وليس لقائل أن يقول: طوى ذكرهم عن الجملة بحذف المبتدإ فأتسلق بذلك إلى تسميته استعارة لأنه في حكم المنطوق به، نظيره قول من يخاطب الحجاج:
أَسَدٌ عَلَىَّ وفي الحُرُوبِ نَعَامَةٌ | فَتْخاءُ تَنْفُرُ مِنْ صَفِيرِ الصَّافِرِ «١» |
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
ثم ثنى اللَّه سبحانه في شأنهم بتمثيل آخر ليكون كشفا لحالهم بعد كشف، وإيضاحا غب إيضاح. وكما يجب على البليغ في مظانّ الإجمال والإيجاز أن يجمل ويوجز فكذلك الواجب عليه في موارد التفصيل والإشباع أن يفصل ويشبع. أنشد الجاحظ:
أسد على وفي الحروب نعامة | فتخاء تنفر من صفير الصافر |
هلا كررت على غزالة في الوغي | بل كان قلبك في جناحي طائر |
وتنفر: صفة نعامة، أى تفزع وتهلع خوفا من أدنى صوت تسمعه. وصفها بغاية الضعف ليدل على أن المشبه كذلك ثم وبخه بقوله: هلا كررت على تلك المرأة في الحرب. لم تفعل ذلك بل كان قلبك يخضق ويضطرب، كأنه في جناحي طائر، وهو من التشبيه البليغ. ويروى: هلا برزت إلى غزالة.
يُوحُونَ بالخُطَبِ الطِّوَالِ وتَارَةً | وَحْىَ المُلَاحِظِ خِيفةَ الرُّقَباءِ «١» |
أَذَاكَ أَمْ نَمَشٌ بالْوَشْىِ أَكْرَعُهُ.....................
أَذَاكَ أَمْ خَاضِبٌ بالسَّىِّ مَرْتَعُهُ................. «٢»....
فإن قلت: قد شبه المنافق في التمثيل الأوّل بالمستوقد نارا، وإظهاره الإيمان بالإضاءة، وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار، فماذا شبه في التمثيل الثاني بالصيب وبالظلمات وبالرعد وبالبرق وبالصواعق؟ قلت: لقائل أن يقول: شبه دين الإسلام بالصيب، لأنّ القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر. وما يتعلق به من شبه الكفار بالظلمات. وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق. وما يصيب الكفرة من الأفزاع والبلايا والفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق. والمعنى: أو كمثل ذوى صيب. والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة فلقوا منها ما لقوا. فإن قلت: هذا تشبيه أشياء بأشياء فأين ذكر المشبهات؟ وهلا صرح به كما
ويقال: وحى له، وإليه وحيا، وأوحى له وإليه إيحاء: إذا ألقى إليه الكلام، أو أشار له به، وألهمه إياه. فالوحى مصدر وحى أو اسم مصدر أوحى، واللحظ: الاشارة بطرف العين يمنة أو يسرة. واللاحظ وصف بحسب الأصل، وهو اسم لطرف العين. ولذلك جمع على لواحظ، ونسب الوحى إليها لأنها آلة. ويجوز أنه جمع لاحظة عنق للنسائى أى يتكلمون بالخطب الطوال تارة عند الأمن، ويوحون وحيا باللواحظ تارة أخرى، لخوفهم من الرقباء، فلكل مقام عندهم مقال.
(٢).
أذاك أم نمش بالوشي أكرعه | مسفع الخد عاد ناشط شبب |
أذاك أم خاضب بالسي مرتعه | أبو ثلاثين أمسى وهو منقلب |
تفرق اللون. وكحذر: متفرق اللون. والوشي: لون يخالف لون بقية الشيء. والأكرع: جمع كراع وهو الساق والمسفع: الأسود- من السفعة- وهي السواد. والناشط: الخارج من أرض لأخرى. والشبب- كحذر أيضا- المسن من بقر الوحش. ثم قال أذاك الثور يشبهها، أم خاضب؟ وهو الظليم الذي احمرت ساقاه، أو اصفرتا من أكل الربيع. والسى: المستوى من الأرض، واسم موضع بعينه. والمرتع: مصدر أو اسم مكان مظروف في أوسع منه. ومنقلب: راجع من المرعى إلى أفراخه الثلاثين. فيكون أسرع ما يكون، فهي كذلك سريعة السير.
وأكرعه فاعل بالظرف أو فاعل نمش. ومرتعه: فاعله بالظرف، أو مبتدأ والظرف خبر له.
في قوله: (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ)، وفي قول امرئ القيس:
كأنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً ويابِساً | لَدَى وَكْرِها العُنَّابُ والحَشَفُ البَالِى؟ «١» |
(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ)، (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ). والصحيح الذي عليه علماء البيان لا يتخطونه:
أنّ التمثلين جميعا من جملة التمثيلات المركبة دون المفرّقة، لا يتكلف الواحد واحد شيء يقدر شبهه به، وهو القول الفحل والمذهب الجزل، بيانه: أنّ العرب تأخذ أشياء فرادى، معزولا بعضها من بعض، لم يأخذ هذا بحجزة ذاك فتشبهها بنظائرها، كما فعل امرؤ القيس وجاء في القرآن، وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامّت وتلاصقت حتى عادت شيئا واحدا، بأخرى مثلها كقوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) الآية. الغرض تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها من التوراة وآياتها الباهرة، بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة، وتساوى الحالتين عنده من حمل أسفار الحكمة وحمل ما سواها من الأوقار، لا يشعر من ذلك إلا بما يمرّ بدفيه من الكدّ والتعب. وكقوله: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) المراد قلة بقاء زهرة الدنيا كقلة بقاء الخضر. فأما أن يراد تشبيه الأفراد بالأفراد غير منوط بعضها ببعض ومصيرة شيئا واحدا، فلا. فكذلك لما وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة شبهت حيرتهم وشدّة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل، وكذلك من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق. فإن قلت: الذي كنت تقدّره في المفرّق من التشبيه من حذف المضاف وهو قولك «أو كمثل ذوى صيب» هل تقدّر مثله في المركب منه؟ قلت: لولا طلب
ويجوز أن رطباً ويابسا نصب على البدل من قلوب الطير، أى كأن الرطب واليابس منها: العناب والحشف. وبدل البعض لا يجب فيه ضمير يرجع للبدل منه، وإن كانت الأولى ذلك.
الراجع في قوله تعالى: (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) ما يرجع إليه لكنت مستغنيا عن تقديره لأنى أراعى الكيفية المنتزعة من مجموع الكلام فلا علىّ أوَلِىَ حرف التشبيه مفرد يتأتى التشبيه به أم لم يله. ألا ترى إلى قوله: (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) الآية، كيف ولى الماء الكاف، وليس الغرض تشبيه الدنيا بالماء ولا بمفرد آخر يتمحل لتقديره. ومما هو بين في هذا قول لبيد:
وما النَّاسُ إلّا كالدِّيَارِ وأَهْلُهَا | بِهَا يَوْمَ حَلُّوهَا وغَدْواً بَلَاقِعُ «١» |
أو في أصلها لتساوى شيئين فصاعدا في الشك، ثم اتسع فيها فاستعيرت للتساوى في غير الشك، وذلك قولك: جالس الحسن أو ابن سيرين، تريد أنهما سيان في استصواب أن يجالسا، ومنه قوله تعالى: (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً)، أى الآثم والكفور متساويان في وجوب عصيانهما، فكذلك قوله: (أَوْ كَصَيِّبٍ) معناه أن كيفية قصة المنافقين مشبهة لكيفيتى هاتين القصتين، وأن القصتين سواء في استقلال كل واحدة منهما بوجه التمثيل، فبأيتهما مثلتها فأنت مصيب، وإن مثلتها بهما جميعا فكذلك. والصيب: المطر الذي يصوّب، أى ينزل ويقع.
ويقال للسحاب: صيب أيضا. قال الشماخ:
وأَسْحَمَ دَانٍ صَادِقِ الرَّعْدِ صَيِّبِ «٢»
«وأهلها بها» جملة حالية. و «يوم حلوها» نصب بعامل المجرور قبله المحذوف. و «غدوا بلاقع» أى وهي في غد بلاقع، جمع بلقع: أى قفر خالي. والشائع استعمال «الغد» كاليد، فظهرت واوه هنا على الأصل. وعبر بالغد ومراده به الزمن القريب، كما يقال أفعله بكرة. والمراد بعد أيام قليلة، فالجامع سرعة الفناء والزوال بعد البهجة والنضرة. ولك جعله من تشبيه المفرد بالمفرد بجامع أن الناس تكون فيها الأرواح، فهي زاهية باهية، ثم تنزع منها فتصير خالية خاوية كالدار تكون عامرة بأهلها فتصبح خرابا. وهذا على رفع أهلها. وأما على جره عطفاً على الديار فيتعين الأول، ويكون «بها» متعلق بمحذوف حال من أهلها. والباء بمعنى «في» على التقديرين.
(٢).
أرسما جديداً من سعاد تجنب | عفت روضة الأجداد منه فينقب |
عفا آية نسج الجنوب مع الصبا | وأسحم دان صادق الوعد صيب |
درس وهلك، وعفته الريح: أهلكته ودرسته. والجد- بالضم- البئر التي في موضع كثير الكلأ. والجدد:
الأرض الصلبة، ضد الحبار. والأجداد جمع للأول أو للثاني. والجدد: الطرائق المنعطفة من الرمل. ويجوز أن الأجداد جمعه أيضاً، لكن على روايته «روضة» بالنصب والاضافة للضمير. والأجداد بالرفع. والنقب- كالشعب-: الطريق المطمئن في الجبل. ونقب المكان ينقب: صار ذا نقب. وكذلك يشعب صار ذا شعب.
هذا والمتبادر أنه بالعين بدل القاف، أى يقفر، من النقبة وهي الاقفار. والآي واحده آية، بمعنى العلامات والآثار.
وشبه اختلاف الرياح على وجوه منضبطة بالنسج على طريق التصريحية. والأسحم: الأسود، وهو صفة السحاب.
والداني: القريب. وروى «داج» والداجي المظلم. والصيب: كثير الأمطار. والاستفهام تعجبي. يقول:
أتعجب من مباعدتنا الرسم الجديد من دار سعاد؟ أو أتعجب من مرورنا بجانب رسم سعاد الجديد الذي هلكت آثاره فصار طرقا متسعة؟ والذي محا أثره هو اختلاف الرياح وتتابع الأمطار. فعفا استئناف بيانى. وشبه السحاب برجل صدق وعده على طريق المكنية. والصدق والوعد تخييل. وروى الرعد بالراء، شبه رعده بالخبر الصادق.
وصيب: فيعل من صاب يصوب، إذا نزل مائلا إلى جهة، كسيد من ساد يسود.
وتنكير صيب لأنه أريد نوع من المطر شديد هائل. كما نكرت النار في التمثيل الأول.
وقرئ: كصائب، والصيب أبلغ. والسماء: هذه للمظلة. وعن الحسن: أنها موج مكفوف.
فان قلت: قوله: (مِنَ السَّماءِ) ما الفائدة في ذكره؟ والصيب لا يكون إلا من السماء. قلت:
الفائدة فيه أنه جاء بالسماء معرفة فنفى أن يتصوّب من سماء، أى من أفق واحد من بين سائر الآفاق، لأنّ كل أفق من آفاقها سماء، كما أن كل طبقة من الطباق سماء في قوله: (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها). الدليل عليه قوله:
ومِنْ بُعْدِ أَرْضٍ بَيْنَنا وسَمَاءِ «١»
والمعنى أنه غمام مطبق آخذ بآفاق السماء، كما جاء بصيب. وفيه مبالغات من جهة التركيب والبناء والتنكير. أمد ذلك بأن جعله مطبقا. وفيه أن السحاب من السماء ينحدر ومنها يأخذ ماءه، لا كزعم من يزعم أنه يأخذه من البحر. ويؤيده قوله تعالى: (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ).
فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها | ومن بعد أرض بيننا وسماء |
وعليه فالتنوين للتهويل والتعظيم.
فان قلت: بم ارتفع ظلمات؟ قلت: بالظرف على الاتفاق لاعتماده على موصوف. والرعد: الصوت الذي يسمع من السحاب، كأن أجرام السحاب تضطرب وتنتفض إذا حدتها الريح فتصوّت عند ذلك من الارتعاد. والبرق الذي يلمع من السحاب، من برق الشيء بريقا إذا لمع. فان قلت: قد جعل الصيب مكانا للظلمات فلا يخلو من أن يراد به السحاب أو المطر، فأيهما أريد فما ظلماته؟ قلت: أما ظلمات السحاب فإذا كان أسحم مطبقا فظلمتا سجمته وتطبيقه مضمومة إليهما ظلمة الليل. وأما ظلمات المطر فظلمة تكاثفه وانتساجه بتتابع القطر، وظلمة إظلال غمامه مع ظلمة الليل. فان قلت: كيف يكون المطر مكانا للبرق والرعد وإنما مكانهما السحاب؟ قلت إذا كانا في أعلاه ومصبه وملتبسين في الجملة فهما فيه.
ألا تراك تقول: فلان في البلد، وما هو منه الا في حيز يشغله جرمه. فان قلت: هلا جمع الرعد والبرق أخذا بالأبلغ كقول البحتري:
يَا عَارِضاً مُتَلِّفعاً ببُرُودِهِ | يَخْتالُ بَيْنَ بُرُوقِهِ ورُعُودِهِ «١» |
يا عارضا متلفعا ببروده | يختال بين بروقه ورعوده |
إن شئت عدت لأرض تجد عودة | فحللت بين عقيقه وزروده |
لتجود في ربع بمنعرج اللوى | قفر تبدل وحشة من غيده |
يلتمس من السحاب المعترض في الأفق أن يمطر في ربع الأحبة بالمكان المنعطف، ثم وصف الربع بأنها قفر لا نبات فيه، وصار فيه وحشة بالوحوش بدل الأنس بالأحبة.
يُسْقَوْنَ مِنْ وِرْدِ البَرِيصِ عليْهِمُ | بَرْدَي يُصَفِّقُ بالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ «١» |
(فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ)، (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) أراد البعض الذي هو إلى المرفق والذي إلى الرسغ. وأيضا ففي ذكر الأصابع من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل. فان قلت: فالأصبع التي تسدّ بها الأذن أصبع خاصة، «٣» فلم ذكر الاسم العام دون الخاص؟ قلت: لأن السبابة
للَّه در عصابة نادمتهم | يوما بجلق في الزمان الأول |
يسقون من ورد البريص عليهم | بردي يصفق بالرحيق السلسل |
(٢). قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت المجعول من الأصابع في الآذان رءوسها... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: لأن فيه إشعاراً بأنهم يبالغون في إدخال أصابعهم في آذانهم فوق العادة المعتادة في ذلك فرارا من شدة الصوت.
(٣). قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت: فالأصبع التي تسد بها الأذن... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: لا ورود لهذين السؤالين. أما الأول فلأنه غير لازم أن يسدرا في تلك الحالة بالسبابة ولا بد فإنها حالة حيرة ودهش، فأى أصبع اتفق أن يسدوا بها فعلوا غير معرجين على ترتيب معتاد في ذلك، فذكر مطلق الأصابع أدل على الدهش والحيرة. أو فلعلهم يؤثرون في هذا الحال سد آذانهم بالوسطى، لأنها أصم للأذن وأحجب للصوت فلم يلزم اقتصارهم على السبابة. وأما السؤال الثاني فمفرع على الأول، وقد ظهر بطلانه وأيضا ففيه مزيد ركاكة، إذ الغرض تشبيه حال المنافقين بحال أمثالهم من ذوى الحيرة، فكيف يليق أن يكنى عن أصابعهم بالمسبحات؟ ولعل ألسنتهم ما سبحت اللَّه قط. ثم إذا كان الغرض من التمثيل تصوير المعاني في الأذهان تصوير المحسوسات، فذلك خليق بذكر الصرائح واجتناب الكنايات والرموز.
فعالة من السب فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن. ألا ترى أنهم قد استبشعوها فكنوا عنها بالمسبحة والسباحة والمهللة والدّعاءة. فان قلت: فهلا ذكر بعض هذه الكنايات؟ قلت: هي ألفاظ مستحدثة لم يتعارفها الناس في ذلك العهد، وإنما أحدثوها بعد. وقوله مِنَ الصَّواعِقِ متعلق بيجعلون، أى: من أجل الصواعق يجعلون أصابعهم في آذانهم، كقولك: سقاه من العيمة «١». والصاعقة: قصفة رعد تنقض معها شقة من نار، قالوا: تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه، وهي نار لطيفة حديدة. لا تمرّ بشيء إلا أتت عليه، إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود. يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف ثم طفئت. ويقال: صعقته الصاعقة إذا أهلكته، فصعق أى مات إما بشدة الصوت أو بالإحراق. ومنه قوله تعالى: (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً). وقرأ الحسن: من الصواقع وليس بقلب للصواعق، لأنّ كلا البناءين سواء في التصرف، وإذا استويا كان كل واحد بناء على حياله. ألا تراك تقول: صقعه على رأسه، وصقع الديك، وخطيب مصقع: مجهر بخطبته. ونظيره «جبذ» في «جذب» ليس بقلبه لاستوائهما في التصرف. وبناؤها إما أن يكون صفة لقصفة الرعد، أو للرعد، والتاء مبالغة كما في الراوية، أو مصدرا كالكاذبة والعافية. وقرأ ابن أبى ليلى: حذار الموت، وانتصب على أنه مفعول له كقوله:
وأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الكَرِيمِ ادِّخَارَهُ «٢»
والموت فساد بنية الحيوان. وقيل: عرض لا يصح معه إحساس معاقب للحياة. وإحاطة اللَّه بالكافرين مجاز. والمعنى أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة. وهذه الجملة
(٢).
وعوراء قد أعرضت عنها فلم تضر | وذى أود قومته فتقوما |
وأغفر عوراء الكريم ادخاره | وأعرض عن شتم اللئيم تكرما |
اعتراض لا محل لها. والخطف: الأخذ بسرعة. وقرأ مجاهد (يخطف) بكسر الطاء، والفتح أفصح وأعلى، وعن ابن مسعود: يختطف. وعن الحسن: يخطف، بفتح الياء والخاء، وأصله يختطف. وعنه: يخطف، بكسرهما على إتباع الياء الخاء. وعن زيد بن على: يخطف، من خطف. وعن أبىّ: يتخطف، من قوله: (يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ). كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ استئناف ثالث كأنه جواب لمن يقول: كيف يصنعون في تارتى خفوق البرق وخفيته؟ وهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب وما هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون وما يذرون، إذا صادفوا من البرق خفقة، مع خوف أن يخطف أبصارهم، انتهزوا تلك الخفقة فرصة فخطوا خطوات يسيرة، فإذا خفى وفتر لمعانه بقوا واقفين متقيدين عن الحركة، ولو شاء اللَّه لزاد في قصيف الرعد فأصمهم، أو في ضوء البرق «١» فأعماهم. وأضاء:
إما متعد بمعنى: كلما نوّر لهم ممشى ومسلكا أخذوه والمفعول محذوف. وإما غير متعد بمعنى:
كلما لمع لهم مَشَوْا في مطرح نوره وملقى ضوئه. ويعضده قراءة ابن أبى عبلة: كلما ضاء لهم والمشي: جنس الحركة المخصوصة. فإذا اشتد فهو سعى. فإذا ازداد فهو عدو. فإن قلت:
كيف قيل مع الإضاءة: كلما، ومع الإظلام: إذا؟ قلت لأنهم حراص على وجود ما همهم به معقود من إمكان المشي وتأتيه، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها، وليس كذلك التوقف والتحبس. وأظلم: يحتمل أن يكون غير متعد وهو الظاهر، وأن يكون متعديا منقولا من ظلم الليل، «٢» وتشهد له قراءة يزيد بن قطيب: أظلم، على ما لم يسم فاعله. وجاء في شعر حبيب ابن أوس:
هُمَا أَظْلَمَا حالَىَّ ثُمَّتَ أَجْلَيَا | ظَلَامَيْهُما عنْ وَجْهِ أَمْرَدَ أَشْيَبِ «٣» |
(٢). قوله «منقولا من ظلم الليل» في الصحاح «ظلم الليل بالكسر وأظلم» بمعنى، عن الفراء (ع)
(٣).
أحاولت إرشادى فعقلى مرشدي | أم استمت تأديبى فدهرى مؤدبى |
هما أظلما حالى ثمت أجليا | ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب |
شجي في حلوق الحادثات مشرق | به عزمه في الترهات مغرب |
فارسى معرب بمعنى الطريق الصغيرة غير الجادة، والجمع ترهات وتراريه. ثم استعير للباطل وصار اسما له، والمعنى:
إن أردت مرشدي فهو عقلى، أو مؤدبى فدهرى. فالاستفهام بمعنى الشرط مجاراً، ويحتمل أنه توبيخي والفاء تعليلية لمحذوف، أى لا ينبغي إرادة إرشادى ولا تأديبى، فان دهري وعقلى تكفلا بذلك. وبين ذلك بقوله «هما أظلما» واستعمال أظلم متعديا لغة رديئة. وحالى: مفعول. والاظلام استعارة لتنغيص العيش وتكدير الخاطر. وأجليا:
أزالا وكشفا ظلاميهما. والظلامان: استعارة للتكدر والتنغص. وقوله «شجى» بدل من الأمرد، أى كالشجى.
وشبه الحوادث بحيوانات لها حلوق على طريق المكنية والحلوق تخييل لذلك. والمعنى أن الحوادث صارت لا تؤثر فيه ومضى به عزمه في جميع طرق الهزل كما مضى به في الجد، وبين مشرق مغرب طباق التضاد.
وهو وإن كان محدثا لا يستشهد بشعره في اللغة، فهو من علماء العربية، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه. ألا ترى إلى قول العلماء: الدليل عليه بيت الحماسة، فيقتنعون بذلك لوثوقهم بروايته وإتقانه. ومعنى قامُوا وقفوا وثبتوا في مكانهم. ومنه: قامت السوق، إذا ركدت وقام الماء: جمد. ومفعول شاءَ محذوف، لأن الجواب يدل عليه. والمعنى: ولو شاء اللَّه أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها، ولقد تكاثر هذا الحذف في «شاء» و «أراد» لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب كنحو قوله:
فلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِى دَماً لَبَكَيْتُهُ «١»
وقوله تعالى «لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا، (لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً).
وأراد: ولو شاء اللَّه لذهب بسمعهم بقصيف الرعد، وأبصارهم بوميض البرق. وقرأ ابن أبى عبلة: لأذهب بأسماعهم، بزيادة الباء كقوله: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ). والشيء: ما صح أن يعلم ويخبر عنه. قال سيبويه- في ساقة الباب المترجم بباب مجارى أواخر الكلم من العربية-: وإنما يخرج التأنيث من التذكير. ألا ترى أن الشيء يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى؟. والشيء: مذكر، وهو أعم العام: كما أن اللَّه أخص الخاص يجرى على الجسم والعرض
لابن يعقوب إسحاق بن حسان الخذيمى، يرثى أبا الهيذام عامر بن عمار أمير عرب الشام. يقول: غلبت دموع عينى وقدرت عليها حين رددتها إلى مكانها. ويروى «ثم رددتها» والحال أنها تدمع دمعا كالقلب في الحمرة والحرقة، أو بدمع على وجه التبعية للقلب. ويروى «فالعين في القلب» مبالغة في فكره وحزنه المضمر فيه. وذكر مفعول المشيئة مع أنه صار في استعمالهم نسيا منسياً لأنه شيء مستغرب فحسن ذكره. وضمن «أبكى» معنى أدمع، فعداه إلى الدم مع أنه لا يتعدى إلا إلى المبكى عليه. وشبه الصبر بكريم أو ببيت له ساحة على سبيل المكنية. والمراد أنه يترك الجزع ويعدل إلى الصبر فيتصف به.ملكت دموع العين حين رددتها إلى ناظري والعين كالقلب تدمع ولو شئت أن أبكى دما لبكيته عليه ولكن ساحة الصبر أوسع