آيات من القرآن الكريم

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ

(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَلَمَا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمَيْنِ تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَقْتَنِعُوا بِمَا احْتَجَّ بِهِ عَلَيْهِمْ نَبِيُّهُمْ مِنِ اسْتِحْقَاقِ طَالُوتَ الْمُلْكَ بِمَا اخْتَارَهُ اللهُ وَأَعَدَّهُ لَهُ بِاصْطِفَائِهِ، وَإِيتَائِهِ مِنْ سَعَةِ الْعِلْمِ وَبَسْطَةِ الْجِسْمِ مَا يُمَكِّنُهُ مِنَ الْقِيَامِ بِأَعْبَائِهِ، حَتَّى جَعَلَ لِذَلِكَ آيَةً تَدُلُّهُمْ عَلَى الْعِنَايَةِ بِهِ، وَهِيَ عَوْدُ التَّابُوتِ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا التَّابُوتُ الْمُعَرَّفُ: صُنْدُوقٌ لَهُ قِصَّةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ الْيَهُودِ، فَفِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ مَا نَصُّهُ:

صفحة رقم 382

((وَكَلَّمَّ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلًا: كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَأْخُذُوا لِي تَقْدِمَةً مِنْ كُلِّ مَنْ بَحَثَهُ قَلْبُهُ تَأْخُذُونَ تَقْدِمَتِي، وَهَذِهِ هِيَ التَّقْدِمَةُ الَّتِي تَأْخُذُونَهَا مِنْهُمْ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ وَنُحَاسٌ وَأَسْمَانْجُونِي وَأُرْجُونَ وَقِرْمِزٌ وَبُوصٍ وَشَعْرِ مِعْزَى وَجُلُودِ كِبَاشٍ مُحَمَّرَةٍ وَجُلُودِ تَخْسٍ وَخَشَبِ سَنْطٍ وَزَيْتٍ لِلْمَنَارَةِ وَأَطْيَابٍ لِدَهْنِ الْمَسْحَةِ، وَلِلْبَخُورِ الْعِطْرُ، وَحِجَارَةِ جِزْعٍ وَحِجَارَةِ تَرْصِيعٍ لِلرِّدَاءِ وَالصُّدْرَةِ، فَيَصْنَعُونَ لِي مُقَدَّسًا لِأَسْكُنَ فِي وَسَطِهِمْ بِحَسَبِ جَمِيعِ مَا أَنَا أُرِيكَ مِنْ مِثَالِ الْمَسْكَنِ وَمِثَالِ جَمِيعِ آنِيَتِهِ، هَكَذَا تَصْنَعُونَ فَيَصْنَعُونَ تَابُوتًا مِنْ خَشَبِ السَّنْطِ طُولُهُ ذِرَاعَانِ وَنِصْفٌ، وَعَرْضُهُ ذِرَاعٌ وَنِصْفٌ، وَارْتِفَاعُهُ ذِرَاعٌ وَنِصْفٌ. وَتُغَشِّيهِ بِذَهَبٍ نَقِيٍّ، مِنْ دَاخِلٍ وَخَارِجٍ تُغَشِّيهِ، وَتَصْنَعُ عَلَيْهِ إِكْلِيلًا مِنْ ذَهَبٍ حَوَالَيْهِ، وَتَسْبِكُ لَهُ أَرْبَعَ حَلَقَاتٍ مِنْ ذَهَبٍ وَتَجْعَلُهَا عَلَى قَوَائِمِهِ الْأَرْبَعِ، عَلَى جَانِبِهِ الْوَاحِدِ حَلْقَتَانِ وَعَلَى جَانِبِهِ الثَّانِي حَلْقَتَانِ، وَتَصْنَعُ عَصَوَيْنِ مِنْ خَشَبِ السَّنْطِ وَتُغَشِّيهِمَا بِذَهَبٍ، وَتُدْخِلُ الْعَصَوَيْنِ فِي الْحَلَقَاتِ عَلَى جَانِبَيِ التَّابُوتِ لِيُحْمَلَ التَّابُوتُ بِهِمَا، تَبْقَى الْعَصَوَانِ فِي حَلْقَةِ التَّابُوتِ لَا تُنْزَعَانِ مِنْهَا، وَتَضَعُ فِي التَّابُوتِ وَالشَّهَادَةِ الَّتِي أُعْطِيكَ، وَتَصْنَعُ غِطَاءً مَنْ ذَهَبٍ نَقِيٍّ طُولُهُ ذِرَاعَانِ وَنِصْفٌ وَعَرْضُهُ ذِرَاعٌ وَنِصْفٌ، وَتَصْنَعُ كَرُوبَيْنِ مَنْ ذَهَبٍ صَنْعَةَ خِرَاطَةٍ تَصْنَعُهُمَا عَلَى طَرَفَيِ الْغِطَاءِ، فَاصْنَعْ كَرُوبًا وَاحِدًا عَلَى الطَّرَفِ مِنْ هُنَا، وَكَرُوبًا آخَرَ عَلَى الطَّرَفِ مِنْ هُنَاكَ، مِنَ الْغِطَاءِ تَصْنَعُونَ الْكَرُوبَيْنِ عَلَى طَرَفَيْهِ، وَيَكُونُ
