لأنهم أهل التأمل في حكمة الْقِصاصِ من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس، وقيل: للإشارة إلى أن الحكم مخصوص بالبالغين دون الصبيان لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ربكم باجتناب معاصيه المفضية إلى العذاب أو القتل بالخوف من الْقِصاصِ وهو المروي عن ابن عباس والحسن وزيد رضي الله تعالى عنهم، والجملة متعلقة بأول الكلام.
صفحة رقم 449
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ بيان حكم آخر من الأحكام المذكورة، وفصله عما سبق للدلالة على كونه حكما مستقلا- كما فصل اللاحق لذلك- ولم يصدره بيا أيها الذين آمنوا لقرب العهد بالتنبيه مع ملابسته بالسابق في كون كل منهما متعلقا بالأموات، أو لأنه لما لم يكن شاقا لم يصدره كما صدر الشاق تنشيطا لفعله، والمراد من- حضور الموت- حضور أسبابه، وظهور أماراته من العلل والأمراض المخوفة أو حضوره نفسه ودنوه، وتقديم المفعول لإفادة كمال تمكن الفاعل عند النفس وقت وروده عليها.
إِنْ تَرَكَ خَيْراً أي مالا- كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه ومجاهد- وقيده بعضهم بكونه كثيرا إذ لا يقال في العرف للمال: خَيْراً إلا إذا كان كثيرا، كما لا يقال: فلان ذو مال إلا إذا كان له مال كثير، ويؤيده ما
أخرجه البيهقي وجماعة- عن عروة- أن عليا كرم الله تعالى وجهه دخل على مولى له في الموت وله سبعمائة درهم أو ستمائة درهم، فقال: ألا أوصي؟ قال لا إنما قال الله تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً وليس لك كثير مال، فدع مالك لورثتك.
وما أخرجه ابن أبي شيبة عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رجلا قال لها: أريد أن أوصي قالت: كم مالك؟
قال: ثلاثة آلاف، قالت: كم عيالك؟ قال: أربعة، قالت: قال الله تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً وهذا شيء يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل، والظاهر من هذا أن الكثرة غير مقدرة بمقدار، بل تختلف باختلاف حال الرجل فإنه بمقدار من المال يوصف رجل بالغني ولا يوصف به غيره لكثرة العيال. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تقديرها، فقد أخرج عبد بن حميد عنه «من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا» ومذهب الزهري أن الْوَصِيَّةُ مشروعة مما قل أو كثر،- فالخير- عنده المال مطلقا- وهو أحد إطلاقاته- ولعل اختياره إيذانا بأنه ينبغي أن يكون الموصى به حلالا طيبا لا خبيثا لأن الخبيث يجب رده إلى أربابه ويأثم ب الْوَصِيَّةُ فيه.
الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ مرفوع ب كُتِبَ وفي الرضيّ إذا كان الظاهر غير حقيقي التأنيث منفصلا فترك العلامة أحسن إظهار الفضل الحقيقي على غيره- ولهذا اختير هنا تذكير الفعل- والْوَصِيَّةُ اسم من أوصى يوصي، وفي القاموس أوصاه ووصاه توصية- عهد إليه- والاسم الوصاية والْوَصِيَّةُ وهي الموصى به أيضا والجار متعلق بها فلا بد من تأويلها بأن مع الفعل عند الجمهور، أو بالمصدر بناء على تحقيق الرضى من أن عمل المصدر لا يتوقف على تأويله، وهو الراجح ولذلك ذكر الراجع في بدله، وجوز أن يكون النائب عَلَيْكُمْ والْوَصِيَّةُ خبر مبتدأ كأنه قيل: ما المكتوب؟ فقيل هو الوصية، وجواب الشرط محذوف دل عليه كُتِبَ عَلَيْكُمْ، وقيل: مبتدأ خبره لِلْوالِدَيْنِ والجملة جواب الشرط بإضمار الفاء لأن الاسمية إذا كانت جزاء لا بد فيها منها، والجملة الشرطية مرفوعة ب كُتِبَ أو عَلَيْكُمْ وحده، والجملة استئنافية ورد بأن إضمار الفاء غير صحيح لا يجترى عليه إلا في ضرورة الشعر كما قال الخليل، والعامل في إِذا معنى كُتِبَ والظرف قيد للإيجاب من حيث الحدوث والوقوع، والمعنى توجه خطاب الله تعالى عَلَيْكُمْ ومقتضى كتابته إِذا حَضَرَ وغير إلى ما ترى لينظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل، وجوز أن يكون العامل الوصية، وهي وإن كانت اسما إلا أنها مؤولة بالمصدر أو بأن والفعل، والظرف مما يكفيه رائحة الفعل لأن له شأنا ليس لغيره لتنزيله من الشيء منزلة نفسه لوقوعه فيه، وعدم انفكاكه عنه، ولهذا توسع في الظروف ما لم يتوسع في غيرها، وليس كل مؤول بشيء حكمه حكم ما أوّل به، وقد كثر تقديم معمول المصدر عليه في الكلام، والتقدير تكلف، ولا يرد على التقديرين أن الوصية واجبة على- من حضره الموت-
لا على جميع المؤمنين عند حضور أحدهم الموت لأن «أحدكم» يفيد العموم على سبيل البدل فمعنى إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ إذا حضر واحدا بعد واحد، وإنما زيد لفظ- أحد- للتنصيص على كونها فرض عين لا كفاية كما في كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى والقول بأن الوصية لم تفرض على من- حضره الموت- فقط بل عليه بأن يوصي، وعلى الغير بأن يحفظ ولا يبدل، ولهذا قال: عَلَيْكُمْ وقال أَحَدَكُمُ لأن الموت يحضر أحد المخاطبين بالافتراض عليهم ليس بشيء لأن حفظ الوصية إنما يفرض على البعض بعد الوصية لا وقت الاحتضار فكيف يصح أن يقال فرض عليكم حفظ الوصية إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ولأن إرادة الإيصاء، وحفظه من الوصية تعسف لا يخفى، واختار بعض المحققين أن إِذا شرطية وجواب الشرط كل من الشرطين محذوف، والتقدير إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ- فليوص إن ترك خيرا- فليوص فحذف جواب الشرط الأول لدلالة السياق عليه، وحذف جواب الشرط الثاني لدلالة الشرط الأول وجوابه عليه، والشرط الثاني عند صاحب التسهيل مقيد للأول كأنه قيل: إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تاركا للخير فليوص، ومجموع الشرطين معترض بين كُتِبَ وفاعله لبيان كيفية الإيصاء قبل، ولا يخفى أن هذا الوجه مع غنائه عن تكلف تصحيح الظرفية وزيادة لفظ- أحد- أنسب بالبلاغة القرآنية حيث ورد الحكم أولا مجملا ثم مفصلا ووقع الاعتراض بين الفعل وفاعله للاهتمام ببيان كيفية الوصية الواجبة انتهى. وأنت تعلم ما في ذلك من كثرة الحذف المهونة لما تقدم، ثم إن هذا الحكم كان في بدء الإسلام ثم نسخ بآية المواريث كما قاله ابن عباس وابن عمر وقتادة وشريح ومجاهد وغيرهم،
وقد أخرج أحمد وعبد بن حميد، والترمذي، وصححه والنسائي، وابن ماجة عن عمرو بن خارجة رضي الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خطبهم على راحلته فقال:
«إن الله قد قسم لكل إنسان نصيبه من الميراث فلا تجوز لوارث وصية»
وأخرج أحمد والبيهقي في سننه عن أبي أمامة الباهلي سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في حجة الوداع في خطبته يقول: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» وأخرج عبد بن حميد عن الحسن نحو ذلك،
وهذه الأحاديث لتلقي الأمة لها بالقبول انتظمت في سلك المتواتر في صحة النسخ بها عند أئمتنا قدس الله أسرارهم بل قال البعض: إنها من المتواتر وإن التواتر قد يكون بنقل من لا يتصور تواطؤهم على الكذب وقد يكون بفعلهم بأن يكونوا عملوا به من غير نكير منهم على أن النسخ في الحقيقة بآية المواريث والأحاديث مبينة لجهة نسخها، وبين فخر الإسلام ذلك بوجهين «الأول» أنها نزلت بعد آية الوصية بالاتفاق وقد قال تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ [النساء: ١١] فرتب الميراث على- وصية- منكرة- والوصية- الأولى كانت معهودة فلو كانت تلك- الوصية- باقية لوجب ترتيبه على المعهود فلما لم يترتب عليه ورتب على المطلق دل على نسخ الوصية المقيدة لأن الإطلاق بعد التقييد نسخ كما أن التقييد بعد الإطلاق كذلك لتغاير المعنيين «والثاني» أن النسخ نوعان: أحدهما ابتداء بعد انتهاء محض، والثاني بطريق الحوالة من محل إلى آخر كما في نسخ القبلة، وهذا من قبيل الثاني لأن الله تعالى فرض الإيصاء في الأقربين إلى العباد بشرط أن يراعوا الحدود، ويبينوا حق كل قريب بحسب قرابته، وإليه الإشارة بقوله تعالى:
بِالْمَعْرُوفِ أي بالعدل، ثم لما كان الموصي قد لا يحسن التدبير في مقدار ما يوصي لكل واحد منهم وربما كان يقصد المضارة تولى بنفسه بيان ذلك الحق على وجه تيقن به أنه الصواب وأن فيه الحكمة البالغة، وقصره على حدود لازمة من السدس والثلث والنصف والثمن لا يمكن تغيرها فتحول من جهة الإيصاء إلى الميراث فقال:
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء: ١١] أي الذي فوض إليكم تولي شأنه بنفسه إذ عجزتم عن مقاديره لجهلكم، ولما بين بنفسه ذلك الحق بعينه انتهى حكم تلك الوصية لحصول المقصود بأقوى الطرق كمن أمره غيره بإعتاق
عبده ثم أعتقه بنفسه فإنه بذلك انتهى حكم الوكالة، وإلى ذلك تشير الأحاديث لما أن- الفاء- تدل على سببية ما قبلها لما بعدها فما قيل: إن من أن آية المواريث لا تعارض هذا الحكم بل تحققه من حيث تدل على تقديم الوصية مطلقا، والأحاديث من الآحاد وتلقي الأمة لها بالقبول لا تلحقها بالمتواتر، ولعله احترز عن النسخ من فسر الوصية بما أوصى به الله عز وجل من توريث الوالدين والأقربين بقوله سبحانه يُوصِيكُمُ اللَّهُ أو بإيصاء المحتضر لهم بتوفير ما أوصى به الله تعالى عليهم على ما فيه بمعزل عن التحقيق وكذا ما قيل: من أن الوصية للوارث كانت واجبة بهذه الآية من غير تعيين لأنصبائهم فلما نزلت آية المواريث بيانا للأنصباء بلفظ الإيصاء فهم منها بتنبيه النبي صلّى الله عليه وسلّم أن المراد منه هذه الوصية التي كانت واجبة كأنه قيل: إن الله تعالى أوصى بنفسه تلك الوصية ولم يفوضها إليكم فقام الميراث مقام الوصية فكان هذا معنى النسخ لا أن فيها دلالة على رفع ذلك الحكم لأن كون آية المواريث رافعة لذلك الحكم مبينة لانتهائه مما لا ينبغي أن يشتبه على أحد، ثم إن القائلين بالنسخ اختلفوا، فمنهم من قال: إن وجوبها صار منسوخا في حق الأقارب الذين يرثون وبقي في حق الذين لا يرثون من الوالدين والأقربين كأن يكونوا كافرين، وإليه ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنه،
وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية،
ومنهم من قال: إن الوجوب صار منسوخا في حق الكافة، وهي مستحبة في حق الذين لا يرثون وإليه ذهب الأكثرون، واستدل محمد بن الحسن بالآية على أن مطلق الأقربين لا يتناول الوالدين لعطفه عليه حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ مصدر مؤكد للحدث الذي دل عليه كُتِبَ وعامله إما كُتِبَ أو حق محذوفا أي حق ذلك حقا فهو على طرز قعدت جلوسا، ويحتمل أن يكون مؤكدا لمضمون جملة كُتِبَ عَلَيْكُمْ وإن اعتبر إنشاء فيكون على طرز- له عليّ ألف- عرفا، وجعله صفة لمصدر محذوف أي إيصاء حقا ليس بشيء وعلى التقديرين عَلَى الْمُتَّقِينَ صفة له أو متعلق بالفعل المحذوف على المختار، ويجوز أن يتعلق بالمصدر لأن المفعول المطلق يعمل نيابة عن الفعل، والمراد- بالمتقين- المؤمنون ووضع المظهر موضع المضمر للدلالة على أن المحافظة على الوصية والقيام بها من شعائر المتقين الخائفين من الله تعالى.
فَمَنْ بَدَّلَهُ أي غير الإيصاء من شاهد ووصي، وتغيير كل منهما إما بإنكار الوصية من أصلها أو بالنقص فيها أو بتبديل صفتها أو غير ذلك، وجعل الشافعية من التبديل عموم وصيته من أوصى إليه بشيء خاص، فالموصي بشيء خاص لا يكون وصيا في غيره عندهم ويكون عندنا وليس ذلك من التبديل في شيء بَعْدَ ما سَمِعَهُ أي علمه وتحقق لديه، وكني بالسماع عن العلم لأنه طريق حصوله فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ أي فما إثم الإيصاء المبدل أو التبديل، والأول رعاية لجانب اللفظ، والثاني رعاية لجانب المعنى إلا على مبدليه لا على الموصي لأنهم الذين خالفوا الشرع وخانوا، ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على علية التبديل للإثم، وإيثار صيغة الجمع مراعاة لمعنى من، وفيه إشعار بشمول الإثم لجميع الافراد إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فيسمع أقوال المبدلين والموصين ويعلم بنياتهم فيجازيهم على وفقها، وفي هذا وعيد للمبدلين ووعد للموصين، واستدل بالآية على أن الفرض يسقط عن الموصي بنفس الوصية ولا يلحقه ضرر إن لم يعمل بها، وعلى أن من كان عليه دين فأوصى بقضائه يسلم من تبعته في الآخرة وإن ترك الوصي والوارث قضاءه- وإلى ذلك ذهب الكيا- والذي يميل القلب إليه أن المديون لا تبعة عليه بعد الموت مطلقا ولا يحبس في قبره- كما يقوله الناس- أما إذا لم يترك شيئا ومات معسرا فظاهر لأنه لو بقي حيا لا شيء عليه بعد تحقق إعساره سوى نظرة إلى ميسرة، فمؤاخذته وحبسه في قبره بعد ذهابه إلى اللطيف الخبير مما لا يكاد يعقل، وأما إذا ترك شيئا وعلم الوارث بالدين أو برهن عليه به كان هو المطالب بأدائه والملزم بوفاته فإذا لم يؤد ولم
يف أوخذ هو لا من مات وترك ما يوفى منه دينه كلا أو بعضا فإن مؤاخذة من يقول يا رب تركت ما يفي ولم يف عني من أوجبت عليه الوفاء بعدي ولو أمهلتني لوفيت مما ينافي الحكمة ولا تقتضيه الرحمة، نعم المؤاخذة معقولة فيمن استدان لحرام وصرف المال في غير رضا الملك العلام، وما ورد في الأحاديث محمول على هذا أو نحوه وأخذ ذلك مطلقا مما لا يقبله العقل السليم والذهن المستقيم.
فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً الجنف مصدر جنف كفرح مطلق الميل والجور، والمراد به الميل في الوصية من غير قصد بقرينة مقابلته بالإثم فإنه إنما يكون بالقصد، ومعنى خاف توقع وعلم، ومنه قوله:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة | تروي عظامي بعد موتي عروقها |
ولا تدفنني بالفلاة فإنني | أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها |
وإنما يبطل منها ما زاد عليه لأن الله تعالى لم يبطل الوصية جملة بالجور فيها بل جعل فيها الوجه الأصلح إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ تذييل أتى به للوعد بالثواب للمصلح على إصلاحه وذكر المغفرة مع أن الإصلاح من الطاعات وهي إنما تليق من فعل ما لا يجوز لتقدم ذكر الإثم الذي تتعلق به المغفرة ولذلك حسن ذكرها وفائدتها التنبيه على الأعلى بما دونه يعني أنه تعالى غفور للآثام فلأن يكون رحيما من أطاعه من باب الأولى، ويحتمل أن يكون ذكرها وعدا للمصلح بمغفرة ما يفرط منه في الإصلاح إذ ربما يحتاج فيه إلى أقوال كاذبة وأفعال تركها أولى، وقيل: المراد غفور للجنف والإثم الذي وقع من الموصي بواسطة إصلاح الوصي وصيته، أو غفور للموصي بما حدث به نفسه من الخطأ والعمل إذ رجع إلى الحق، أو غفور للمصلح بواسطة إصلاحه بأن يكون الإصلاح مكفرا لسيئاته والكل بعيد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ بيان لحكم آخر من الأحكام الشرعية وتكرير النداء لإظهار الاعتناء مع بعد العهد، والصِّيامُ كالصوم مصدر صام وهو لغة الإمساك، ومنه يقال للصمت صوم لأنه إمساك عن الكلام، قال ابن دريد: كل شيء تمكث حركته فقد صام، ومنه قول النابغة:
خيل «صيام» وخيل غير- صائمة | تحت العجاج- وأخرى تعلك اللجما |
الوجوب- وعليه أبو مسلم والجبائي- وإما في الوقت والمقدار بناء على أن أهل الكتاب فرض عليهم صوم رمضان فتركه اليهود إلى صوم يوم من السنة زعموا أنه اليوم الذي أغرق فيه فرعون، وزاد فيه النصارى يوما قبل ويوما بعد احتياطا حتى بلغوا فيه خمسين يوما فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى زمن نزول الشمس برج الحمل،
وأخرج ابن حنظلة والنحاس والطبراني عن مغفل بن حنظلة مرفوعا كان على النصارى صوم شهر رمضان فمرض ملكهم فقالوا: لئن شفاه الله تعالى لنزيدن عشرا، ثم كان آخر فأكل لحما فأوجع فوه فقالوا: لئن شفاه الله لنزيدن سبعة، ثم كان عليهم ملك آخر فقال: ما ندع من هذه الثلاثة أيام شيئا أن نتمها ونجعل صومنا في الربيع ففعل فصارت خمسين يوما،
وفي كَما خمسة أوجه. أحدها أن محله النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي- كتب كتبا- مثل ما كتب. الثاني أنه في محل نصب حال من المصدر المعرفة أي- كتب عليكم الصيام الكتب- مشبها بما كتب، و «ما» على الوجهين مصدرية. الثالث أن يكون نعتا لمصدر من لفظ الصيام أي صوما مماثلا للصوم المكتوب على من قبلكم.
الرابع أن يكون حالا من الصيام أي حال كونه مماثلا لما كتب، و «ما» على الوجهين موصولة. الخامس أن يكون في محل رفع على أنه صفة للصيام بناء على أن المعرف- بأل- الجنسية قريب من النكرة لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي كي تحذروا المعاصي فإن الصوم يعقم الشهوة التي هي أمها أو يكسرها.
فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: «قال لنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء»
ويحتمل أن يقدر المفعول الإخلال بأدائه، وعلى الأول يكون الكلام متعلقا بقوله كُتِبَ من غير نظر إلى التشبيه، وعلى الثاني بالنظر إليه أي كتب عليكم مثل ما كتب على الأولين لكي- تتقوا- الإخلال بأدائه بعد العلم بأصالته وقدمه ولا حاجة إلى تقدير محذوف أي أعلمتكم الحكم المذكور لذلك- كما قيل به- وجوز أن يكون الفعل منزلا منزلة اللازم أي لكي تصلوا بذلك إلى رتبة التقوى.
أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أي معينات بالعد أو قليلات لأن القليل يسهل عده فيعد والكثير يؤخذ جزافا قال مقاتل:
كل مَعْدُوداتٍ في القرآن أو- معدودة- دون الأربعين ولا يقال ذلك لما زاد، والمراد بهذه الأيام إما رمضان واختار ذلك ابن عباس والحسن وأبو مسلم رضي الله تعالى عنه وأكثر المحققين- وهو أحد قولي الشافعي- فيكون الله سبحانه وتعالى قد أخبر أولا أنه كتب علينا الصيام ثم بينه بقوله عز وجل: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فزال بعض الإبهام ثم بينه بقوله عز من قائل: شَهْرُ رَمَضانَ توطينا للنفس عليه، واعترض بأنه لو كان المراد ذلك لكان ذكر المريض والمسافر تكرارا، وأجيب بأنه كان في الابتداء صوم رمضان واجبا على التخيير بينه وبين الفدية فحين نسخ التخيير وصار واجبا على التعيين كان مظنة أن يتوهم أن هذا الحكم يعم الكل حتى يكون المريض والمسافر فيه كالمقيم والصحيح فأعيد حكمهما تنبيها على أن رخصتهما باقية بحالها لم تتغير كما تغير حكم المقيم والصحيح وأما ما وجب صومه قبل وجوبه وهو ثلاثة أيام من كل شهر- وهي أيام البيض- على ما روي عن عطاء ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنه، أو ثلاثة من كل شهر ويوم عاشوراء على ما روي عن قتادة، واتفق أهل هذا القول على أن هذا الواجب قد نسخ بصوم رمضان، واستشكل بأن فرضيته إنما ثبتت بما في هذه الآية فإن كان قد عمل بذلك الحكم مدة مديدة- كما قيل به- فكيف يكون الناسخ متصلا وإن لم يكن عمل به لا يصح النسخ إذ لا نسخ قبل العمل، وأجيب أما على اختيار الأول فبأن الاتصال في التلاوة لا يدل على الاتصال في النزول، وأما على اختيار الثاني فبأن الأصح جواز النسخ قبل العمل فتدبر.
وانتصاب أَيَّاماً ليس بالصيام كما قيل لوقوع الفصل بينهما بأجنبي بل بمضمر دل هو عليه أعني صوموا إما على الظرفية أو المفعولية اتساعا، وقيل: منصوب بفعل يستفاد من كاف التشبيه، وفيه بيان لوجه المماثلة كأنه قيل:
كتب عليكم الصيام مماثلا لصيام الذين من قبلكم في كونه أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أي المماثلة واقعة بين الصيامين من هذا الوجه وهو تعلق كل منهما بمدة غير متطاولة، فالكلام من قبيل زيد كعمرو فقها، وقيل: نصب على أنه مفعول ثان- لكتب- على الاتساع ورده في البحر بأن الاتساع مبني على جواز وقوعه ظرفا- لكتب- وذا لا يصح لأن الظرف محل الفعل، والكتابة ليست واقعة في الأيام وإنما الواقع فيها متعلقها وهو الصيام، وأجيب بأنه يكفي للظرفية ظرفية المتعلق كما في يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الحج: ٧٠، العنكبوت: ٥٢، التغابن: ٤] وبأن معنى كُتِبَ فرض، وفرضية الصيام، واقعة في الأيام وَمَنْ كانَ مَرِيضاً مرضا يعسر عليه الصوم معه كما يؤذن به قوله تعالى فيما بعد: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وعليه أكثر الفقهاء، وذهب ابن سيرين، وعطاء، والبخاري إلى أن المرخص مطلق المرض عملا بإطلاق اللفظ، وحكي أنهم دخلوا على ابن سيرين في رمضان وهو يأكل فاعتل بوجع إصبعه وهو قول للشافعية أَوْ عَلى سَفَرٍ أو راكب سفر مستعل عليه متمكن منه بأن اشتغل به قبل الفجر ففيه إيماء إلى أن من سافر في أثناء اليوم لم يفطر ولهذا المعنى أوثر على مسافرا، واستدل بإطلاق السفر على أن القصير وسفر المعصية مرخص للإفطار، وأكثر العلماء على تقييده بالمباح وما يلزمه العسر غالبا وهو السفر إلى المسافة المقدرة في الشرع فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ أي فعليه صوم عدة أيام المرض والسفر من أيام أخر إن أفطر وحذف الشرط والمضافان للعلم بهما، أما الشرط فلأن المريض والمسافر داخلان في الخطاب العام فدل على وجوب الصوم عليهما فلو لم يتقيد الحكم هنا به لزم أن يصير المرض والسفر اللذان هما من موجبات اليسر شرعا وعقلا موجبين للعسر، وأما المضاف الأول فلأن الكلام في الصوم ووجوبه، وأما الثاني فلأنه لما قيل- من كان مريضا أو مسافرا فعليه عدة- أي أيام معدودة موصوفة بأنها من أيام أخر علم أن المراد معدودة بعدد أيام المرض والسفر واستغنى عن الإضافة وهذا الإفطار مشروع على سبيل الرخصة فالمريض والمسافر إن شاءا صاما وإن شاءا أفطرا كما عليه أكثر الفقهاء إلا أن الإمام أبا حنيفة ومالكا قالا: الصوم أحب. والشافعي وأحمد والأوزاعي قالوا: الفطر أحب، ومذهب الظاهرية وجوب الإفطار وأنهما إذا صاما لا يصح صومهما لأنه قبل الوقت الذي يقتضيه ظاهر الآية، ونسب ذلك إلى ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وجماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم- وبه قال الإمامية- وأطالوا بالاستدلال على ذلك بما رووه عن أهل البيت، واستدل بالآية على جواز القضاء متتابعا ومتفرقا وأنه ليس على الفور خلافا لداود. وعلى أن من أفطر رمضان كله قضى- أياما معدودة- فلو كان تاما لم يجزه شهر ناقص أو ناقصا لم يلزمه شهر كامل خلافا لمن خالف في الصورتين، واحتج بها أيضا من قال: لا فدية مع القضاء وكذا من قال: إن المسافر إذا أقام والمريض إذا شفي أثناء النهار لم يلزمهما الإمساك بقيته لأن الله تعالى إنما أوجب عدة من أيام أخر وهما قد أفطرا فحكم الإفطار باق لهما ومن حكمه أن لا يجب أكثر من يوم ولو أمرناه بالإمساك ثم القضاء لأوجبنا بدل اليوم أكثر منه، ولا يخفى ما فيه، وقرىء- فعدة- بالنصب على أنه مفعول لمحذوف أي فليصم عدة ومن قدر الشرط هناك قدره هنا وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ أي وعلى المطيقين للصيام إن أفطروا.
فِدْيَةٌ أي إعطاؤها طَعامُ مِسْكِينٍ وهي قدر ما يأكله كل يوم وهي نصف صاع من بر أو صاع من غيره عند أهل العراق ومد عند أهل الحجاز لكل يوم وكان ذلك في بدء الإسلام لما أنه قد فرض عليهم الصوم وما كانوا متعودين له فاشتد عليهم فرخص لهم في الإفطار والفدية. وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي
والطبراني وآخرون عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه قال: لما نزلت هذه الآية وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ كان من شاء منا صام ومن شاء أفطر ويفتدي فعل ذلك حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وقرأ سعيد بن المسيب: «يطيقونه» بضم الياء الأولى وتشديد الياء الثانية. ومجاهد وعكرمة «يطّيقونه» بتشديد الطاء والياء الثانية وكلتا القراءتين على صيغة المبني للفاعل على أن أصلهما يطيوقونه ويتطيوقونه من فيعل وتفيعل لا من فعل وتفعل وإلا لكان بالواو دون الياء لأنه من طوق وهو واوي، وقد جعلت الواو ياء فيهما ثم أدغمت الياء في الياء ومعناهما يتكلفونه، وعائشة رضي الله تعالى عنها «يطوقونه» بصيغة المبني للمفعول من التفعيل أي يكلفونه أو يقلدونه من الطوق بمعنى الطاقة أو القلادة، ورويت الثلاث عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضا، وعنه «يتطوقونه» بمعنى يتكلفونه أو يتقلدونه ويطوقونه- بإدغام التاء في الطاء- وذهب إلى عدم النسخ- كما رواه البخاري وأبو داود وغيرهما- وقال: إن الآية نزلت في الشيخ الكبير الهرم، والعجوز الكبيرة الهرمة. ومن الناس من لم يقل بالنسخ أيضا على القراءة المتواترة وفسرها بيصومونه جهدهم وطاقتهم، وهو مبني على أن- الوسع- اسم للقدرة على الشيء على وجه السهولة- والطاقة- اسم للقدرة مع الشدة والمشقة، فيصير المعنى وَعَلَى الَّذِينَ يصومونه مع الشدة والمشقة فيشمل نحو الحبلى والمرضع أيضا، وعلى أنه من أطاق الفعل بلغ غاية طوقه أو فرغ طوقه فيه، وجاز أن تكون- الهمزة- للسلب كأنه سلب طاقته بأن كلف نفسه المجهود فسلب طاقته عند تمامه، ويكون مبالغة في بذل المجهود لأنه مشارف لزوال ذلك- كما في الكشف- والحق أن كلّا من القراءات يمكن حملها على ما يحتمل النسخ، وعلى ما لا يحتمله- ولكل ذهب بعض- وروي عن حفصة أنها قرأت وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ وقرأ نافع وابن عامر بإضافة فِدْيَةٌ إلى- الطعام وجمع المسكين- والإضافة حينئذ من إضافة الشيء إلى جنسه- كخاتم فضة- لأن طعام المسكين يكون فدية وغيرها، وجمع المسكين لأنه جمع في وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فقابل الجمع بالجمع، ولم يجمع فِدْيَةٌ لأنها مصدر- والتاء فيها للتأنيث لا للمرة- ولأنه لما أضافها إلى مضاف إلى الجمع فهم منها الجمع.
فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً بأن زاد على القدر المذكور في- الفدية- قال مجاهد: أو زاد على عدد من يلزمه إطعامه فيطعم مسكينين فصاعدا- قاله ابن عباس- أو جمع بين الإطعام والصوم- قاله ابن شهاب.
فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ أي التطوع أو الخير الذي تطوعه، وجعل بعضهم الخير الأول مصدر- خرت يا رجل وأنت خائر- أي حسن، والخير الثاني اسم تفضيل- فيفيد الحمل أيضا بلا مرية- وإرجاع الضمير إلى مِنْ أي فالمتطوع خير من غيره لأجل التطوع لا يخفى بعده وَأَنْ تَصُومُوا أي أيها المطيقون المقيمون الأصحاء، أو المطوقون من الشيوخ والعجائز، أو المرخصون في الإفطار من الطائفتين، والمرضى والمسافرين، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب جبرا لكلفة الصوم بلذة المخاطبة، وقرأ أبيّ والصيام خَيْرٌ لَكُمْ من الفدية أو تطوع الخير على الأولين، أو منهما ومن التأخير للقضاء على الأخير إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما في الصوم من الفضيلة، وجواب أَنْ محذوف ثقة بظهوره- أي اخترتموه- وقيل: معناه إن كنتم من أهل العلم علمتم أن الصوم خَيْرٌ لَكُمْ من ذلك، وعليه تكون الجملة تأكيدا لخيرية الصوم، وعلى الأول تأسيسا.
شَهْرُ رَمَضانَ مبتدأ خبره الموصول بعده، ويكون ذكر الجملة مقدمة لفرضية صومه بذكر فضله، أو فَمَنْ شَهِدَ والفاء لتضمنه معنى الشرط لكونه موصوفا بالموصول، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلكم الوقت الذي كتب عليكم الصيام فيه، أو المكتوب شهر رمضان، أو بدل من الصيام بدل كل بتقدير مضاف، أي كتب عليكم الصيام
صيام شهر رمضان، وما تخلل بينهما من الفصل متعلق ب كُتِبَ لفظا أو معنى فليس بأجنبي مطلقا، وإن اعتبرته بدل اشتمال استغنيت عن التقدير، إلا أن كون الحكم السابق- وهو فرضية الصوم- مقصودا بالذات، وعدم كون ذكر المبدل منه مشوقا إلى ذكر البدل يبعد ذلك، وقرىء شهر بالنصب على أنه مفعول ل «صوموا» محذوفا وقيل إنه مفعول وَأَنْ تَصُومُوا وفيه لزوم الفصل بين أجزاء المصدرية بالخبر، وجوز أن يكون مفعول تَعْلَمُونَ بتقدير مضاف- أي شرف شهر رمضان ونحوه- وقيل: لا حاجة إلى التقدير. والمراد إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ نفس الشهر ولا تشكون فيه، وفيه إيذان بأن الصوم لا ينبغي مع الشك- وليس بشيء كما لا يخفى- والشهر المدة المعينة التي ابتداؤها رؤية الهلال، ويجمع في القلة على أشهر، وفي الكثرة على شهور، وأصله من شهر الشيء أظهره، وهو- لكونه ميقاتا للعبادات والمعاملات- صار مشهورا بين الناس، و «رمضان» مصدر رمض- بكسر العين- إذا احترق، وفي شمس العلوم من المصادر التي يشترك فيها الأفعال فعلان- بفتح الفاء والعين- وأكثر ما يجيء بمعنى المجيء والذهاب والاضطراب- كالخفقان والعسلان واللمعان- وقد جاء لغير المجيء والذهاب كما في- شنأته شنآنا إذا بغضته- فما في البحر من أن كونه مصدرا يحتاج إلى نقل- فإن فعلانا ليس مصدر فعل اللازم- فإن جاء شيء منه كان شاذا، فالأولى أن يكون مرتجلا لا منقولا ناشىء عن قلة الاطلاع، والخليل يقول: إنه من الرمض- مسكن الميم- وهو مطر يأتي قبل الخريف يطهر وجه الأرض عن الغبار، وقد جعل مجموع المضاف والمضاف إليه علما للشهر المعلوم، ولولا ذلك لم يحسن إضافة شَهْرُ إليه كما لا يحسن- إنسان زيد- وإنما تصح إضافة العام إلى الخاص إذا اشتهر كون الخاص من أفراده، ولهذا لم يسمع شهر رجب وشهر شعبان، وبالجملة فقد أطبقوا على أن العلم في ثلاثة أشهر مجموع المضاف والمضاف إليه شهر رمضان، وشهر ربيع الأول وشهر ربيع الثاني، وفي البواقي لا يضاف شهر إليه، وقد نظم ذلك بعضهم فقال:
ولا تضف شهرا إلى اسم شهر | إلا لما أوله- الرا- فادر |
واستثن منها رجبا فيمتنع | لأنه فيما رووه ما سمع |
ولما رأيت النسر عز- ابن داية | وعشش في وكريه جاش له صدري |
أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عدي والبيهقي والديلمي عن أبي هريرة مرفوعا وموقوفا «لا تقولوا: رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى، ولكن قولوا: شهر رمضان»
وإلى ذلك ذهب مجاهد- والصحيح الجواز- فقد روي ذلك في الصحيح- والاحتياط لا يخفى-
وإنما سمي الشهر به لأن الذنوب ترمض فيه- قاله ابن عمر- وروى ذلك أنس.
وعائشة مرفوعا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم،
وقيل: لوقوعه أيام رمض الحر حيث نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة، وكان اسمه قبل ناتقا، ولعل ما روي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم مبين لما ينبغي أن يكون وجه التسمية عند المسلمين، وإلا فهذا الاسم قبل فرضية الصيام بكثير على ما هو الظاهر الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أي ابتدئ فيه إنزاله- وكان ذلك ليلة القدر- قاله ابن إسحاق، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن جبير والحسن أنه نزل فيه جملة إلى السماء الدنيا ثم نزل منجما إلى الأرض في ثلاث وعشرين سنة، وقيل: أنزل في شأنه القرآن، وهو قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ
وأخرج الإمام أحمد والطبراني من حديث واثلة بن الأسقع. عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين، والإنجيل لثلاث عشرة، والقرآن لأربع وعشرين»
ولما كان بين الصوم ونزول الكتب الإلهية مناسبة عظيمة كان هذا الشهر المختص بنزولها مختصا بالصوم الذي هو نوع عظيم من آيات العبودية، وسبب قوي في إزالة العلائق البشرية المانعة عن إشراق الأنوار الصمدية. هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ حالان لازمان من القرآن والعامل فيهما أنزل أي أنزل وهو هداية للناس بإعجازه المختص به كما يشعر بذلك التنكير، وآيات واضحات من جملة الكتب الإلهية الهادية إلى الحق، والفارقة بين الحق والباطل باشتمالها على المعارف الإلهية والأحكام العملية كما يشعر بذلك جعله بينات منها فهو هاد بواسطة أمرين مختص وغير مختص فالهدى ليس مكررا، وقيل: مكرر تنويها وتعظيما لأمره وتأكيدا لمعنى الهداية فيه كما تقول عالم نحرير فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ من شرطية أو موصولة- والفاء- إما جواب الشرط، أو زائدة في الخبر، ومِنْكُمُ في محل نصب على الحال من المستكن في شَهِدَ والتقييد به لإخراج الصبي والمجنون، وشَهِدَ من الشهود والتركيب يدل على الحضور إما ذاتا أو علما، وقد قيل: بكل منهما هنا، والشَّهْرَ على الأول مفعول فيه والمفعول به متروك لعدم تعلق الغرض به فتقدير البلد أو المصر ليس بشيء، وعلى الثاني مفعول به بحذف المضاف أي هلال الشهر- وأل- فيه على التقديرين للعهد ووضع المظهر موضع المضمر للتعظيم ونصب الضمير المتصل في- يصمه- على الاتساع لأن صام لازم والمعنى فمن حضر في الشهر ولم يكن مسافرا فليصم فيه أو من علم هلال الشهر وتيقن به فليصم، ومفاد الآية على هذا عدم وجوب الصوم على من شك في الهلال وإنما قدر المضاف لأن شهود الشهر بتمامه إنما يكون بعد انقضائه ولا معنى لترتب وجوب الصوم فيه بعد انقضائه وعليه يكون قوله تعالى: وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مخصصا بالنظر إلى المريض والمسافر كليهما، وعلى الأول مخصص بالنظر إلى الأول دون الثاني وتكريره حينئذ لذلك التخصيص أو لئلا يتوهم نسخه كما نسخ قرينه والأول كما قيل على رأي من شرط في المخصص أن يكون متراخيا موصولا، والثاني على رأي من جوز كونه متقدما وهذا بجعل المخصص هو الآية السابقة، و «ما» هنا لمجرد دفع التوهم ورجح المعنى الأول من المعنيين بعدم صفحة رقم 458
الاحتياج إلى التقدير وبأن الفاء في «فمن شهد» عليه وقعت في مخرها مفصلة لما أجمل في قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ من وجوب التعظيم المستفاد مما في أثره على كل من أدركه ومدركه إما حاضر أو مسافر فمن كان حاضرا فحكمه كذا إلخ ولا يحسن أن يقال من علم الهلال فليصم وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فليقض لدخول القسم الثاني في الأول والعاطف التفصيلي يقتضي المغايرة بينهما كذا قيل، لكن ذكر المريض يقوي كونه مخصصا لدخوله فيمن شهد على الوجهين، ولذا ذهب أكثر النحويين إلى أن الشهر مفعول به- فالفاء- للسببية أو للتعقيب لا للتفصيل.
يُرِيدُ اللَّهُ بهذا الترخيص بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ لغاية رأفته وسعة رحمته، واستدل المعتزلة بالآية على أنه قد يقع من العبد ما لا يريده الله تعالى وذلك لأن المريض والمسافر إذا صاما حتى أجهدهما الصوم فقد فعلا خلاف ما أراد الله تعالى لأنه أراد التيسير ولم يقع مراده، ورد بأن الله تعالى أراد التيسير وعدم التعسير في حقهما بإباحة الفطر، وقد حصل بمجرد الأمر بقوله عز شأنه: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ من غير تخلف، وفي البحر تفسير الإرادة هنا بالطلب، وفيه أنه التزام لمذهب الاعتزال من أن إرادته تعالى لأفعال العباد عبارة عن الأمر وأنه تعالى ما طلب منا اليسر بل شرعه لنا، وتفسير اليسر بما يسر بعيد، وقرأ أبو جعفر اليسر والعسر بضمتين.
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ علل لفعل محذوف دل عليه فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ إلخ أي وشرع لكم جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر المستفاد من قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وأمر المرخص له بالقضاء كيفما كان متواترا أو متفرقا وبمراعاة عدة ما أفطره من غير نقصان فيه المستفادين من قوله سبحانه وتعالى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ومن الترخيص المستفاد من قوله عز وجل: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ أو من قوله تعالى: فَعِدَّةٌ إلخ- لتكملوا- إلخ والأول علة الأمر بمراعاة عدة الشهر بالأداء في حال شهود الشهر، وبالقضاء في حال الإفطار بالعذر فيكون علة لمعللين أي أمرناكم بهذين الأمرين لتكملوا عدة الشهر بالأداء والقضاء فتحصلوا خيراته ولا يفوتكم شيء من بركاته نقصت أيامه أو كملت وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ علة الأمر بالقضاء وبيان كيفيته وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ علة الترخيص والتيسير، وتغيير الأسلوب للإشارة إلى أن هذا المطلوب بمنزلة المرجو لقوة الأسباب المتآخذة في حصوله وهو ظهور كون الترخيص نعمة، والمخاطب موقن بكمال رأفته وكرمه مع عدم فوات بركات الشهر، وهذا نوع من اللف لطيف المسلك قلما يهتدى اليه لأن مقتضى الظاهر ترك الواو لكونها عللا لما سبق ولذا قال من لم يبلغ درجة الكمال: إنها زائدة أو عاطفة على علة مقدرة ووجه اختياره أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلما فيه من مزيد الاعتناء بالأحكام السابقة مع عدم التكلف لأن الفعل المقدر لكونه مشتملا على ما سبق إجمالا يكون ما سبق قرينة عليه مع بقاء التعليل بحاله ولكونه مغايرا له بالإجمال، والتفصيل يصح عطفه عليه، وفي ذكر الأحكام تفصيلا أولا، وإجمالا ثانيا وتعليلها من غير تعيين ثقة على فهم السامع بأن يلاحظها مرة بعد أخرى ويرد كل علة إلى ما يليق به ما لا يخفى من الاعتناء، وجوز أن تكون عللا لأفعال مقدرة كل فعل مع علة والتقدير- ولتكملوا العدة- أوجب عليكم عدة أيام أخر وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ علمكم كيفية القضاء وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ رخصكم في الإفطار وإن شئت جعلتها معطوفة على علة مقدرة أي ليسهل عليكم أو لتعلموا ما تعملون وَلِتُكْمِلُوا إلخ وجعلت المجموع علة للأحكام السابقة إما باعتبار أنفسها أو باعتبار الإعلام بها فقوله: ليسهل أو لتعلموا علة لما سبق باعتبار الإعلام وما بعده علة للأحكام المذكورة كما مر، ولك أن لا تقدر شيئا أصلا وتجعل العطف على اليسر أي- ويريد بكم لتكملوا- إلخ واللام زائدة مقدرة بعدها أن وزيدت كما قيل: بعد فعل الإرادة تأكيدا له لما فيها من معنى الإرادة في قولك جئتك لإكرامك، وقيل: إنها بمعنى أن كما في الرضيّ إلا أنه
يلزم على هذا الوجه أن يكون وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ عطفا على يُرِيدُ إذ لا معنى لقولنا يريد لعلكم تشكرون، وحينئذ يحصل التفكيك بين المتعاطفات وهو بعيد، ولاستلزام هذا الوجه ذلك وكثرة الحذف في بعض الوجوه السابقة وخفاء بعضها عدل بعضهم عن الجميع، وجعل الكلام من الميل مع المعنى لأن ما قبله علة للترخيص فكأنه قيل:
رخص لكم في ذلك لإرادته بكم اليسر دون ولتكملوا إلخ، ولا يخفى عليك ما هو الأليق بشأن الكتاب العظيم، والمراد من التكبير الحمد والثناء مجازا لكونه فردا منه ولذلك عدي بعلى، واعتبار التضمين أي لتكبروا حامدين ليس بمعتبر لأن الحمد نفس التكبير ولكونه على هذا عبادة قولية ناسب أن يعلل به الأمر بالقضاء الذي هو نعمة قولية أيضا، وأخرج ابن المنذر وغيره عن زيد بن أسلم أن المراد به التكبير يوم العيد، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه التكبير عند الإهلال، وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: حق على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال أن يكبروا الله تعالى حتى يفرغوا من عيدهم لأن الله تعالى يقول: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ وعلى هذين القولين لا يلائم تعليل الأحكام السابقة، وما يحتمل أن تكون مصدرية وأن تكون موصولة أي الذي هداكموه أو هداكم إليه، والمراد من الشكر ما هو أعم من الثناء ولذا ناسب أن يجعل طلبه تعليلا للترخيص الذي هو نعمة فعلية. وقرأ أبو بكر عن عاصم وَلِتُكْمِلُوا بالتشديد وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي في تلوين الخطاب مع توجيهه لسيد ذوي الألباب عليه الصلاة والسلام، ما لا يخفى من التشريف ورفع المحل عَنِّي أي عن قربي وبعدي إذ ليس السؤال عن ذاته تعالى فَإِنِّي قَرِيبٌ أي فقل لهم ذلك بأن تخبر عن القرب بأي طريق كان، ولا بد من التقدير إذ بدونه لا يترتب على الشرط، ولم يصرح بالمقدر كما في أمثاله للإشارة إلى أنه تعالى تكفل جوابهم ولم يكلهم إلى رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم تنبيها على كمال لطفه، والقرب حقيقة في القرب المكاني المنزه عنه تعالى فهو استعارة لعلمه تعالى بأفعال العباد وأقوالهم واطلاعه على سائر أحوالهم،
وأخرج سفيان بن عيينة، وعبد الله بن أحمد عن أبي قال: قال المسلمون يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله الآية
أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ دليل للقرب وتقرير له فالقطع لكمال الاتصال، وفيه وعد الداعي بالإجابة في الجملة على ما تشير إليه كلمة إِذا لا كليا فلا حاجة إلى التقييد بالمشيئة المؤذن به قوله تعالى في آية أخرى: فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ [الإنعام: ٤١] لا إلى أن القول بأن إجابة الدعوة غير قضاء الحاجة لأنها قوله سبحانه وتعالى لبيك يا عبدي وهو موعود موجود لكل مؤمن يدعو ولا إلى تخصيص الدعوة بما ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، أو الداعي بالمطيع المخبت. نعم كونه كذلك أزجي للإجابة لا سيما في الأزمنة المخصوصة والأمكنة المعلومة، والكيفية المشهورة، ومع هذا قد تتخلف الإجابة مطلقا وقد تتخلف إلى بدل،
ففي الصحيح عن أبي سعيد قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله تبارك وتعالى إحدى ثلاث إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخر له وإما أن يكف عنه من السوء مثلها»
وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي أي فليطلبوا إجابتي لهم إذا دعوني أو فليجيبوا لي إذا دعوتهم للإيمان والطاعة كما أني أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم، واستجاب وأجاب واحد ومعناه قطع مسألته بتبليغه مراده من الجواب بمعنى القطع، وهذا ما عليه أكثر المفسرين ولا يغني عنه وَلْيُؤْمِنُوا بِي لأنه أمر بالثبات والمداومة على الإيمان لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ أي يهتدون لمصالح دينهم ودنياهم، وأصل الباب إصابة الخير، وقرىء بفتح الشين وكسرها، ولما أمرهم سبحانه وتعالى بصوم الشهر ومراعاة العدة وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر عقبه بهذه الآية الدالة على أنه تعالى خبير بأفعالهم سميع لأقوالهم مجازيهم على أعمالهم تأكيدا له وحثا عليه، أو أنه لما نسخ الأحكام في الصوم ذكر هذه الآية الدالة على كمال علمه بحال العباد وكمال قدرته عليهم ونهاية لطفه بهم في أثناء نسخ الأحكام تمكينا لهم في الإيمان، وتقريرا لهم على الاستجابة لأن مقام النسخ من مظان الوسوسة
والتزلزل، فالجملة على التقديرين اعتراضية بين كلامين متصلين معنى، أحدهما ما تقدم، والثاني قوله سبحانه وتعالى:
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ
أخرج أحمد وجماعة عن كعب بن مالك قال: كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد فرجع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه من عند النبي صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة وقد سمر عنده، فوجد امرأته قد نامت فأيقظها وأرادها فقالت: إني قد نمت فقال: ما نمت، ثم وقع بها، وصنع كعب بن مالك مثل ذلك فغدا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره فنزلت.
وفي رواية ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بينما هو نائم إذ سولت له نفسه فأتى أهله ثم أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال يا رسول الله إني أعتذر إلى الله تعالى وإليك من نفسي هذه الخاطئة فإنها زينت لي فواقعت أهلي هل تجد لي من رخصة؟ قال: لم تكن حقيقا بذلك يا عمر فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن وأمر الله تعالى رسوله أن يضعها في المائة الوسطى من سورة البقرة فقال:
أُحِلَّ لَكُمْ إلخ
- وليلة الصيام- الليلة التي يصبح منها صائما فالإضافة لأدنى ملابسة، والمراد بها الجنس وناصبها- الرفث- المذكور أو المحذوف الدال هو عليه بناء على أن المصدر لا يعمل متقدما، وجوز أن يكون ظرفا- لأحل- لأن إحلال الرفث في ليلة الصيام وإحلال الرفث الذي فيها متلازمان، والرَّفَثُ من رفث في كلامه وأرفث وترفث أفحش وأفصح بما يكنى عنه، والمراد به هنا الجماع لأنه لا يكاد يخلو من الإفصاح، وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه أنشد وهو محرم:
وهن يمشين بنا هميسا | إن صدق الطير ننك لميسا |
إذا ما الضجيع ثنى عطفه | تثنت عليه فكانت «لباسا» |
في الخبر «من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه»
والجملتان مستأنفتان استئنافا نحويا والبياني يأباه الذوق، ومضمونهما بيان لسبب الحكم السابق وهو قلة الصبر عنهن كما يستفاد من الأولى، وصعوبة اجتنابهن كما تفيده الثانية- ولظهور احتياج الرجل إليهن وقلة صبره- قدم الأولى،
وفي الخبر «لا خير في النساء ولا صبر عنهن يغلبن كريما ويغلبهن لئيم وأحب أن أكون كريما مغلوبا ولا أحب أن أكون لئيما غالبا»
عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ جملة معترضة بين قوله تعالى: أُحِلَّ إلخ وبين ما يتعلق به أعني فَالْآنَ إلخ لبيان حالهم بالنسبة إلى ما فرط منهم قبل الإحلال، ومعنى عَلِمَ تعلق علمه، والاختيان- تحرك صفحة رقم 461
شهوة الإنسان لتحري الخيانة أو الخيانة البليغة فيكون المعنى تنقصون أنفسكم تنقيصا تاما بتعريضها للعقاب وتنقيص حظها من الثواب، ويؤول إلى معنى تظلمونها بذلك، والمراد الاستمرار عليه فيما مضى قبل إخبارهم بالحال كما ينبىء عنه صيغتا الماضي والمضارع وهو متعلق العلم، وما تفهمه الصيغة الأولى من تقدم كونهم على الخيانة على العلم يأبى حمله على الأزلي الذاهب إليه البعض فَتابَ عَلَيْكُمْ عطف على عَلِمَ والفاء لمجرد التعقيب، والمراد قبل توبتكم حين تبتم عن المحظور الذي ارتكبتموه وَعَفا عَنْكُمْ أي محا أثره عنكم وأزال تحريمه، وقيل:
الأول لإزالة التحريم وهذا لغفران الخطيئة فَالْآنَ مرتب على قوله سبحانه وتعالى أُحِلَّ لَكُمْ نظرا إلى ما هو المقصود من الإحلال وهو إزالة التحريم أي حين نسخ عنكم تحريم القربان وهو ليلة الصيام كما يدل عليه الغاية الآتية فإنها غاية للأوامر الأربعة التي هذا ظرفها، والحضور المفهوم منه بالنظر إلى فعل نسخ التحريم وليس حاضرا بالنظر إلى الخطاب بقوله تعالى: بَاشِرُوهُنَّ، وقيل: إنه وإن كان حقيقة في الوقت الحاضر إلا أنه قد يطلق على المستقبل القريب تنزيلا له منزلة الحاضر وهو المراد هنا أو أنه مستعمل في حقيقته والتقدير قد أبحنا لكم مباشرتهن، وأصل المباشرة إلزاق البشرة بالبشرة وأطلقت على الجماع للزومها لها.
وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي اطلبوا ما قدره اللَّهُ تعالى لَكُمْ في اللوح من الولد، وهو المروي عن ابن عباس والضحاك ومجاهد رضي الله تعالى عنهم وغيرهم. والمراد الدعاء بطلب ذلك بأن يقولوا: اللهم ارزقنا ما كتبت لنا، وهذا لا يتوقف على أن يعلم كل واحد أنه قدر له ولد، وقيل: المراد ما قدره لجنسكم والتعبير ب ما نظرا إلى الوصف كما في قوله تعالى: وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشمس: ٥] وفي الآية دلالة على أن المباشر ينبغي أن يتحرى بالنكاح حفظ النسل- لا قضاء الشهوة فقط- لأنه سبحانه وتعالى جعل لنا شهوة الجماع لبقاء نوعنا إلى غاية كما جعل لنا شهوة الطعام لبقاء أشخاصنا إلى غاية، ومجرد قضاء الشهوة لا ينبغي أن يكون إلا للبهائم، وجعل بعضهم هذا الطلب كناية عن النهي عن العزل، أو عن إتيان المحاش، وبعض فسر من أول مرة ما كتب بما سن وشرع من صب الماء في محله، أي اطلبوا ذلك دون العزل والإتيان المذكورين- والمشهور حرمتهما- أما الأول فالمذكور في الكتب فيه أنه لا يعزل الرجل عن الحرة بغير رضاها، وعن الأمة المنكوحة بغير رضاها أو رضا سيدها على الاختلاف بين الإمام وصاحبيه، ولا بأس بالعزل عن أمته بغير رضاها إذ لا حق لها.
وأما الثاني فسيأتي بسط الكلام فيه على أتم وجه إن شاء الله تعالى. وروي عن أنس رضي الله تعالى عنه تفسير ذلك بليلة القدر. وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضا وعن قتادة أن المراد ابْتَغُوا الرخصة الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ تعالى لَكُمْ فإن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، وعليه تكون الجملة كالتأكيد لما قبلها، وعن عطاء أنه سأل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كيف تقرأ هذه الآية ابْتَغُوا أو «اتبعوا» ؟ فقال: أيهما شئت، وعليك بالقراءة الأولى وَكُلُوا وَاشْرَبُوا الليل كله حَتَّى يَتَبَيَّنَ
أي يظهر لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ وهو أول ما يبدو من الفجر الصادق المعترض في الأفق قبل انتشاره، وحمله على الفجر الكاذب المستطيل الممتد كذنب السرحان وهم مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ وهو ما يمتد مع بياض الفجر من ظلمة آخر الليل مِنَ الْفَجْرِ بيان لأول الخيطين- ومنه يتبين الثاني- وخصه بالبيان لأنه المقصود وقيل: بيان لهما بناء على أن الْفَجْرِ عبارة عن مجموعهما لقول الطائي: وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه فهو على وزان قولك: حتى يتبين العالم من الجاهل من القوم، وبهذا البيان خرج الخيطان عن الاستعارة إلى التشبيه لأن شرطها عندهم تناسيه بالكلية، وادعاء أن المشبه هو المشبه به لولا القرينة والبيان ينادي على أن المراد- مثل هذا الخيط وهذا الخيط- إذ هما لا يحتاجان إليه، وجوّز أن
تكون مِنَ تبعيضية لأن ما يبدو جزء من «الفجر» كما أنه فجر بناء على أنه اسم للقدر المشترك بين الكل والجزء، ومِنَ الأولى قيل: لابتداء للغاية، وفيه أن الفعل المتعدي بها يكون ممتدا أو أصلا للشيء الممتد، وعلامتها أن يحسن في مقابلتها إِلى أو ما يفيد مفادها- وما هنا ليس كذلك- فالظاهر أنها متعلقة ب يَتَبَيَّنَ بتضمين معنى التميز، والمعنى حتى يتضح «لكم الفجر» متميزا عن غبش الليل، فالغاية إباحة ما تقدم حَتَّى يَتَبَيَّنَ أحدهما من الآخر ويميز بينهما، ومن هذا وجه عدم الاكتفاء ب حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الفجر، أو «يتبين لكم الخيط الأبيض من الفجر» لأن تبين الفجر له مراتب كثيرة، فيصير الحكم مجملا محتاجا إلى البيان، وما أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما قال: أنزلت وَكُلُوا وَاشْرَبُوا إلخ ولم ينزل مِنَ الْفَجْرِ فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله تعالى بعد «من الفجر» فعلموا إنما يعني الليل والنهار، فليس فيه نص على أن الآية قبل محتاجة إلى البيان بحيث لا يفهم منها المقصود إلا به وأن تأخير البيان عن وقت الحاجة جائز لجواز أن يكون الخيطان مشتهرين في المراد منهما، إلا أنه صرح بالبيان لما التبس على بعضهم، ويؤيد ذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم وصف من لم يفهم المقصود من الآية قبل التصريح- بالبلادة- ولو كان الأمر موقوفا على البيان لاستوى فيه الذكي والبليد،
فقد أخرج سفيان بن عيينة وأحمد والبخاري.
ومسلم وأبو داود والترمذي وجماعة عن عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه قال: لما أنزلت هذه الآية وَكُلُوا وَاشْرَبُوا إلخ عمدت إلى عقالين أحدهما أسود والآخر أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر إليهما فلا يتبين لي الأبيض من الأسود فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته بالذي صنعت فقال: «إن وسادك إذا لعريض إنما ذاك بياض النهار من سواد الليل» وفي رواية «إنك لعريض القفا»
وقيل: إن نزول الآية كان قبل دخول رمضان- وهي مبهمة- والبيان ضروري إلا أنه تأخر عن وقت الخطاب لا عن وقت الحاجة وهو لا يضر- ولا يخفى ما فيه- وقال أبو حيان: إن هذا من باب النسخ، ألا ترى أن الصحابة عملوا بظاهر ما دل عليه اللفظ ثم صار مجازا بالبيان ويرده على ما فيه أن النسخ يكون بكلام مستقل ولم يعهد نسخ هكذا وفي هذه الأوامر دليل على جواز نسخ السنة بالكتاب بل على وقوعه بناء على القول بأن الحكم المنسوخ من حرمة الوقاع والأكل والشرب كانت ثابتة بالسنة، وليس في القرآن ما يدل عليها، وأُحِلَّ أيضا يدل على ذلك إلا أنه نسخ بلا بدل وهو مختلف فيه، واستدل بالآية على صحة صوم الجنب لأنه يلزم من إباحة المباشرة إلى تبين الفجر إباحتها في آخر جزء من أجزاء الليل متصل بالصبح فإذا وقعت كذلك أصبح الشخص جنبا فإن لم يصح صومه لما جازت المباشرة لأن الجنابة لازمة لها ومنافي اللازم مناف للملزوم، ولا يرد خروج المني بعد الصبح بالجماع الحاصل قبله لأنه إنما يفسد الصوم لكونه مكمل الجماع فهو جماع واقع في الصبح، وليس بلازم للجماع كالجنابة، وخالف في ذلك بعضهم ومنع الصحة زاعما أن الغاية متعلقة بما عندها، واحتج بآثار صح لدى المحدثين خلافها.
واستدل بها أيضا على جواز الأكل مثلا لمن شك في طلوع الفجر لأنه تعالى أباح ما أباح مغيّى بتبينه ولا تبين مع الشك خلافا لمالك. ومجاهد بها على عدم القضاء والحال هذه إذا بان أنه أكل بعد الفجر لأنه أكل في وقت اذن له فيه، وعن سعيد بن منصور مثله- وليس بالمنصور- والأئمة الأربعة رضي الله تعالى عنهم على أن أول النهار الشرعي طلوع الفجر فلا يجوز فعل شيء من المحظورات بعده وخالف في ذلك الأعمش ولا يتبعه إلا الأعمى، فزعم أن أوله طلوع الشمس كالنهار العرفي وجوز فعل المحظورات بعد طلوع الفجر، وكذا الإمامية وحمل مِنَ الْفَجْرِ على التبعيض وإرادة الجزء الأخير منه والذي دعاه لذلك خبر صلاة النهار عجماء وصلاة الفجر ليست بها فهي في الليل،
وأيده بعضهم بأن شوب الظلمة بالضياء كما أنه لم يمنع من الليلية بعد غروب الشمس ينبغي أن لا يمنع منها قبل طلوعها وتساوي طرفي الشيء مما يستحسن في الحكمة وإلى البدء يكون العود، وفيه أن النهار في الخبر بعد تسليم صحته يحتمل أن يكون بالمعنى العرفي ولو أراده سبحانه وتعالى في هذا الحكم لقال: وكلوا واشربوا إلى النهار ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ مع أنه أخصر وأوفق مما عدل إليه فحيث لم يفعل فهم أن الأمر مربوط بالفجر لا بطلوع الشمس سواء عد ذلك نهارا أم لا، وما ذكر من استحسان تساوي طرفي الشيء مع كونه- مما لا يسمن ولا يغني من جوع- في هذا الباب يمكن معارضته بأن جعل أول النهار كأول الليل وهما متقابلان مما يدل على عظم قدرة الصانع الحكيم وإلى الانتهاء غاية الإتمام، ويجوز أن يكون حالا من الصيام فيتعلق بمحذوف ولا يجوز جعله غاية للإيجاب لعدم امتداده، وعلى التقديرين تدل الآية على نفي كون الليل محل الصوم وأن يكون صوم اليومين صومة واحدة، وقد استنبط النبي صلى الله تعالى عليه وسلم منها حرمة الوصال كما قيل،
فقد روى أحمد من طريق ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت: أردت أن أصوم يومين مواصلة فمنعني بشير وقال: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عنه، وقال: يفعل ذلك النصارى ولكن صوموا كما أمركم الله تعالى،
وأَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ فإذا كان الليل فافطروا، ولا تدل الآية على أنه لا يجوز الصوم حتى يتخلل الإفطار خلافا لزاعمه، نعم استدل بها على صحة نية رمضان في النهار، وتقرير ذلك أن قوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا إلخ معطوف على قوله: بَاشِرُوهُنَّ إلى قوله سبحانه:
حَتَّى يَتَبَيَّنَ وكلمة ثُمَّ للتراخي والتعقيب بمهلة- واللام- في الصِّيامِ للعهد على ما هو الأصل، فيكون مفاد ثُمَّ أَتِمُّوا إلخ الأمر- بإتمام الصيام- المعهود أي الإمساك المدلول عليه بالغاية سواء فسر بإتيانه تاما، أو بتصييره كذلك متراخيا عن الأمور المذكورة المنقضية بطلوع الفجر تحقيقا لمعنى ثُمَّ فصارت نية الصوم بعد مضي جزء من الفجر لأن قصد الفعل إنما يلزمنا حين توجه الخطاب، وتوجهه- بالإتمام- بعد الفجر لأنه بعد الجزء الذي هو غاية لإنقضاء الليل تحقيقا لمعنى التراخي، والليل لا ينقضي إلا متصلا بجزء من الفجر، فتكون النية بعد مضي جزء الفجر الذي به انقطع الليل، وحصل فيه الإمساك المدلول عليه بالغاية، فإن قيل: لو كان كذلك وجب وجوب النية بعد المضي، أجيب بأن ترك ذلك بالإجماع، وبأن إعمال الدليلين- ولو بوجه- أولى من إهمال أحدهما، فلو قلنا بوجوب النية كذلك عملا بالآية بطل العمل
بخبر «لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل»
ولو قلنا باشتراط النية قبله عملا بالخبر بطل العمل بالآية، فقلنا بالجواز عملا بهما، فإن قيل: مقتضى الآية- على ما ذكر- الوجوب وخبر الواحد لا يعارضها، أجيب بأنها متروكة الظاهر بالإجماع فلم تبق قاطعة- فيجوز أن يكون الخبر بيانا لها- ولبعض الأصحاب تقرير الاستدلال بوجه آخر، ولعل ما ذكرناه أقل مؤنة فتدبر. وزعم بعض الشافعية أن الآية تدل على وجوب التبييت، لأن معنى «ثم أتموا» صيروه تاما بعد الانفجار، وهو يقتضي الشروع فيه قبله- وما ذاك إلا بالنية- إذ لا وجوب للإمساك قبل، ولا يخفي ما فيه وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ أي معتكفون فيها- والاعتكاف- في اللغة الاحتباس واللزوم مطلقا، ومنه قوله:
فباتت بنات الليل حولي- عكفا | عكوف- بواك حولهن صريع |
مطلق المباشرة- وليس بشيء- فقد كانت عائشة رضي الله تعالى عنها ترجل رأس النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو معتكف، وفي تقييد- الاعتكاف بالمساجد- دليل على أنه لا يصح إلا في المسجد إذ لو جاز شرعا في غيره لجاز في البيت- وهو باطل بالإجماع- ويختص بالمسجد الجامع عند الزهري، وروي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه مختص بمسجد له إمام ومؤذن راتب، وقال حذيفة رضي الله تعالى عنه: يختص بالمساجد الثلاثة،
وعن علي كرم الله تعالى وجهه لا يجوز إلا في المسجد الحرام،
وعن ابن المسيب لا يجوز إلا فيه أو في المسجد النبوي، ومذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه يصح في جميع المساجد مطلقا بناء على عموم اللفظ وعدم اعتبار أن المطلق ينصرف إلى الكامل، واستدل بالآية على صحة اعتكاف المرأة في غير المسجد بناء على أنها لا تدخل في خطاب الرجال، وعلى اشتراط الصوم في الاعتكاف لأنه قصر الخطاب على الصائمين، فلو لم يكن الصوم من شرطه لم يكن لذلك معنى، وهو المروي عن نافع مولى ابن عمر، وعائشة رضي الله تعالى عنهم، وعلى أنه لا يكفي فيه أقل من يوم- كما أن الصوم لا يكون كذلك- والشافعي رضي الله تعالى عنه لا يشترط يوما ولا صوما، لما
أخرج الدارقطني والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه» ومثله عن ابن مسعود،
وعن علي كرم الله تعالى وجهه روايتان أخرجهما ابن أبي شيبة من طريقين إحداهما الاشتراط، وثانيتهما عدمه، وعلى أن المعتكف إذا خرج من المسجد فباشر خارجا جاز لأنه حصر المنع من المباشرة حال كونه فيه، وأجيب بأن المعنى لا تُبَاشِرُوهُنَّ حال ما يقال لكم: إنكم عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ومن خرج من المسجد لقضاء الحاجة فاعتكافه باق، ويؤيده ما روي عن قتادة كان الرجل يعتكف فيخرج إلى امرأته فيباشرها ثم يرجع- فنهوا عن ذلك- واستدل بها أيضا على أن الوطء يفسد الاعتكاف لأن النهي للتحريم، وهو في العبادات يوجب الفساد، وفيه أن المنهي عنه هنا- المباشرة حال الاعتكاف- وهو ليس من العبادات لا يقال:
إذا وقع أمر منهي عنه في العبادة- كالجماع في الاعتكاف- كانت تلك العبادة منهية باعتبار اشتمالها على المنهي ومقارنتها إياه إذ يقال: فرق بين كون الشيء منهيا عنه باعتباره ما يقارنه، وبين كون المقارن منهيا في ذلك الشيء والكلام في الأول، وما نحن فيه من قبيل الثاني تِلْكَ أي الأحكام الستة المذكورة المشتملة على إيجاب وتحريم وإباحة حُدُودُ اللَّهِ أي حاجزة بين الحق والباطل فَلا تَقْرَبُوها كيلا يداني الباطل والنهي عن القرب من- تلك الحدود- التي هي الأحكام كناية عن النهي عن قرب الباطل لكون الأول لازما للثاني وهو أبلغ من فَلا تَعْتَدُوها [البقرة: ٢٢٩] لأنه نهي عن قرب الباطل بطريق الكناية التي هي أبلغ من الصريح، وذلك نهي عن الوقوع في الباطل بطريق الصريح، وعلى هذا لا يشكل «لا تقربوها» في تلك الأحكام مع اشتمالها على ما سمعت، ولا وقوع «فلا تعتدوها» وفي آية أخرى إذ قد حصل الجمع وصح «لا تقربوها» في الكل، وقيل: يجوز أن يراد ب حُدُودُ اللَّهِ تعالى محارمه ومناهيه إما لأن الأوامر السابقة تستلزم النواهي لكونها مغياة بالغاية، وإما لأن المشار إليه قوله سبحانه: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وأمثاله، وقال أبو مسلم: معنى «لا تقربوها» لا تتعرضوا لها بالتغيير كقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
[الإنعام: ١٥٢، الإسراء: ٣٤] فيشمل جميع الأحكام- ولا يخفى ما في الوجهين من التكليف- والقول- بأن تلك إشارة إلى الأحكام- والحد- إما بمعنى المنع أو بمعنى الحاجز بين الشيئين، فعلى الأول يكون المعنى تلك الأحكام ممنوعات الله تعالى عن الغير ليس لغيره أن يحكم بشيء فَلا تَقْرَبُوها أي لا تحكموا على أنفسكم أو على عباده من عند أنفسكم بشيء- فإن الحكم لله تعالى عز شأنه- وعلى الثاني يريد أن تلك الأحكام حدود حاجزة بين الألوهية والعبودية، فالإله يحكم والعباد تنقاد، فلا تقربوا الأحكام لئلا تكونوا مشركين بالله تعالى- لا يكاد يعرض على ذي لب فيرتضيه، وهو بعيد بمراحل عن المقصود كما لا يخفى.
كَذلِكَ أي مثل ذلك التبيين الواقع في أحكام الصوم يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ إما مطلقا أو الآيات الدالة على سائر الأحكام التي شرعها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ مخالفة أوامره ونواهيه، والجملة اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه لتقرير الأحكام السابقة والترغيب إلى امتثالها بأنها شرعت لأجل تقواكم، ولما ذكر سبحانه الصيام وما فيه عقبه بالنهي عن الأكل الحرام المفضي إلى عدم قبول عبادته من صيامه واعتكافه فقال:
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ والمراد من- الأكل- ما يعم الأخذ والاستيلاء، وعبر به لأنه أهم الحوائج- وبه يحصل إتلاف المال غالبا- والمعنى لا يأكل بعضكم مال بعض، فهو على حد وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: ١١] وليس من تقسيم الجمع على الجمع، كما في- ركبوا دوابهم- حتى يكون معناه لا يأكل كل واحد منكم مال نفسه، بدليل قوله سبحانه: بَيْنَكُمْ فإنه- بمعنى الواسطة- يقتضي أن يكون ما يضاف إليه منقسما إلى طرفين بكون الأكل والمال حال الأكل متوسطا بينهما- وذلك ظاهر على المعنى المذكور- والظرف متعلق ب تَأْكُلُوا كالجار والمجرور بعده، أو بمحذوف حال من «الأموال» - والباء- للسببية والمراد من بِالْباطِلِ الحرام، كالسرقة، والغصب، وكل ما لم يأذن بأخذه الشرع.
وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ عطف على تأكلوا فهو منهي عنه مثله مجزوم بما جزم به وجوز نصبه بأن مضمرة ومثل هذا التركيب وإن كان للنهي عن الجمع إلا أنه لا ينافي أن يكون كل من الأمرين منهيا عنه والإدلاء في الأصل إرسال الحبل في البئر ثم استعير للتوصل إلى الشيء أو الإلقاء- والباء- صلة الإدلاء وجوز أن تكون سببية والضمير المجرور «للأموال» أي لا تتوصلوا، أو لا تلقوا بحكومتها والخصومة فيها إلى- الحكام- وقيل: لا تلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة، وقرأ أبيّ «ولا تدلوا» لِتَأْكُلُوا بالتحاكم والرفع إليهم.
فَرِيقاً قطعة وجملة مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ أي بسبب ما يوجب إثما كشهادة الزور واليمين الفاجرة، ويحتمل أن تكون- الباء- للمصاحبة أي متلبسين- بالإثم. والجار والمجرور على الأول متعلق «بتأكلوا» وعلى الثاني حال من فاعله وكذلك وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ومفعول العلم محذوف أي- تعلمون- أنكم مبطلون، وفيه دلالة على أن من لا يعلم أنه مبطل، وحكم له الحاكم بأخذ مال فإنه يجوز له أخذه،
أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مرسلا أن عبدان بن أشوع الحضرمي، وامرؤ القيس بن عابس اختصما في أرض ولم تكن بينة فحكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يحلف امرؤ القيس فهم به فقرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا [آل عمران: ٧٧] فارتدع عن اليمين وسلم الأرض فنزلت.
واستدل بها على أن حكم القاضي لا ينفذ باطنا فلا يحل به الأخذ في الواقع، وإلى ذلك ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وأبو يوسف ومحمد ويؤيده ما
أخرجه البخاري ومسلم عن أم سلمة زوج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه فإنما أقطع له قطعة من النار».
وذهب الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى أن الحاكم إذا حكم ببينة بعقد أو فسخ عقد مما يصح أن يبتدأ فهو نافذ ظاهرا وباطنا ويكون كعقد عقداه بينهما، وإن كان الشهود زورا كما
روي أن رجلا خطب امرأة هو دونها فأبت فادعى عند علي كرم الله تعالى وجهه أنه تزوجها وأقام شاهدين فقالت المرأة: لم أتزوجه وطلبت عقد النكاح فقال علي كرم الله تعالى وجهه: قد زوجك الشاهدان،
وذهب فيمن ادعى حقا في يدي رجل وأقام بينة تقتضي أنه له
وحكم بذلك الحاكم أنه لا يباح له أخذه وأن حكم الحاكم لا يبيح له ما كان قبل محظورا عليه وحمل الحديث على ذلك، والآية ليست نصا في مدعى مخالفيه لأنهم إن أرادوا أنها دليل على عدم النفوذ مطلقا فممنوع وإن أرادوا أنها دليل على عدم النفوذ في الجملة فمسلم ولا نزاع فيه لأن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه يقول بذلك، ولكن فيما سمعت والمسألة معروفة في الفروع والأصول، ولها تفصيل في أدب القاضي فارجع إليه.
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ
أخرج ابن عساكر بسند ضعيف- أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم، قالا: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حال واحد؟ فنزلت، وفي رواية أن معاذا قال: يا رسول الله إن اليهود يكثرون مسألتنا عن الأهلة فأنزل الله تعالى هذه الآية،
فيراد بالجمع على الرواية الأولى ما فوق الواحد أو ينزل الحاضرون المترقبون للجواب منزلة السائل وظاهره المتبادر على الرواية الثانية بناء على أن سؤال اليهود من بعض أصحابه بمنزلة السؤال منه صلّى الله عليه وسلّم إذ هو طريق علمهم ومستمد فيضهم، والْأَهِلَّةِ جمع هلال واشتقاقه من استهل الصبي إذا بكى وصاح حين يولد ومنه أهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية، وسمي به القمر في ليلتين من أول الشهر أو في ثلاث أو حتى يحجر وتحجيره أن يستدير بخط دقيق- وإليه ذهب الأصمعي- أو حتى يبهر ضوءه سواد الليل، وغيا ذلك بعضهم بسبع ليال- وسمي بذلك لأنه حين يرى يهل الناس بذكره- أو بالتكبير ولهذا يقال أهلّ الهلال واستهل ولا يقال هلّ، والسؤال يحتمل أن يكون عن الغاية والحكمة وأن يكون عن السبب والعلة، ولا نص في الآية والخبر على أحدهما أما الملفوظ من الآية فظاهر، وأما المحذوف فيحتمل أن يقدر ما سبب اختلافها وأن يقدر ما حكمته، وهي وإن كانت في الظاهر سؤالا عن التعدد إلا أنها في الحقيقة متضمنة للسؤال عن اختلاف التشكلات النورية لأن التعدد يتبع اختلافها إذ لو كان الهلال على شكل واحد لا يحصل التعدد كما لا يخفى، وأما الخبر فلأن ما فيه يسأل بها عن الجنس وحقيقته فالمسؤول حينئذ حقيقة أمر الهلال وشأنه حال اختلاف تشكلاته النورية، ثم عوده إلى ما كان عليه وذلك الأمر المسئول عن حقيقته يحتمل ذينك الأمرين بلا ريب فعلى الأول يكون الجواب بقوله تعالى: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ مطابقا مبينا للحكمة الظاهرة اللائقة بشأن التبليغ العام المذكرة لنعمة الله تعالى ومزيد رأفته سبحانه وهي أن يكون معالم للناس يوقتون بها أمورهم الدنيوية ويعلمون أوقات زروعهم ومتاجرهم ومعالم للعبادات الموقتة يعرف بها أوقاتها كالصيام والإفطار وخصوصا الحج، فإن الوقت مراعى فيه أداء وقضاء ولو كان الهلال مدورا كالشمس أو ملازما حالة واحدة لم يكد يتيسر التوقيت به، ولم يذكر صلى الله تعالى عليه وسلم الحكمة الباطنة لذلك مثل كون اختلاف تشكلاته سببا عاديا أو جعليا لاختلاف أحوال المواليد العنصرية كما بين في محله لأنه مما لم يطلع عليه كل أحد، وعلى الثاني يكون من الأسلوب الحكيم، ويسمى القول بالموجب وهو تلقي السائل بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيها على أنه الأولى بحاله- واختاره السكاكي. وجماعة- فيكون في هذا الجواب إشارة إلى أن الأولى على تقدير وقوع السؤال أن يسألوا عن الحكمة لا عن السبب لأنه لا يتعلق به صلاح معاشهم ومعادهم، والنبي إنما بعث لبيان ذلك لا لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ليسوا ممن يطلع على دقائق علم الهيئة الموقوفة على الإرصاد والأدلة الفلسفية كما وهم لأن ذلك على فرض تسليمه في حق أولئك المشائين في ركاب النبوة، والمرتاضين في رواق الفتوة، والفائزين بإشراق الأنوار، والمطلعين بأرصاد قلوبهم على دقائق الأسرار، وإن لم يكن نقصا من قدرهم إلا أنه يدل على أن سبب الاختلاف ما بين في علم الهيئة من بعد القمر عن الشمس وقربه إليها وهو باطل عند أهل الشريعة فإنه مبني على أمور لم يثبت جزما شيء منها غاية الأمر أن الفلاسفة الأول تخيلوها موافقة لما أبدعه الحكيم المطلق
كما يشير إليه كلام مولانا الشيخ الأكبر قدس سره في فتوحاته، ومما ينادى على أن ما ذهبوا إليه مجرد تخيل لا تأباه الحكمة وليس مطابقا لما في نفس الأمران المتأخرين مما انتظم في سلك الفلاسفة كهرشل الحكيم وأتباعه أصحاب الرصد والزيج الجديد تخيلوا خلاف ما ذهب إليه الأولون في أمر الهيئة، وقالوا: بأن الشمس مركز والأرض وكذا النجوم دائرة حولها وبنوا حكم الكسوف والخسوف ونحوه على ذلك وبرهنوا عليه وردوا مخالفيه ولم يتخلف شيء من أحكامهم في هذا الباب بل يقع حسبما يقع ما يقوله الأولون مبنيا على زعمهم فحيث اتفقت الأحكام مع اختلاف المبنيين وتضاد المشائين، ورد أحد الزعمين بالآخر ارتفع الوثوق بكلا المذهبين ووجب الرجوع إلى العلم المقتبس من مشكاة الرسالة والمنقدح من أنوار شمس السيادة والبسالة، والاعتماد على ما قاله الشارع الأعظم صلّى الله عليه وسلّم بعد إمعان النظر فيه وحمله على أحسن معانيه وإذا أمكن الجمع بين ما يقوله الفلاسفة كيف كانوا مما يقبله العقل
وبين ما يقوله سيد الحكماء ونور أهل الأرض والسماء فلا بأس به بل هو الأليق الأحرى في دفع الشكوك التي كثيرا ما تعرض لضعفاء المؤمنين وإذا لم يمكن ذلك فعليك بما دارت عليه أفلاك الشرع وتنزلت به أملاك الحق.
إذا قالت حذام فصدقوها | فإن القول ما قالت حذام |
قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته»
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» أنه سبحانه ذكر قوانين جليلة من قوانين العدالة، فمنها القصاص الذي فرض لإزالة عدوان القوة السبعية، وهو ظل من ظلال عدله فإذا تصرف في عبده بإفنائه وقتله بسيف حبه عوضه عن حر روحه روحا، وعن عبد قلبه قلبا، وعن أنثى نفسه نفسا فإنّه كما كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ في قتلاكم- كتب على نفسه الرحمة في قتلاه- ففي بعض الآثار من طرق القوم أنه سبحانه يقول: من أحبني قتلته ومن قتلته فأنا ديته ولكم في مقاصة الله تعالى إياكم بما ذكر حياة عظيمة لا موت بعدها يا أولي العقول الخالصة عن قشر الأوهام وغواشي التعينات والإجرام لكي تتقوا تركه أو شرك وجودكم، ومنها الوصية التي هي قانون آخر فرض لإزالة نقصان القوة الملكية وقصورها عما تقتضي الحكمة من التصرفات ووصية أهل الله تعالى قدس الله تعالى أسرارهم المحافظة على عهد الأزل بترك ما سوى الحق، ومنها الصيام، وهو قانون فرض لإزالة تسلط القوى البهيمية، وهو عند أهل الحقيقة الإمساك عن كل قول وفعل وحركة ليس بالحق للحق والأيام المعدودة هي أيام الدنيا التي ستنقرض عن قريب فاجعلها كلها أيام صومك واجعل فطرك في عيد لقاء الله تعالى، وشهر رمضان هو وقت احتراق النفس واضمحلالها بأنوار تجليات القرب الذي أنزل فيه القرآن، وهو العلم الإجمالي الجامع هداية للناس إلى الوحدة باعتبار الجمع، ودلائل مفصلة من الجمع، والفرق- فمن حضر منكم ذلك الوقت وبلغ مقام الشهود فليمسك عن كل شيء إلا له، وبه، وفيه، ومنه، وإليه، ومن كان مبتلى بأمراض القلب والحجب النفسانية المانعة عن الشهود أو على سفر وتوجه إلى ذلك المقام فعليه مراتب أخر يقطعها حتى يصل إليه صفحة رقم 468
يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ والوصول إلى مقام التوحيد، والاقتدار بقدرته وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وتكلف الأفعال بالنفس الضعيفة وَلِتُكْمِلُوا عدة المراتب ولتعظموا الله تعالى على هدايته لكم إلى مقام الجمع وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ بالاستقامة وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي المختصون بي المنقطعون إلى عن معرفتي فَإِنِّي قَرِيبٌ منهم بلا أين ولا بين ولا إجماع ولا افتراق أُجِيبُ من يدعوني بلسان الحال، والاستعداد بإعطائه ما اقتضى حاله، واستعداده فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي بتصفية استعدادهم وليشاهدوني عند التصفية حين أتجلى في مرايا قلوبهم لكي يستقيموا في مقام الطمأنينة وحقائق التمكين.
ولما كان للإنسان تلونات بحسب اختلاف الأسماء فتارة يكون بحكم غلبات الصفات الروحانية في نهار الواردات الربانية وحينئذ يصوم عن الحظوظ الإنسانية، وتارة يكون بحكم الدواعي والحاجات البشرية مردودا بمقتضى الحكمة إلى ظلمات الصفات الحيوانية وهذا وقت الغفلة الذي يتخلل ذلك الإمساك أباح له التنزل بعض الأحايين إلى مقارنة النفوس وهو الرفث إلى النساء وعلله بقوله سبحانه: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ أي لا صبر لكم عنها بمقتضى الطبيعة لكونها تلابسكم وكونكم تلابسونهن بالتعلق الضروري عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ وتنقصونها حظوظها الباقية باستراق تلك الحظوظ الفانية في أزمنة السلوك والرياضة فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ أي وقت الاستقامة والتمكين حال البقاء بعد الفناء بَاشِرُوهُنَّ بقدر الحاجة الضرورية وَابْتَغُوا بقوة هذه المباشرة ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ من التقوى والتمكن على توفير حقوق الاستقامة والوصول إلى المقامات العقلية وَكُلُوا وَاشْرَبُوا في ليالي الصحو حتى يظهر لكم بوادر الحضور ولوامعه وتغلب آثاره وأنواره على سواد الغفلة وظلمتها ثم كونوا على الإمساك الحقيقي بالحضور مع الحق حتى يأتي زمان الغفلة الأخرى فإن لكل حاضر سهما منها ولولا ذلك لتعطلت مصالح المعاش، وإليه الإشارة
بخبر «لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولي وقت مع حفصة وزينب»،
ولا تقاربوهن حال اعتكافكم وحضوركم في مقامات القربة والأنس ومساجد القلوب وَلا تَأْكُلُوا أموال معارفكم بَيْنَكُمْ بباطل شهوات النفس، وترسلوا بها إلى حكام النفوس الأمارة بالسوء لِتَأْكُلُوا الطائفة مِنْ أَمْوالِ القوى الروحانية بالظلم لصرفكم إياها في ملاذ القوى النفسانية وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أن ذلك إثم ووضع للشيء في غير موضعه يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ وهي الطوالع القلبية عند إشراق نور الروح عليها قُلْ هِيَ مَواقِيتُ للسالكين يعرف بها أوقات وجوب المعاملة في سبيل الله وعزيمة السلوك وطواف بيت القلب، والوقوف في عرفة العرفان، والسعي من صفوة الصفا ومروة المروة، وقيل: الْأَهِلَّةِ للزاهدين مواقيت أورادهم.
وللصديقين مواقيت مراقباتهم، والغالب على الأولين القيام بظواهر الشريعة، وعلى الآخرين القيام بأحكام الحقيقة، فإن تجلى عليهم بوصف الجلال طاشوا، وإن تجلى عليهم بوصف الجمال عاشوا، فهم بين جلال وجمال وخضوع ودلال نفعنا الله تعالى بهم، وأفاض علينا من بركاتهم وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها أخرج ابن جرير والبخاري. عن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله وَلَيْسَ الْبِرُّ الآية، وكأنهم كانوا يتحرجون من الدخول من الباب من أجل سقف الباب أن يحول بينهم وبين السماء كما صرح به الزهري في رواية ابن جرير عنه- ويعدون فعلهم ذلك برا- فبين لهم أنه ليس ببر وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى أي- بر من اتقى- المحارم والشهوات، أو لكن ذا الْبِرُّ أو البار مَنِ اتَّقى والظاهر أن جملة النفي معطوفة على مقول- قل- فلا بد من الجامع بينهما فإما أن يقال: إنهم سألوا عن الأمرين كيف ما اتفق، فجمع بينهما في الجواب بناء على الاجتماع الاتفاقي في السؤال، والأمر الثاني مقدر إلا أنه ترك ذكره إيجازا واكتفاء بدلالة الجواب عليه، وإيذانا بأن هذا الأمر مما لا ينبغي أن يقع فيحتاج إلى السؤال عنه، أو يقال: إن السؤال واقع عَنِ الْأَهِلَّةِ فقط وهذا مستعمل إما على الحقيقة
مذكور للاستطراد حيث ذكر- مواقيت الحج- والمذكور أيضا من أفعالهم فيه إلا الخمس، أو للتنبيه على أن اللائق بحالهم أن يسألوا عن أمثال هذا الأمر، ولا يتعرضوا بما لا يهمهم عن أمر الْأَهِلَّةِ وإما على سبيل الاستعارة التمثيلية بأن يكون قد شبه حالهم في سؤالهم عما لا يهم، وترك المهم بحال من ترك الباب وأتى من غير الطريق للتنبيه على تعكيسهم الأمر في هذا السؤال، فالمعنى وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تعكسوا مسائلكم وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى ذلك ولم يجبر على مثله، وجوز أن يكون العطف على قوله سبحانه: يَسْئَلُونَكَ والجامع بينهما أن الأول قول لا ينبغي، والثاني فعل لا ينبغي وقعا من الأنصار على ما تحكيه بعض الروايات.
وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها إذ ليس في العدول برا وباشروا الأمور عن وجوهها، والجملة عطف على وَلَيْسَ الْبِرُّ إما لأنه في تأويل- ولا تأتوا البيوت من ظهورها- أو لكونه مقول القول، وعطف الإنشاء على الإخبار جائز فيما له محل من الإعراب سيما بعد القول، وقرأ ابن كثير وكثير بكسر باء الْبُيُوتَ حيثما وقع وَاتَّقُوا اللَّهَ في تغيير أحكامه- كإتيان البيوت من أبوابها- والسؤال عما لا يعني، ومن الحكم والمصالح المودعة في مصنوعاته تعالى بعد العلم بأنه أتقن كل شيء، أو في جميع أموركم.
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تفوزوا بالمطلوب من الهدى والبر، فإن مَنِ اتَّقى الله تعالى تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه وانكشفت له دقائق الأسرار حسب تقواه وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي جاهدوا لإعزاز دين الله تعالى وإعلاء كلمته- فالسبيل- بمعنى الطريق مستعار لدين الله تعالى وكلمته لأنه يتوصل المؤمن به إلى مرضاته تعالى، والظرفية التي هي مدلولة في ترشيح للاستعارة الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ أي يناجزونكم القتال من الكفار، وكان هذا- على ما روي عن أبي العالية- قبل أن أمروا بقتال المشركين كافة- المناجزين والمحاجزين- فيكون ذلك حينئذ تعميما بعد التخصيص المستفاد من هذا الأمر مقررا لمنطوقه ناسخا لمفهومه- أي لا تقاتلوا المحاجزين- وكذا المنطوق في النهي الآتي فإنّه على هذا الوجه مشتمل على النهي عن قتالهم أيضا، وقيل: معناه الذين يناصبونكم القتال، ويتوقع منهم ذلك دون غيرهم من المشايخ، والصبيان والنساء والرهبان فتكون الآية مخصصة لعموم ذلك الأمر مخرجة لمن لم يتوقع منهم وقيل: المراد ما يعم سائر الكفار فإنهم بصدد قتال المسلمين وقصده فهم في حكم المقاتلة قاتلوا أو لم يقاتلوا، ويؤيد الأول ما
أخرجه أبو صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن البيت عام الحديبية وصالحوه على أن يرجع عامه القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام فيطوف بالبيت ويفعل ما شاء فلما كان العام المقبل تجهز رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك وأن يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام في الحرم فأنزل الله تعالى الآية،
وجعل ما يفهم من الأثر- وجها رابعا في المراد بالموصول بأن يقال المراد به من يتصدى من المشركين للقتال في الحرم وفي الشهر الحرام كما فعل البعض- بعيد لأنه تخصيص من غير دليل وخصوص السبب لا يقتضي خصوص الحكم وَلا تَعْتَدُوا أي لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير ولا من ألقى إليكم السلم وكف يده فإن فعلتم فقد اعتديتم رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس- أو لا تعتدوا- بوجه من الوجوه كابتداء القتال أو قتال المعاهد أو المفاجأة به من غير دعوة أو قتل من نهيتم عن قتله قاله بعضهم، وأيد بأن الفعل المنفي يفيد العموم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ أي المتجاوزين ما حد لهم وهو كالتعليل لما قبله ومحبته تعالى لعباده في المشهور عبارة عن إرادة الخير والثواب لهم ولا واسطة بين المحبة والبغض بالنسبة إليه عز شأنه وذلك بخلاف محبة الإنسان وبغضه فإن بينهما واسطة وهي عدمهما.
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي وجدتموهم كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حين سأله نافع بن الأزرق، وأنشد عليه قول حسان رضي الله تعالى عنه:
فإمّا «يثقفن» بني لويّ | جذيمة إن قتلهم دواء |
لقتل بحد سيف أهون موقعا | على النفس من قتل «بحد فراق» |
فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ نفي للحرج عن القتال في الحرم الذي خاف منه المسلمون وكرهوه أي إن قاتلوكم هناك فلا تبالوا بقتالهم لأنهم الذين هتكوا الحرمة وأنتم في قتالهم دافعون القتل عن أنفسكم وكان الظاهر الإتيان بأمر المفاعلة إلا أنه عدل عنه إلى أمر فعل بشارة للمؤمنين بالغلبة عليهم أي هم من الخذلان وعدم النصر بحيث أمرتم بقتلهم، وقرأ حمزة والكسائي- ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم فاقتلوهم- واعترض الأعمش على حمزة في هذه القراءة فقال له: أرأيت قراءتك إذا صار الرجل مقتولا فبعد ذلك كيف يصير قاتلا لغيره؟ فقال حمزة: إن العرب إذا قتل منهم رجل قالوا: قتلنا، وإذا ضرب منهم الرجل قالوا: ضربنا، وحاصله أن الكلام على حذف المضاف إلى المفعول وهو لفظ بعض فلا يلزم كون المقتول قاتلا، وأما إسناد الفعل إلى الضمير فمبني على أن الفعل الواقع من البعض برضا البعض الآخر يسند إلى الكل على التجوز في الإسناد فلا حاجة فيه إلى التقدير، ولذا اكتفى الأعمش في السؤال بجانب المفعول، وكذا قوله سبحانه: وَلا تُقاتِلُوهُمْ جاز على حقيقة من غير تأويل لأن المعنى على السلب الكلي أي لا يقتل واحد منكم واحدا منهم حتى يقع منهم قتل بعضهم. ثم إن هذا التأويل مختص بهذه القراءة ولا حاجة إليه في- لا تقاتلوهم- لأن المعنى لا تفاتحوهم والمفاتحة لا تكون إلا بشروع البعض بقتال البعض قاله بعض المحققين، وقد خفي على بعض الناظرين فتدبر كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ تذييل لما قبله أي يفعل بهم مثل ما فعلوا، والْكافِرِينَ إما من وضع المظهر موضع المضمر نعيا عليهم بالكفر أو المراد منه الجنس ويدخل المذكورون فيه دخولا أوليا. والجار في المشهور خبر مقدم وما بعده مبتدأ مؤخر، واختار أبو البقاء أن الكاف بمعنى مثل مبتدأ وجزاء خبره إذ لا وجه للتقديم فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر بالتوبة منه كما روي عن مجاهد وغيره، أو عنه وعن القتال كما قيل: صفحة رقم 471