آيات من القرآن الكريم

أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا ۚ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ
ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ

ذِكْراً
وَسَادِسُهَا: أَنَّ الطِّفْلَ كَمَا يَرْجِعُ إِلَى أبيه في طلب جميع المهمات ويكون ذكرا لَهُ بِالتَّعْظِيمِ، فَكُونُوا أَنْتُمْ فِي ذِكْرِ اللَّهِ كَذَلِكَ وَسَابِعُهَا: يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَذْكُرُونَ آبَاءَهُمْ لِيَتَوَسَّلُوا بِذِكْرِهِمْ إِلَى إِجَابَةِ الدُّعَاءِ عِنْدَ اللَّهِ فَعَرَّفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ آبَاءَهُمْ لَيْسُوا فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ إِذْ أَفْعَالُهُمُ الْحَسَنَةُ صَارَتْ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ بِسَبَبِ شِرْكِهِمْ وَأُمِرُوا أَنْ يَجْعَلُوا بَدَلَ ذَلِكَ تَعْدِيدَ آلَاءِ اللَّهِ وَنَعْمَائِهِ وَتَكْثِيرَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ وَسِيلَةً إِلَى تَوَاتُرِ النِّعَمِ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يَحْلِفُوا بِآبَائِهِمْ
فَقَالَ: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ»
إِذَا كَانَ مَا سِوَى اللَّهِ فَإِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ فَالْأَوْلَى تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا إِلَهَ غَيْرَهُ وَثَامِنُهَا: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: هُوَ أَنْ تَغْضَبَ لِلَّهِ إِذَا عُصِيَ أَشَدَّ مِنْ غَضَبِكَ لِوَالِدِكَ إِذَا ذُكِرَ بِسُوءٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ وَإِنْ كَانَتْ مُحْتَمَلَةً إِلَّا أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ وَجَمِيعُ الْوُجُوهِ مُشْتَرِكَةٌ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ دَائِمَ الذِّكْرِ لِرَبِّهِ دَائِمَ التَّعْظِيمِ لَهُ دَائِمَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ/ فِي طَلَبِ مُهِمَّاتِهِ دَائِمَ الِانْقِطَاعِ عَمَّنْ سِوَاهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: عَامِلُ الْإِعْرَابِ فِي أَشَدَّ قيل: الكاف، فيكون موضعه جرا وقيل: فَاذْكُرُوا فَيَكُونُ مَوْضِعُهُ نَصْبًا، وَالتَّقْدِيرُ: اذْكُرُوا اللَّهَ مِثْلَ ذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ، وَاذْكُرُوهُ أَشَدَّ ذِكْراً مِنْ آبَائِكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً مَعْنَاهُ: بَلْ أَشَدُّ ذِكْرًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَفَاخِرَ آبَائِهِمْ كَانَتْ قَلِيلَةً، أَمَّا صِفَاتُ الْكَمَالِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهِيَ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ اشْتِغَالُهُمْ بِذِكْرِ صِفَاتِ الْكَمَالِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَشَدَّ مِنِ اشْتِغَالِهِمْ بِذِكْرِ مَفَاخِرِ آبَائِهِمْ، قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَجَازُ اللُّغَةِ فِي مِثْلِ هَذَا مَعْرُوفٌ، يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: افْعَلْ هَذَا إِلَى شَهْرٍ أَوْ أَسْرَعَ مِنْهُ، لَا يُرِيدُ بِهِ التَّشْكِيكَ، إِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ النَّقْلَ عَنِ الْأَوَّلِ إِلَى مَا هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٠١ الى ٢٠٢]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَوَّلًا تَفْصِيلَ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، ثُمَّ أَمَرَ بَعْدَهَا بِالذِّكْرِ، فَقَالَ: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [البقرة: ١٩٨] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُتْرَكَ ذِكْرُ غَيْرِهِ، وَأَنْ يُقْتَصُرَ عَلَى ذِكْرِهِ فَقَالَ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ الذِّكْرِ كَيْفِيَّةَ الدُّعَاءِ فَقَالَ: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَمَا أَحْسَنَ هَذَا التَّرْتِيبَ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْعِبَادَةِ لِكَسْرِ النَّفْسِ وَإِزَالَةِ ظُلُمَاتِهَا، ثُمَّ بَعْدَ الْعِبَادَةِ لَا بُدَّ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى لِتَنْوِيرِ الْقَلْبِ وَتَجَلِّي نُورِ جَلَالِهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الذِّكْرِ يَشْتَغِلُ الرَّجُلُ بِالدُّعَاءِ فَإِنَّ الدُّعَاءَ إِنَّمَا يَكْمُلُ إِذَا كَانَ مَسْبُوقًا بِالذِّكْرِ كَمَا حُكِيَ عَنْ