الْكَرُوبَانِ بَاسِطَيْنِ أَجْنِحَتَهُمَا إِلَى فَوْقُ، مُظَلِّلَيْنِ بِأَجْنِحَتِهِمَا عَلَى الْغِطَاءِ وَوَجْهَاهُمَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى الْآخَرِ نَحْوَ الْغِطَاءِ يَكُونُ وَجْهَا الْكَرُوبَيْنِ، وَتَجْعَلُ الْغِطَاءَ عَلَى التَّابُوتِ مِنْ فَوْقُ، وَفِي التَّابُوتِ تَضَعُ الشَّهَادَةَ الَّتِي أَنَا أُعْطِيكَ)) اهـ.
هَذَا مَا وَرَدَ فِي صِفَةِ الْأَمْرِ بِصُنْعِ ذَلِكَ التَّابُوتِ الدِّينِيِّ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ كَيْفِيَّةَ صُنْعِ الْمَائِدَةِ الدِّينِيَّةِ وَآنِيَتَهَا وَالْمَسْكَنَ وَالْمَذْبَحَ وَخَيْمَةَ الْعَهْدِ وَمَنَارَةِ السِّرَاجِ وَالثِّيَابِ الْمُقَدَّسَةِ، ثُمَّ فَصَّلَ فِي الْفَصْلِ ٢٧ مِنْهُ كَيْفَ كَانَ صُنْعُ هَذَا التَّابُوتِ وَالْمَائِدَةِ وَالْمَنَارِ وَمَذْبَحِ الْبَخُورِ، وَهِيَ غَرَائِبُ يَعُدُّهَا عُقَلَاءُ هَذِهِ الْعُصُورِ أَلَاعِيبَ، وَالْحِكْمَةُ فِيهَا - وَاللهُ أَعْلَمُ - أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا - وَقَدِ اسْتَعْبَدَهُمْ وَثَنِيُّو الْمِصْرِيِّينَ أَحْقَابًا - قَدْ مَلَكَتْ قُلُوبُهُمْ عَظَمَةُ تِلْكَ الْهَيَاكِلِ الْوَثَنِيَّةِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الزِّينَةِ وَالصَّنْعَةِ الَّتِي تُدْهِشُ النَّاظِرَ، وَتَشْغَلُ الْخَاطِرَ، فَأَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَشْغَلَ قُلُوبَهُمْ عَنْهَا بِمَحْسُوسَاتٍ مِنْ جِنْسِهَا تُنْسَبُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتُذْكَرُ بِهِ، فَالتَّابُوتُ سُمِّيَ أَوَّلًا تَابُوتَ الشَّهَادَةِ; أَيْ: شَهَادَةُ اللهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ تَابُوتَ الرَّبِّ وَتَابُوتَ اللهِ، كَذَلِكَ أُضِيفَ إِلَى اللهِ تَعَالَى كُلُّ شَيْءٍ صُنِعَ لِلْعِبَادَةِ، وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الدِّيَانَةَ لَيْسَتْ دَائِمَةً، فَلَا غَرْوَ إِذَا نَسَخَ الْإِسْلَامُ كُلَّ هَذَا الزُّخْرُفِ وَالصَّنْعَةِ مِنَ الْمَسَاجِدِ الَّتِي يُعْبَدُ فِيهَا اللهُ تَعَالَى حَتَّى لَا يَشْتَغِلَ الْمُصَلِّي عَنْ مُنَاجَاةِ اللهِ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَمَا كَلَّفَهُ ذَلِكَ الشَّعْبُ الَّذِي وَصَفَتْهُ كُتُبُهُ

صفحة رقم 383

الْمُقَدَّسَةُ بِأَنَّهُ صُلْبُ الرَّقَبَةِ أَوْ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ ((عَرِيضُ الْقَفَا)) عَلَى قُرْبِ عَهْدِهِ بِالْوَثَنِيَّةِ وَإِحَاطَةِ الشُّعُوبِ الْوَثَنِيَّةِ بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ لَا يَلِيقُ بِحَالِ الْبَشَرِ فِي طَوْرِ ارْتِقَائِهِمْ; إِذْ لَا يُرَبَّى الرَّجُلُ الْعَاقِلُ بِمِثْلِ مَا يُرَبَّى بِهِ الطِّفْلُ أَوِ الْيَافِعُ، وَفِي سَائِرِ فَصُولِ سِفْرِ الْخُرُوجِ الثَّلَاثَةِ تَفْصِيلٌ لِمَا قَدَّمَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِصُنْعِ تِلْكَ الدَّارِ الَّتِي يُقَدَّسُ فِيهَا اللهُ، وَلِصُنْعِ الْخَيْمَةِ وَالتَّابُوتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَغَرَضُنَا مِنْهَا مَعْرِفَةُ حَقِيقَةِ التَّابُوتِ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّكَ لَتَجِدُ فِي بَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَكُتُبِ الْقَصَصِ عِنْدَنَا أَقْوَالًا غَرِيبَةً عَنْهُ، مِنْهَا أَنَّهُ نَزَلَ مَعَ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَمَنْشَأُ تِلْكَ الْأَقْوَالِ مَا كَانَ يَنْبِذُ بِهِ الْإِسْرَائِيلِيُّونَ مِنَ الْقِصَصِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مُخَادَعَةً لَهُمْ، لِيَكْثُرَ الْكَذِبُ فِي تَفْسِيرِهِمْ لِلْقُرْآنِ فَيَضِلُّوا بِهِ، وَيَجِدُ رُؤَسَاءُ الْيَهُودِ مَجَالًا وَاسِعًا لِلطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ يَصُدُّونَ بِهِ قَوْمَهُمْ عَنْهُ.
وَفِي آخِرِ فَصُولِ سِفْرِ الْخُرُوجِ أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَضَعَ اللَّوْحَيْنِ اللَّذَيْنِ فِيهِمَا شَهَادَةُ اللهِ - أَيْ: وَصَايَاهُ - لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التَّابُوتِ، وَفِي كُتُبِهِمُ الْأُخْرَى أَنَّهُ كَانَ بَعْدَهُ عِنْدَ فَتَاهُ يَشُوعَ - أَيْ: يُوشَعَ - وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَنْصِرُونَ بِهَذَا التَّابُوتِ، فَإِذَا ضَعُفُوا فِي الْقِتَالِ وَجِيءَ بِهِ وَقَدَّمُوهُ تَثُوبُ إِلَيْهِمْ شَجَاعَتُهُمْ، وَيَنْصُرُهُمُ اللهُ تَعَالَى، أَيْ يَنْصُرُهُمْ بِتِلْكَ الشَّجَاعَةِ الَّتِي تَتَجَدَّدُ لَهُمْ بِإِحْضَارِ التَّابُوتِ لَا بِالتَّابُوتِ نَفْسِهِ وَلِذَلِكَ غُلِبُوا عَلَى التَّابُوتِ فَأُخِذَ مِنْهُمْ عِنْدَمَا ضَعُفَ يَقِينُهُمْ وَفَسَدَتْ أَخْلَاقُهُمْ، فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمُ التَّابُوتُ شَيْئًا كَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
أَقُولُ: وَفِي سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ (٣١: ٢٤ - ٣٠) ((أَنَّ مُوسَى لَمَّا كَمَّلَ كِتَابَةَ هَذِهِ التَّوْرَاةِ أَمَرَ اللَّاوِيِّينَ حَامِلِي تَابُوتِ عَهْدِ الرَّبِّ قَائِلًا: خُذُوا كِتَابَ التَّوْرَاةِ هَذَا وَضَعُوهُ بِجَانِبِ تَابُوتِ عَهْدِ الرَّبِّ إِلَهِكُمْ لِيَكُونَ شَاهِدًا عَلَيْكُمْ)).
ثُمَّ كَانَتْ حَرْبٌ بَيْنَ الْفِلَسْطِينِيِّينَ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى عَهْدِ عَالِيَا أَوْ عَالِيَ الْكَاهِنِ، فَانْتَصَرَ الْفِلَسْطِينِيُّونَ وَأَخَذُوا التَّابُوتَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ أَنْ نَكَّلُوا بِهِمْ تَنْكِيلًا فَمَاتَ عَالِي قَهْرًا، وَكَانَ صَمْوَئِيل - الَّذِي يُدْعَى فِي الْكُتُبِ الْعَرَبِيَّةِ شمويلَ - قَاضِيًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِهِ، وَهُوَ نَبِيُّهُمُ الَّذِي طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ مَلِكًا فَفَعَلَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَجَعَلَ رُجُوعَ التَّابُوتِ إِلَيْهِمْ آيَةً لِمُلْكِ طَالُوتَ الَّذِي أَقَامَهُ لَهُمْ، وَقَالُوا فِي سَبَبِ إِتْيَانِ التَّابُوتِ: إِنَّ أَهْلَ فِلَسْطِينَ ابْتُلُوا بَعْدَ أَخْذِ التَّابُوتِ بِالْفِيرَانِ فِي زَرْعِهِمْ وَالْبَوَاسِيرِ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَتَشَاءَمُوا مِنْهُ، وَظَنُّوا أَنَّ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ انْتَقَمَ مِنْهُمْ فَأَعَادُوهُ عَلَى عَجَلَةٍ تَجُرُّهَا بَقَرَتَانِ، وَوَضَعُوا فِيهِ صُوَرَ فِيرَانٍ وَصُوَرَ بَوَاسِيرَ مِنَ الذَّهَبِ جَعَلُوا كَفَّارَةً لِذَنْبِهِمْ.
وَمِنَ الْمُدَوَّنِ فِي التَّارِيخِ الْمُقَدَّسِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَمَّا أَحْرَقَ الْبَابِلِيُّونَ هَيْكَلَ سُلَيْمَانَ فُقِدَتِ التَّوْرَاةُ وَتَابُوتُ الْعَهْدِ مَعًا لِأَنَّهُمَا قَدْ أُحْرِقَا فِيهِ.

صفحة رقم 384

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي التَّابُوتِ: (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ) فَقَدْ كَثُرَتْ فِيهِ الرِّوَايَاتُ، وَمِنْهَا مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نَقْلٌ وَلَا يَقْبَلُهُ عَقْلٌ، عَلَى أَنَّهَا مُتَعَارِضَةٌ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا كَمَا تَرَى فِي تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ وَهُوَ أُمُّ التَّفَاسِيرِ.
وَقَدْ أَوْرَدْنَا مَا أَوْرَدْنَا مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ لِيُعْلَمَ أَنَّ أَكْثَرَ مَا ذُكِرَ عَنِ التَّابُوتِ وَعَمَّا فِيهِ مِنَ الْغَرَائِبِ لَا أَصْلَ لَهُ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ، وَإِنَّمَا وَحْيُ اللهِ تَعَالَى نَاطِقٌ بِأَنَّ فِيهِ سَكِينَةٌ، وَالسَّكِينَةُ فِي اللُّغَةِ مَا تَسْكُنُ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَيَطْمَئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ، وَفِي إِتْيَانِ الصُّنْدُوقِ سَكِينَةٌ لَا تَخْفَى لِمَا كَانَ لَهُ مِنَ الشَّأْنِ الدِّينِيِّ عِنْدَ الْقَوْمِ، أَوْ فِيهِ مَا يُحْدِثُ لَهُمْ سَكِينَةً وَهِيَ الْفِيرَانُ وَالْبَوَاسِيرُ الذَّهَبُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى خَوْفِ الْعَدُوِّ، أَوِ الْأَلْوَاحُ أَوْ رَضَاضَتُهَا، وَهِيَ هِيَ الْبَقِيَّةُ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ، وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ نَحْوُ مَا قُلْنَاهُ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالْحَقِّ فِي مَعْنَى السَّكِينَةِ مَا قَالَهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ مِنْ أَنَّهَا الشَّيْءُ تَسْكُنُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ: (تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ) يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَلَائِكَةِ صُوَرُ الْكَرُوبَيْنِ وَقَدْ حَمَلَ التَّابُوتَ; أَيْ: وُضِعَ عَلَيْهِمَا كَمَا تَقُولُ فِي وَصْفِ الْقُصُورِ وَالتَّمَاثِيلِ الْمَصْنُوعَةِ: فِيهَا فُلَانٌ عَلَى فَرَسٍ مِنْ نُحَاسٍ، تُرِيدُ تِمْثَالَ الْمَلِكِ وَتِمْثَالَ الْفَرَسِ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْبَقَرَتَيْنِ اللَّتَيْنِ حَمَلَتَا التَّابُوتَ مِنْ بَعْضِ بِلَادِ الْفِلَسْطِينِيِّينَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتَا تَسِيرَانِ مُسَخَّرَتَيْنِ بِإِلْهَامِ الْمَلَائِكَةِ، وَفِي كُتُبِ الْقَوْمِ أَنَّ الْبَقَرَتَيْنِ اللَّتَيْنِ جَرَّتَا عَجَلَةَ التَّابُوتِ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا قَائِدٌ وَلَا سَائِقٌ، وَمَا يَجْرِي بِإِلْهَامٍ لَا كَسْبَ فِيهِ لِلْبَشَرِ وَهُوَ مِنَ الْخَيْرِ يُسْنَدُ إِلَى إِلْهَامِ الْمَلَائِكَةِ. رَوَى نَحْوَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ: وَكَلَ بِالْبَقَرَتَيْنِ اللَّتَيْنِ سَارَتَا بِالتَّابُوتِ أَرْبَعَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَسُوقُونَهُمَا إِلَخْ، وَخَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) قَالُوا: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَتِمَّةَ كَلَامِ نَبِيِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَهُمْ، أَيْ إِنَّ فِي مَجِيءِ التَّابُوتِ عَلَامَةٌ أَوْ حُجَّةٌ لَكُمْ تَدُلُّ عَلَى عِنَايَةِ اللهِ بِكُمْ، وَاصْطِفَائِهِ لَكُمْ هَذَا الْمَلِكَ الَّذِي يَنْهَضُ بشُئُونِكِمْ وَيُنَكِّلُ بِأَعْدَائِكُمْ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَرْضَوْا بِمُلْكِهِ وَلَا تَفَرَّقُوا عَنْهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ كَلَامٍ مِنْهُ تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، مَعْنَاهُ أَنَّ فِيمَا أَوْحَاهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ آيَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى ثُبُوتِهِ; إِذْ لَوْلَا الْوَحْيُ لَمَا كَانَ يَعْرِفُهَا وَهُوَ الْأُمِّيُّ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ وَلَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا، وَلَا كَانَ يَعْرِفُ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْعِبْرَةِ وَالْفَائِدَةِ، وَلَا سِيَّمَا مَا يُعْتَبَرُ فِي الْمُلُوكِ
مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي تُؤَهِّلُهُمْ لِلْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ السِّيَاسَةِ وَأَعْمَالِ الرِّيَاسَةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ آيَةً بَيِّنَةً وَعِبْرَةً نَافِعَةً لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَآيَاتِهِ الَّتِي تُؤَيِّدُ بِهَا أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ; لِذَلِكَ قَيَّدَهَا بِالشَّرْطِ الَّذِي حُذِفَ جَوَابُهُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.
عُلِمَ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ الْغَرَضَ الْأَوَّلَ مِنْ طَلَبِ الْقَوْمِ نَصْبَ الْمَلِكِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَوَلَّى قِيَادَتَهُمْ لِلْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَيَثْأَرَ مِنْ أُولَئِكَ الْوَثَنِيِّينَ الَّذِينَ أَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ، فَكَانَ الْمُتَوَقَّعُ بَعْدَ بَيَانِ نَصْبِ الْمَلِكِ أَنْ يَذْكُرَ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ فِي الْقِتَالِ وَذَلِكَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى،

صفحة رقم 385
تفسير المنار
عرض الكتاب
المؤلف
محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني الحسيني
الناشر
1990 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية