
ما في بقعة الإمكان من الرسم الفاني وخسر انهم باضاعة الامرين هو الحجاب الكلى عن الحق بالرين كما قال تعالى كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ وفي التأويلات النجمية الاشارة في الآية ان من نتيجة طغيانهم وعمههم ان رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وأشربوا في قلوبهم الضلالة وتمكنت فكانت هذه الحال من نتيجة معاملتهم فلهذا أضاف الفعل إليهم وقال أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وانما قال بلفظ الاشتراء لانهم اخرجوا استعداد قبول الهداية عن قدرتهم وتصرفهم فلا يملكون الرجوع اليه فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ لان خسران من رضى بالدنيا من العقبى ظاهر ومن اثر الدنيا والعقبى على المولى فهو أشد خسرانا وأعظم حرمانا فاذا كان المصاب بفوات النعيم ممتحنا بنار الجحيم فما ظنك بالمصاب بفقد المطلوب وبعد المحبوب ضاعت منه الأوقات وبقي في أسر الشهوات لا الى قلبه رسول ولا لروحه وصول لا من الحبيب اليه وفود ولا لسره معه شهود فهذا هو المصاب الحقيقي وَما كانُوا مُهْتَدِينَ لابطالهم حسن استعداد قبول الهداية مَثَلُهُمْ المثل في الأصل بمعنى النظير ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده اى المضروب كما ورد من غير تغيير ولا يضرب الا بما فيه غرابة ولذلك حوفظ عليه من التغيير ثم استعير لكل حال او قصة او صفة لها شأن عجيب وفيها غرابة كقوله تعالى مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ وقوله تعالى وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى اى الوصف الذي له شأن من العظمة والجلال ولما جاء الله بحقيقة حال المنافقين عقبها بضر المثل زيادة في التوضيح والتقرير فان التمثيل ألطف ذريعة الى تسخير الوهم للعقل وأقوى وسيلة الى تفهيم الجاهل الغبي وقمع سورة الجامح الآبي كيف لا يلطف وهو إبداء للمنكر في صورة المعروف واظهار للوحشى في هيئة المألوف واراءة للخيل محققا والمعقول محسوسا وتصوير للمعانى بصورة الاشخاص ومن ثمة كان الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي والغائب بالشاهد ولامر ما اكثر الله في كتبه الأمثال وفي الإنجيل سورة تسمى سورة الأمثال وفي القرآن الف آية من الأمثال والعبر وهي في كلام الأنبياء عليهم السلام والعلماء والحكماء كثيرة لا تحصى ذكر السيوطي في الإتقان من أعظم علم القرآن أمثاله والناس في غفلة عنه والمعنى حالهم العجيبة الشان كَمَثَلِ الَّذِي اى كحال الذين من باب وضع واحد الموصول موضع الجمع منه تخفيفا لكونه مستطالا بصلته كقوله وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا والقرينة ما قبله وما بعده خلا انه وحد الضمير في قوله تعالى اسْتَوْقَدَ ناراً نظرا الى الصورة وجمع في الافعال الآتية نظرا الى المعنى والاستيقاد طلب الوقود والسعى في تحصيله وهو سطوع النار وارتفاع لهبها والنار جوهر لطيف مضيئ محرق حار والنور ضوءها وضوء كل نير وهو نقيض الظلمة اى أوقد في مفازة في ليلة مظلمة نارا عظيمة خوفا من السباع وغيرها فَلَمَّا أَضاءَتْ الاضاءة فرط الانارة كما يعرب عنه قوله تعالى هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً اى أنارت النار ما حَوْلَهُ اى ما حول المستوقد من الأماكن والأشياء على ان ما مفعول أضاءت ان جعلته متعديا وحول نصب على الظرفية وان جعلته لازما فهو مسند الى ما والتأنيث لان ما حوله أشياء
صفحة رقم 66
بالشدة والهول فكأن قائلا قال كيف حالهم مع مثل ذلك الرعد فقيل يجعلون أصابعهم في آذانهم والمراد أناملهم وفيه من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل كأنهم يدخلون من شدة الحيرة أصابعهم كلها في آذانهم لا أناملها فحسب كما هو المعتاد ويجوز ان يكون هذا ايماء الى كمال حيرتهم وفرط دهشتهم وبلوغهم الى حيث لا يهتدون الى استعمال الجوارح على النهج المعتاد وكذا الحال في عدم تعيين الإصبع المعتاد اعنى السبابة وقيل لرعاية الأدب لانها فعالة من السب فكان اجتنابها اولى بآداب القرآن ألا ترى انهم قد استبشعوها فكنوا عنها بالمسبحة والمهللة وغيرهما ولم يذكر من أمثال هذه الكنايات لانها ألفاظ مستحدثة لم يتعارفها الناس في ذلك العهد مِنَ الصَّواعِقِ متعلق بيجعلون اى من أجل خوف الصواعق المقارنة للرعد وهي جمع صاعقة وهي قصفة رعد هائل تنقض معها شعلة نار لا تمر بشئ الا أتت عليه لكنها مع حدتها سريعة الخمود للطافتها- حكى- انها سقطت على نخلة فاحرقت نحو النصف ثم طفئت قالوا بين السماء وبين الكلة الرقيقة التي لا يرى أديم السماء إلا من ورائها نار منها تكون الصواعق تخرج النار فتفتق الكلة ويكون الصوت منها كما في روضة العلماء وقيل تنقدح من السحاب إذا اصطكت اجرامه او جرم ثقيل مذاب مفرغ من الاجزاء اللطيفة الارضية الصاعدة المسماة دخانا والمائية المسماة بخارا حار حاد في غاية الحدة والحرارة لا يقع على شىء إلا ثقب واحرق ونفذ فى الأرض حتى بلغ الماء فانطفأ ووقف قالوا إذا أشرقت الشمس على ارض يابسة تحللت منها اجزاء نارية يخالطها اجزاء ارضية يسمى المركب منهما دخانا ويخلط بالبخار ويتصاعدان معا الى الطبقة الباردة فينعقد البخار سحابا وينحبس الدخان فيه ويطلب الصعود ان بقي على طبيعته والنزول ان ثقل وكيف كان يمزق السحاب تمزيقا عنيفا فيحدث منه الرعد ثم قد يحدث شدة حركة ومحاكة فيحدث منه البرق ان كان لطيفا والصاعقة ان كان غليظا قال ابن عباس رضى الله عنهما من سمع صوت الرعد فقال سبحان الذى يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فان أصابته صاعقة فعلى ديته وكان ﷺ يقول إذا سمع الرعد وصواعقه (اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك) كذا فى تفسير الشيخ وشرح الشرعة حَذَرَ الْمَوْتِ منصوب بيجعلون على العلة اى لاجل مخافة الهلاك والموت فساد بنية الحيوان وَاللَّهُ مُحِيطٌ اصل الإحاطة الاحداق بالشيء من جميع جهاته وهو مجاز في حقه تعالى اى محدق بعلمه وقدرته بِالْكافِرِينَ اى لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط حقيقة فيحشرهم يوم القيامة ويعذبهم والجملة اعتراضية منبهة على ان ما صنعوا من سد الآذان بالأصابع لا يغنى عنهم شيأ فان القدر لا يدافعه الحذر والحيل لا ترد بأس الله عز وجل وفائدة وضع الكافرين موضع الضمير الراجع الى اصحاب الصيب الإيذان بان مادهمهم من الأمور الهائلة المحكية بسبب كفرهم يَكادُ الْبَرْقُ
اى يقرب استئناف آخر وقع جوابا عن سؤال مقدر كانه قيل فكيف حالهم مع ذلك البرق فقيل يكاد ذلك يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ اى يختلسها ويستلبها بسرعة من شدة ضوئه كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ كلما ظرف والعامل فيه جوابها وهو مشوا وأضاء متعد اى أنار البرق الطريق في الليلة المظلمة

وهو استئناف ثالث كانه قيل كيف يصنعون في تارتى خفوق البرق وخفيته أيفعلون بأبصارهم ما يفعلون بآذانهم أم لا فقيل كلما نور البرق لهم ممشى ومسلكا مَشَوْا فِيهِ اى في ذلك المسلك اى في مطرح نوره خطوات يسيرة مع خوف ان يخطف أبصارهم وإيثار المشي على ما فوقه من السعى والعدو للاشعار بعدم استطاعتهم لهما لكمال دهشتهم وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ اى خفى البرق واستتر فصار الطريق مظلما قامُوا اى وقفوا في أماكنهم على ما كانوا عليه من الهيئة متحيرين مترصدين لحظة اخرى عسى يتسنى لهم الوصول الى المقصد او الالتجاء الى ملجأ يعصمهم وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مفعوله محذوف اى لو أراد ان يذهب الاسماع التي في الرأس والابصار التي في العين كما ذهب بسمع قلوبهم وابصارها لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ بصوت الرعد ونور البرق عقوبة لهم لانه لا يعجز عن ذلك إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ اى على كل موجود بالإمكان والله تعالى وان كان يطلق عليه الشيء لكنه موجود بالوجوب
دون الإمكان فلا يشك العاقل ان المراد من الشيء في أمثال هذا ما سواه تعالى فالله تعالى مستثنى فى الآية مما يتناوله لفظ الشيء بدلالة العقل فالمعنى على كل شىء سواه قدير كما يقال فلان أمين على معنى أمين على من سواه من الناس ولا يدخل فيه نفسه وان كان من جملتهم كما في حواشى ابن التمجيد قَدِيرٌ اى فاعل له على قدر ما تقتضيه حكمته لا ناقصا ولا زائدا ثم ان هذا التمثيل كشف بعد كشف وإيضاح بعد إيضاح ابلغ من الاول شبه الله حال المنافقين في حيرتهم وما خبطوا فيه من الضلالة وشدة الأمر عليهم وخزيهم وافتضاحهم بحال من أخذته السماء فى ليلة مظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق والموت هذا إذا كان التمثيل مركبا وهو الذي يقتضيه جزالة التنزيل فانك تتصور في المركب الهيئة الحاصلة من تفاوت تلك الصور وكيفياتها المتضامة فيحصل في النفس منه ما لا يحصل من المفردات كما إذا تصورت من مجموع الآية مكابدة من أدركه الوبل الهطل مع تكاثف ظلمة الليل وهيئة انتساج السحاب بتتابع القطر وصوت الرعد الهائل والبرق الخاطف والصاعقة المحرقة ولهم من خوف هذه الشدائد حركات من تحذر الموت حصل لك منه امر عجيب وخطب هائل بخلاف ما إذا تكلفت لواحد واحد مشبها به يعنى ان حمل التمثيل على التشبيه المفرق فشبه القرآن وما فيه من العلوم والمعارف التي هي مدار الحياة الابدية بالصيب الذي هو سبب الحياة الارضية وما عرض لهم بنزوله من الغموم والأحزان وانكساف البال بالظلمات وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق وتصاممهم عما يقرع أسماعهم من الوعيد بحال من يهوله الرعد والبرق فيخاف صواعقه فيسد اذنه ولاخلاص له منها واهتزازهم لما يلمع لهم من رشد يدركونه او رفد يحرزونه بمشيهم فى مطرح ضوء البرق كلما أضاء لهم وتحيرهم في أمرهم حين عنّ لهم مصيبة بوقوفهم إذا اظلم عليهم فهذه حال المنافقين قصارى عمرهم الحيرة والدهشة فعلى العاقل ان يتمسك بحبل الشرع القويم والصراط المستقيم كى يتخلص من الغوائل والقيود ومهالك الوجود وغاية الأمر خفية لا يدرى بم يختم قال رجل للحسن البصري كيف أصبحت قال بخير قال كيف حالك فتبسم الحسن ثم قال لا تسأل عن حالى ما ظنك بناس ركبوا سفينة حتى توسطوا البحر فانكسرت

سفينتهم فتعلق كل انسان منهم بخشبة على أي حال هم قال الرجل على حال شديد قال الحسن حالى أشد من حالهم فالموت بحرى والحياة سفينتى والذنوب خشبتى فكيف يكون حال من وصفه هذا يا بنى فلا بد من ترك الذنوب والفرار الى علام الغيوب وفي الحديث (من كانت هجرته الى الله ورسوله فهجرته الى الله ورسوله ومن كانت هجرته الى دنيا يصيبها او امرأة يتزوجها فهجرته الى ما هاجر اليه) تأمل كيف كان جزاء كل مؤمل ما امل واعتبر كيف لم يكرر ذكر الدنيا اشعارا بعدم اعتبارها لخساستها ولان وجودها لعب ولهو فكانه كلا وجود كما قيل
بر مرد هشيار دنيا خسست | كه هر مدتى جاى ديگر كسست |
غلام همت آنم كه زير چرخ كبود | ز هر چهـ رنگ تعلق پذيرد آزادست |
منور بنور الايمان مؤيد بتأييد الرحمن كما قال تعالى الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ فكما ان السير لا يمكن في الظلمات الا بنور السراج كذلك لا يمكن السير في حقائق القرآن ودقائقه ولا في ظلمات البشرية الا بنور هداية الربوبية ولهذا قال تعالى كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ يعنى نور الهداية وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا يعنى ظلمة البشرية وَرَعْدٌ اى خوف وخشية ورهبة تتطرق الى القلوب من هيبة جلال الذكر والقرآن كما قال تعالى لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَبَرْقٌ وهو تلألؤ أنوار الذكر والقرآن يهتدى الى القلوب فتلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله فيظهر فيها حقيقة القرآن والدين فيعرفها القلوب لقوله تعالى وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ
الآية ولما لاح لهم أنوار السعادة خرجوا من ظلمات الطبيعة وتمسكوا بحبل الارادة لينالوا درجات الفائزين ولكن يجعلون أصابعهم اى أصابع آمالهم الفاسدة وأمانيهم الباطلة فِي آذانِهِمْ الواعية مِنَ الصَّواعِقِ ودواعى الحق حَذَرَ من الْمَوْتِ موت النفس لان النفس سمكة حياتها بحر الدنيا وماء الهوى لو أخرجت لماتت في الحال وهذا تحقيق قوله عليه السلام (موتوا قبل ان تموتوا) وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ فيه اشارة الى ان الكافر الذي له حياة طبيعية حيوانية لو مات بالارادة من مألوفات الطبيعة لكان احياء الله تعالى بانوار الشريعة كما قال تعالى أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ صفحة رقم 73