قوله صلّى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أعطى كُلَّ ذِي حَقٍّ حقّه فلا وصيّة لوارث» «١».
وبِالْمَعْرُوفِ: معناه بالقصد الَّذي تعرفه النفوسُ دون إِضرار بالورثة، ولا تنزير «٢» للوصية وحَقًّا: مصدر مؤكِّد، وخُصَّ «المتقون» بالذكر تشريفاً للرتبة ليتبادر النَّاس إِليها.
وقوله تعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ... الآية: الضمير في «بَدَّلَهُ» عائدٌ على الإيصاء، وأمر الميت، وكذلك في «سَمِعَهُ»، ويحتمل أن يعود الذي في «سَمِعَهُ» على أمر اللَّه تعالى في هذه الآية، والأول أسبق للناظر، وسَمِيعٌ عَلِيمٌ: صفتان لا يخفى معهما شيْءٌ من جَنَفِ الموصِينَ، وتبديلِ المتعدينَ، والجَنَفُ: الميل.
ومعنى الآية على ما قال مجاهد: من خشي أن يحيف الموصِي، ويقطع ميراث طائفة، ويتعمَّد الإِذاءة، فذلك هو الجَنَفُ في إِثم، وإِن لم يتعمَّد، فهو الجنف دون إِثم «٣»، فالمعنى: مَنْ وعظه في ذلك وردَّه عنه، وأصلح ما بينه وبين ورثَتِهِ، وما بين الورثة في ذاتهم، فلا إِثم عليه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ بالموصِي، إِذا عملت فيه الموعظة، ورجع عما أراد من الإذاءة.
وقال ابن عبّاس وغيره: معنى الآية: فَمَنْ خافَ، أي: علِم، ورأى بعد موت الموصِي أن الموصِيَ حَافَ، وجَنَف، وتعمَّد إذاءة بعض ورثته، فَأَصْلَحَ ما بين الورثة، فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ، وإِن كان في فعله تبديلٌ مَّا لأنه تبديلٌ لمصلحة، والتبديلُ الذي فيه الإِثم إنما هو تبديل الهوى «٤».
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٨٣ الى ١٨٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤)
(٢) التنزير: تفعيل من النّزر، وهو: القليل التافه من كل شيء. والمقصود ألا يقلل من الوصية ولو شيئا يسيرا.
(٣) أخرجه الطبري (٢/ ١٢٩) برقم (٢٦٩٧- ٢٦٩٨) بإسنادين مختلفين، عن مجاهد. وذكره ابن عطية (١/ ٢٤٩)، والبغوي في تفسيره (١/ ١٤٨)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٣٢١)، وعزاه لابن جرير، وعبد بن حميد.
(٤) أخرجه الطبري (٢/ ١٢٩) برقم (٢٦٩٩)، وذكره ابن عطية (١/ ٢٤٩)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٣٢٠)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
قوله جلّت قدرته: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ... الآية: كُتِبَ:
معناه فُرِضَ، والصيام في اللغة: الإِمساك، ومنه قوله سبحانه: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً [مريم: ٢٦] وفي الشرع: إِمساكٌ عن الطعام والشراب مقترنةٌ به قرائنُ مِنْ مُراعاة أوقاتٍ، وغير ذلك.
وقوله تعالى: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ: اختلف في موضع التشبيه: قالتْ فرقة: التشبيهُ: كُتِبَ عليكم كصيامٍ قد تقدَّم في شرع غيركم، ف «الّذين» عامّ في النصارى «١» وغيرهم.
ولَعَلَّكُمْ: ترجّ في حقهم.
وتَتَّقُونَ: قيل على العموم لأن الصيام كما قال صلّى الله عليه وسلم: «جنّة «٢» ووجاء، وسبب
ينظر: «الفخر الرازي» (٥/ ٦٠). [.....]
(٢) أخرجه البخاري (٤/ ١٢٥)، كتاب «الصوم»، باب فضل الصوم حديث (١٨٩٤)، ومسلم (٢/ ٨٠٦) كتاب «الصيام»، باب فضل الصيام حديث (١٦٢/ ١١٥١). ومالك (١/ ٣١٠) كتاب «الصيام»، باب.
تقوى لأنه يميت الشهوات».
وأَيَّاماً مَعْدُوداتٍ: قيل: رمضان، وقيل: الثلاثةُ الأيام من كل شهرٍ، ويومُ عاشوراءَ الَّتي نُسخَتْ بشهر رمضان.
ص: وأَيَّاماً: منصوبٌ بفعل مقدَّر يدلُّ عليه ما قبله، أي: صوموا أياماً، وقيل: أَيَّاماً: نصب على الظرف «١» انتهى.
وأحمد (٢/ ٤٦٥)، والبيهقي (٤/ ٢٦٩) كتاب «الصيام»، باب الصائم ينزه صيامه عن اللفظة والمشاتمة، والبغوي في «شرح السنة» (٣/ ٤٥٣- بتحقيقنا)، كلهم من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «الصيام جنة، فلا يرفث، ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه- فليقل: إني صائم مرتين-، والذي نفسي بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه، وشرابه، وشهوته من أجلي، الصيام لي، وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها» لفظ البخاري.
وأخرجه البخاري (٤/ ١٤١) كتاب «الصيام»، باب هل يقول الصائم: إني صائم إذا شتم، حديث (١٩٠٤). ومسلم (٢/ ٨٠٦)، كتاب «الصيام»، باب فضل الصيام، حديث (١٦٣/ ١١٥١). والنسائي (٤/ ١٢٦٣)، كتاب «الصوم»، باب فضل الصوم، وأحمد (٢/ ٢٧٣)، والبيهقي (٤/ ٢٧٠). كلهم من طريق ابن جريج، حدثني عطاء عن أبي صالح، عن أبي هريرة به.
وأخرجه البخاري (١/ ٣٨١)، كتاب «اللباس»، باب ما يذكر في المسك، حديث (٥٩٢٧). ومسلم (٢/ ٨٠٦) كتاب «الصيام»، باب فضل الصيام، حديث (١٦١/ ١١٥١). والترمذي (٣/ ١٦٣)، كتاب «الصوم»، باب ما جاء في فضل الصوم، حديث (٧٦٤). والنسائي (٤/ ١٦٤)، كتاب «الصوم»، باب فضل الصوم. وأحمد (٢/ ٢٨١)، وعبد الرزاق (٤/ ٣٠٦) رقم (٧٨٩١). والبغوي في «شرح السنة» (٣/ ٤٥١- بتحقيقنا). كلهم من طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة به.
وقال الترمذي: حديث أبي هريرة حسن غريب من هذا الوجه.
وأخرجه البخاري (١٣/ ٤٧٢) كتاب «التوحيد»، باب قول الله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ حديث (٧٤٩٢)، ومسلم (٢/ ٨٠٦) كتاب «الصيام»، باب فضل الصيام، حديث (١٦٤/ ١١٥١)، وأحمد (٢/ ٣٩٣، ٤٤٣، ٤٧٧، ٤٨٠).
وابن ماجة (١/ ٥٢٥)، كتاب «الصيام»، باب ما جاء في فضل الصيام حديث (١٦٣٨)، (٢/ ١٢٥٦)، كتاب «الأدب»، باب فضل العمل حديث (٣٨٢٣)، والبغوي في «شرح السنة» (٣/ ٤٥- بتحقيقنا)، من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة.
وأخرجه البخاري (١٣/ ٥٢١) كتاب «التوحيد»، باب ذكر النبي صلّى الله عليه وسلم، وروايته عن ربه حديث (٧٥٣٨)، وأحمد (٢/ ٤٥٧، ٤٦٧، ٥٠٤). والطيالسي (١/ ١٨١- منحة) رقم (٨٦٣)، من طريق محمد بن زياد، عن أبي هريرة.
وأخرجه أحمد (٢/ ٥٠٣)، والدارمي (٢/ ٢٥) كتاب «الصيام»، باب فضل الصيام، وأبو يعلى (١٠/ ٣٥٣) رقم (٥٩٤٧)، من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
(١) وقيل: منصوب بالصيام، ولم يذكر الزمخشري غيره. ونظّره بقولك: «نويت الخروج يوم الجمعة»، -
وقوله سبحانه: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ: التقدير: فأفْطَرَ، فَعِدَّةٌ، وهذا يسمونه فَحْوَى «١» الخطابِ، واختلف العلماءُ في حَدِّ المرض الذي يقع به الفطْر، فقال جمهور العلماء: إِذا كان به مرضٌ يؤذيه، ويؤلمه أو يخاف تَمادِيَهُ، أو يخافُ من الصوم تزيُّده، صحَّ له الفطْرُ، وهذا مذْهَبُ حُذَّاقِ أصحاب مالك، وبه يناظرون، وأما لفظ ٤٤ ب مالكٍ: فهو المرضُ الَّذي يَشُقُّ على المرء، ويبلغ به، واختلف في الأفضل/ من الفِطْرِ أو الصَّوْمِ، ومذهبُ مالكٍ استحباب الصومِ لمن قَدَرَ علَيْه، وتقصيرُ الصَّلاة حَسَنٌ لأن الذمَّة تبرأ في رخصة الصلاة، وهي مشغولةٌ في أمر الصيام، والصوابُ: المبادرةُ بالأعمال.
والسَّفَرُ: سفَرُ الطاعةِ كالحجِّ، والجهادِ بإجماع، ويتصلُ بهذَيْن سفَرُ صلَةِ الرَّحِمِ، وطلبِ المعاشِ الضروريِّ.
وأما سفر التجارة، والمباحاتِ، فمختلَفٌ فيه بالمنع، والجواز، والقولُ بالجواز أرجح.
وقيل: منصوب بالصيام على أن تقدّر الكاف نعتا لمصدر من الصيام، كما قد قال به بعضهم، وإن كان ضعيفا، فيكون التقدير: «الصيام صوما كما كتب» فجاز أن يعمل في «أياما» «الصيام» لأنه إذ ذاك عامل في «صوما» الذي هو موصوف ب «كما كتب» فلا يقع الفصل بينهما بأجنبي بل بمعمول المصدر.
وقيل: ينتصب بكتب: إمّا على الظرف وإمّا على المفعول به توسّعا، وإليه نحا الفراء وتبعه أبو البقاء.
قال أبو حيان: «وكلا القولين خطأ: أمّا النصب على الظرف فإنه محلّ للفعل، والكتابة ليست واقعة في الأيام، لكن متعلّقها هو الواقع في الأيام. وأمّا النصب على المفعول اتّساعا فإنّ ذلك مبنيّ على كونه ظرفا لكتب، وقد تقدّم أنه خطأ. ينظر: «الدر المصون» (١/ ٤٦٠).
(١) وهو: مفهوم الموافقة وهو ما كان مدلول اللفظ في محل المسكوت موافقا لمعناه في محل المنطوق، ويسمى «دلالة النص»، و «فحوى الخطاب»، و «لحن الخطاب».
وقد اتفق الشّافعية، والحنفية على حجية الفحوى، واشترط الشافعية أولوية المسكوت.
وينظر تفصيل ذلك في: «البحر المحيط» للزركشي (٤/ ٧)، «البرهان» لإمام الحرمين (١/ ٤٤٩)، «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (٣/ ٦٢)، «نهاية السول» للأسنوي (٢/ ٢٠٢)، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري (٣٧)، «المنخول» للغزالي (٢٠٨)، «حاشية البناني» (١/ ٢٤٠)، «الإبهاج» لابن السبكي (١/ ٣٦٧)، «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (٢٠/ ١٥)، «حاشية العطار على جمع الجوامع» (١/ ٣١٩)، «التحرير» لابن الهمام (٢٩)، «حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى» (٢/ ١٧٢)، «التقرير والتحبير» لابن أمير الحاج (١/ ١١٢).
وأما سفر العصْيَان، فمختلف فيه بالجوازِ، والمنعِ، والقولُ بالمنع أرجحُ.
ومسافةُ سفر الفطر عند مالك، حيث تقصر الصلاة ثمانيةٌ وأربعون «١» ميلاً.
الأول: أن يكون سفره سفر قصر، أي: أن يكون سفرا طويلا، والسفر الطويل: ما كان مرحلتين فأكثر، وهما: سير يومين من غير ليلة على الاعتبار، أو ليلتين بلا يوم كذلك، أو يوم وليلة مع النزول المعتاد، لنحو استراحة، أو أكل أو صلاة، وأن تكون المرحلتان بسير الأثقال. أي: الحيوانات المثقلة بالأحمال، والبحر كالبر في اشتراط المسافة المذكورة، فلو قطع الأميال فيه في ساعة مثلا لشدة جري السفينة بالهواء، فإنه يبيح له الفطر أيضا لوجود المسافة الصالحة، ولا يضرّ قطعها في زمن يسير. فإن قيل: إذا قطع المسافة في لحظة صار مقيما، فكيف يتصور ترخيصه فيها؟
أجيب بأنّه لا يلزم من وصول المقصد انتهاء الرّخصة.
الشرط الثاني: أن يكون سفره في غير معصية بألّا يكون عاصيا بالسفر، وهو الذي أنشأ سفره معصية، ولا عاصيا بالسفر في السفر، وهو الذي أنشأ سفره طاعة ثم قلبه معصية. أمّا العاصي في السفر، وهو من أنشأ سفره طاعة، واستمر كذلك إلّا أنه وقعت منه معصية في أثناء سفره فيجوز له الفطر، ولم يجوّز الشارع الفطر لمن كان سفره في معصية لأن ذلك يكون إعانة له على المعصية ولأن جواز الفطر رخصة والرخصة لا تناط بالمعاصي.
وبناء على هذين الشرطين يمكن أن يقال: إنّ المسافر الذي كان سفره في غير معصية، وكان سفره سفر قصر يباح له الفطر بالإجماع لقوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ أي: فله الفطر وعليه عدة من أيام أخر، ولما روت السيدة عائشة- رضي الله عنها- أن حمزة بن عمر الأسلمي قال: يا رسول الله أأصوم في السّفر؟ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر». ثمّ إن كان المسافر ممن لا يجهده الصوم. أي: لا يتضرر به، فالأفضل له الصوم لما روي عن أنس- رضي الله عنه- أنه قال للصّائم في السّفر: «إن أفطرت فرخصة، وإن صمت فأفضل». وأنّه لو أفطر عرض الصوم للنسيان، وحوادث الأيّام ولأن شهر الصوم له أفضلية ومزيّة على سائر الأيّام. وإن كان المسافر ممن يجهده الصوم، أي: يتضرر به فالأفضل له الفطر لما روى جابر- رضي الله عنه- أنّه قال: مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سفر برجل تحت شجرة يرشّ عليه الماء، فقال (عليه السّلام) :«ما بال هذا» ؟ قالوا: صائم يا رسول الله. قال (عليه السّلام) :«ليس من البرّ الصّيام في السّفر».
فإن صام المسافر ثمّ أراد أن يفطر فله أن يفطر لأن العذر قائم، كما لو صام المريض وأراد أن يفطر.
الشرط الثالث: أن يكو السّفر سابقا على الصوم بأن يكون الشروع فيه سابقا على الشروع في الصوم، كأن يقع السفر بعد الغروب، وقبل الفجر.
أمّا إذا كان الشروع في السّفر بعد الشروع في الصوم، فيحرم عليه الفطر، ويجب الصوم.
وقال المزني: له أن يفطر، كما لو أصبح الصحيح صائما، ثمّ مرض. والمذهب الأوّل، وهو وجوب الصّوم وعدم جواز الفطر. دليل ذلك: أنّه عبادة أجتمع فيها سفر وحضر، وكل عبادة يجتمع فيها سفر وحضر يغلب جانب الحضر لأنّه الأصل.
وعلى الأول: لو جامع فيه لزمه الكفارة لأنّه يوم من رمضان هو صائم فيه صوما لا يجوز فيه الفطر.
الشرط الرابع: أن يرجو المسافر إقامة يقضي فيها ما أفطره من أيام سفره، فإن لم يرج إقامة يقضي فيها ما-
وقوله تعالى: فَعِدَّةٌ، أي: فالحكم أو الواجب عدّة، وفي وجوب تتابعها قولان، وأُخَرَ لا ينصرف للعَدْلِ.
وقوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ... الآية: قرأ باقي السبعة «١» غيْرَ نافعٍ وابنِ عامر: «فِدْيَةٌ» بالتنوين «طَعَامُ مِسْكِينٍ» بالإِفراد، وهي قراءة حَسَنةٌ لأنها بيَّنت الحكم في اليوم.
واختلفوا في المراد بالآية، فقال ابن عُمَر وجماعةٌ: كان فرضُ الصيامِ هكذا على
ومتى أفطر المسافر وجب عليه القضاء دون الفدية، ثم إنّه إذا قدم المسافر، أو برىء المريض، وهما مفطران استحب لهما إمساك بقية النهار لحرمة الوقت، ولا يجب عليهما ذلك لأنهما أفطرا بعذر.
ويندب لهما إذا أكلا ألّا يأكلا إلّا عند من يعرف عذرهما لخوف التهمة.
وإذا قدم المسافر، وهو صائم، أو برىء المريض وهو صائم، ففي جواز إفطاره وجهان.
أحدهما: أنه يجوز لهما الفطر، وبه قال ابن أبي هريرة لأنه أبيح لهما الفطر من أوّل النهار، فجاز لهما الإفطار في بقيّة النّهار، كما لو دام السّفر والمرض.
وثانيهما: لا يجوز لهما الإفطار، وهو قول القاضي أبي الطيّب وجمهور الأصحاب لأنه زال سبب الرّخصة قبل الترخص. واعلم أنّه لا يباح الفطر في شهر رمضان بسبب من الأسباب المتقدمة، ألّا إذا نوى المفطر الترخص بفطره، بأن يقصد أن الشارع رخّص له الفطر، وذلك ليحصل الفرق، والتمييز بين الفطر الجائز والفطر الممتنع.
فلو أفطر بدون النّيّة المذكورة حرم عليه الفطر، وأثم به.
(١) وأما قراءة نافع وابن عامر، فهي «فدية طعام مساكين»، وحجتهما في الإضافة أولا: أن الفدية غير الطعام، وأن الطعام إنما هو المفدى به الصوم، لا الفدية، فإذا كان كذلك فالصواب في القراءة إضافة الفدية إلى الطعام.
وحجة الجمع أيضا: قوله قبلها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، ثم قال: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ قالوا: إنما عرف عباده حكم من أفطر الأيام التي كتب عليهم صومها بقوله: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فإذا كان ذلك كذلك فالواجب أن تكون القراءة في «المساكين» على الجمع لا على التوحيد، ويكون تأويل الآية: وعلى الذين يطيقونه فدية أيام يفطر فيها إطعام مساكين، ثم تحذف «أياما» وتقيم «الطعام» مكانها.
ينظر: «حجة القراءات» (١٢٤، ١٢٥)، «السبعة» (١٧٦)، و «والكشف» (١/ ٢٨٢)، و «الحجة للقراء السبعة» (٢/ ٢٧٣)، و «شرح الطيبة» (٤/ ٩١)، و «معاني القراءات» (١/ ١٩٢)، و «شرح شعلة» (٢٨٤، ٢٨٥)، و «العنوان» (٧٣)، و «إتحاف فضلاء البشر» (١/ ٤٣٠).
الناس مَنْ أراد أن يصوم، صام، ومن أراد أن يفطر أطعم مسكيناً، وأفطر، ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ «١» [البقرة: ١٨٥]. وقالت فرقة: الآية في الشيوخ الذي يطيقونه بتكلُّف شديدٍ «٢»، والآيةُ عند مالك: إِنما هي فيمَنْ يدركه رمضانٌ ثانٍ، وعليه صومٌ من المتقدِّم، فقد كان يطيق في تلك المدة الصوْمَ، فتركه، والفديةُ عند مالك وجماعةٍ من العلماء: مُدٌّ لكلِّ مسكين.
وقوله تعالى: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ... الآية: قال ابنُ عَبَّاس وغيره:
المراد مَنْ أطعم مسكينَيْنِ فصاعدًا «٣»، وقال ابن شِهَابٍ «٤» : من زاد الإطعام مع
عبد الوهاب: هو ابن عبد المجيد الثقفي.
عبد الله: هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عرف بلقب «العمري» وهو ثقة مترجم في «التهذيب»، وابن أبي حاتم (٢/ ٢/ ١٠٩- ١١٠)، ومن المحتمل أن يكون في المطبوعة خطأ، وأن يكون صوابه «عبيد الله» بالتصغير، وهو أخو عبد الله أكبر منه، وأوثق عند أئمة الجرح والتعديل، وهو أحد الفقهاء السبعة. مترجم في «التهذيب»، وابن أبي حاتم (٢/ ٢/ ٣٢٦- ٣٢٧)، وهو وأخوه يشتركان في كثير من الشيوخ، منهم: «نافع مولى ابن عمر»، وإنما ظننت هذا الاحتمال لأن الحديث مروي من حديث «عبيد الله».
فرواه البيهقي في «السنن الكبرى» (٤/ ٢٠٠)، من طريق عبد الوهاب الثقفي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر. ورواه البخاري مختصرا (٤/ ١٦٤، ٨/ ١٣٦) من طريق عبد الأعلى، وهو ابن عبد الأعلى، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر.
ورواه البيهقي أيضا من أحد طريقي البخاري.
والحديث صحيح بكل حال. اهـ.
وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ٣٢٥)، وعزاه لوكيع، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة في «المصنف»، والبخاري، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في «سننه». وذكره ابن عطية (١/ ٢٥٢)، عن ابن عمر، والشعبي، وسلمة بن الأكوع، وابن شهاب، ومعاذ بن جبل، وعلقمة، والنخعي، والحسن البصري.
(٢) وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٢٥٢).
(٣) أخرجه الطبري (٢/ ١٤٨) برقم (٢٨٠٢) عن ابن عباس بلفظ: «فزاد طعام مسكين آخر»، وذكره ابن عطية (١/ ٢٥٣)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٣٢٧)، عن طاوس بلفظ: «إطعام مساكين»، وعزاه لعبد بن حميد. اهـ.
(٤) محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة القرشي، -
الصوم «١»، وقال مجاهدٌ: مَنْ زاد في الإِطعام على المدّ «٢»، وخَيْراً الأول قد نُزِّل منزلة مالٍ، أو نفعٍ، وخَيْرٌ الثاني والثالثُ صفةُ تفضيلٍ.
وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يقتضي الحضَّ على الصوْمِ، أي: فاعلموا ذلك وصوموا.
ت: وجاء في فضل الصومِ أحاديثُ صحيحةٌ مشهورةٌ، وحدث أبو بكر بْنُ الخَطِيبُ بسنده عن سهل بن سعد الساعديّ «٣» عن النبي صلّى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ صَامَ يَوْماً تَطوُّعاً، لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، لَمْ يَرْضَ اللَّهُ لَهُ بِثَوَابٍ دُونَ الجَنَّةِ» «٤»، قال: وبهذا الإِسناد عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم بمثله. انتهى «٥».
ينظر: «تهذيب الكمال» (٣/ ١٢٦٩)، و «تهذيب التهذيب» (٩/ ٤٤٥)، و «تقريب التهذيب» (٢/ ٢٠٧)، و «خلاصة تهذيب الكمال» (٢/ ٤٥٧)، و «الكاشف» (٣/ ٩٦)، و «تاريخ البخاري الكبير» (١/ ٢٢٠)، و «تاريخ البخاري الصغير» (١/ ٥٦، ٣٢٠)، و «الجرح والتعديل» (٨/ ٣١٨).
(١) أخرجه الطبري (٢/ ١٤٩) برقم (٢٨١٣)، وذكره ابن عطية (١/ ٢٥٣). [.....]
(٢) أخرجه الطبري (٢/ ١٤٩) برقم (٢٨١٤)، وذكره ابن عطية (١/ ٢٥٣)، والبغوي في «التفسير» (١/ ١٥٠).
(٣) هو: سهل بن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة بن كعب.
أبو العباس. وقيل: أبو يحيى، الأنصاري، الساعدي.
قال ابن الأثير في «الأسد» : شهد قضاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المتلاعنين، وأنه فرق بينهما، وكان اسمه حزنا، فسماه رسول الله صلّى الله عليه وسلم سهلا. قال الزهري: رأى سهل بن سعد النبي صلّى الله عليه وسلم وسمع منه، وذكر أنه كان له يوم توفي النبي صلّى الله عليه وسلم خمس عشرة سنة. توفي سنة (٨٨) وله (٩٦) سنة.
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٢/ ٤٧٢)، «الإصابة» (٣/ ١٤٠)، «الكاشف» (١/ ٤٠٧)، «تجريد أسماء الصحابة» (١/ ٢٤٤)، «الثقات» (٣/ ١٦٨)، «الاستيعاب» (٢/ ٦٦٤)، «تهذيب الكمال» (١/ ٥٥٥)، «تهذيب التهذيب» (٤/ ٢٥٢)، «تقريب التهذيب» (١/ ٣٣٦)، «الجرح والتعديل» (٤/ ٨٥٣)، «شذرات الذهب» (١/ ٦٣)، «الرياض المستطابة» (١١٠)، «الأعلام» (١/ ١٤٣).
(٤) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (١/ ٢٧٨)، عن سهل بن سعد الساعدي.
(٥) ينظر المصدر السابق.
قال ابن عبد البَرِّ في كتابهِ المسمَّى ب «بهجةِ المَجالِسِ» قال أبو العالية: الصائمُ في عبادةٍ ما لم يغتَبْ.
قال الشيخُ الصالحُ أبو عبد اللَّه محمَّد البلاليُّ الشافعيُّ في «اختصاره للإحياء» : وذكر السُّبْكِيُّ «١» في شرحه أن الغِيبَةَ تمنع ثوابَ الصوْمِ إِجماعاً، قال البلاليُّ: وفيه نظر لمشقَّة الاحتراز، نعم، إِن أكثر، توجَّهت المقالة. انتهى، وهذا الشيخ البلاليُّ لقيتُهُ، ورويتُ عنه كتابه هَذَا.
وصحَّ عنه صلّى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فُتِحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ» «٢» قال أبو عمر في «التمهيد» «٣» : وذلك لأن الصوْمَ جُنَّةٌ يستجنُّ بها العَبْدُ من النار، وتُفْتَحُ لهم أبواب الجنة لأن أعمالهم تزكو فيه، تقبل منهم، ثم أسند أبو عمر عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أُعْطِيَتْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ فِي رَمَضَانَ، لَمْ تُعْطَهُنَّ أُمَّةٌ قَبْلَهَا: خُلُوفُ فَمِ الصَّائِم أَطْيَبُ/ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَتَسْتَغْفِرُ لَهُمُ الملائكة حتّى ٤٥ أيفطروا، وَيُزَيِّنُ اللَّهُ لَهُمْ كُلَّ يَوْمٍ جَنَّتَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: يُوشِكُ عِبَادِي الصَّائِمُونَ أَنْ يُلْقُوا عَنْهُمْ المَئُونَةَ، والأذى، ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَيْكِ، وَتُصَفَّدُ «٤» فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، فَلاَ يَخْلُصُونَ إلى مَا كَانُوا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِهِ، ويَغْفِرُ لَهُمْ آخِرَ لَيْلَةٍ، قيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَهِيَ لَيْلَةُ القدر؟
ينظر: «ابن قاضي شهبة» (٣/ ٦٠٣)، و «الدرر الكامنة» (٣/ ٥٨) و «شذرات الذهب» (٦/ ١٨٧).
(٢) أخرجه البخاري (٤/ ١٣٥) كتاب «الصوم»، باب هل يقال: رمضان، أو شهر رمضان، حديث (١٨٩٨، ١٨٩٩)، ومسلم (٢/ ٧٥٨)، كتاب «الصيام»، باب فضل شهر رمضان، حديث (١، ٢/ ١٠٧٩)، والنسائي (٤/ ١٢٦- ١٢٧)، كتاب «الصيام»، باب فضل شهر رمضان، وأحمد (٢/ ٣٥٧، ٤٠١)، والدارمي (٢/ ٢٦)، كتاب «الصوم»، باب في فضل شهر رمضان، وابن حبان (٣٤٣٤)، والبيهقي (٤/ ٢٠٢) كتاب «الصيام»، باب ما روي في كراهية قول القائل: جاء رمضان، وذهب رمضان. والبغوي في «شرح السنة» (٣/ ٤٤٦- بتحقيقنا)، من حديث أبي هريرة مرفوعا.
(٣) ينظر: «التمهيد» (١٦/ ١٥٣).
(٤) صفده يصفده صفدا وصفودا وصفّده: أوثقه، وشدّه وقيّده في الحديد وغيره، وكذلك التصفيد.
ينظر: «لسان العرب» (٢٤٥٧).