
قوله تعالى: ﴿يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ :«يكادُ» مضارع كَادَ، وهي لمقاربةِ الفعل، تعملُ عمل «كانَ»، إلاَّ أنَّ خَبَرها لا يكونُ إلا مضارعاً، وشَذَّ مجيئُه اسماً صريحاً، قال:
٢٤١ - فَأُبْتُ إلى فَهْمٍ وما كِدْتُ آيباً | وكم مثلِها فارَقْتُها وهي تَصْفِرُ |

٢٤٢ - قد كادَ مِنْ طولِ البلى أن يَمْحَصا... لأنها لمقاربةِ الفعلِ، و «أَنْ» تُخَلِّصُ للاستقبال، فَتَنَافَا. واعلم أنَّ خَبَرَها إذا كانَتْ هي مثبتةً- منفيٌّ في المعنى لأنها للمقاربة، فإذا قلت: «كاد زيدٌ يفعلُ» كان معناه قارَبَ الفعلَ، إلا أنه لم يَفْعَل، فإذا نُفِيَتْ انتفَى خبرُها بطريقِ الأَوْلى، لأنه إذا انْتَفَتْ مقاربةُ الفعل/ انتفى هو من باب أَوْلَى ولهذا كانَ قَولُه تعالى: ﴿لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ [النور: ٤٠] أبلغَ مِنْ أَنْ لو قيل: لم يَرَها، لأنه لم يقارِبِ الرؤيةَ فكيف له بها؟ وزعم جماعةٌ منهم ابن جني وأبو البقاء وابنُ عطية أنَّ نفيَها إثباتُ وإثباتَها نفيٌ، حتى أَلْغَزَ بعضُهم فيها فقال:
٢٤٣ - أَنَحْوِيَّ هذا العصرِ ما هي لفظةٌ | جَرَتْ في لِسانَيْ جُرْهُمٍ وَثَمُودِ |
إذا نُفِيَتْ - والله أعلمُ - أُثْبِتَتْ | وإِنْ أُثْبِتَتْ قامَتْ مَقَامَ جُحُودِ |
٢٤٤ - إذا غَيَّر النأيُ المحِبِّينَ لم يَكَدْ | رسيسُ الهوى من حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ |

لقوله: «فَذَبَحُوها». والجوابُ عن هذهِ الآية من وَجْهَين، أحدُهما: أنه يُحْمَلُ على اختلافِ وَقْتَيْنِ، أي: ذَبَحوها في وقتٍ، وما كادوا يفعلونَ في وقتٍ آخرَ، والثاني: أنه عَبَّر بنفيِ مقاربةِ الفعل عن شدَّةِ تعنُّتِهِمْ وعُسْرِهِم في الفعلِ.
وأمَّا ما حَكَوْهُ عن ذي الرُّمَّة فقد غلَّط الجمهورُ ذا الرُّمة في رجوعِهِ عن قولِهِ، وقالوا: هو أَبْلَغُ وأحسنُ مِمَّا غَيَّره إليه.
واعلم أَنَّ خَبَرَ «كاد» وأخواتِها غيرَ عسى لا يكون فاعلُه إلا ضميراً عائداً على اسمها، لأنها للمقارَبَةِ أو للشروع بخلافِ عسى، فإنها للترجِّي، تقول: «عسى زيدٌ أن يقومَ أبوه»، ولا يجوز ذلك في غيرها، فأمَّا قولُه:
٢٤٥ - وَقَفْتُ على رَبْعٍ لِميَّةَ ناقتي | فما زِلْتُ أبكي عندَهُ وأُخَاطِبُهْ |
وَأَسْقِيهِ حتى كَادَ مِمَّا أَبُثُّه | تُكَلِّمُنِي أَحْجَارُه ومَلاعِبُهْ |
٢٤٦ - وقد جَعَلْتُ إذا ما قُمْتُ يُثْقِلُني | ثَوْبي فَأَنْهَضُ نَهْضَ الشاربِ السَّكِرِ |
وكنتُ أمشي على رِجْلَيْنِ مُعْتَدِلاً | فَصِرْتُ أمشي على أخرى من الشجر |

ثوبِه إياه، والمعنى: وقد جَعَلْتُ أَنْهَضُ نَهْضَ الشارب الثملِ لإِثقالِ ثوبي إياي.
ووزن كاد كَودِ بكسر العين، وهي من ذواتِ الواو، كخاف يَخاف، وفيها لغةٌ أخرى: فتحُ عينها، فعلى هذه اللغةِ تُضَمُّ فاؤُها إذا أُسْنِدَتْ إلى تاء المتكلم وأخواتِها، فتقولُ: كُدْت وكُدْنا مثل: قُلْت وقُلْنا، وقد تُنْقَلُ كسرةُ عينها إلى فائِها مع الإِسناد إلى ظاهر، كقوله:
٢٤٧ - وكِيدَ ضِباعُ القُفِّ يأكُلْنَ جُثَّتي | وكِيدِ خِراشٌ عند ذلك يَيْتَمُ |
و «البرق» اسمها، و «يخَطف» خبرُها، ويقال: خَطِف يَخْطَفُ بكسر عين الماضي وفتح المضارع، وخَطَف يخطِف، عكسُ اللغة الأولى، وفيه قراءاتٌ كثيرة، المشهورُ منها الأولى. الثانية: يَخْطِف بكسر الطاء. صفحة رقم 178

الثالثة يَخَطَّفُ بفتح الياء والخاء والطاء مع تشديدِ الطاء، والأصل: يَخْتَطِفُ، فَأُبْدلت تاءُ الافتعال طاءً للإِدغام، الرابعة: كذلك إلا أنَّه بكسر الخاء إتباعاً لكسرة الطاء. السادسة: كذلك إلا أنه بكسر الياء أيضاً إتباعاً للخاء، السابعة: يَخْتَطِف على الأصل. الثامنة: يَخْطِّف بفتح الياء وسكونِ الخاء وتشديد الطاء، وهي رديئةٌ لتأديتها غلى التقاء ساكنين. التاسعة: بضم الياء وفتح الخاء وتشديدِ الطاء مكسورةً، والتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية. العاشرة: يَتَخَطَّف.
والخَطْفُ: أَخْذُ شيءٍ بسرعة، وهذه الجملةُ - أعني قولَه: يكاد البرق يَخْطَف - لا محلَّ لَها، لأنها استئنافٌ، كأنه قيل: كيف يكونُ حالُهم مع ذلك البرقِ؟ فقيل: يكاد يَخْطَف، ويحتمل أن يكون في محلِّ جر صفةً لذوي المحذوفة، التقدير: أو كذوي صيبٍ كائدٍ البرقُ يَخْطَف.
قوله تعالى: / ﴿كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ﴾ :«كل» نَصْبٌ على الظرفية، لأنها أُضيفت إلى «ما» الظرفية، والعاملُ فيها جوابُها، وهو «مَشَوا». وقيل: «

ما» نكرةٌ موصوفةٌ، ومعناها الوقتُ أيضاً، والعائدُ محذوفٌ، تقديرُه: كلَّ وقتٍ أضاءَ لهم فيه، فأضاءَ على الأول لا محلَّ له لكونِه صلةً، ومحلُّه الجرُّ على الثاني. و «أضاء» يجوز أن يكون لازماً. وقال المبرد: «هو متعدٍّ ومفعولُه محذوفٌ»، أي: أضاء لهم البرقُ الطريقَ، فالهاء في «فيه» تعودُ على البرق في قولِ الجمهور، وعلى الطريقِ المحذوفِ في قول المبرد.
و «فيه» متعلِّق بمَشَوا، و «في» على بابها أي: إنه محيطٌ بهم: وقيل: هي بمعنى الباء، ولا بدَّ من حذف على القَوْلين، أي: مَشَوا في ضوئِه أي بضوئِه، ولا محلَّ لجملةِ قولهِ «مَشَوا» لأنها مستأنفةٌ.
واعلم أنَّ «كُلاًّ» من ألفاظِ العموم، وهو اسمُ جمعٍ لازمٌ للإِضافة، وقد يُحْذَفُ ما يضاف إليه، وهل تنوينُه حينئذٍ تنوينُ عوضٍ أو تنوينُ صَرْفٍ؟ قولان. والمضافُ إليه «كل» إن كانَ معرفةً وحُذِفَ بقيتْ على تعريفها، فلهذا انتصَبَ عنها الحالُ، ولا يَدْخُلها الألفُ واللامُ، وإن وقع ذلك في عبارةِ بعضِهم، وربما انتَصَبَتْ حالاً، وأصلُها أن تُسْتَعْمَل توكيداً كأجمعَ، والأحسنُ استعمالُها مبتدأً، وليس كونُها مفعولاً بها مقصوراً على السماعِ، ولا مختصاً بالشعر خلافاً لزاعم ذلك. وإذا أُضيفت إلى نكرةٍ أو معرفةٍ بلامِ الجنسِ حَسُنَ أن تَلِي العواملَ اللفظيةَ، وإذا أُضيفت إلى نكرةٍ تعيُّنَ اعتبارُ تلك النكرة فيما لها من ضميرٍ وغيره، تقول: كلُّ رجال أتَوْكَ فأكرِمْهم، ولا يجوزُ أن يراعى لفظ «كل» فتقول: كلُّ رجال أتاكَ فأكرمه، و [تقول:] كلُّ رجلٍ أتاك فأكرمه، ولا تقول: أَتَوْك فأكرِمْهم، اعتباراً بالمعنى، فأما قوله:
٢٤٨ - جادَتْ عليه كلُّ عَيْن ثَرَّةٍ | فتركْنَ كلَّ حدَيقةٍ كالدرهم |
٢٤٩ - هما أَظْلما حالَيَّ ثُمَّتَ أَجْلَيَا | ظَلامَيْهِما عن وجهِ أَمْرَدَ أَشْيَبِ |
وإنما صُدِّرت الجملةُ الأولى بكلما، والثانيةُ بإذا، قال الزمخشري: «لأنهم حِراصٌ على وجودِ ما هَمُّهم به معقودٌ من إمكان المشي وتأتِّيه، فكُلَّما صادفوا منه فرصةً انتهزوها، وليسَ كذلك التوقُّفُ والتحبُّسُ» وهذا الذي قاله صفحة رقم 181

هو الظاهرُ، إلاَّ أنَّ مِن النحويين مَنْ جعلَ أنَّ «إذا» تُفيد التكرار أيضاً، وأنشد:
٢٥٠ - إذا وَجَدْتُ أُوارَ الحُبِّ في كَبْدِي | أَقْبَلْتُ نحو سِقاءِ القومِ أَبْتَرِدُ |
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ «لو» حرفٌ لِما كان سيقع لوقوع غيره، هذه عبارةُ سيبويه، وهي أَوْلى من عبارة غيره: / حرفُ امتناع لامتناع لِصحّةِ العبارة الأولى في نحو قوله تعالى:
﴿لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البحر﴾ [الكهف: ١٠٩]، وفي قوله عليه السلام: «نِعْمَ العبدُ صُهَيْبٌ لو لم يَخَفِ اللهَ لم يُعْصِه»، وعدم صحةِ الثانية في ذلك كما سيأتي محرِّراً، ولفسادِ نحو قولهم: «لو كان إنساناً لكان حيواناً» إذ لا يلزم مِنْ امتناعِ الإِنسانِ امتناعُ الحيوان، ولا يُجْزَمُ بها خلافاً لقوم، فأمَّا قولُه:
٢٥١ - لو يَشَأْ طارَ به ذو مَيْعَةٍ | لاحِقُ الآطالِ نَهْدٌ ذو خُصَلْ |
٢٥٢ - تامَتْ فؤادَك لو يَحْزُنْكَ مَا صَنَعَتْ | إحدى نساءِ بني ذُهْلِ بنِ شَيْبَانا |
٢٥٣ - ولَوْ أَنَّ ليلى الأخيليَّةَ سَلَّمَتْ | عليَّ ودوني جَنْدَلٌ وصَفائِحُ |
لسَلَّمْتُ تسليمَ البشاشةِ أَوْزَقَا | إليها صَدَىً مِنْ جانبِ القبرِ صائحُ |
و «شاء» أصلُه: شَيِئَ علَى فَعِلَ بكسر العين، وإنما قُلِبت الياءُ ألفاً للقاعدةِ المُمَهَّدةِ. ومفعولُه محذوفٌ تقديرُه: ولو شاء الله إذهابَ، وكَثُر حَذْفُ مفعولِه ومفعولِ «أراد» حتى لا يَكاد يُنْطَق به إلاَّ في الشيءِ المستغرَبِ كقولِه:
٢٥٤ - ولو شِئْتُ أن أبكي دَماً لبكَيتُه | عليهِ ولكنْ ساحةُ الصبرِ أَوْسَعُ |
واللامُ في «ذهب» جوابُ لو. واعلم أنَّ جوابَها يَكْثُر دخولُ اللامِ عليه مثبتاً، وقد تُحْذَفُ، قال تعالى: ﴿لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً﴾ [الواقعة: ٧٠]، ويَقِلُّ دخولُها صفحة رقم 183

عليه منفيَّاً ب «ما»، ويَمْتَنِعُ دخولُها عليه منفيَّاً بغير «ما» نحو: لو قُمْتَ لم أَقُمْ، لِتوالِي لامين فيثقلُ، وقد يُحْذَفُ كقوله:
٢٥٥ - لا يُلْفِكَ الراجُوك إلا مُظْهِراً | خُلُقَ الكرامِ ولو تكونُ عَدِيماً |
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ هذه جملةُ مؤكِّدةٌ لمعنى ما قبلَها، و «على كل شيء» متعلِّقٌ بقدير، وهو فَعِيل بمعنى فاعِل مشتقٌ من القُدْرَة وهي القُوة والاستطاعةُ، وفعلُها قَدَر بفتح العين، وله ثلاثةَ عشَرٍ مصدراً: قدرة بتثليث القاف، ومَقْدرة بتثليث الدال، وقَدْرَاً وقَدَراً وقُدَراً وقَداراً وقُدْراناً ومَقْدِراً ومَقْدَراً. وقدير أَبْلَغُ مِن قادر قاله الزجاج، وقِيل: هما بمعنى، قاله الهروي. والشيءُ: ما صَحُّ أن يُعْلَمَ من وجه، ويُخْبَرَ عنه، وهو في الأصل مصدرُ شاء يشاء/، وهل يُطْلق على المعدومِ والمستحيل؟ خلافٌ مشهور. صفحة رقم 184