالى جعل لمن رشحه للنبوة فضائل خصه بها، ابتداء وفضائل هداه إليها ليصيبها، فما خصهم به أن جعل كل واحد في نفسه وأخلاقه معرى من عاهة تشينه، وأيده بأنواع كرامات وزيادة معاون تشرح صدره، وحدد عليه في كل وصايا تسدده، وعاتبه في أذى زلة ظهر منه، فهذا التفضيل الذي جعله ابتداء، وأما تفضيله لهم بالحكم، فعلى حسب ما يظهر من أفعالهم، فمعلوم أنه ليس حظ يونس - عليه الصلاة والسلام - حيث حذر نبينا - عليه الصلاة والسلام أن يكون مثله في الصبر بقوله:
﴿وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾ كحظ الذين حثه على الاقتداء بهم في قوله: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾، فالتفضيل يحصل بالأمرين، وللتفاضل بينهم قال عليه الصلاة والسلام: " فضلت على الأنبياء بست: أوتيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وختم بي النبيون، وأرسلت إلى الناس كافة "..

ولما كانت هذه الأشياء موهبية لا مكتسبة، قال عليه الصلاة والسلام: " أنا سيد ولد آدم ولا فخر " تنبيهاً أن الفخر لا يستحق إلا بالمكسوب دون الموهوب، ونحو هذه الآية في تفضيل بعض الأنبياء على بعض قوله: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾.
وهذا حكم في الملائكة بقوله: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾، وقوله: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ قيل إشارة إلى النبي - ﷺ - الله،
فإن قيل: ولمَ لَمْ يصرح بذكره أو بوصفه، كما فعل بموسى وعيسى؟ قيل: تقدم أن مورد كلام الله تعالى مورد خطاب الناس فيما بينهم، ولما كان المستحسن في بعض المواضع أن يذكر الممدوح المخاطب تعريضاً، فيكون أبلغ من التصريح لما جرى من عادتهم أن مدح المواجهة هجاء، والثناء في الوجه قبيح، وتارة لأن الإطراء قد يدعو إلى الغفلة، وتارة لكون الممدوح بذلك المدح مستغني به عن ذكره كما قال الشاعر:
وإني في بنى ثنائِكَ جاهداً..
وقدْ علمتْ أضعافَ ذاَكَ الْخلائِقُ
كمنْ قَالَ إن الثلجَ أبْيضُ باردُ..
وأنًَّ شهاب النارِ أحمُر حارقُ
وَهَذَا وهَذَاَ بينانِ كلاهُمَا..
لمِنْ هُو رائِي ولمنْ هُو ذَائقُ
وروح القدس إشارة إلى ما خص به عيسى مما كان يحي به الموتى ملكاً، أو قوة، أو اسماً من أسمائه أو علماً، وقد فسر بكل ذلك، وسمي جبريل - عليه السلام - روح القدس، والروح الأمين في قوله: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ﴾ وفي قوله: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ﴾.

إن قيل: على أي وجه قال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ وكيف قال: ﴿وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا﴾ ولفظة ﴿لَكِنِ﴾ هي للتدارك، فما المتدارك ها هنا؟
قيل: ذكر تعالى أنه لو شاء أن لا يقتتلوا الفعل، ولكن أراد ذلك لأنهم اختلفوا، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، فكانت الحكمة تقتضي أن يؤمر المؤمنون بقتال الكافرين، ففي قوله: ﴿وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا﴾ حذف على سبيل الاختصار تقديره " لكن شاء فإنهم اختلفوا، أو الاختلاف كالسبب لتلك المشيئة،
فإن قيل: وما معنى تكرير: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾؟
قيل: أما الأول: فلأنه أمرهم بالاقتتال، لأنهم اختلفوا، وفي الثاني: ذكر أنه لو شاء لم يكن منهم اقتتال على وجه لا بعده ولا قبله، أما لأنه لم يكن يعطيهم القوة أو يميتهم قبل القتال، أو كان يمنعهم بمرض أو بسبب من الأسباب، ويجوز أن يريد بالاقتتال الأول: الاختلاف المؤدي إلى الاقتتال على طريقة ما يقال بين القوم، اقتتال: أي اختلاف يؤدي إلى ذلك، والمعنى لو شاء الله ما اختلفوا وكانوا أمة واحدة، كقوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ وقوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ الآية..
وبالاقتتال الثاني حصول المحاربة بينهم..
إن قيل: ما الفرق بين المشيئة والإرادة؟
قيل: أكثر المتكلمين لم يفرقوا بينهما وإن كانتا في أصل اللغة، وفي الحقيقة مختلفتين وذلك أن المشيئة أصلها من شيء، والشيء اسم للموجود، والمشيئة قصد إلى اتخاذ الشيء، ثم يقال: شاء الله كذا أي أوجده بعد أن لم يكن موجوداً، وقال بعضهم: الشيء والشاء من أصل واحد، وقلب الفعل، واستدل

على ذلك بقولهم: أشياء، وتأخير الهمزة فيه وإن كان أكثر أهل التصريف ينكرون ذلك، لكونها غير مصروفة، ويقولون كان فعلاً كطرفاء، فقلب، فصار على أمعاء، ومن اعتبر هذا الاعتبار بقول الواو والياء، لاعتبار ما عناهما، فكل واحدة منهما يعرض الانقلاب إلى الأخرى على حسب ما يقتضي خفة اللفظ وثقله أو التفريق بين معنيين، وأما الإرادة، فمصدر أراد، أي طلب، وأصله أن يتعدى إلى مفعولين، لكن اقتصر على أحدهما في التعارف، وفي الأصل لا يقال إلا لأن تطلب ممن يصح منه الطلب كالإطلاب، فإن بدل منه هذا الاعتبار في التعارف، وصار لطلب الشيء والحكم بأنه ينبغي أن يفعل أولا يفعل، وإذا استعمل في الله، فهو للحكم دون الطلب، إذ هو تعالى منزه عن الوصف بذلك.
صفحة رقم 519