آيات من القرآن الكريم

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ
ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭ ﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﲿ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ

في جميعها بالحج. وخالف الشافعي في ذلك لقوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [البقرة ٢/ ١٩٧]، ولأنّ معنى هذه الآية أن بعضها مواقيت للناس، وبعضها مواقيت للحج، وهذا كما تقول: هذه السلعة لخالد وعمر، أي بعضها لخالد وبعضها لعمر، ولا يجوز أن يقال: جميعها للأول وجميعها للثاني.
وفي هذه الآية بيان أن ما لم يشرعه الله قربة، ولا ندب إليه، لا يصير قربة بأن يتقرب به متقرب، فدخول الدار من ظهرها لا من بابها ليس قربة يثاب عليها الشخص.
وقد نهى الرسول صلّى الله عليه وسلّم رجلا اسمه أبو إسرائيل عن القيام في الشمس، وقال: «مروه فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه» «١».
وأكّد الله تعالى أوامره ونواهيه في كثير من الآيات بالأمر بتقوى الله للوصول إلى الفلاح، والمعنى: اتقوا الله، فافعلوا ما أمركم به، واتركوا ما نهاكم عنه، لتفلحوا غدا أو رجاء أن تكونوا من المفلحين إذا وقفتم بين يديه، فيجازيكم على التمام والكمال.
قواعد القتال في سبيل الله
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩٠ الى ١٩٥]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤)
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥)

(١) رواه البخاري وأبو داود وابن ماجه عن ابن عباس.

صفحة رقم 174

لبلاغة:
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ فيه ما يسمى بحذف الإيجاز، تقديره: هتك حرمة الشهر الحرام تقابل بهتك حرمة الشهر الحرام.
فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ سمي جزاء العدوان عدوانا من قبيل «المشاكلة» : وهي الاتفاق في اللفظ، مع الاختلاف في المعنى، مثل قوله تعالى أيضا: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى ٤٢/ ٤٠]، وقوله: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [الأنفال ٨/ ٣٠]، تقول العرب: ظلمني فلان فظلمته، أي جازيته بظلمه. ومثل: فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة ٢/ ١٩٣] سمي ما يصنع بالظالمين عدوانا من حيث هو جزاء عدوان، إذ الظلم يتضمن العدوان، فسمي جزاء العدوان عدوانا.
المفردات اللغوية:
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لإعلاء دينه، لأنه طريق إلى مرضاته، فالقتال في سبيل الله: هو القتال لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه. يُقاتِلُونَكُمْ أي يتوقع منهم قتالكم.
وَلا تَعْتَدُوا أي لا تبدءوهم بالقتال. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ المتجاوزين ما حدّ لهم من الشرائع والأحكام. ومحبة الله لعباده: إرادة الخير والثواب لهم. ثَقِفْتُمُوهُمْ وجدتموهم وأدركتموهم. مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أي من مكة، وقد فعل بهم ذلك عام فتح مكة.
وَالْفِتْنَةُ الشرك منهم أعظم من القتل لهم في الحرم أو الإحرام الذي استعظمتموه. وقيل: إن المراد بالفتنة: ما يقع من المشركين من صنوف الإيذاء والتعذيب. عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي في الحرم. كَذلِكَ أي القتل والإخراج. فَإِنِ انْتَهَوْا عن الفكر وأسلموا. وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ أي ويكون دين كل شخص خالصا لله، لا يخشى غيره، ولا يصدّ عنه، ولا يحتاج إلى محاباة أو استخفاء. والدين: يشمل الاعتقاد والعبادة والعمل الصالح.

صفحة رقم 175

فَإِنِ انْتَهَوْا عن الشرك. فَلا عُدْوانَ أي لا تتعدوا عليهم بقتل أو غيره. إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ أي المتجاوزين حدودهم المعتدين على غيرهم، فمن انتهى عن الشرك والاعتداء فليس بظالم، فلا عدوان عليه.
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ ردّ على استعظام القتال في الأشهر الحرم، إذ هتك حرمة الشهر الحرام من المسلمين مقابل هتك حرمة الشهر الحرام من الكفار.
وَالْحُرُماتُ جمع حرمة: وهي ما يجب احترامه. قِصاصٌ أي يقتص بمثلها إذا انتهكت. فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ بالقتال في الحرم أو الإحرام، أو الشهر الحرام. فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ.. سمّى مقابلة الاعتداء اعتداء، لشبهها بالمقابل به في الصورة. وَاتَّقُوا اللَّهَ في الانتصار، وترك الاعتداء. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالعون والنصر.
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعته بالجهاد وغيره. وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ أي أنفسكم.
إِلَى التَّهْلُكَةِ الهلاك بالإمساك عن النفقة في الجهاد أو تركه، لأنه يقوي العدو عليكم.
وَأَحْسِنُوا بالنفقة وغيرها. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ أي يثيبهم.
سبب النزول:
قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.. الآية.
قال ابن عباس فيما أخرجه الواحدي: نزلت هذه الآيات في صلح الحديبية، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما صدّ عن البيت هو وأصحابه، نحر الهدي بالحديبية، ثم صالحه المشركون على أن يرجع عامه، ثم يأتي القابل، على أن يخلوا له مكة ثلاثة أيام، فيطوف بالبيت ويفعل ما شاء. وصالحهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما كان العام المقبل، تجهّز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك، وأن يصدّوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم، وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام في الحرم، فأنزل الله: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ
يعني قريشا.
وقوله: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ الآية،
قال قتادة فيما أخرجه الطبري: أقبل نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في ذي القعدة، حتى إذا كانوا بالحديبية، صدّهم المشركون، فلما كان العام المقبل دخلوا مكة، فاعتمروا في ذي القعدة،

صفحة رقم 176

وأقاموا بها ثلاث ليال، وكان المشركون قد فجروا عليه حين ردّوه يوم الحديبية، فأقصّه الله تعالى منهم، فأنزل: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ الآية.
وقوله: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.. الآية، قال الشعبي: نزلت في الأنصار، أمسكوا عن النفقة في سبيل الله تعالى، فنزلت هذه الآية.
وأخرج الطبراني بسند صحيح عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: كانت الأنصار يتصدقون ويطعمون ما شاء الله، فأصابتهم سنة (قحط)، فأمسكوا، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية.
وروى البخاري عن حذيفة قال: نزلت الآية في النفقة. وأخرج أبو داود والترمذي وصححه، وابن حبان والحاكم وغيرهم، عن أبي أيوب الأنصاري قال: نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما أعزّ الله الإسلام، وكثر ناصروه، قال بعضنا لبعض سرّا: إنّ أموالنا قد ضاعت، وإنّ الله قد أعزّ الإسلام، فلو أقمنا في أموالنا، فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله يردّ علينا ما قلنا: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ
، فكانت التهلكة: الإقامة على أموالنا وإصلاحها وتركنا الغزو.
المناسبة:
وردت هذه الآيات في الإذن بالقتال للمحرمين في الأشهر الحرم، إذا فوجئوا بالقتال بغيا وعدوانا، فهي متصلة بما قبلها، لأن الآية السابقة بيّنت أن الأهلّة مواقيت للناس في عباداتهم ومعاملاتهم وحجهم، والحج يكون في أشهر هلالية مخصوصة، كان القتال فيها محرما في الجاهلية، فأوضحت هذه الآيات أنه لا حرج عليكم في القتال في هذه الأشهر، دفاعا عن دينكم، وتربية لمن يفتنكم عنه، وينكث العهد، لا لأهواء النفوس، فالآية متصلة بما سبق من ذكر الحج وإتيان

صفحة رقم 177

البيوت من ظهورها حال الإحرام. ثم إنه بعد الأمر بالتقوى ذكر أشدّ أقسام التقوى وأشقها على النفس.
مشروعية القتال:
كان القتال قبل الهجرة محظورا بآيات كثيرة، منها: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت ٤١/ ٣٤]، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة ٥/ ١٣]، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل ١٦/ ١٢٥]، فَإِنْ تَوَلَّوْا، فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النحل ١٦/ ٨٢]، وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا: سَلاماً [الفرقان ٢٥/ ٦٣]، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية ٨٨/ ٢٢]، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق ٥٠/ ٤٥]، قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا: يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الجاثية ٤٥/ ١٤].
ثم نسخ الله وجوب هذا كله في المدينة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة ٩/ ٥]، وقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة ٩/ ٢٩].
وأما أوّل آية نزلت في الإذن بالقتال، فهي كما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: رَبُّنَا اللَّهُ [الحج ٢٢/ ٣٩- ٤٠].
وروي عن جماعة من الصحابة والربيع بن أنس وغيره «١» أن أول آية نزلت في الإذن بالقتال هي: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ
وهذا رأي أكثر علماء التفسير «٢».

(١) قال القرطبي وأبو حيان وغيرهما: وأكثر الرواة على هذا.
(٢) البحر المحيط: ٢/ ٦٥

صفحة رقم 178

التفسير والبيان:
قاتلوا في سبيل الله ونصرة دينه وإعزاز كلمته أيها المؤمنون، فإني أذنت لكم في قتال المشركين الذين فتنوكم عن دينكم، وأخرجوكم من دياركم، وقاتلوكم ونكثوا عهودكم. والمقاتلة في سبيل الله: هي الجهاد للكفار لإظهار دين الله وإعلاء كلمته.
ولا تعتدوا بالبدء بالقتال، ولا بقتل المسالمين، ولا بقتل غير المقاتلة من النساء والصبيان والعجزة والشيوخ، ولا بتخريب الدور وقطع الأشجار، وإحراق الزروع والثمار، فإن الله يكره الاعتداء، ولا سيما حين الإحرام، وفي أرض الحرم، وفي الأشهر الحرم.
وإذا نشب القتال بينكم وبين أعدائكم، فاقتلوهم أينما أدركتموهم، وحيثما وجدتموهم، ولو في أرض الحرم، وأخرجوهم أو أجلوهم من المكان الذي أخرجوكم منه وهو مكة. فإنهم أخرجوكم من وطنكم وهو مكة، وتعاونوا على إخراجكم منها، وصادروا أموالكم، وأخذوا ممتلكاتكم، وفتنوكم عن دينكم بالإيذاء والتعذيب والاضطهاد بسبب عقيدتكم، وهذه الفتنة في الدين أشد على المؤمن الحرّ الأبيّ من قتل النفوس، لأن العقيدة أقدس شيء في الوجود، وأغلى وأسمى من كل شيء في الكون، وليس هناك بلاء ومضايقة على الإنسان أشد من إيذائه واضطهاده في دينه، وتعذيبه من أجل عقيدته التي تمكنت في قلبه وعقله ونفسه، ورأى السعادة في الدنيا والآخرة بسلامتها وصحتها ووجودها لديه، فهي الكنز ورأس المال الرابح، ويهون في سبيلها التضحية بالنفس والنفيس، فيكون ما تفعلونه معهم من القتل في الحرم أقل مما يتصفون به من الفتنة، أي التعذيب من أجل إرجاعكم إلى الكفر، وقال بعضهم: أي شركهم بالله وكفرهم به أعظم جرما وأشدّ خطرا من القتل الذي عيّروكم به «١».

(١) البحر المحيط: ٢/ ٦٥

صفحة رقم 179

ثم استثنى الحقّ سبحانه وتعالى مكانا خاصّا من عموم الأمة بقتل المحاربين في أي مكان، وهو قتالهم في المسجد الحرام، لأن من دخله كان آمنا، فلا تقاتلوهم فيه حتى يقاتلوكم، ولا تستسلموا لهم أبدا، لأن الشّر بالشّر، والبادئ أظلم، فإن قاتلوكم فيه فاقتلوهم، لأنّ سنّة الله أن يجازى الكافرون مثل هذا الجزاء، وأن يعذبوا مثل هذا العذاب، بسبب بدئهم بالعدوان، وظلمهم أنفسهم، فيلقون جزاء ما صنعوا.
فإن توقفوا عن القتال أو كفّوا عن الكفر والشّرك، ودخلوا في دين الله، فإن الله يتقبل أعمالهم ويغفر لهم ما تقدّم منهم، لأنه غفور للسيئات، رحيم بالعباد، يمحو عنهم الخطيئات إذا تابوا وأنابوا إلى ربهم، وأحسنوا واتّقوا: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف ٧/ ٥٦]، وتفسير المنتهى عنه فيه رأيان:
ذهب ابن عباس إلى أن معنى الآية: فإن انتهوا عن القتال، وذهب الحسن إلى أن المعنى: فإن انتهوا عن الشرك، لأنه لا غفران لهم إلا إذا انتهوا عن الشرك: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء ٤/ ٤٨].
وبعد أن بيّن الله بقوله أوّلا: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الإذن بالقتال أو البدء به، ذكر الغاية من القتال: وهي إقرار مبدأ الحرية، وألا يوجد شيء من الفتنة في الدين، فقال: اقصدوا بقتالهم أن تزول الفتنة والكفر وأنواع الإيذاء والضّرر التي تلحق المسلمين بوجودهم في مكة، وإزالة الفتنة: بألا تكون لهم قوة يفتنونكم بها في دينكم، ويؤذونكم، ويمنعونكم من إظهار دعوة الله تعالى.
واستمروا في قتالهم حتى يكون الدين من كل شخص خالصا لله، لا أثر لخشية غيره فيه، وحتى يكون الدين ظاهرا قائما تمارس شعائره، دون خوف أو إرهاب أو استخفاء، وحتى يأمن المسلم في الحرم، فيعلن أمور دينه دون تهيب من أحد، فيكون معنى وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ: أن يكون الله هو المعبود وحده.

صفحة رقم 180

هذا مع العلم بأن الكفار في مكة كانوا أحرارا آمنين في عبادتهم الأصنام، والمؤمنون بالله مطرودون منها، ومن بقي فهو خائف لا يظهر دينه.
فإن انتهوا عما كانوا عليه وكفّوا عن قتالكم، ورجعوا عن الكفر، وأسلموا وسالموا، فلا تعتدوا عليهم إلا على من ظلم واعتدى، فيكون قتاله تأديبا له وإصلاحا لشأنه، حتى يكفّ عن ظلمه ويرتدع عن غيّه، وتطبق عليه أحكام الشرع.
والحرمة: ما منعت من انتهاكه، والقصاص: المساواة.
وعلى هذا تكون مقابلة العدوان وانتهاك الحرمات أمرا مطلوبا في موازين الشرع والعقل والعرف، فمن استحلّ دمكم في الشهر الحرام، فاستحلوا دمه فيه، وقابلوا بالمثل هتك حرمة الشهر، ولا تتحرّجوا بالقتال فيه للدفاع عن الدين والنفس وإعلاء كلمة الله. والحرمات وهي الشهر الحرام، والبلد الحرام، وحرمة الإحرام، يجب قصاص المشركين على انتهاكها، ومعاملتهم بالمثل. فمن انتهك حرمتها، فافعلوا به مثل فعله، وإن منعوكم عن قضاء العمرة هذه السّنة بموجب العهد والاتّفاق معهم، وقاتلوكم، فاقتلوهم، لأن الدفاع عن النفس أمر واجب ولا حرج فيه ولو كان في مكة، أو في حال الإحرام، أو في شهر حرام.
ثمّ أبان الله تعالى حكما دائما، وسنة مستقرة: وهو أن العدوان يقابل بمثله، وما كان على سبيل القصاص (المعاملة بالمثل) فهو مأذون فيه. ولكن مقابلة العدوان مقيدة بمبادئ الفضيلة والتقوى والمدنية والإنسانية، فاتّقوا الله ولا تظلموا، واحذروا أن تعتدوا، والتزموا حدود العدل ودفع الضرر وإحقاق الحق والبقاء على المدنيات، ومنافع الناس، والترفع عن الانتصار للأهواء والشهوات وحظوظ النفس التي قد تتمادى في الغي والحقد والتهور والطيش، واعلموا أن الله نصير المتقين، ومؤيد الأتقياء، ومثيب الصلحاء، فهو ينصرهم

صفحة رقم 181

على الأعداء، ويحقق لهم الغلبة، ويمكّن لهم في الأرض، تأييدا لدين الله وإعلاء لكلمته.
والجهاد كما يكون بالنفس يكون أيضا بالمال، فهو يحتاج إلى الأنفس المقاتلة، وإلى الأموال التي يشترى بها السلاح، وينفق بها على المحاربين، لذا أمر الله بإنفاق المال في سبيل الجهاد، فقال: وابذلوا المال في سبيل الله أي سبيل الجهاد لشراء العتاد والسلاح ونفقات الحرب، فالإنفاق في الحروب والمال في المعارك يدعم القتال، ويحقق النصر والفوز، واحذروا من التلكؤ والتقصير في واجب الإنفاق، فإنه مهلكة للأمة، مضيعة للجماعة، إتلاف للأنفس، وإياكم أن تلقوا بأنفسكم إلى سبل الدمار والهلاك، وأعدوا العدة اللازمة المكافئة للقتال بحسب كل زمان ومكان وحال كما قال الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال ٨/ ٦٠] بتعليم الرجال القتال، وإعداد السلاح المناسب المتطور، وتحصين النفوس بالخلق المتين والعلم الصحيح، فإن الجيوش الجرارة قد تصاب في كبدها من ضعفاء النفوس الذين يشتريهم العدو بالرشوة والمال وأنواع الإغراءات المادية والمعنوية، كما أنها قد تخسر الحرب بسبب جهلها ونقص تكوينها وتقصيرها عن مستوى أعدائها في التخطيط والتدبير والتدرب على استعمال السلاح الحديث.
وما أروع وأحكم ما ختمت به هذه الآية: وهو إحسان العمل، فأحسنوا أعمالكم بامتثال الطاعات وأتقنوها، فالله يحب المحسنين ويجازيهم أحسن الجزاء، وذلك مكمل للجانب الأدبي الرفيع والحضاري السامي الذي ختمت به الآية السابقة وهو التزام التقوى والفضيلة، فتكون الخاتمتان قد جمعتا بين وسائل القوتين المادية والمعنوية ومقوماتها وقيودها.

صفحة رقم 182

فقه الحياة أو الأحكام:
يستخلص من هذه الآية وغيرها الواردة في بيان حالات مشروعية القتال، وحكمة الإذن بالجهاد ما يأتي:
١- شرع القتال في سبيل الله لرد العدوان وحماية الدعوة، وحرية الدين الإلهي.
٢- كان تشريع القتال متصفا بالعدل والحق، فهو لا اعتداء فيه على أحد، ولا يتجاوز فيه ما تقتضيه الضرورة الحربية، وليس الهدف منه التدمير والتخريب، ولا الإرهاب المجرد، فلا يقتل غير المقاتلين، ولا تقتل النساء والصبيان ونحوهم من الرهبان والعجزة والمرضى والشيوخ، ولا تقطع الزروع والثمار، ولا تذبح الحيوانات إلا لمأكلة، كما جاء في الوصايا النبوية ووصايا الخلفاء الراشدين.
٣- لم يكن القتال لإكراه الناس على اعتناق الإسلام، فذلك منفي أصلا في شريعة القرآن، بآيات كثيرة منها: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة ٢/ ٢٥٦] أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس ١٠/ ٩٩].
٤- لم يشهد التاريخ أمة منصفة، رحيمة بالضعفاء، مترفعة عن الدنايا وسفساف الأمور، مثل أمة الإسلام، كما اعترف بذلك المنصفون من قادة الفكر في الغرب، قال الفيلسوف الفرنسي جوستاف لوبون: «ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب». أما ما يزعمه الحاقدون والجهلة من أن الإسلام دين قام بالسيف، فهو مجرد فرية أملاها الحقد الدفين وتشوية الحقائق وكذبها التاريخ والواقع.
وأما المفسرون فقد أثاروا وبحثوا عدة مسائل بمناسبة هذه الآية أهمها ما يأتي:

صفحة رقم 183

١- هل آية وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ منسوخة؟
أ- قال جماعة من العلماء: مفاد هذه الآية أنه يحل لكم القتال إن قاتلكم الكفار، ثم نسخت بقوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً، كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة ٩/ ٣٦] وقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة ٩/ ١٢٣] وقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة ٩/ ٥] وقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ..
[التوبة ٩/ ٢٩] وهذه كلها تأمر بالقتال لجميع الكفار، وتدل على عموم شرع القتال للمشركين، سواء قاتلوا المسلمين أو لم يقاتلوهم.
ب- وقال ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد: الآية محكمة، أي قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلونكم، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبههم. قال أبو جعفر النحاس: وهذا أصح القولين في السنة والنظر.
أما السنة
فحديث ابن عمر الذي رواه الأئمة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة، فكره ذلك، ونهى عن قتل النساء والصبيان.
وأما النظر: فإن (فاعل) لا يكون في الغالب إلا من اثنين، كالمقاتلة والمشاتمة والمخاصمة، والقتال لا يكون في النساء ولا في الصبيان ومن أشبههم، كالرهبان والزّمنى والشيوخ والأجراء فلا يقتلون. وبهذا أوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان حين أرسله إلى الشام، فيما رواه مالك وغيره، إلا أن يكون لهؤلاء إذاية.
أما النساء: فإن قاتلن برأي أو تحريض على القتال أو إمداد بمال قتلن، في حالة المقاتلة وبعدها في رأي سحنون، لعموم قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [البقرة ٢/ ١٩٠] وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [البقرة ٢/ ١٩١]

صفحة رقم 184

ولا تقتل المرأة التي لا تقاتل، سواء في أثناء المعركة، أو بعد الأسر والأخذ، لما
رواه الطبراني عن ابن عباس عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «.. ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا شيخا».
وأما الصبيان: فلا يقتلون أيضا، للنهي الثابت في السنة عن قتل الذرية، فقد ثبت أنه صلّى الله عليه وسلّم نهى عن قتل النساء والصبيان. وقال فيما
رواه أحمد وأصحاب السنن إلا الترمذي عن رباح بن ربيع: «لا تقتلوا ذرّية ولا عسيفا»
أي أجيرا، ولأنه لا تكليف عليهم، فإن قاتل الصبي قتل.
وأما الرهبان: فلا يقتلون، بل يترك لهم ما يعيشون به من أموالهم، إذا انفردوا عن أهل الكفر، لقول أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان في وصيته المشهورة «١» فيما رواه مالك في الموطأ: «.. وستجد قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له».
وأما الزّمنى (المرضى) : فالصحيح أن تعتبر أحوالهم، فإن كانت فيهم إذاية قتلوا، وإلا تركوا، وما هم بسبيله من الزمانة.
وأما الشيوخ: ففي رأي جمهور الفقهاء: إن كان شيخا كبيرا هرما لا يطيق القتال، ولا ينتفع به في رأي ولا مدافعة، فإنه لا يقتل، لقول أبي بكر ليزيد، ولأنه ممن لا يقاتل ولا يعين العدو، فلا يجوز قتله كالمرأة، وأما إن كان ممن تخشى مضرّته بالحرب أو الرأي أو المال، فيخير فيه الإمام في رأي المالكية إذا أسره بين خمسة أشياء: القتل، أو المن، أو الفداء، أو عقد الذمة على أداء الجزية، أو

(١) أوصى أبو بكر سنة ١٣ هـ يزيد بن أبي سفيان بن حرب الذي أرسله قائدا على جيش إلى الشام، بعد أن شيعه راجلا: «وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة، ولا صبيا، ولا كبيرا هرما، ولا تقطعن شجرا مثمرا، ولا تخربن عامرا، ولا تعقرن شاة، ولا بعيرا إلا لمأكلة، ولا تحرقن نخلا، ولا تغرقنه، ولا تغلل، ولا تجبن». رواه مالك في الموطأ- باب الجهاد.

صفحة رقم 185

الاسترقاق (في الماضي). وكذلك أجاز الشافعي بعد الأسر قتل ما عدا النساء والصبيان.
وأما العسفاء وهم الأجراء والفلاحون: فلا يقتلون في رأي مالك، للحديث السابق عن رباح بن ربيع: «الحق بخالد بن الوليد، فلا يقتلنّ ذرية ولا عسيفا» وقال عمر بن الخطاب: اتقوا الله في الذرّية والفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب. وكان عمر بن عبد العزيز لا يقتل حرّاثا.
وقال الشافعي: يقتل الفلاحون والأجراء والشيوخ الكبار، إلا أن يسلموا، أو يؤدوا الجزية.
ج- ولم ير الفخر الرازي نسخ آية وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ بآية وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ لأن ذكر العام بعد الخاص يثبت زيادة حكم على حكم الخاص، من غير أن ينسخه. وقال: وتحقيق القول: أنه تعالى أمر بالجهاد في الآية الأولى بشرط إقدام الكفار على المقاتلة، وفي هذه الآية: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ زاد في التكليف، فأمر بالجهاد معهم، سواء أقاتلوا أم لم يقاتلوا، واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام بقوله تعالى:
وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ...
وأما ما روي عن مقاتل: أن آية وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ منسوخة بقوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ثم تلك منسوخة أيضا بقوله تعالى:
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ فقال عنه الفخر الرازي: وهو ضعيف، أما أن قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ منسوخ، فقد تقدم إبطاله. وأما قوله: إن هذه الآية منسوخة بقوله: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فهو تخصيص لا نسخ. وأما قوله بنسخ آية وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ بقوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ فهو خطأ أيضا، لأنه

صفحة رقم 186

لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم، وهذا الحكم باق لم ينسخ، فثبت أن قوله ضعيف. ولأنه يبعد من الحكيم أن يجمع بين آيات متتالية، تكون كل واحدة منها ناسخة للأخرى «١».
٢- أمان اللاجئ إلى الحرم:
تمسك الحنفية بآية وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ في عدم قتل الكافر اللاجئ للحرم، ما دام لم يقاتل في الحرم. وتدل أيضا بعمومها على أن القاتل إذا لجأ إلى الحرم لا يقتل. ويؤيد حكم الاثنين قوله تعالى:
وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران ٣/ ٩٧] وقوله: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً [البقرة ٢/ ١٢٥].
٣- غاية القتال وحكمته:
شرع القتال في الإسلام للدفاع عن النفس والبلاد والأعراض والحرمات، ولم يشرع للعدوان والتقتيل وسفك الدماء.
وكانت الغاية السامية منه إقرار حرية الدعوة إلى الدين، وإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه، ونصرة شريعته وحماسة أهله ودعاته.
وهل سبب القتال رد العدوان والإيذاء أو الكفر؟
بالأول قال جمهور من الفقهاء، وبالثاني قال جماعة كالشافعية بدليل آية:
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ وفسروا الفتنة بالشرك أو الكفر، وبقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المتواتر الذي أخرجه أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة: «أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا

(١) تفسير الرازي: ٥/ ١٢٩

صفحة رقم 187

الله» قال القرطبي: فدلت الآية والحديث على أن سبب القتال هو الكفر، لأنه قال: حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي كفر، فجعل الغاية عدم الكفر، وهذا ظاهر «١». أي أن المعنى: وقاتلوهم حتى يزول الكفر، ويثبت الإسلام، ونظيره قوله تعالى: «تقاتلونهم أو يسلمون».
٤- الظفر بالحق:
دلت آية فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ على جواز أخذ الحق من الظالم بأي طريق، ما لم يعد سارقا. وهو مذهب مالك والشافعي وغيرهم. قال ابن العربي «٢» :
من أباح دمك فمباح دمه لك، لكن بحكم الحاكم، لا باستطالتك وأخذ ثأرك بيدك، ولا خلاف فيه.
ومن أخذ مالك فخذ ماله، إذا تمكنت منه، إذا كان من جنس مالك، طعاما بطعام، وذهبا بذهب، وقد أمنت من أن تعدّ سارقا.
وأما أخذ ما ليس من جنس مالك، فاختلف العلماء فيه، فمنهم من قال:
لا يؤخذ إلا بحكم حاكم، ومنهم من قال: يتحرّى قيمته، ويأخذ مقدار ذلك، هو الصحيح عندي.
ومن أخذ عرضك فخذ عرضه، لا تتعداه إلى أبويه ولا إلى ابنه أو قريبه.
لكن ليس لك أن تكذب عليه، وإن كذب عليك، فإن المعصية لا تقابل المعصية، فلو قال مثلا: يا كافر، جاز لك أن تقول له: أنت الكافر، وإن قال لك: يا زاني، فقصاصك أن تقول: يا كذاب، يا شاهد زور، ولو قلت له

(١) تفسير القرطبي: ٢/ ٣٥٤
(٢) أحكام القرآن: ١/ ١١١- ١١٢

صفحة رقم 188

يا زان، كنت كاذبا، فأثمت في الكذب، وأخذت فيما نسب إليك من ذلك، فلم تربح شيئا، وربما خسرت. وإن مطلك غني دون عذر، قل: يا ظالم، يا آكل أموال الناس.
قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح: «ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته»
«١» أما عرضه فيما فسرناه، وأما عقوبته فبالسجن حتى يؤدّي.
٥- المماثلة في القصاص:
وأرشدت أيضا آية فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ إلى مبدأ المماثلة في القصاص، ونظيرها آية: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل ١٦/ ١٢٦]، فمن قتل بشيء قتل بمثل ما قتل به، ما لم يقتله بفسق أو معصية كاللواط وإسقاء الخمر، فيقتل بالسيف، وهذا قول الجمهور، واستثنى المالكية أيضا القتل بالنار أو السّم، لا يقتل به،
لقول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يعذب بالنار إلا الله»
والسم نار باطنة.
وقال أبو حنيفة، وأحمد في الأصح في مذهبه: إنه لا قود إلا بحديدة، بدليل
حديث النعمان بن بشير- فيما رواه ابن ماجه والبيهقي والدارقطني-: «لا قود إلا بحديدة، ولا قود إلا بالسيف».
وانفرد أبو حنيفة بالقول فيمن قتل بخنق أو بسمّ أو تردية من جبل أو بئر أو بخشبة، إنه لا يقتل ولا يقتص منه، إذ القتل بمثقل عنده لا يوجب القصاص، لأنه قتل شبه عمد، يوجب الدية على عاقلة القاتل. وإنما القصاص يجب بالقتل بمحدّد حديد أو حجر أو خشب أو كان معروفا بالخنق والتّردية.

(١) اللي: المطل، والواجد: القادر على قضاء دينه. والحديث أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن الشريد بن سويد. [.....]

صفحة رقم 189

٦- الجهاد بالنفس والمال:
يكون الجهاد بالنفس والمال، لأن تجهيز الجيوش يحتاج إلى عتاد وسلاح ونفقات، كاحتياج المعارك إلى الرجال الأشداء. فلو قصّر المسلم في الإنفاق في سبيل إعلاء كلمة الله، فقد ألقى بنفسه إلى الهلاك، وأهلك الجماعة، ودمر الأمة التي ينتمي إليها. وقد نزلت آية: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة ٢/ ١٩٥] كما عرفنا في الأنصار حينما تعرضوا لقحط وجدب في بعض السنوات، وظنوا ألا حاجة للنفقة، لأن الله قد أعز الإسلام، وكثر ناصروه، فلم يقبل الله ذلك منهم، لأن الجهاد فريضة دائمة، والإعداد للقتال واجب شرعي مستمر.
٧- اقتحام أهوال الحرب أو العمل الفدائي:
اختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب، وحمله على العدو وحده، أيعد ذلك إلقاء بالنفس إلى التهلكة؟.
قال جماعة من المالكية: لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم، إذا كان فيه قوة، وكان لله بنية خالصة، فإن لم تكن فيه قوة، فذلك من التهلكة.
وقيل: إذا طلب الشهادة، وخلصت النية، فليحمل، لأن مقصوده واحد من الأعداء، وذلك بيّن في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [البقرة ٢/ ٢٠٧]. وهذا هو الفدائي بحق.
روي أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا؟ قال: فلك الجنة»
فانغمس في العدو حتى قتل.
وقال محمد بن الحسن: لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين،

صفحة رقم 190

وهو وحده، لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه، لأنه عرّض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين.
فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه، فلا يبعد جوازه، ولأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه.
وإن كان قصده إرهاب العدو، ليعلم صلابة المسلمين في الدّين، فلا يبعد جوازه.
وإذا كان فيه نفع للمسلمين، فتلفت نفسه لإعزاز دين الله، وتوهين الكفر، فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة ٩/ ١١١] الآية، إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله بها من بذل نفسه.
وعليه ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أنه متى رجا نفعا في الدّين، فبذل نفسه فيه، حتى قتل، كان في أعلى درجات الشهداء، قال الله تعالى: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ، إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان ٣١/ ١٧].
وروى ابن عباس عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أفضل الشهداء: حمزة بن عبد المطلب، ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر، فقتله».

صفحة رقم 191
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية