آيات من القرآن الكريم

أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا ۚ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ
ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭ

ونعيمه، وينسلخ من مفاخره ومميزاته على غيره، بحيث يساوي الغني الفقير، ويماثل الصعلوك الأمير، فيكون الناس من جميع الطبقات في زي كزي الأموات، وفي ذلك من تصفية النفس وتهذيبها وإشعارها من حقيقة العبودية لله والأخوة للناس ما لا يقدر قدره، وإن كان لا يخفى أمره،
وفي الحديث الصحيح المتقدم: «من حج ولم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه»
لأن الإقبال على الله تعالى بتلك الهيئة، والتقلب في تلك المناسك على الوجه المشروع يمحو من النفوس آثار الذنوب وظلمتها ويدخلها في حياة جديدة، لها فيها ما كسبت وعليها ما اكتسبت «١».
تتمة أحكام الحج
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩٨ الى ٢٠٣]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢)
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣)

(١) تفسير المنار: ٢/ ١٨٣

صفحة رقم 209

الإعراب:
عَرَفاتٍ التنوين في عرفات بمنزلة النون من زيدون، وليست للصرف، لأنها لو كانت للصرف، لكان ينبغي أن يحذف للتعريف والتأنيث، لأنها اسم لبقعة مخصوصة.
كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ الكاف في موضع نصب إما لكونه صفة لمصدر محذوف وتقديره: ذكرا كذكركم آباءكم، أو لكونه في موضع نصب على الحال من ضمير «فاذكروا» أي فاذكروه مشبهين ذكركم آباءكم.
أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً إما مجرور عطفا على «ذكركم» أو منصوب على تقدير فعل، والتقدير:
واذكروه ذكرا أشدّ من ذكركم آباءكم.
البلاغة:
فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ تشبيه تمثيلي يسمى «مرسلا مجملا».
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وقوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً فيهما مقابلة.
المفردات اللغوية:
جُناحٌ أي حرج وإثم. أَنْ تَبْتَغُوا تطلبوا. فَضْلًا عطاء ورزقا منه بالربح في التجارة أيام الحج. أَفَضْتُمْ أصله: أفضتم أنفسكم ودفعتموها، والمراد: الدفع منه بكثرة.
عَرَفاتٍ موقف الحاج لأداء النسك، وسمي بذلك لأن الناس يتعارفون فيه، وعرفة: اسم لليوم الذي يقف فيه الحاج بعرفات، وهو التاسع من ذي الحجة. فَاذْكُرُوا اللَّهَ بعد المبيت بمزدلفة بالتلبية والتهليل والدعاء. والذكر: الدعاء والتلبية والتكبير والتحميد. الْمَشْعَرِ الْحَرامِ هو جبل في آخر المزدلفة يقال له: قزح، وسمي بالمشعر، لأنه معلم للعبادة، والشعائر: العلامات، ووصف بالحرام لحرمته، فلا يفعل فيه ما نهي عنه.
روى مسلم: أنه صلّى الله عليه وسلّم وقف به يذكر الله ويدعو حتى أسفر جدا
وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ لمعالم دينه ومناسك حجه، والكاف للتعليل، وَإِنْ مخففة من الثقيلة.
ثُمَّ أَفِيضُوا يا قريش مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ أي من عرفة، بأن تقفوا بها معهم، وكانوا يقفون بالمزدلفة، ترفعا عن الوقوف معهم، وثم للترتيب في الذكر. وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ من ذنوبكم. فَإِذا قَضَيْتُمْ أديتم. مَناسِكَكُمْ عبادات حجكم، بأن رميتم جمرة العقبة وطفتم واستقررتم بمنى، أي إذا فرغتم من مناسك الحج فأكثروا من ذكر الله بالتكبير والثناء، كما كنتم تفعلون بذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم.

صفحة رقم 210

خَلاقٍ نصيب. حَسَنَةً توفيقا وصحة ونعمة (أو رزقا). وَقِنا عَذابَ النَّارِ بعدم دخولها، القصد منه: الحثّ على طلب خير الدارين.
أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ ثواب. مِمَّا كَسَبُوا من أجل ما عملوا من الحج والدعاء. وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسب الخلق كلهم في قدر نصف نهار من أيام الدنيا، لحديث بذلك.
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ أي بالتكبير عند رمي الجمرات في أيام التشريق الثلاثة.
فَمَنْ تَعَجَّلَ أي استعجل بالنفر من منى فِي يَوْمَيْنِ في ثاني أيام التشريق (العيد) بعد رمي جماره فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ بالتعجيل. وَمَنْ تَأَخَّرَ بها حتى بات ليلة الثالث ورمى جماره، أي هم مخيرون في ذلك. لِمَنِ اتَّقى الله في حجه، لأنه الحاج في الحقيقة.
تُحْشَرُونَ إليه في الآخرة، فيجازيكم على أعمالكم.
سبب النزول:
نزول الآية (١٩٨) :
روى البخاري عن ابن عباس قال: كانت عكاظ ومجنّة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية، فتأثّموا أن يتّجروا في المواسم، فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فنزلت: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ في موسم الحج.
وأخرج أحمد وابن أبي حاتم وابن جرير الطبري والحاكم وغيرهم من طرق عن أبي أمامة التيمي قال: «قلت لابن عمر: إنا نكري (أي الدواب للحجاج)، فهل لنا من حج؟ فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فسأله عن الذي سألتني عنه، فلم يجبه، حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ... فدعاه النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أنتم حجاج».
نزول الآية (١٩٩) :
أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: كانت العرب تقف بعرفة، وكانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة، فأنزل الله: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ.

صفحة رقم 211

نزول الآية (٢٠٠) :
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم، يقول الرجل منهم: كان أبي يطعم، ويحمل الحمالات، ويحمل الديات، ليس لهم ذكر غير أفعال آبائهم، فأنزل الله: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ، فَاذْكُرُوا اللَّهَ الآية. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: كانوا إذا قضوا مناسكهم، وقفوا عند الجمرة، وذكروا آباءهم في الجاهلية، وفعال آبائهم، فنزلت هذه الآية، حتى إن الواحد منهم ليقول: اللهم إن أبي كان عظيم القبّة، عظيم الجفنة»
، كثير المال، فأعطني مثل ما أعطيته، فلا يذكر غير أبيه، فنزلت الآية، ليلزموا أنفسهم ذكر الله أكثر من التزامهم ذكر آبائهم أيام الجاهلية.
نزول آخر الآية (٢٠٠) والآيتين (٢٠٠- ٢٠١) :
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف، فيقولون: اللهم اجعله عام غيث، وعام خصب، وعام ولاء وحسن، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئا، فأنزل الله فيهم: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ويجيء آخرون من المؤمنين، فيقولون: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً... إلى قوله: سَرِيعُ الْحِسابِ.
المناسبة:
بعد أن حضّ الله تعالى على التقوى والتزوّد ليوم الحساب ومخافة الله، وبعد أن منع الله تعالى الجدال في الحج، وكانت المعاملات التجارية تفضي عادة إلى الجدال والمخاصمة، جاءت آية: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ.. للاستدراك مما قد يفهم أن التجارة مظنة المنع، أي ممنوعة في الحج، وأيضا لما حظر الله لبس المخيط.

(١) الجفنة: أعظم ما يكون من القصاع. [.....]

صفحة رقم 212

والإنسان قد يكون شديد الحاجة، وكانت التجارة مظنة الحظر، فدفعا لذلك التوهم أباح الله تعالى الاتّجار في أثناء الحج، لأن ذلك سعي من أجل الرزق، والرزق أو الكسب فضل من الله غير محظور، لأنه لا ينافي الإخلاص في هذه العبادة، فلا مانع من انضمام قصد الاتّجار إلى الحج، وإنما الممنوع هو قصد التجارة فحسب. وقد تحرج المسلمون من التجارة في بادئ الأمر، خشية التأثير على العبادة، كما بيّنا في سبب النزول، فكانوا يقفلون حوانيتهم، فأعلمهم الله أن الكسب فضل من الله لا إثم فيه مع إخلاص العبادة.
التفسير والبيان:
لا إثم عليكم في طلب الرزق الحلال أثناء الحج من طريق البيع والشراء والكراء إذا لم يكن هو المقصود الأساسي بالذات، وإنما يجوز أن يكون تبعا للعبادة، إذ هو مع حسن المقصد عبادة أيضا، ولكن التفرغ لأداء المناسك أفضل وأكمل، لقوله تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة ٩٨/ ٥].
ويشترط أيضا لإباحة التجارة في الحج: ألا يترتب عليها نقصان في الطاعة، ولا تشغله عن أعمال الحج، لذا أمر الله تعالى بذكره بعد الوقوف بعرفات الذي هو أهم أركان الحج
للحديث النّبوي: «الحج عرفة» «١»،
وبعد الإفاضة من عرفات: أي الاندفاع في السير بكثرة، فعلى الحاج إذا دفع إلى المزدلفة وبات فيها أن يذكر الله عند المشعر الحرام بالتلبية والتهليل والدعاء والحمد والثناء، وإنما طلب منه الذكر خشية أن يتركه في هذا الموضع المبارك. والمشعر الحرام: هو الجبل الذي يقف عليه الإمام،
فقد روي: «عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لما صلّى الفجر بالمزدلفة، ركب ناقته، حتى أتى المشعر الحرام، فدعا وكبّر، وهلل، ولم

(١) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحاكم والبيهقي عن عبد الرحمن بن يعمر.

صفحة رقم 213

يزل واقفا حتى أسفر جدا»
أي دخل في الإسفار وهو بياض النهار، وورد عن ابن عباس أنه نظر إلى الناس وقال: كان الناس في هذه الليلة لا ينامون.
ثمّ بيّن الله سبحانه طريقة الذّكر، فقال: واذكروه كما علّمكم كيفيّة الذّكر، بأن يكون بتضرع وإخلاص وإنابة قلبية وخشوع وحضور القلب مع الله، وهذا هو الذّكر الحسن، كما هداكم هداية حسنة، وإن كنتم من قبل هذا الهدى من الضّالين عن الحق في العقيدة والعمل، إذ كنتم تعبدون الأوثان والأصنام، وتتخذونها وسطاء أو شفعاء عند الله، لتقربكم إلى الله زلفى.
ثم أمرت الآية قريشا وبعض القبائل بالإفاضة من عرفات، كما يفيض الناس منها ويقفون عليها، بعد أن كانوا يقفون في المزدلفة، ترفعا عن غيرهم.
روى البخاري ومسلم: أن قريشا ومن دان دينهم من كنانة وجديلة وقيس وهم الحمس «١» كانوا يقفون في الجاهلية بمزدلفة، ترفّعا عن الوقوف مع العرب في عرفات.
وتحقيقا لمبدأ المساواة ونبذ الامتيازات في الإسلام أمر الله نبيّه بأن يقف مع المسلمين جميعا في عرفات، وأن يفيضوا منها إبطالا لما كانت عليه قريش.
ولما كانت أعمال الحج كثيرة، وهي لا تخلو عن تقصير، أمرهم بالاستغفار، فالله تعالى واسع المغفرة والرحمة لمن يطلب ذلك منه مع التوبة الخالصة.
ثم أبطل الله تعالى عادة جاهلية أخرى وهي المفاخرة بأمجاد الآباء حيث إنهم كانوا يقفون بمنى بين المسجد والجبل، بعد الفراغ من أعمال الحج، كما بيّنا في سبب النزول، ويؤكده ما روى ابن عباس: أن العرب كانوا عند الفراغ من حجتهم، يعدّ الواحد منهم أيام آبائه في السماحة، والحماسة، وصلة الرحم،

(١) الحمس: مفرده أحمس: وهو الشديد الصلب في الدين والقتال.

صفحة رقم 214

ويتناشدون فيها الأشعار، فلما أنعم الله عليهم بنعمة الإسلام، أمرهم بأن يذكروه كذكرهم لآبائهم.
وروى القفال عن ابن عمر قال: طاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على راحلته القصواء، يوم الفتح، يستلم الركن بمحجنه، ثم حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
«أما بعد، أيها الناس: إن الله قد أذهب عنكم حميّة الجاهلية وتفككها، يا أيها الناس، إنما الناس رجلان: برّ تقيّ كريم على الله، أو فاجر شقيّ هيّن على الله، ثم تلا: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ.. الآية [الحجرات ٤٩/ ١٣].
وخطب النّبي صلّى الله عليه وسلّم أيضا في حجة الوداع في ثاني أيام التشريق، فأرشد العرب إلى ترك تلك المفاخرات، وقال: «أيها الناس، إنّ ربّكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى، أبلّغت؟»
قالوا: بلّغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وإبطال تلك العادة كان بالأمر بذكر الله ذكرا كثيرا مبالغا فيه، كما كانوا يذكرون آباءهم ومفاخرهم، بل أشدّ من ذكرهم آباءهم.
ثم ذكر ما يكون من الناس الذاكرين في الدعاء، ليأخذوا بأحسن الأحوال ويتركوا غيره، فقال: الناس في الحج قسمان:
قسم يقصر دعاءه على أمور الدنيا، والاستزادة من خيراتها، ويسكت عن الآخرة، وكأنها لا تخطر له ببال، ولا يهتم بشيء من أمورها، فيطلب الجاه والغنى والنصر على الأعداء ونحو ذلك من حظوظ الدّنيا، هذا القسم لا خلاق (لا حظّ) لهم في الآخرة، مما أعدّه الله للمتقين من رضوانه وجناته.

صفحة رقم 215

وقسم يحرص على طلب خيري الدّنيا والآخرة، فيقول: ربّنا هب لنا حياة طيبة سعيدة هانئة في الدنيا، وحياة راضية رغيدة مطمئنة في الآخرة، وطلب كلّ من سعادة الدّنيا والآخرة منوط بالعمل الطيب النافع، فالدّنيا تتطلب الجهد والسعي في سبيل الرزق، وحسن المعاملة والمعاشرة، والتّخلّق بمحاسن الأخلاق، والآخرة لا تنال إلا بالإيمان الصحيح والعمل الصالح، وهذا القسم حريص على اجتناب المعاصي وأسباب العذاب في النار، فيقول: ربّنا احفظنا من شهوات نفوسنا، وباعد بيننا وبين الخطايا كما باعدت بين المشرق والمغرب، ووفقنا للعمل بما يرضيك، فإذا قام المؤمن بفرائض الله واجتنب المعاصي والمنكرات، وطلب سعادة الدارين، حقق الله له النجاح فيهما.
والحسنة في الدّنيا: هي الصّحة والأمن والكفاية والولد الصالح والزوجة الصالحة والنصرة على الأعداء. والحسنة في الآخرة: هي الفوز بالثواب والخلاص من العقاب.
ثم أشار الله إلى الفريقين: الذين طلبوا الدنيا، والذين طلبوا الدنيا والآخرة معا، فأبان أنّ كلّا منهما يعطى حظّا مما طلب ودعا، وقيل: إن قوله: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ.. راجع للقسم الثاني فقط، لأن الله ذكر حكم الفريق الأول بقوله: وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. وعلى كل حال يكون نوال الجزاء مبتدءا من الكسب، لأن فَمِنَ لابتداء الغاية، لا للتبعيض، والكسب يطلق على ما يناله المرء بعمله، والله سريع الحساب، يوفي كلّ كاسب أجره عقب عمله، وسرعة الحساب في الآخرة تكون باطّلاع كل عامل على عمله، ويتمّ ذلك في لحظة،
فقد روي أن الله يحاسب الخلائق كلهم بمقدار لمحة البصر، وروي بمقدار نصف يوم من أيام الدنيا.
وفي الجملة: آية رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً جامعة لجميع مطالب الدنيا والآخرة، وما دام الحساب محقق الوقوع، فهو قريب سريع.

صفحة رقم 216

وهناك شبيه لهذه الآية، وهي قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً، وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها، وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً، كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ، وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً [الإسراء ١٧/ ١٨- ٢٠]. وقوله عزّ وجلّ: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا، نُؤْتِهِ مِنْها، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى ٤٢/ ٢٠].
ثم أمر الله تعالى بذكره في أيام منى بعد الأمر السابق بذكره عند المشعر الحرام، وعند تمام أداء المناسك بعد منى، فقال سبحانه: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ هي أيام منى أو أيام التشريق الثلاثة من حادي عشر ذي الحجة إلى ثالث عشر، وهي الأيام التي يرمون فيها الجمار، وينحرون فيها الهدي والأضاحي.
والذكر في هذه الأيام يكون بالتهليل والتكبير عقب الصلاة وعند رمي الجمار وذبح القرابين، ويستوي في نوع هذا الذكر الحاج وغيره إلا أن غير الحاج يكبّر أيضا في يوم عرفة، والحاج يلبي، والمأثور من التّكبير: «الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرا». ورد عن عمر رضي الله عنه أنه كان يكبّر في فسطاطه بمنى، فيكبّر من حوله، حتى يكبّر الناس في الطريق.
وروي عن الفضل بن العباس قال: «كنت رديف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من جمع- مزدلفة- إلى منى، فلم يزل يلبّي حتى رمى جمرة العقبة».
ويلاحظ أنه ورد الأمر بالذكر في الحج في هذه السورة في أيام معدودات، وفي سورة الحج في أيام معلومات: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ، وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ (الآية: ٢٨)، فذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أنّ

صفحة رقم 217

«المعلومات» هي العشرة الأوائل من ذي الحجة، آخرها النّحر، وأما «المعدودات» فهي ثلاثة بعد يوم النّحر، وهي أيام التشريق. وقد أكّد القفال هذا بما
رواه في تفسيره أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم أمر مناديا فنادى: «الحج عرفة، من جاء ليلة جمع- مزدلفة- قبل طلوع الفجر، فقد أدرك الحج، وأيام منى ثلاثة أيام، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه»
وروى أصحاب السّنن عن عبد الرحمن بن يعمر قال: إن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو واقف بعرفة، فسألوه، فأمر مناديا ينادي: «الحج عرفة، من جاء ليلة جمع «١» - مزدلفة- قبل طلوع الفجر فقد أدرك، أيام منى ثلاثة أيام، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه».
ومذهب مالك أن أيام الرّمي معدودات وأيام النّحر معلومات، فيوم النّحر معلوم غير معدود، واليومان بعده معلومان معدودان، واليوم الرابع معدود لا معلوم.
ومعنى آية فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ..: أنّ من تعجل في الإتيان بالمطلوب في الأيام الثلاثة، بأن جعله في يومين، فلا إثم عليه، ومن تأخر، بأن لم يأخذ برخصة التعجيل، فلا إثم عليه، فالأفضل البقاء في منى والمبيت بها ثلاثة أيام وليال، لرمي الجمار «٢» الثلاث في كلّ يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة، عند كل جمرة سبع حصيات، تأسّيا بفعل إبراهيم عليه السلام، وتمتاز جمرة العقبة بأنها ترمى وحدها يوم النحر أيضا. ويجوز الترخص والمبيت بمنى ليلتين الليلة الأولى والثانية من أيام التشريق، ثم النّفر إلى مكة. ومن لم ينفر حتى غربت شمس اليوم الثاني، فعليه أن يبيت حتى يرمي اليوم الثالث قبل الزوال أو بعده، ثم ينفر، ولا إثم عليه بترك الترخص.
هذا التخفيف والتخيير في التعجيل والتأخير، ونفي الإثم عن المستعجل

(١) سميت جمعا: لأنه اجتمع بها حواء وآدم عليهما السلام.
(٢) الجمار: جمع جمرة: وهي مجتمع الحصى.

صفحة رقم 218

والمتأخر أو هذا الغفران، إنما هو لمن اتّقى «١» الله وترك ما نهى عنه، فلم يلبس حجه بالمظالم والمآثم، لأنه هو الحاج الحقيقي، لأن الغرض من كل عبادة هو التقوى، كما قال الله تعالى: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة ٥/ ٢٧].
وتحقيق التقوى: بذكر الله بالقلب واللسان ومراقبته في جميع الأحوال. ثم أمر الله بالتقوى فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي واتّقوا الله حين أداء مناسك الحج، وفي جميع الأحوال، ثم أكّد الأمر بالتقوى فقال: واعلموا أنكم ستجمعون وتبعثون للحساب والجزاء على أعمالكم يوم القيامة، والحشر: من ابتداء الخروج من الأجداث إلى انتهاء الموقف، والعاقبة للمتّقين، والعاقبة للتقوى، قال الله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا [مريم ١٩/ ٦٣]، وقال أيضا: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار ٨٢/ ١٩].
ومن علم أنه محاسب على أعماله، التزم العمل الصالح، واتقى ربّه، وقد كرّر الأمر بذكر الله وبالتقوى، للإرشاد بأن المهم في العبادة هو إصلاح النفس وفعل الخير، والبعد عن الشر والمعاصي. وأما من ظن أو شك في المصير المحتوم فيعمل تارة ويترك أخرى.
ولما ذكر الله تعالى النفر الأول من عرفات، والنفر الثاني بعد إنهاء المناسك وهو تفرق الناس من موسم الحج إلى سائر الأقاليم والآفاق بعد اجتماعهم في المشاعر والمواقف قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، كما قال: هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الملك ٦٧/ ٢٤].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت آية لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ.. على جواز التجارة في الحج للحاج، مع

(١) اللام من قوله لِمَنِ اتَّقى متعلقة بالغفران على تفسير ابن مسعود وعلي، التقدير: المغفرة لمن اتقى. وروي عن ابن عمر: التقدير: الإباحة لمن اتقى. وقيل: السلامة لمن اتقى.

صفحة رقم 219

أداء العبادة، وأن القصد إلى ذلك لا يكون شركا، ولا يخرج به المكلف عن شرط الإخلاص المفترض عليه. لكن الحج دون تجارة أفضل، لبعده عن شوائب الدّنيا وتعلّق القلب بغيره.
وفي آية: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ.. دلالة على أن الوقوف بعرفة أمر واجب لا بدّ منه، لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده، ولأنه قد رتب عليه الأمر بالذكر عند المشعر الحرام.
وقد أجمع العلماء على أن من وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزوال (الظهر) ثم أفاض منها قبل الزوال أنه لا يعتد بوقوفه ذلك. وأجمعوا على تمام حجّ من وقف بعرفة بعد الزوال، وأفاض نهارا قبل الليل، إلا الإمام مالك، فإنه قال: لا بدّ أن يأخذ من الليل شيئا. ولا خلاف أيضا في أن من وقف بعرفة بالليل فحجّه تام. وحجة الجمهور: مطلق قوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ ولم يخصّ ليلا من نهار،
وحديث عروة بن مضرّس قال: أتيت النّبي صلّى الله عليه وسلّم وهو في الموقف من جمع- مزدلفة-، فقلت: يا رسول الله، جئتك من جبلي طيء، أكللت مطيّتي، وأتعبت نفسي، والله إن تركت من جبل «١» إلا وقفت عليه، فهل لي من حجّ يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من صلّى معنا صلاة الغداة بجمع، وقد أتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا، فقد قضى تفثه «٢»، وتمّ حجّه» «٣».

(١) أي ما تركت جبلا إلا وقفت عليه.
(٢) المراد أنه أتى بما عليه من المناسك. والمشهور: أن التفث: ما يصنعه المحرم عند حلّه من تقصير شعر أو حلقه وحلق العانة ونتف الإبط وغيره من خصال الفطرة، ويدخل ضمن ذلك نحر الإبل وغيرها وقضاء جميع المناسك، لأنه لا يقضى التفث إلا بعد ذلك.
(٣) رواه أبو داود والنسائي والدارقطني واللفظ له، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

صفحة رقم 220

وحجة مالك: حديث جابر الطويل عند مسلم، وفيه: فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصّفرة قليلا، حتى غاب القرص، وأفعاله عليه الصلاة والسلام على الوجوب، لا سيّما في الحج،
وقد قال: «خذوا عني مناسككم».
وهل على من وقف نهارا فقط في عرفات شيء؟ أوجب الجمهور (غير الشافعية) الوقوف إلى غروب الشمس، ليجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة، اقتداء بفعل النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فإن أفاض (دفع) قبل غروب الشمس، ولم يرجع، فحجّه صحيح تام، وعليه دم عند الحنفية والحنابلة، وقال مالك: عليه حجّ قابل، وهدي ينحره في حجّ قابل، وهو كمن فاته الحج. وذهب الشافعية:
إلى أنه يسنّ الجمع بين الليل والنهار فقط، اتّباعا للسّنة، فإن أفاض قبل الغروب، فلا دم عليه، وإن لم يعد إلى عرفة ليلا،
للخبر الصحيح: «من أتى عرفة قبل الفجر ليلا أو نهارا، فقد تمّ حجه».
والأفضل أن يقف بعرفة راكبا لمن قدر على الركوب، اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولأنه أعون على الدعاء، فإن لم يقدر على الركوب وقف قائما على رجليه داعيا، ما دام يقدر، ولا حرج عليه في الجلوس إذا لم يقدر على الوقوف. وفي الوقوف راكبا تعظيم للحج قال الله تعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ، فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج ٢٢/ ٣٢].
وظاهر عموم القرآن والسّنة الثابتة يدلّ على أن عرفة كلها موقف،
قال صلّى الله عليه وسلّم: «ووقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف».
ويوم عرفة فضله عظيم وثوابه جسيم، يكفر الله فيه الذنوب العظام، ويضاعف فيه الصالح من الأعمال،
قال صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح: «صوم يوم عرفة يكفّر السنة الماضية والباقية»،
وهذا سنّة لغير الحاج، وصام بعض أهل العلم بعرفة يوم عرفة،
وقال أيضا: «أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت

صفحة رقم 221

أنا والنبيّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له»،
وروى الدارقطني عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عددا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو عزّ وجلّ، ثم يباهي بهم الملائكة، يقول: ما أراد هؤلاء».
ورغّبت الآيات في ذكر الله في مواضع كثيرة في الحج، عند المشعر الحرام، وفي أيام منى، وبعد الانتهاء من الحج، وذلك بالدعاء والتّلبية عند المشعر الحرام، وبالتهليل والتّكبير في منى، وبالاستغفار والدعاء في عرفات وبعد الإفاضة منها وبعد إنهاء أعمال الحج، لتقوى الصّلة والارتباط بالله، ولتكون خشية الله في مرأى ومسمع وقلب المسلم إذا عبد الله أو تعامل مع الناس. روى أحمد ومسلم حديثا عن نبيشة الهذلي: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر».
وقيل: الأمر الأول: أمر بالذكر عند المشعر الحرام، والثاني: أمر بالذكر على حكم الإخلاص، والثالث المداومة على الذكر كذكر مفاخر الآباء والتغني بالأمجاد الذي كان في الجاهلية عقب الحج، بل كأشد ذكرا من ذكر الآباء. ومن أكمل الأذكار والدعاء في هذه الآيات: الصيغة الجامعة لخيري الدّنيا والآخرة، فهي من جوامع الدعاء التي يطلب من المؤمن الإكثار منها، وهي: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنا عَذابَ النَّارِ.
جاء في الصحيحين عن أنس قال: «كان أكثر دعوة يدعو بها النّبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: اللهمّ آتنا في الدّنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النّار».
وثبت أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى الظهر والعصر في يوم عرفة جمع تقديم مع خطبة كخطبة الجمعة، وصلّى المغرب والعشاء بالمزدلفة جمع تأخير، بأذان واحد وإقامتين، كما ثبت في الصحيح. وقال مالك: يصليهما بأذانين وإقامتين.
وليس المبيت بالمزدلفة ركنا في الحج عند الجمهور، وقال مالك: الوقوف بها

صفحة رقم 222

واجب، ويكفي مقدار حطّ الرّحال وجمع الصّلاتين، وتناول شيء من الطعام والشراب، والمبيت بها سنّة مؤكّدة، فمن لم يبت بها فعليه دم، ومن قام بها أكثر ليله، فلا شيء عليه.
وقال الحنفية: يجب الوقوف بالمزدلفة ولو لحظة بعد الفجر، ولو مارّا كالوقوف بعرفة، ويسنّ المبيت فيها.
وقال الشافعية: يكفي في المبيت بالمزدلفة الحصول بها لحظة بعد منتصف الليل.
وقال الحنابلة: المبيت بمزدلفة واجب لما بعد منتصف الليل، من تركه فعليه دم.
والواجب عند الكل من الفدية أو الدم هو شاة، ودليل وجوب الوقوف بالمزدلفة
حديث عروة بن مضرّس المتقدم: «من صلّى معنا هذه الصلاة، ثم وقف معنا حتى نفيض، وقد أفاض قبل ذلك- من عرفات «١» - ليلا أو نهارا، فقد تمّ حجه، وقضى تفثه».
ويقطع الحاج التلبية بأول حصاة يرميها من جمرة العقبة في رأي أكثر العلماء، والمشهور عن مالك قطعها عند زوال الشمس من يوم عرفة. ودليل الجمهور: ما
رواه مسلم عن الفضل بن عباس: «لم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبّي حتى رمى جمرة العقبة».
ويحصل التحلل الأصغر للحاج برمي جمرة العقبة والحلق والذبح، لما
روى الدارقطني عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا رميتم وحلقتم وذبحتم، فقد حلّ لكم كلّ شيء إلا النساء، وحلّ لكم الثياب والطّيب».

(١) الزيادة عن الدارقطني.

صفحة رقم 223

وبعبارة أخرى: يحصل بفعل اثنين من ثلاثة: رمي جمرة العقبة والحلق وطواف الإفاضة. والتحلل الأكبر: طواف الإفاضة، وهو الذي يحلّ النساء وجميع محظورات الإحرام.
وقت التكبير: إن ذكر الله في الأيام المعدودات: هو التّكبير عقب الصلوات وعند رمي الجمرات، قال مالك: يبدأ التّكبير من ظهر يوم النّحر إلى ما بعد الصبح من آخر أيام التشريق، فتكون الصلوات التي يكبّر فيها خمس عشرة صلاة.
وفي رواية عن الشافعي: يبدأ بالتكبير من صلاة المغرب ليلة النّحر.
وفي رواية أخرى عنه وعن أبي حنيفة: إنه يبدأ به من صلاة الفجر يوم عرفة، ويقطع بعد صلاة العصر من يوم النّحر. ومذهب الحنفية والحنابلة والمشهور عند الشافعية: أنه يبدأ بالتكبير من صلاة الفجر يوم عرفة وينقطع بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق، فتكون الصلوات ثلاثا وعشرين صلاة، بدليل ما
روى جابر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه صلّى الصبح يوم عرفة، ثم أقبل علينا، فقال: الله أكبر، ومدّ التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق».
وفي قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا: قال ابن عباس: هو الرجل يأخذ مالا يحج به عن غيره، فيكون له ثواب،
وروي عنه- فيما رواه الدارقطني- في هذه الآية أنّ رجلا قال: يا رسول الله، مات أبي ولم يحج، أفأحج عنه؟ فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو كان على أبيك دين، فقضيته، أما كان ذلك يجزي؟» قال: نعم، قال: «فدين الله أحق أن يقضى»
، وقول ابن عباس نحو قول مالك، أي أن المحجوج عنه يحصل له ثواب النفقة، والحجة للحاج، فكأن له ثواب بدنه وأعماله، وللمحجوج عنه ثواب ماله وإنفاقه، لذا لا فرق بين أن يكون النائب حجّ عن نفسه حجة الإسلام أم لم يحجّ.

صفحة رقم 224

ولا خلاف في أن المخاطب بالذكر في الأيام المعدودات هو الحاج، خوطب بالتكبير عند رمي الجمرات، وعلى ما رزق من بهيمة الأنعام في الأيام المعلومات وعند إدبار الصلوات دون تلبية.
وغير الحاج في رأي جماهير الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار مثل الحاج مطالب بالتكبير، فيكبّر عند انقضاء كل صلاة، سواء صلّى وحده أو في جماعة، تكبيرا ظاهرا في هذه الأيام، اقتداء بالسلف رضي الله عنهم، على النحو الذي بيّناه في وقت التّكبير. وفي المدونة لمالك: إن نسي التّكبير إثر صلاة، فإن كان قريبا قعد فكبّر، وإن تباعد فلا شيء عليه، وإن ذهب ولم يكبّر، والقوم جلوس فليكبّروا.
ولفظ التّكبير في مشهور مذهب مالك: ثلاث تكبيرات، وفي رواية يزاد:
لا إله إلا الله، والله أكبر، ولله الحمد.
وأجمع الفقهاء على أن يوم النّحر لا يرمى فيه غير جمرة العقبة، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يرم يوم النّحر من الجمرات غيرها، ووقتها من طلوع الشمس إلى الزوال. وأجمعوا أيضا على أن وقت رمي الجمرات في أيام التشريق بعد الزوال إلى الغروب.
وأجاز الجمهور (غير الشافعي) رمي جمرة العقبة بعد الفجر قبل طلوع الشمس، ولا يجوز رميها قبل الفجر. وأباح الشافعي رميها بعد نصف الليل.
فإذا مضت أيام الرمي، فلا رمي، وعليه الهدي (دم)، سواء ترك الجمار كلها، أو جمرة منها، أو حصاة من جمرة، في رأي مالك. وقال أبو حنيفة: إن ترك الجمار كلها فعليه دم، وإن ترك جمرة واحدة، كان عليه بكل حصاة من الجمرة إطعام مسكين نصف صاع، إلى أن يبلغ دما فيطعم ما شاء، إلا جمرة

صفحة رقم 225
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية