
فسأل عمر ابنته حفصة رضي الله عنهما: كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟
فقالت: ستة أشهر أو أربعة أشهر. فقال عمر: لا أحبس أحدا من الجيوش أكثر من ذلك. وقال محمد بن إسحاق عن السائب بن جبير مولى ابن عباس- وكان قد أدرك أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم- قال: ما زلت أسمع حديث عمر أنّه خرج ذات ليلة يطوف بالمدينة- وكان يفعل ذلك كثيرا إذ مرّ بامرأة من نساء العرب مغلقة بابها تقول:
تطاول هذا الليل وازورّ جانبه | وأرّقني إلّا ضجيع ألاعبه |
ألاعبه طورا وطورا كأنما | بدا قمرا في ظلمة الليل حاجبه |
يسرّ به من كان يلهو بقربه | لطيف الحشا لا يحتويه أقاربه |
فو الله! لولا الله، لا شيء غيره، | لنقّض من هذا السرير جوانبه |
ولكنني أخشى رقيبا موكّلا | بأنفاسنا، لا يفتر، الدهر، كاتبه |
مخافة ربي، والحياء يصدّني، | وإكرام بعلي، أن تنال مراكبه.! |
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٨]
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨)
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، هذا أمر للمطلقات بأن يتربصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء أي بأن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء ثم تتزوج إن شاءت. وأريد بالمطلقات: المدخول بهن من ذوات الأقراء، لما دلت الآيات والأخبار أن حكم غيرهن خلاف ما ذكر. أما غير المدخولة فلا عدّة عليها لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ [الأحزاب: ٤٩] وأما التي لم تحض فعدتها ثلاثة أشهر لقوله تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق: ٤]، وأما الحامل فعدتها وضع الحمل لقوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: ٤]. صفحة رقم 133

فهذه الآية من العام المخصوص.
قال الزمخشريّ: فإن قلت: فما معنى الإخبار عنهن بالتربّص؟ قلت: هو خبر في معنى الأمر، وأصل الكلام (وليتربص المطلقات)، وإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله. فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص. فهو يخبر عنه موجودا. ونحوه قولهم في الدعاء: (رحمك الله) أخرج في صورة الخبر ثقة بالاستجابة. كأنما وجدت الرحمة فهو يخبر عنها. وبناؤه على المبتدأ مما زاده أيضا فضل توكيد. ولو قيل (ويتربص المطلقات) لم يكن بتلك الوكادة.. فإن قلت: هلا قيل: يتربصن ثلاثة قروء كما قيل تربص أربعة أشهر، وما معنى ذكر الأنفس؟ قلت: في ذكر الأنفس تهييج لهنّ على التربص وزيادة بعث.
لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن. وذلك أنّ أنفس النساء طوامح إلى الرجال. فأمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويجبرنها على التربص.
و (القرء) : من الأضداد. يطلق على الحيض والطهر. نص عليه من أئمة اللغة:
أبو عبيد والزجاج وعمرو بن العلاء وغيرهم. والبحث في ترجيح أحدهما طويل الذيل، استوفاه الإمام ابن القيّم في (زاد المعاد) فانظره. ولمن نظر إلى موضوعه اللغويّ أن يقول: تنقضي العدة بثلاثة أطهار أو بثلاث حيض. فأيهما اعتبرته المعتدة خرجت عن عهدة التكليف به. والله أعلم. وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ، - أي:
المطلقات- أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ، من الحيض أو الولد، استعجالا في العدة أو إبطالا لحقّ الزوج في الرجعة إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ، أي: إن جرين على مقتضى الإيمان به، المخوف من ذاته وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، المخوف من جزائه. ودلّ هذا على أن المرجع في هذا إليهنّ. لأنه أمر لا يعلم إلّا من جهتهن. ويتعذر إقامة البينة على ذلك. فرد الأمر إليهن، وتوعدن فيه لئلا يخبرن بغير الحقّ. وهذه الآية دالة على أنّ كل من جعل أمينا في شيء فخان فيه، فأمره عند الله شديد وَبُعُولَتُهُنَّ- أي: أزواجهن- أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ، أي: برجعتهنّ، والكلام في الرجعية بدليل الآية التي بعدها فِي ذلِكَ، أي: في زمان التربص. وهي أيام الأقراء. أما أذا انقضت مدة التربص فهي أحقّ بنفسها ولا تحلّ له إلّا بنكاح مستأنف بوليّ وشهود ومهر جديد.
ولا خلاف في ذلك إِنْ أَرادُوا، أي: بالرجعة إِصْلاحاً، لما بينهم وبينهن، وإحسانا إليهن، ولم يريدوا مضارتهن. وإلّا فالرجعة محرمة لقوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا [البقرة: ٢٣١]، وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ،

أي: ولهن على الرجال مثل ما للرجال عليهن. فليؤدّ كلّ واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف. كما
ثبت في (صحيح مسلم) «١» : عن جابر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في خطبته في حجّة الوداع: «فاتقوا الله في النساء. فإنكم أخذتموهن بأمانة الله. واستحللتم فروجهن بكلمة الله. ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه. فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح. ولهنّ رزقهن وكسوتهن بالمعروف».
وعن معاوية بن حيدة قال: «قلت: يا رسول الله! ما حقّ زوجة أحدنا عليه؟
قال: أن تطعمها إذا طعمت. وتكسوها إذا اكتسيت. ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت». رواه أبو داود «٢»
وقال: معنى (لا تقبح) : لا تقل قبحك الله.
وعن أبي هريرة «٣» : أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلّا بإذنه. ولا تأذن في بيته إلّا بإذنه»
. متفق عليه.
وعن ابن عمر «٤» : أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته.
والأمير راع. والرجل راع على أهل بيته. والمرأة راعية على بيت زوجها وولده.
فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»
. متفق عليه.
وعن طلق بن عليّ: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتأته، وإن كانت على التنور». رواه الترمذيّ «٥» والنسائيّ.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه «٦» قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فلم تأته، فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح»
. متفق عليه.
(٢) أخرجه أبو داود في: النكاح، ٤١- باب حق المرأة على زوجها، حديث ٢١٤٢. [.....]
(٣) أخرجه البخاريّ في: النكاح، ٨٦- باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه، حديث ١٠٤٣. ومسلم في: الزكاة، حديث ٨٤.
(٤) أخرجه البخاريّ في: الجمعة، ١١- باب الجمعة في القرى والمدن، حديث ٥٢٤. ومسلم في:
الإمارة، حديث ٢٠.
(٥) أخرجه الترمذيّ في جامعه في: الرضاع، ١٠- باب ما جاء في حق الزوج على المرأة.
(٦) أخرجه البخاريّ في: بدء الخلق، ٧- باب إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء، حديث ١٥٢٩. ومسلم في: النكاح، حديث ١٢٠.