
الأزواج والزوجات للنبي صلّى الله عليه وسلّم وخلفائه في شؤون الطلاق والإيلاء والظهار والنفقة والرضاع إلخ إلخ... وتدخلهم في حل المشاكل بينهم يسوغ القول إنه ليس من مانع شرعي من إناطة أمر الطلاق بالقضاء الشرعي، وإذا ما أخذ بهذا يكون في ذلك تمام الصورة الحكيمة حيث يتاح درس الأسباب والموقف من جانب القاضي الشرعي فيصدر حكمه أو توجيهاته نتيجة لها.
وما يقال إن أسرار الناس لا يصح أن تفشى ولو للقضاء في غير محله.
فالقضاء مؤتمن على أسرار الناس. وهناك حالات كثيرة فيها أسرار وتناط شرعا وقانونا بالقضاء. ويمكن أن يجاب على ما يقال من أن الله قد أباح للزوج أن يطلق زوجته ولا يصح حرمانه من هذا الحق مستقلا، وإذا ما استعمل حقه هذا ولم ينفذ عاشر زوجته حراما. إن الناس في عهد النبي وخلفائه كانوا يراجعونهم في ذلك ويسيرون وفق فتاواهم. وفي القرآن عبارات تجعل للقضاء موقفا وكلمة في هذا الشأن. وإذا ما أقر ولي أمر المسلمين هذا استنادا إلى تلك التوجيهات القرآنية والآثار النبوية صار ذلك ملزما. وصار تطليق الأزواج بدون واسطة القضاء لغوا شأن طلاقهم الذي لا ينفذ على ما ذكرناه في مطلع هذا التعقيب، والله أعلم.
ولقد أقرّ هذا وطبق بقانون في الجمهورية التونسية التي تدين غالبيتها بالإسلام. والمتبادر أن أولي الحل والعقد والشورى وافقوا على ذلك استنادا إلى دراسات واستنباطات شرعية لعلها ما ذكرناه أو لعل منها ما ذكرناه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٣]
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣)
. (١) حولين: عامين وأصل الكلمة من (حال) بمعنى التنقل من شيء إلى شيء.

(٢) فصالا: فطاما. وأصل الكلمة بمعنى المفارقة بعد الوصال والاتصال.
(٣) أن تسترضعوا أولادكم: أن تعطوهم لمرضعات غير أمهم لإرضاعهم.
(٤) إذا سلمتم ما آتيتم: المقصود بالتعبير إذا أديتم ما ضمنتم أو ما اتفقتم عليه أو ما استحق عليكم من الأجر على ما ذهب إليه الجمهور. وبعض المفسرين قال إن ذلك بالنسبة للمرضعة، وبعضهم قال: إنه بالنسبة لأم الولد، وهذا هو الأوجه الذي يتسق مع روح الآية، وهو قول الطبري.
لم نطلع على رواية في نزول الآية وهي معطوفة على ما سبقها والمتبادر أنها استمرار لها في تشريع مسائل أخرى في حالات الطلاق والسياق يقتضي أن يكون المقصود من (الوالدات) الوالدات المطلقات وهو ما يؤيده فحوى الآية أيضا.
تعليق على الآية وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ... إلخ
والآية تضمنت تعليمات وتشريعات في صدد الأمهات المطلقات وأولادهن:
فهي:
١- تقرر أن على الأم المطلقة أن ترضع ولدها حولين كاملين إذا أراد الوالدان أن يكون الرضاع تاما لأن ذلك هو مدة الرضاع التام.
٢- تحمل الوالد نفقة الأم طيلة مدة الرضاع بما فيه الكفاية حسب العرف والأمثال مع تنبيهها إلى عدم جواز تكليف أحد بأكثر من وسعه وطاقته.
٣- تنهى عن تعمد المضارة والمكايدة بسبب الولد من قبل الأب للأم أو من قبل الأم للأب.
٤- توجب نفقة الرضاع وعدم المضارة على ورثة الأب في حالة وفاته أثناء مدة الرضاع.
٥- تسوغ الفطام قبل تمام الحولين بشرط أن يكون ذلك بالتشاور والتراضي بين الأب والأم.

٦- تسوغ كذلك استرضاع الولد من مرضعة غير الأم إذا أراد الوالد والأم على أن يؤدي الوالد أجرة إرضاع الأم لابنها عن المدة التي أرضعته وأجرة المرضعة الجديدة حسب العرف والأمثال.
وقد انتهت الآية معقبة على ذلك بأمر وجهته للمخاطبين ويشمل الأزواج والزوجات معا بتقوى الله والتزام حدوده وبالتنبيه إلى أنه مطلع على كل ما يعملونه عليم ببواعثه ومقاصده، وفي التعليمات أو التشريعات من الحق والعدل والحكمة ما هو ظاهر.
وفي كتب التفسير أقوال معزوة إلى أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم واستنباطات فقهية في أحكام ومدى الآية نوجزها ونعلق عليها بما يلي مع التنبيه على أنها تلهم أن المقصود بكلمة (الوالدات) هو الوالدات المطلقات، وهذا ما يقتضيه السياق:
١- هناك من قال إن من واجب الوالدين بصورة عامة أن يستمرا في إرضاع طفلهما حولين كاملين وإن إنقاص ذلك بدون عذر شرعي حرام. وفحوى الآية لا يتحمل ذلك وإنما هو من قبيل الحث، وتقرير كونه الأفضل.
٢- وهناك من قال إن الفصال في مدة أقل من سنتين منوط باتفاق الوالدين بحيث لا يجوز الفصال برغبة أحدهما دون موافقة الآخر. وهذا ما تفيده العبارة القرآنية. وهناك من قال إن جملة وَتَشاوُرٍ تعني مشاورة أهل الخبرة في أمر الفطام قبل تمام الحولين. ولا يخلو هذا من وجاهة، ولا يعني هذا نفي إيجاب التشاور والتوافق بين الوالدين بطبيعة الحال.
٣- هناك من استنبط من الآية أن الوالدة غير مجبورة على إرضاع ولدها إلا في حالة الضرورة. وجملة وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ تنطوي على إيجاب ذلك على الوالدة فيما يتبادر لنا. ورفع الحرج عن الاسترضاع من غير الأم إذا أراده الوالدان كما ذكرت الآية قد تؤيد ذلك أيضا. غير أنه ورد آية في سورة الطلاق في صدد الوالدات المطلقات قد تفيد صواب ذلك القول وهي: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ

فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) فلعل حادثا أو سؤالا وقع فاقتضت حكمة التنزيل توضيح الأمر، مع التنبيه على أن الحالة هي في صدد الوالدات المطلقات.
٥- هناك من قال إن جملة وَعَلَى الْوارِثِ تعني وارث الولد ومن قال إنها تعني وارث الوالد في حال موته أثناء رضاع ابنه. والقول الثاني هو الأكثر ورودا لأن الولد لم يكن قد صار موروثا.
٦- وهناك من قال إن هذه الجملة تشمل جميع الوارثين بما فيهم الولد.
وهذا في محله وتكون نفقة الرضاع والحالة هذه على التركة.
٧- هناك من قال إنه إذا لم يكن للوالد المتوفى مال وجبت نفقة الرضاع على عصبته. فإن لم يكن لهم مال صارت الأم مجبرة على إرضاع ولدها بدون أجر، ويلوح لنا أن نفقة إرضاع اليتيم الفقير ثم نفقة معيشته إذا لم يترك أبوه مالا تقع على عاتق بيت المال الذي جعل الله فيما يدخله من صدقات وغنائم وفيء نصيبا للفقراء واليتامى على ما ذكر في آيات سور الأنفال والتوبة والحشر.
٨- ومما ذكره المؤولون على سبيل المثال من مضارة الوالد بولده أن ترفض الأم إرضاع ولدها وتقذفه لوالده ولو كان فقيرا. وأن تطالبه بما لا يستطيع من نفقة وتهدده بالولد للحصول على ما تريد منه ومن مضارة الوالدة بولدها أن ينزع الوالد ولدها منها لإثارة حزنها وأن يقدم لها الزهيد من النفقة مع قدرته على الأفضل.
٩- وهناك من قال إن ما في الآية من أحكام بشأن الرضاع ومدة الاسترضاع والتشاور في الفصال وواجبات الأم والأب في ظروف ذلك ثم واجبات ورثة الأب بعد موته تشمل الوالدات إطلاقا سواء أكن مطلقات أم غير مطلقات. والآية هي كما قلنا في صدد المطلقات ومع ذلك فلا يخلو القول من وجاهة بصورة عامة والله تعالى أعلم.
وفي سورة الطلاق آيات فيها إيجاب بقاء المطلقة في بيت زوجها طيلة عدتها ونهي عن إخراجها وخروجها وتقرير نفقة سكنها على الزوج واستمرار ذلك بالنسبة