آيات من القرآن الكريم

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ

(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ من رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ ممَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) لقد خضعوا لقول نبيهم ولحكم الله باختيار طالوت وليا لأمرهم، متوليًا قيادتهم، ولكنه خضوع القلِق المضطرب الذي لم يصب السكون قلبه، فلم تطمئن قلوبهم، فساق الله إليهم آية تدل على سلطان الله، إذ لابد من أمارة تثبت القلوب، وخصوصًا أنهم مقدمون على حرب فيها تشتد الشديدة وتبتلى القلوب، فلابد من نفوس ملتفة حول قائد لَا يرين عليها شيء من الريب، ولا يمسها شيء من ظلمة الشك، بل يكون الخضوع الكامل، والاتحاد الشامل، والتآلف بين الجيش والقائد.
فكانت آية ملك طالوت، أي أمارة سلطانه المتقرر الثابت، أن يأتي هم التابوت فيه سكينة من ربهم. والتابوت على وزن فعلوت، كما قال الزمخشري ورجحه، على اعتبار أنه من تاب بمعنى رجع وآب، لأن نفوسهم كانت تئوب إليه وتثوب، وتسكن وتطمئن، ويرون فيه شارة عزهم، ورمز مجدهم، وصلة حاضرهم بماضيهم. والتابوت الذي ارتبطت به قلوبهم ذلك الارتباط صندوق فيه آثار من آثار آل موسى وآل هارون، وقد فقدوه وقت أن ضربت عليهم الذلة، وأخرجوا من ديارهم، فكانت الذلة مقارنة لذلك الفقد، والعزة مقارنة للبقاء.

صفحة رقم 895

وقد وصف التابوت بأن فيه سكينة أي أن فيه اطمئنانًا لهم، من حيث إنهم يرون في عودته بشرى بالسلطان والعزة والقوة، وقال سبحانه: (سَكِينَةٌ من رَّبِّكُمْ) إشارة إلى أن السكينة والاطمئنان فيض من فيوض الله سبحانه وتعالى يرحم به الناس؛ وإن اقترنت تلك السكينة بأسباب فليست تلك الأسباب العادية هي المؤثرة في وجودها، بل الذي يوجدها هو رب العالمين، ومن حكمته سبحانه أن جعلها مقترنة بتلك الأسباب الدنيوية، وإن كانت غير مؤثرة فيها بالإيجاد، بدليل أنه قد توجد تلك الأسباب ولا توجد معها السكينة، ولا يكون معها الاطمئنان قط، واقتران السكينة والاطمئنان بالأسباب ليطلب الناس الأسباب، ويرجوا الرحمة منه، وكل شيء عند الله بمقدار.
وفى التابوت كما ذكرنا بقية من آل موسى وآل هارون، أي آثارهم، وتلك الآثار هي سبب الاعتزاز به والتيمن واعتباره أمارة عزهم، والصلة بين حاضرهم وماضيهم؛ وفي تقديم السكينة على " بقية " إشارة إلى أن السكينة هي الغاية المطلوبة، والاطمئنان هو الأمر المرغوب، فتلك الآثار ليست في ذاتها الغاية، إنما الغاية هي السكينة، وقد اقترنت بوجودها لتكون علامة ومظهرًا، وإن المؤثر بالإيجاد هو رب العالمين كما ذكرنا.
وهنا يثار بحث: كيف كان إتيان التابوت؟ أجاء بأمر خارق للعادة، أم جاء بأمر عادي، وكان التنبؤ بمجيئه أمارة سلطان طالوت واختيار الله سبحانه له؛ ثم كيف كانت تحمله الملائكة؟ أهو الحمل الحقيقي، أم هي القوة الروحية الغيبية التي كانت بأمر الله تعالى من غير أن تعرف أسبابها ومظاهرها؛ كما ذكر الله سبحانه من أن الله كان يؤيد المسلمين بالملائكة في غزوة بدر، وما كانت إلا القوى الروحية؛ للإجابة عن هذا السؤال نقرر أن الباحثين في المسائل الدينية، والمعنيين بالدراسات القرآنية فريقان:
فريق يتجه إلى تفسيره بما يقرب معانيه من الأسباب العادية، ولا يفسره بالخوارق إلا إذا لم يكن مناص، من غير أن يؤول الألفاظ بما يناقض ظاهرها، ولا يتفق مع أسلوب القرآن ومنهاجه البياني.

صفحة رقم 896

وفريق لَا يحرص على تفسير القرآن بالأسباب العادية، بل يفسره بالخوارق ما دام ظاهره يؤدي إلى ذلك من غير محاولة تقريب؛ لأنه كتاب يتحدث عن الله، والأسباب إنما يقيد بها العباد، والله خالق كل شيء فهو فوق الأسباب والمسببات، وهو الفعال لما يريد، وكل محاولة لتقريب الألفاظ التي يدل ظاهرها على خرف للعادات إنما هو لتحكيم الأسباب العادية في الإرادة الإلهية، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
ولقد كانت العبارة السامية (إِنَّ آيَةَ مُلْكه أَن يَأتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ من رَّبِّكمْ وَبَقِيَّةٌ ممَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائَكًةُ) هذه العبارة الكريمة موضع نظر أولئك الباحثين على اختلاف منهاجهم، فالذين لَا يحكمون العبارات بالأسباب العادية قالوا: إنه قد أتاهم التابوت تحمله الملائكة حقًّا، وإن كان هذا بطريقة لم يفصلها القرآن، فهي واضحة الدلالة بينة المعنى؛ ويرشحون قولهم بأن الآية الإلهية التي تدل على اختيار طالوت يجب أن تكون أمرًا خارقًا للعادة، لتكون الدلالة على اصطفاء الله له قائدًا ومدبرًا واضحة بينة، فالملائكة حملته حقًّا، وهم جنود الله الذين لَا نراهم وإن كنا نؤمن بهم.
والفريق الثاني الذي يفسر القرآن بالأسباب العادية ما وسعت العبارات ذلك قالوا: إن التابوت قد جاء إلى بني إسرائيل إما بأنهم عثروا عليه، وقد غيب عنهم أمدًا طويلا من غير أن يعلموا له مكانًا، والآية هي إخبار نبيهم لهم بذلك قبل وقوعه، وحمل الملائكة له هو بالقوة الروحية التي وفقتهم له بعد طول فقدهم كالقوى الروحية التي أيدت المسلمين في غزوة بدر وغيرها من الغزوات الإسلامية.
وإما أن يقال: إن إعادة التابوت في جولات الحرب التي كللت بالانتصار هي العلامة على إمرةِ طالوت التي كانت باختيار إلهي، وأمر لدني؛ والمعنى على ذلك: إن آية ملكه وأمارته أنه سيقودكم إلى مواطن الظفر ومواضع الفخار وستعود إليكم في حروبه شارة عزتكم، وأمارة مجدكم التليد، وعزكم الغابر وهي التابوت، وإنه سيعود إليكم مكرمًا معززًا تحمله ملائكة الله، والقوى الروحية. وفي هذا إشارة إلى أن أمارة السلطان العمل المنتج المثمر.

صفحة رقم 897

وقد أخطأ بعض المفسرين المحدثين، فذكر أنه يحتمل أن المراد من (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) أن التابوت كان في شكل صندوق تحمله تماثيل كانوا يسمونها الملائكة من حيث إنها صورة ملائكة في خيالهم. إن ذلك خطأ مبين، وإن ذكر في التوراة الحاضرة! لأن القرآن الكريم الذي حارب الوثنية وذرائعها لَا يتفق مع منطقه أن تسمى التماثيل ملائكة، ولو كان في ذلك مجاراة لتعبيراتهم، ولا يصح أن يفسر القرآن بما لَا يتفق مع منطقه ويخالف اتجاهاته ومراميه.
(اٍنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤمِنِينَ) ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذه العبارة السامية، لبيان أن عليهم أن يخضعوا لإمرة طالوت بعد أن تبين لهم اختيار الله له، واصطفاؤه؛ والمعنى: إن في عناية الله سبحانه وتعالى بكم، من إعادته التابوت شارة عزكم - لآية لكم وعلامة توجب عليكم أن تخضعوا، ولا تتململوا، ولا تتمردوا إن كنتم مؤمنين. أي إن كان شأنكم أن تؤمنوا بالحق، وتذعنوا إذا علمتموه.
وهذا التخريج على اعتبار أن هذه الجملة السامية من كلام بني إسرائيل لهم، فهي تبين وجوب الطاعة عليهم بعد هذه البينات.
ويحتمل أن الخطاب في هذه الجملة السامية للمؤمنين من أمة محمد - ﷺ -، ويكون المعنى: إن ذلك القصص الحكيم، وتلك العظات البالغة لآية، أي لأمارة تدل على صدق محمد - ﷺ - فيما يدعوكم إليه، وأنه يتحدث عن ربه؛ لأنه وهو النبي الأُميّ الذي لم يقرأ كتابًا، ولم يجلس إلى معلم ولم يلقن أي علم من أي طريق قد ساق إليكم تلك الأخبار الصادقة، فهي آية من آيات نبوته إن كان من شأنكم الإذعان للحق إن بدت آياته وظهرت بيناته.
* * *

صفحة رقم 898
زهرة التفاسير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن أحمد بن مصطفى بن أحمد المعروف بأبي زهرة
الناشر
دار الفكر العربي
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية