
(فَمَن كانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّام).
العدة العدد من الأيام، وقال أحمد: إن هذه العدة تبتدئ من وقت قدرته على الصوم بعد رمضان، وأوجب الشافعي أن تكون في السنة التي يكون فيها رمضان، وقال أبو حنيفة: إن القضاء واجب على التراخي وهو يقدر، ويحسن أن يكون عند القدرة، والمرض الذي يبيح الإفطار قسمان: أحدهما - المرض الذي لَا يسع المريض فيه أن يصوم قط، وهذا بالاتفاق يسوغ الإفطار والقضاء، والقسم الثاني - مرض يمكن معه الإفطار والصوم، ولكن الصوم يكون بمشقة زائدة عن المعتاد من المشقات

التي يجيز الشارع احتمالها، وقالوا إنه الصوم الذي يزيد المرض شدة، أو يطيل مدته، أو يخبر طبيب مسلم عادل بأن الصوم يضره لوجود هذا المرض.
والسفر الذي يجيز الإفطار اختلف فيه الفقهاء باختلاف أنظارهم في السفر الذي يوجد مشقة توجد الرخصة، فقيل سفر يوم وليلة: وقال أبو حنيفة ثلاثة أيام، بالسير المعتاد للإبل بحيث يسير نصف النهار، ويستريح النصف الآخر وإن السفر بدابة على هذا المعنى مشقة - ولقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: لولا الأثر لقلت العذاب قطعة من السفر، والأثر الذي يشير إليه حبر الأمة هو قول النبي - ﷺ -: " السفر قطعة من العذاب " (١) ولا شك أن الانتقال في الصحراء ينطبق عليه ذلك الوصف.
وهنا يثار بحث: أيكون الأفضل في المرض والسفر الفطر، أم الصوم؟ وقد أجاب عن ذلك بعض العلماء بأنه إذا لم يجد مشقة شديدة في المرض يكون خيرا أن يصوم، ولا يكون معاندا لرخصة الله تعالى، ولكن يكون محتاطا في معنى المرض الذي يسوغ الرخصة، وإلا فالرخصة أفضل، وكذلك في حال السفر، إذا كان يرى أنه يستطيع الصوم من غير إجهاد، فالأفضل الصوم، ويكون ذلك ليس معاندة للرخصة.
والسفر المجرد في هذه الأيام لَا مشقة فيه؛ ولذا أرى أن الأفضل الصوم، من غير أن نقرر وجوبه حتى لَا نكون معاندين لرخص الله؛ فإن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه.
والسفر أقسام ثلاثة: سفر للجهاد في سبيل الله، وهذا لَا يحسن فيه الصوم، وإلا خالف السنة وعارض الرخصة؛ لأن الله تعالى اختبر المؤمنين في غزوتين كانتا في رمضان وهما غزوة بدر الكبرى، وفتح مكة، كانت الأولى في السابع عشر من
________
(١) متفق عليه؛ أخرجه البخاري: كتاب الحج (١٦٧٧)، ومسلم: كتاب الإمارة (٣٥٥٤) عَنْ أبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النبي - ﷺ - قَالَ: " السفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَاب يَمْنَعُ أحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ فَإذَا قَضَى نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجلْ إِلَى أهْلِهِ ".

رمضان، والثانية في الثالث عشرا، وقد أفطر فيهما النبي - ﷺ - هو ومن معه من المجاهدين.
والقسم الثاني: السفر في مباح كالتجارة، والانتقال من بلد إلى بلد للإقامة ويترك الأمر فيه إلى حال المسافر على النحو الذي ذكرناه، إن وجد المشقة شديدة أفطر وإلا صام وينطبق عليه رأينا في السفر في السكة الحديدية.
القسم الثالث: السفر للمعصية، وكثيرون من الفقهاء لَا يرون أن الرخصة تشمله لأنه عاص بسفره، والرخصة نعمة، والمعصية لَا تبرر النعمة.
وهناك عذر يبرر الإفطار من غير قضاء ولكن تكون فدية هي طعام مسكين يوما، وقد قال الله تعالى فيه: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) والإطاقة كما قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: الطاقة اسم لمقدار ما يمكن الإنسان أن يفعله بمشقة.. ، فقوله تعالى: (وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَة لَنَا بِهِ...)، معناه ما يصعب علينا مزاولته، وليس معناه لَا تحملنا ما لَا قدرة لنا.
والمعنى على ذلك لقوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونهُ) أي يتكلفون مشقة هي أقصى الطاقة لايستطيعون المداومة عليها، وهم الشيوخ الفانون الذين تقدمت سنهم، وقد قال ابن مسعود في تفسير " يطيقونه " أي يصلون إلى أقصى المشقة، ولا أمل لهم، في قضاء وقال ابن عباس: إن قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ) نزلت في الشيخ والشيخة إذا كانا لَا يصومان إلا بمشقة..
وقد أفطر أنس خادم رسول الله - ﷺ - عندما طال عمره، فأفطر سنتين في آخر حياته، وكانت الجفان تقام لإطعام المساكين ثلاثين جفنة لثلاثين مسكينا على عدد أيام الصوم.
ولقد قال تعالى بعد ذلك: (فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لكُمْ إِن كُنتمْ تَعْلَمُونَ).
(فَمَن تَطَوَّعَ) الفاء هنا للإفصاح، أي إذا كان قد كتب عليكم الصوم ويسر الله تعالى عليكم بالرخص التي رخص بها فمن تطوع خيرا، أي فمن قصد الطاعة، وتكلفها قاصدا الخير فهو خير يدخره له يوم القيامة، فالتطوع هنا ليس النافلة كما

قال الفقهاء فإن ذلك اصطلاح فقهي لَا تخضع له عبارات القرآن في دلالاتها، بل تخضع للغة، والآثار النبوية فقط، والتطوع هنا هو المبالغة في الطاعة قاصدا أو طالبا خيرا، فهو خير له وقوله تعالى: (وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لكُمْ) تحريض على القيام بالواجب المفروض الذي كتب عليكم وعلى الذين من قبلكم ولا شك أن أداء الواجب خير عظيم، وقال تعالى: (إِن كُنتمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم تعلمون ما هو خير لكم، وما الواجب عليكم، وقد ذكر سبحانه التعليق بـ " إن " حثًّا على طلب علم الغاية من فرضية الصيام وهو تربية نفوسكم على الصبر، ولقد ورد أن الصوم نصف الصبر، والصبر صفة المؤمنين، كما أشرنا من قبل.
ويلحق بذوي الأعذار الحامل والمرضع، وقد اختلف في شأنهما أهُمَا ملحقان بالمرضي مرضا قريب البرء فيكون لهما الإفطار وعليهما عدة من أيام أخر، إذ هما كحال المريض الذي يصعب الصوم عليه، ويضره الصوم، أو يضر ما في أرحام الحوامل، ومن يتغذي منهما، ونظر آخرون إلى أن المرأة الولود، وهي التي ينبغي التزوج منها، إما أن تكون حاملا، وإما أن تكون حائلًا، وفي هذه الحال تكون مرضعًا فتتردد بين الإرضاع والحمل، ولا فرصة لأن تكون لها عدة من أيام أخر؛ ولذلك تدخل فيمن لَا يطيقون، ويكون عليهن فدية، وروي عن ابن عباس: لا فدية، وتكون كالمريض بمرض مزمن إذا كان لَا يجد ما يفدي به، يريد الله بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر.
وبعد أن بين سبحانه وتعالى فرضية الصوم أياما معدودات ذكر الله تعالى تلك الأيام وعينها بشهر رمضان، فقال تعالى: