آيات من القرآن الكريم

وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ

(وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) والإلقاء باليد إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد.

صفحة رقم 595

ْوقد تضافرت الروايات بمثل ذلك مما يجعلنا نفهم أن الآية الكريمة تتجه إلى حماية الدولة والجماعة من أن تلقي بيدها إلى التهلكة، بترك الضعفاء فيها، وترك الجهاد دفاعا عنها، وعدم الاستعداد لأعدائها.
ولكن عموم الآية قد يشمل حال الآحاد إذا أقدموا على ما يضرهم من غير أي فائدة تعود على الجماعة من إقدامهم ولو كانت الفائدة معنوية أدبية، فإن ذلك يسير عليه النهي بمقتضى العموم، وليس منه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول كلمة الحق للظالمين، فإن ذلك فيه فائدة معنوية للأمة، وقد قال - ﷺ -: " أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله " (١).
وقد اختلف العلماء فيمن أقدم على مهاجمة عدو كثير العدد وحده، فسوغه ناس (٢) لما فيه فائدة للحماعة ولو معنوية، ومنعه آخر لأنه لم ير فيه أية فائدة للأمة، وفيه المضرة على من أقدم، فتنطبق عليه الآية.
والخلاصة أن الآية ينطبق النهي فيها على الأمة إن تركت أمر حمايتها من الآفات الاجتماعية في الداخل، وغارات الأعداء في الخارج حتى هلكت، وينطبق النهي على الآحاد إن أقدموا على ما يهلكهم من غير أي نفع مادي أو أدبي لأمتهم.
(وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحبُّ الْمُحْسنينَ) الإحسان في لغة القرآن الكريم يطلق بإطلاقين، أحدهما: الإتقان والإجادة في العمل والقيام بالطاعات على وجهها، ومن ذلك قوله تعالى: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)، وقوله تعالى: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَه...). والثاني: التفضل على
________
(١) " أفضل الشهداء حمزة ورجل قال كلمة حق عند سلطان جائر فقتله " أي: فقتله السلطان أو أمر بقتله.
[دليل الفالحين باب ٨٠ - وجوب طاعة ولي الأمر، ولسان الميزان - باب من اسمه حكيم (حكيم بن يزيد) عن جابر رضي عنه رفعه " أفْضَلُ الشهداء حَمْزَةُ ورجل قام إلى إمام جائر فنهاه فأمر بقتله "]. وقال الأزدي: حكيم متروك الحديث.
ورواه الحاكم في المستدرك عن علي موقوفا بلفظ: أفضل الخلق الرسل، وأفضل الخلق بعد الرسل الشهداء وأفضل الشهداء حمزة بن عبد الطلب.
(٢) ذكر الإمام محمد بن الحسن في كتابه السير الكبير أنه لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وهو وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه؛ لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين. فإن قصد تجرئة للمسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنعه فلا يبعد جوازه، لأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه، وإن قصد إرهابا للعدو، وليعلم صلابة
المسلمين في الدين فلا يبعد جوازه.

صفحة رقم 596

غيره بالعطاء والزيادة فيه؛ وعندي أن هذا في الجملة يعود إلى الأول لأن ذلك من قبيل إتقان العبادة، والإخلاص الكامل فيها.
وعلى ذلك نرى أن الإحسان هنا هو الإجادة والإتقان، وقد أمر الله سبحانه المؤمنين بعد الأمر بالقتال أن يجيدوا كل أعمالهم كل الإجادة، وأن يحتاطوا في كل ما هو متصل بحياتهم الشمخصية وأحوالهم الاجتماعية، وشئون دولتهم وما يقيم أودها ويصلح أمرها؛ ففي الحرب جلاد وجهاد وفداء، وفي السلم إعداد واستعداد ومحبة وولاء، ومودة بينهم وإخاء؛ ليكونوا كما وصف الله الأسلاف (أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهمْ...)، (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ...)، فإن لي يكونوا كذلك فقدوا عون الله ونصرته، بعد أن فقدوا عزة الإسلام وهدايته؛ لأن الله مع من يحسن، ولا يحب سواه؛ إذ قال: (إِنَّ اللَّهَ يُحبُّ الْمُحْسِنِينَ).
* * *
(الحج)
(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (١٩٦) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ

صفحة رقم 597

وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٧)
* * *
هاتان الآيتان متصلتان بما قبلهما أوثق الاتصال، وذلك بأن الآيات الكريمة من قوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ منْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ...)، فيها تنظيم للجماعة الفاضلة؛ ببيان حق الفقير في مال الغني، وبيان المساواة العادلة في تطبيق القوانين الإسلامية، لَا فرق بين قوي وضعيف، ولا شريف ووضيع، وبيان أن العقوبة تكون على قدر الجريمة، وإن في ذلك حياة الجماعة حياة فاضلة عادلة (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ...)، وفيها تنظيم للأسرة بالتعاون بين آحادها؛ بأن يمد الغني الفقير بالهبات في الحياة، والوصايا بعد الوفاة، وفيها بيان لما يهذب النفس، ويقوى الروح فذكر الصيام، ثم فيه إشارة إلى الحج الذي يجمع في ثناياه بين إصلاح الآحاد في ذات أنفسهم، وإصلاح الجماعة وتنظيمها، وفي أحكامه تتلاقى ذرائع التنظيم الاجتماعي، والإصلاح النفسي؛ فهو في ذاته رحلة روحية يشارف المؤمن فيها المقام القدسي، إذ يحل في المكان الذي شرفه الله سبحانه بنسبته إليه، ووضع قواعده النبيون الصديقون، وفيه الصدقات وإمداد الفقراء؛ بل في بعض كفاراته الصوم؛ وفيه التنظيم الاجتماعي العام بالتعارف بين المسلمين في كل البقاع؛ فكان حقا أن يجيء الحج بعد الأحكام المنظمة، والعبادات المصلحة للنفس، المهذبة للروح؛ لأنه يجمعها في أحكامه.
ولكن الحج في إبان نزول القرآن كان متعذرًا أو متعسرًا؛ لأن المزار الأكبر وهو البيت الحرام، والمشعر الحرام، كان المشركون قد سيطروا عليه، والأصنام تحيط به من كل جانب، وهم يمنعون المسلمين منه، والعداوة بينهم وبين النبي وصحبه مستعرة؛ فكان لابد من القتال للوصول إليه، وأداء تلك الشريعة الإسلامية؛ لذلك جاء ذكر

صفحة رقم 598

القتال بين الإشارة إليه بقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا...)، وبين بيان بعض أحكامه في قوله تعالى:

صفحة رقم 599
زهرة التفاسير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن أحمد بن مصطفى بن أحمد المعروف بأبي زهرة
الناشر
دار الفكر العربي
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية