
الضحاك: وذلك أن الكفار كانوا لا يدخلون البيت في أشهر الحج من بابه، وكانوا يدخلونه من أعلاه، فنزلت هذه الآية. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: وذلك أن الناس كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام، إذا أحرم رجل منهم قبل الحج، فإن كان من أهل المدن يعني من أهل البيوت، ثقب في ظهر بيته فمنه يدخل ومنه يخرج، أو يضع سلماً فيصعد منه وينحدر عليه وإن كان من أهل الوبر يعني من أهل الخيام، يدخل من خلف الخيمة إلا من الحمس.
وإنما سموا الحمس، لأنهم يحمسون في دينهم، أي شددوا على أنفسهم، فحرموا أشياء أحلها الله لهم، وحللوا أشياء كانت حراماً على غيرهم وهو الدخول من الباب. فنزلت هذه الآية:
وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها، يعني ليس التقوى بأن تأتوا البيوت من خلفها إذا أحرمتم. وَلكِنَّ الْبِرَّ، يعني التقوى مَنِ اتَّقى، أي أطاع الله واتبع أمره. ويقال: ولكن ذو البر من اتقى الشرك والمعاصي.
ثم قال تعالى: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها، يعني ادخلوها محلين ومحرمين. وَاتَّقُوا اللَّهَ ولا تقتلوا الصيد في إحرامكم وهذا قول الكلبي. وقال مقاتل: واتقوا الله ولا تعصوه.
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، أي تنجون من العقوبة.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩٠ الى ١٩٤]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤)
قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا، وذلك أن رسول الله ﷺ خرج مع أصحابه إلى مكة للعمرة، فنزل بالحديبية بقرب مكة، والحديبية: اسم بئر فسمي ذلك الموضع باسم تلك البئر، فصده المشركون عن البيت، فأقام بالحديبية شهراً، فصالحه المشركون على أن يرجع من عامه كما جاء، على أن تخلى له مكة في العام المقبل ثلاثة أيام، وصالحوه على أن لا يكون بينهم قتال إلى عشر سنين، فرجع إلى المدينة وخرج في العام الثاني للقضاء، فخاف أصحاب رسول الله ﷺ أن يقاتلهم المشركون وكرهوا القتال في

الشهر الحرام، فنزلت هذه الآية وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أي في طاعة الله الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ، يعني في الحرم أو في الشهر الحرام، وَلا تَعْتَدُوا بأن تنقضوا العهد وتبدؤوهم بالقتال في الشهر الحرام أو في الحرم. إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، يعني من يبدأ بالظلم.
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ، أي حيث وجدتموهم في الحل والحرم، والشهر الحرام.
فأمرهم الله تعالى بقتل المشركين الذين ينقضون العهد وقوله: وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ من مكة وَالْفِتْنَةُ، أي الشرك بالله أَشَدُّ، أي أعظم عند الله مِنَ الْقَتْلِ في الشهر الحرام. وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، أي في الحرم، حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، أي يبدؤوكم بالقتال. فَإِنْ قاتَلُوكُمْ، أي بدءوكم بالقتال فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ، أي هكذا جزاؤهم القتل في الحرم وغيره. قرأ حمزة والكسائي: وَلا تُقاتِلُوهُمْ بغير ألف حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ، فَإِنْ قاتَلُوكُمْ وقرأ الباقون في هذه المواضع الثلاثة: بالألف. فمن قرأ بالألف فهو من المقاتلة ومن قرأ بغير ألف فمعناه لا تقتلوهم حتى يقتلوا منكم. فَإِنِ انْتَهَوْا عن قتالكم، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي إذا أسلموا. وهذا كقوله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ [الأنفال: ٣٨]. وَقاتِلُوهُمْ، يعني أهل مكة حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ، يعني الشرك بالله، وَيَكُونَ الدِّينُ كله لِلَّهِ، يعني الإسلام. فَإِنِ انْتَهَوْا عن قتالكم وتركوا الشرك فَلا عُدْوانَ، يقول لا سبيل ولا حجة عليهم في القتل، إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ الذين بدءوكم بالقتال. وقال القتبي: أصل العدوان الظلم، يعني لا جزاء للظلم إلا على الظالمين.
فسار رسول الله ﷺ وأصحابه حتى دخلوا مكة، وطافوا بالبيت، ونحروا الهدي، وأقاموا بمكة ثلاثة أيام ثم انصرفوا فنزلت هذه الآية: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ، يعني الشهر الحرام الذي دخلت فيه الحرم بالشهر الحرام الذي صدوكم عنه العام الأول وهو ذو القعدة وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ أي ما اقتصصت لكم في ذي القعدة كما صدوكم. ويقال: إذا قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم في الشهر الحرام وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ، يعني قتالكم يكون لِقتالهم قصاصاً، فكما تركوا الحرمة فأنتم تتركون أيضاً ذلك.
ويقال: إن سبب نزول هذه الآية أن المشركين سألوا المسلمين فقالوا: في أي شهر يحرم عليكم القتال؟ وأرادوا أن يقفوا على ذلك، حتى يقاتلوهم في الشهر الذي حرم القتال على المؤمنين، فنزل قوله: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، أي في وقت قاتلكم المشركون حل لكم قتالهم. ثم قال تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ، أي قاتلكم في الشهر الحرام فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ، أي قاتلوهم فيه وإنما سمي الثاني اعتداء، لأنه مجازاة الاعتداء فسمي بمثل اسمه. وهذا كقوله عز وجل: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