
وقال السدي: «إن الله أرسل إلى شمعون عصا وقال له: من دخل عليك من بني إسرائيل فكان على طول هذه العصا فهو ملكهم، فقيس بها بنو إسرائيل فكانت تطولهم حتى مربهم طالوت في بغاء حماره الذي كان يسقي عليه، وكان رجلا سقاء، فدعوه فقاسوه بالعصا فكان مثلها، فقال لهم نبيهم ما قال، ثم إن بني إسرائيل تعنتوا وحادوا عن أمر الله تعالى، وجروا على سننهم فقالوا: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ، أي لأنه ليس في بيت ملك ولا سبقت له فيه سابقة. وَلَمْ يُؤْتَ مالا واسعا يجمع به نفوس الرجال حتى يغلب أهل الأنفة بماله.
قال القاضي أبو محمد: وترك القوم السبب الأقوى وهو قدر الله وقضاؤه السابق، وأنه مالك الملك، فاحتج عليهم نبيهم عليه السلام بالحجة القاطعة، وبيّن لهم مع ذلك تعليل اصطفائه طالوت، وأنه زاده بسطة في العلم وهو ملاك الإنسان، والجسم الذي هو معينه في الحرب وعدته عند اللقاء، قال ابن عباس:
«كان في بني إسرائيل سبطان أحدهما للنبوة والآخر للملك، فلا يبعث نبي إلا من الواحد ولا ملك إلا من الآخر، فلما بعث طالوت من غير ذلك قالوا مقالتهم»، قال مجاهد: معنى الملك في هذه الآية الإمرة على الجيش.
قال القاضي أبو محمد: ولكنهم قلقوا لأن من عادة من تولى الحرب وغلب أن يستمر ملكا، و «اصطفى» افتعل، مأخوذ من الصفوة، وقرأ نافع «بصطة» بالصاد، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «بسطة» بالسين، والجمهور على أن العلم في هذه الآية يراد به العموم في المعارف، وقال بعض المتأولين: المراد علم الحرب، وأما جسمه فقال وهب بن منبه: إن أطول رجل في بني إسرائيل كان يبلغ منكب طالوت.
وَاللَّهُ يُؤْتِي.....
لما علم نبيهم عليه السلام تعنتهم وجدالهم في الحجج تمم كلامه بالقطعي الذي لا اعتراض عليه، وهو قوله: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ، وظاهر اللفظ أنه من قول النبي لهم، وقد ذهب بعض المتأولين إلى أنه من قول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم، والأول أظهر، وأضيف ملك الدنيا إلى الله تعالى، إضافة مملوك إلى مالك، وواسِعٌ معناه وسعت قدرته وعلمه كل شيء، وأما قول النبي لهم: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ فإن الطبري ذهب إلى أن بني إسرائيل تعنتوا وقالوا لنبيهم: وما آية ملك طالوت؟ وذلك على جهة سؤال الدلالة على صدقه في قوله إن الله قد بعث.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٨]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨)
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ويحتمل أن نبيهم قال لهم ذلك على جهة التغبيط والتنبيه على هذه النعمة التي قرنها الله بملك طالوت وجعلها آية له دون أن تعن بنو إسرائيل لتكذيب نبيهم، وهذا عندي أظهر من لفظ الآية، وتأويل الطبري أشبه بأخلاق بني إسرائيل الذميمة، فإنهم أهل تكذيب وتعنت واعوجاج، وقد حكى الطبري معناه عن ابن عباس وابن زيد والسدي.

واختلف المفسرون في كيفية إتيان التَّابُوتُ وكيف كان بدء أمره، فقال وهب بن منبه: كان التابوت عند بني إسرائيل يغلبون به من قاتلهم حتى عصوا فغلبوا على التابوت، وصار التابوت عند القوم الذين غلبوا، فوضعوه في كنيسة لهم فيها أصنام، فكانت الأصنام تصبح منكسة، فجعلوه في قرية قوم فأصاب أولئك القوم أوجاع في أعناقهم، وقيل: جعل في مخراة قوم فكانوا يصيبهم الناسور، فلما عظم بلاؤهم كيف كان، قالوا: ما هذا إلا لهذا التابوت فلنرده إلى بلاد بني إسرائيل، فأخذوا عجلة فجعلوا التابوت عليها وربطوها ببقرتين فأرسلوهما في الأرض نحو بلاد بني إسرائيل، فبعث الله ملائكة تسوق البقرتين حتى دخلتا به على بني إسرائيل، وهم في أمر طالوت، فأيقنوا بالنصر. وهذا هو حمل الملائكة للتابوت في هذه الرواية. وقال قتادة والربيع: بل كان هذا التابوت مما تركه موسى عند يوشع بن نون، فجعله يوشع في البرية، ومرت عليه الدهور حتى جاء وقت طالوت. وكان أمر التابوت مشهورا عندهم في تركة موسى، فجعل الله الإتيان به آية لملك طالوت، وبعث الله ملائكة حملته إلى بني إسرائيل، فيروى أنهم رأوا التابوت في الهواء يأتي حتى نزل بينهم، وروي أن الملائكة جاءت به تحمله حتى جعلته في دار طالوت، فاستوسقت بنو إسرائيل عند ذلك على طالوت، وقال وهب بن منبه: كان قدر التابوت نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين، وقرأ زيد بن ثابت «التابوه»، وهي لغته، والناس على قراءته بالتاء.
قال القاضي أبو محمد: وكثر الرواة في قصص التابوت وصورة حمله بما لم أر لإثباته وجها للين إسناده.
قوله عز وجل:
فِيهِ سَكِينَةٌ...
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: السكينة ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان، وروي عنه أنه قال: هي ريح خجوج ولها رأسان، وقال مجاهد: السكينة لها رأس كرأس الهرة وجناحان وذنب، وقال:
أقبلت السكينة والصرد وجبريل مع إبراهيم من الشام. وقال وهب بن منبه عن بعض علماء بني إسرائيل:
السكينة رأس هرة ميتة كانت إذا صرخت في التابوت بصراخ الهر أيقنوا بالنصر. وقال ابن عباس: السكينة طست من ذهب من الجنة كان يغسل فيه قلوب الأنبياء، وقاله السدي. وقال وهب بن منبه: السكينة روح من الله يتكلم إذا اختلفوا في شيء أخبرهم ببيان ما يريدون. وقال عطاء بن أبي رباح: السكينة ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها. وقال الربيع بن أنس: سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي رحمة من ربكم، وقال قتادة:
سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي وقار لكم من ربكم.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: والصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك وتأنس به وتقوى، فالمعهود أن الله ينصر الحق والأمور الفاضلة عنده، والسكينة على هذا فعيلة مأخوذة من السكون، كما يقال عزم عزيمة وقطع قطيعة.