صفحة رقم 335

إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَدَّمَ الذِّكْرَ/ فَقَالَ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشُّعَرَاءِ: ٧٨] ثُمَّ قَالَ: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ فَقَدَّمَ الذِّكْرَ عَلَى الدُّعَاءِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الَّذِينَ يَدْعُونَ اللَّهَ فَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ دُعَاؤُهُمْ مَقْصُورًا عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا وَالثَّانِي: الَّذِينَ يَجْمَعُونَ فِي الدُّعَاءِ بَيْنَ طَلَبِ الدُّنْيَا وَطَلَبِ الْآخِرَةِ، وَقَدْ كَانَ فِي التَّقْسِيمِ قِسْمٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ مَنْ يَكُونُ دُعَاؤُهُ مَقْصُورًا عَلَى طَلَبِ الْآخِرَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ هَلْ هُوَ مَشْرُوعٌ أَوْ لَا؟ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ مُحْتَاجًا ضَعِيفًا لَا طَاقَةَ لَهُ بِآلَامِ الدُّنْيَا وَلَا بِمَشَاقِّ الْآخِرَةِ، فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَسْتَعِيذَ بِرَبِّهِ مِنْ كُلِّ شُرُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ،
رَوَى الْقَفَّالُ فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ يَعُودُهُ وَقَدْ أَنْهَكَهُ المرض، فقال: ما كنت تدعوا اللَّهَ بِهِ قَبْلَ هَذَا قَالَ: كُنْتُ أَقُولُ. اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ تُعَاقِبُنِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَعَجِّلْ بِهِ فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «سُبْحَانَ اللَّهِ إِنَّكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ أَلَا قَلْتَ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ [الشعراء: ٨٣] » قَالَ فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشُفِيَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَوْ سَلَّطَ الْأَلَمَ عَلَى عِرْقٍ وَاحِدٍ فِي الْبَدَنِ، أَوْ عَلَى مَنْبَتِ شَعْرَةٍ وَاحِدَةٍ، لَشَوَّشَ الْأَمْرَ عَلَى الْإِنْسَانِ وَصَارَ بِسَبَبِهِ مَحْرُومًا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنِ الِاشْتِغَالِ بِذِكْرِهِ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْنِي عَنْ إِمْدَادِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أُولَاهُ وَعُقْبَاهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الِاقْتِصَارَ فِي الدُّعَاءِ عَلَى طَلَبِ الْآخِرَةِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَيْهِ حَيْثُ ذَكَرَ الْقِسْمَيْنِ، وَأَهْمَلَ هَذَا الْقِسْمَ الثَّالِثَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الَّذِينَ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقْتَصِرُونَ فِي الدُّعَاءِ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا مَنْ هُمْ؟
فَقَالَ قَوْمٌ: هُمُ الْكُفَّارُ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ إِذَا وَقَفُوا: اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا إِبِلًا وَبَقَرًا وَغَنَمًا وَعَبِيدًا وَإِمَاءً، وَمَا كَانُوا يَطْلُبُونَ التَّوْبَةَ وَالْمَغْفِرَةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ وَالْمَعَادِ، وَعَنْ أَنَسٍ كَانُوا يَقُولُونَ: اسْقِنَا الْمَطَرَ وَأَعْطِنَا عَلَى عَدُوِّنَا الظَّفَرَ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ هَذَا الْفَرِيقِ فَلَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ لَا نَصِيبَ لَهُ فِيهَا مِنْ كَرَامَةٍ وَنَعِيمٍ وَثَوَابٍ، نُقِلَ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ الدَّقَّاقِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: أَهْلُ النَّارِ يَسْتَغِيثُونَ ثُمَّ يَقُولُونَ: أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ، أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا، طَلَبًا لِلْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، فَلَمَّا غَلَبَتْهُمْ شَهَوَاتُهُمُ افْتُضِحُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: هَؤُلَاءِ قَدْ يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّهُمْ يَسْأَلُونَ اللَّهَ لِدُنْيَاهُمْ، لَا لَأُخْرَاهُمْ وَيَكُونُ سُؤَالُهُمْ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الذُّنُوبِ حَيْثُ سَأَلُوا اللَّهَ تَعَالَى فِي أَعْظَمِ الْمَوَاقِفِ، وَأَشْرَفِ الْمَشَاهِدِ حُطَامَ الدُّنْيَا وَعَرَضَهَا الْفَانِيَ، مُعْرِضِينَ عَنْ سُؤَالِ النَّعِيمِ الدَّائِمِ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ يُقَالُ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ إِنَّهُ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْ كَانَ الْفَاعِلُ مُسْلِمًا، كَمَا رُوِيَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ [آلِ عِمْرَانَ: ٧٧] أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ أَخَذَ مَالًا بِيَمِينٍ فَاجِرَةٍ،
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «إن الله يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِأَقْوَامٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ/
ثُمَّ مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ وَالثَّانِي: لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ وَالثَّالِثُ: لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ كَخَلَاقِ مَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِآخِرَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَا خَلَاقَ لِمَنْ أَخَذَ مَالًا بِيَمِينٍ فَاجِرَةٍ كَخَلَاقِ مَنْ تَوَرَّعَ عَنْ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حُذِفَ مَفْعُولُ آتِنا مِنَ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ كَالْمَعْلُومِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَرَاتِبَ السَّعَادَاتِ ثَلَاثٌ: رُوحَانِيَّةٌ، وَبَدَنِيَّةٌ، وَخَارِجِيَّةٌ أَمَّا الرُّوحَانِيَّةُ فَاثْنَانِ: تَكْمِيلُ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ بِالْعِلْمِ، وَتَكْمِيلُ الْقُوَّةِ العلمية بِالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، وَأَمَّا الْبَدَنِيَّةُ فَاثْنَانِ: الصِّحَّةُ وَالْجَمَالُ، وَأَمَّا الْخَارِجِيَّةُ فَاثْنَانِ: الْمَالُ،

صفحة رقم 336

وَالْجَاهُ، فَقَوْلُهُ: آتِنا فِي الدُّنْيا يَتَنَاوَلُ كُلَّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ فَإِنَّ الْعِلْمَ إِذَا كَانَ يُرَادُ لِلتَّزَيُّنِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالتَّرَفُّعِ بِهِ عَلَى الْأَقْرَانِ كَانَ مِنَ الدُّنْيَا، وَالْأَخْلَاقُ الْفَاضِلَةُ إِذَا كَانَتْ تُرَادُ لِلرِّيَاسَةِ فِي الدُّنْيَا وَضَبْطِ مَصَالِحِهَا كَانَتْ مِنَ الدُّنْيَا، وَكُلُّ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ وَالْمَعَادِ فَإِنَّهُ لَا يَطْلُبُ فَضِيلَةً لَا رُوحَانِيَّةً وَلَا جُسْمَانِيَّةً إِلَّا لِأَجْلِ الدُّنْيَا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ هَذَا الْفَرِيقِ وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ أَيْ لَيْسَ لَهُ نَصِيبٌ فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشُّورَى: ٢٠] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الَّذِي طَلَبَهُ فِي الدُّنْيَا هَلْ أُجِيبُ لَهُ أَمْ لَا؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِنْسَانِ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْإِجَابَةِ لِأَنَّ كَوْنَ الْإِنْسَانِ مُجَابَ الدَّعْوَةِ صِفَةُ مَدْحٍ فَلَا تَثْبُتُ إِلَّا لِمَنْ كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ تَعَالَى مُسْتَحِقًّا لِلْكَرَامَةِ لكنه وإن لَمْ يَجِبْ فَإِنَّهُ مَا دَامَ مُكَلَّفًا حَيًّا فَاللَّهُ تَعَالَى يُعْطِيهِ رِزْقَهُ عَلَى مَا قَالَ:
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هُودٍ: ٦] وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِنْسَانِ قَدْ يَكُونُ مُجَابًا، لَكِنَّ تِلْكَ الْإِجَابَةَ قَدْ تَكُونُ مَكْرًا وَاسْتِدْرَاجًا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ فَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَسَنَةَ فِي الدُّنْيَا عِبَارَةٌ عَنِ الصِّحَّةِ، وَالْأَمْنِ، وَالْكِفَايَةِ وَالْوَلَدِ الصَّالِحِ، وَالزَّوْجَةِ الصَّالِحَةِ، وَالنُّصْرَةِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْخِصْبَ وَالسَّعَةَ فِي الرِّزْقِ، وَمَا أَشْبَهَهُ «حَسَنَةً» فَقَالَ: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ [التَّوْبَةِ: ٥٠] وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التَّوْبَةِ: ٥٢] أَنَّهُمَا الظَّفَرُ وَالنُّصْرَةُ وَالشَّهَادَةُ، وَأَمَّا الْحَسَنَةُ في الآخرة فهي الفوز بالثوب، وَالْخَلَاصُ مِنَ الْعِقَابِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَوْلُهُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِجَمِيعِ مَطَالِبِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ أَنَّهُمْ قَالُوا لِأَنَسٍ: ادْعُ لَنَا، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» قَالُوا: زِدْنَا فَأَعَادَهَا قَالُوا زِدْنَا قَالَ مَا تُرِيدُونَ؟ قَدْ سَأَلْتُ لَكُمْ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَقَدْ صَدَقَ أَنَسٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ دَارٌ سِوَى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِذَا سَأَلَ حَسَنَةَ الدُّنْيَا وَحَسَنَةَ الْآخِرَةِ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ سِوَاهُ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَسَنَةِ فِي الدُّنْيَا الْعَمَلُ النَّافِعُ وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ وَالْحَسَنَةُ فِي الْآخِرَةِ اللَّذَّةُ الدَّائِمَةُ وَالتَّعْظِيمُ وَالتَّنَعُّمُ بِذِكْرِ اللَّهِ/ وَبِالْأُنْسِ بِهِ وَبِمَحَبَّتِهِ وَبِرُؤْيَتِهِ
وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا دَعَا رَبَّهُ فَقَالَ فِي دُعَائِهِ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ سَأَلَ اللَّهَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، فَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ قَالَ: «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنه يَقُولُ: آتِنَا فِي الدُّنْيَا عَمَلًا صَالِحًا
وَهَذَا مُتَأَكَّدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الْفُرْقَانِ: ٧٤] وَتِلْكَ الْقُرَّةُ هِيَ أَنْ يُشَاهِدُوا أَوْلَادَهُمْ وَأَزْوَاجَهُمْ مُطِيعِينَ مُؤْمِنِينَ مُوَاظِبِينَ عَلَى الْعُبُودِيَّةِ وَثَالِثُهَا: قَالَ قَتَادَةُ: الْحَسَنَةُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ طَلَبُ الْعَافِيَةِ فِي الدَّارَيْنِ، وَعَنِ الْحَسَنِ: الْحَسَنَةُ فِي الدُّنْيَا فَهْمُ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الْآخِرَةِ الْجَنَّةُ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْشَأَ الْبَحْثِ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ، آتِنَا فِي الدُّنْيَا الْحَسَنَةَ وَفِي الْآخِرَةِ الْحَسَنَةَ لَكَانَ ذَلِكَ مُتَنَاوِلًا لِكُلِّ الحسنات، ولكنه قال: آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَهَذَا نَكِرَةٌ فِي مَحَلِّ الْإِثْبَاتِ فَلَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا حَسَنَةً وَاحِدَةً، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَمَلَ اللَّفْظَ عَلَى مَا رَآهُ أَحْسَنَ أَنْوَاعِ الْحَسَنَةِ.

صفحة رقم 337

فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ: آتِنَا الْحَسَنَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْحَسَنَةَ فِي الْآخِرَةِ لَكَانَ ذَلِكَ مُتَنَاوِلًا لِكُلِّ الْأَقْسَامِ فَلِمَ تُرِكَ ذَلِكَ وَذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ؟
قُلْتُ: الَّذِي أَظُنُّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ أَنَّا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلدَّاعِي أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي كَذَا وَكَذَا بَلْ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ كَذَا وَكَذَا مَصْلَحَةً لِي وَمُوَافِقًا لِقَضَائِكَ وَقَدَرِكَ فَأَعْطِنِي ذَلِكَ، فَلَوْ قَالَ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي الْحَسَنَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَكَانَ ذَلِكَ جَزْمًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، أَمَّا لَمَّا ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ فَقَالَ أَعْطِنِي فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ حَسَنَةً وَاحِدَةً وَهِيَ الْحَسَنَةُ الَّتِي تَكُونُ مُوَافِقَةً لِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَرِضَاهُ وَحُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ فَكَانَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إِلَى رِعَايَةِ الْأَدَبِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى أُصُولِ الْيَقِينِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْفَرِيقِ الثَّانِي فَقَطِ الَّذِينَ سَأَلُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ حُكْمَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ حَيْثُ قَالَ: وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ أَيْ لِكُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ نَصِيبٌ مِنْ عَمَلِهِ عَلَى قَدْرِ مَا نواه، فمن أنكر البحث وَحَجَّ الْتِمَاسًا لِثَوَابِ الدُّنْيَا فَذَلِكَ مِنْهُ كُفْرٌ وَشِرْكٌ وَاللَّهُ مُجَازِيهِ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّ مَنْ عَمِلَ لِلدُّنْيَا أُعْطِيَ نَصِيبٌ مِثْلُهُ فِي دُنْيَاهُ كَمَا قَالَ: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى: ٢٠].
[المسألة الثانية] أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا يَجْرِي مَجْرَى التَّحْقِيرِ وَالتَّقْلِيلِ فَمَا الْمُرَادُ مِنْهُ؟
الْجَوَابُ: الْمُرَادُ: لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمِنَ الْآخِرَةِ بِسَبَبِ كَسْبِهِمْ وَعَمَلِهِمْ فَقَوْلُهُ: «مِنْ» فِي قَوْلِهِ:
مِمَّا كَسَبُوا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ لَا لِلتَّبْعِيضِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْعَمَلِ؟
الْجَوَابُ: نَعَمْ. وَلَكِنْ بِحَسَبِ الْوَعْدِ لَا بِحَسَبِ الِاسْتِحْقَاقِ الذَّاتِيِّ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الْكَسْبُ؟
الْجَوَابُ: الْكَسْبُ يُطْلَقُ عَلَى مَا يَنَالُهُ الْمَرْءُ بِعَمَلِهِ فَيَكُونُ كَسْبَهُ وَمُكْتَسَبَهُ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَرَّ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعَ مَضَرَّةٍ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُقَالُ فِي الْأَرْبَاحِ: إِنَّهَا كَسْبُ فُلَانٍ، وَإِنَّهُ كثير الكسب أو قليل الكسب، لأن لَا يُرَادُ إِلَّا الرِّبْحُ، فَأَمَّا الَّذِي يَقُولُهُ أَصْحَابُنَا مِنْ أَنَّ الْكَسْبَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْجَبْرِ وَالْخَلْقِ فَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ فِي الْكَلَامِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ فَفِيهِ مَسَائِلُ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: سَرِيعُ فَاعِلٌ مِنَ السُّرْعَةِ، قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: سَرُعَ يَسْرُعُ سَرْعًا وَسُرْعَةً فَهُوَ سَرِيعٌ والْحِسابِ مَصْدَرٌ كَالْمُحَاسَبَةِ، وَمَعْنَى الْحِسَابِ فِي اللُّغَةِ الْعَدُّ يُقَالُ: حَسَبَ يَحْسُبُ حِسَابًا وَحِسْبَةً وَحَسَبًا إِذَا

صفحة رقم 338

عَدَّ ذَكَرَهُ اللَّيْثُ وَابْنُ السِّكِّيتِ، وَالْحَسْبُ مَا عُدَّ وَمِنْهُ حَسَبَ الرَّجُلُ وَهُوَ مَا يُعَدُّ مِنْ مَآثِرِهِ وَمَفَاخِرِهِ، وَالِاحْتِسَابُ الِاعْتِدَادُ بِالشَّيْءِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْحِسَابُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: حَسْبُكَ كَذَا أَيْ كَفَاكَ فَسُمِّيَ الْحِسَابُ فِي الْمُعَامَلَاتِ حِسَابًا لِأَنَّهُ يُعْلَمُ بِهِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَلَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى الْمِقْدَارِ وَلَا نُقْصَانٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى كَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَاسِبًا لِخَلْقِهِ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَى الْحِسَابِ أَنَّهُ تَعَالَى يُعْلِمُهُمْ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ، بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْعُلُومَ الضَّرُورِيَّةَ فِي قُلُوبِهِمْ بِمَقَادِيرِ أَعْمَالِهِمْ وَكِمِّيَّاتِهَا وَكَيْفِيَّاتِهَا، وَبِمَقَادِيرِ مَا لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، قَالُوا: وَوَجْهُ هَذَا الْمَجَازِ أَنَّ الْحِسَابَ سَبَبٌ لِحُصُولِ عِلْمِ الْإِنْسَانِ بِمَا لَهُ وَعَلَيْهِ، فَإِطْلَاقُ اسْمِ الْحِسَابِ عَلَى هَذَا الْإِعْلَامِ يَكُونُ إِطْلَاقًا لِاسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ وَهَذَا مَجَازٌ مَشْهُورٌ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ لَا حِسَابَ عَلَى الْخَلْقِ بَلْ يَقِفُونَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُعْطُونَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ فِيهَا سَيِّئَاتُهُمْ، فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذِهِ سَيِّئَاتُكُمْ قَدْ تَجَاوَزْتُ عَنْهَا ثُمَّ يُعْطَوْنَ حَسَنَاتِهِمْ وَيُقَالُ: هَذِهِ حَسَنَاتُكُمْ قَدْ ضَعَّفْتُهَا لَكُمْ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُحَاسَبَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُجَازَاةِ قَالَ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً [الطَّلَاقِ: ٨] وَوَجْهُ الْمَجَازِ فِيهِ أَنَّ الْحِسَابَ سَبَبٌ لِلْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ وَإِطْلَاقُ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ جَائِزٌ، فَحَسُنَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْحِسَابِ عَنِ الْمُجَازَاةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى يُكَلِّمُ العباد في أحوال أعمالهم وكيفية مالها مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ/ فَمَنْ قَالَ إِنَّ كَلَامَهُ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا بِصَوْتٍ قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ فِي أُذُنِ الْمُكَلَّفِ سَمْعًا يَسْمَعُ بِهِ كَلَامَهُ الْقَدِيمَ كَمَا أَنَّهُ يَخْلُقُ فِي عَيْنِهِ رُؤْيَةً يَرَى بِهَا ذَاتَهُ الْقَدِيمَةَ، وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ صَوْتٌ قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ كَلَامًا يَسْمَعُهُ كُلُّ مُكَلَّفٍ إِمَّا بِأَنْ يَخْلُقَ ذَلِكَ الْكَلَامَ فِي أُذُنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ فِي جِسْمٍ يَقْرُبُ مِنْ أُذُنِهِ بِحَيْثُ لَا تَبْلُغُ قُوَّةُ ذَلِكَ الصَّوْتِ أَنْ تَمَنْعَ الْغَيْرَ مِنْ فَهْمِ مَا كُلِّفَ بِهِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى مُحَاسِبًا لِخَلْقِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي مَعْنَى كَوْنِهِ تَعَالَى سَرِيعَ الْحِسَابِ وَجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّ مُحَاسَبَتَهُ تَرْجِعُ إِمَّا إِلَى أَنَّهُ يَخْلُقُ عُلُومًا ضَرُورِيَّةً فِي قَلْبِ كُلِّ مُكَلَّفٍ بِمَقَادِيرِ أَعْمَالِهِ وَمَقَادِيرِ ثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ، أَوْ إِلَى أَنَّهُ يُوصِلُ إِلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ مَا هُوَ حَقُّهُ مِنَ الثَّوَابِ أَوْ إِلَى أَنَّهُ يَخْلُقُ سَمْعًا فِي أُذُنِ كُلِّ مُكَلَّفٍ يَسْمَعُ بِهِ الْكَلَامَ الْقَدِيمَ، أَوْ إِلَى أَنَّهُ يَخْلُقُ فِي أُذُنِ كُلِّ مُكَلَّفٍ صَوْتًا دَالًّا عَلَى مَقَادِيرِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَعَلَى الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ فَيَرْجِعُ حَاصِلُ كَوْنِهِ تَعَالَى مُحَاسِبًا إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ شَيْئًا، وَلَمَّا كَانَتْ قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى مُتَعَلِّقَةً بِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ تَخْلِيقُهُ وَإِحْدَاثُهُ عَلَى سَبْقِ مَادَّةٍ وَلَا مُدَّةٍ وَلَا آلَةٍ ولا يشتغله شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ لَا جَرَمَ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَخْلُقَ جَمِيعَ الْخَلْقِ فِي أَقَلَّ مِنْ لَمْحَةِ الْبَصَرِ وَهَذَا كَلَامٌ ظَاهِرٌ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحَاسِبُ الْخَلْقَ فِي قَدَرِ حَلْبِ نَاقَةٍ وَثَانِيهَا: أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهُ تَعَالَى: سَرِيعُ الْحِسابِ أَنَّهُ سَرِيعُ الْقَبُولِ لِدُعَاءِ عِبَادِهِ وَالْإِجَابَةِ لَهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ يَسْأَلُهُ السَّائِلُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةً مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَيُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مَطْلُوبَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ مَعَ وَاحِدٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لَطَالَ الْعَدُّ وَاتَّصَلَ الْحِسَابُ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِجُمْلَةِ سُؤَالَاتِ السَّائِلِينَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَحْتَاجُ إِلَى عَقْدِ يَدٍ، وَلَا إِلَى فِكْرَةٍ وَرَوِيَّةٍ، وَهَذَا مَعْنَى
الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ «يَا مَنْ لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ»
وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ تَعَالَى سَرِيعُ الْحِسابِ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ أَحْوَالِ الْخَلْقِ وَأَعْمَالِهِمْ وَوَجْهُ الْمَجَازِ فِيهِ أَنَّ الْمُحَاسَبَ إِنَّمَا

صفحة رقم 339
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية