
وذلك لا يمنع القصاص، وليس بينهم وبين العامة فرق في أحكام الله عز وجل، لقوله جل ذكره: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى.
وثبت عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرجل شكا إليه أن عاملا قطع يده: «لئن كنت صادقا لأقيدنك منه».
وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري قال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقسم شيئا إذ أكبّ عليه رجل، فطعنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعرجون كان معه، فصاح الرجل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تعال فاستقد» قال: بل عفوت يا رسول الله.
وروى أبو داود الطيالسي عن أبي فراس قال: خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: «ألا من ظلمه أميره، فليرفع ذلك إليّ أقيده منه». فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، لئن أدب رجل منا رجلا من أهل رعيته لتقصنه منه؟ قال: كيف لا أقصّه منه، وقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقصّ من نفسه!. ولفظ أبي داود السجستاني عنه قال: «خطبنا عمر بن الخطاب، فقال: إني لم أبعث عمّالي ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فعل ذلك به، فليرفعه إلي أقصه منه».
الوصية الواجبة
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٨٠ الى ١٨٢]
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢)

الإعراب:
حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي أسباب الموت، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه.
الْوَصِيَّةُ: نائب فاعل لفعل: كتب، وتقديره: كتب عليكم الوصية.
حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ منصوب على المصدر، وتقديره: حق حقا.
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ الهاءات في: بدله وسمعه ويبدلونه، فيها وجهان: أحدهما- إنما أتى بضمير المذكر، دون ضمير المؤنث، وإن كان الذي تقدم ذكر الوصية، لأنه أراد بالوصية الإيصاء. والثاني- أن هذه الهاءات تعود على الكتب، لأن كُتِبَ تدل عليه، والكتب مذكر.
البلاغة:
عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ أقيم الظاهر مقام المضمر.
المفردات اللغوية:
كُتِبَ: فرض الْمَوْتُ أي أسبابه وعلاماته وأماراته كالمرض المخوف خَيْراً أي مالا، قال مجاهد: الخير في القرآن كله: المال. الْوَصِيَّةُ: تصرف في التركة مضاف إلى ما بعد الموت، أي فليوص من أوشك على الموت ببعض ماله لأقاربه، وتطلق على الإيصاء والتوصية، وعلى الموصى به من عين أو عمل.
بِالْمَعْرُوفِ أي بالعدل بأن لا يزيد على الثلث، ولا يفضل الغني، وهو ما لا يستنكره الناس، بحسب حال الشخص الموصي، بأن لا يكون قليلا بالنسبة لماله الكثير، وألا يكون كثيرا يضر بالورثة، ويتحدد بعدم الزيادة على ثلث التركة.
حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله. والإيصاء الواجب للأقارب منسوخ بآية الميراث، وبحديث رواه الترمذي وغيره: «لا وصية لوارث».
فَمَنْ بَدَّلَهُ وغيره أي الإيصاء، من شاهد ووصي بَعْدَ ما سَمِعَهُ علمه فَإِنَّما إِثْمُهُ أي الإيصاء المبدل إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لقول الموصي عَلِيمٌ بفعل الوصي، فيجازيه عليه.
فَمَنْ خافَ أي علم. جَنَفاً ميلا عن الحق والعدل خطأ أَوْ إِثْماً بأن تعمد الإجحاف والظلم، بالزيادة على الثلث أو تخصيص غني مثلا.
فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ بين الوصي والموصى له، بالأمر بالعدل. فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في ذلك.

التفسير والبيان:
هذه الآيات تذكير عام لجميع الناس بالوصية التي هي عمل من أعمال البر والخير بعد الموت، في حال ظهور أماراته وعلاماته، بعد أن ذكر الله القصاص في القتل، وهو موت، وجاء الخطاب للمجموع، لأن الأمة متكافلة، يخاطب المجموع منها بما يطلب من الأفراد، فمناسبة الآية لما قبلها ظاهرة، وذلك أنه لما ذكر تعالى القتل في القصاص، والدية، أتبع ذلك بالتنبيه على الوصية وبيان أنه مما كتبه الله تعالى على عباده، حتى يتنبه كل أحد، فيوصي قبل مفاجأة الموت، فيموت على غير وصية.
وفرض عليكم أيها المؤمنون، إذا ظهرت علامات الموت بمرض مخوف ونحوه، وترك الواحد منكم مالا كثيرا لورثته، أن يوصي للوالدين والأقربين بشيء من هذا المال، وصية عادلة، لا تعد شيئا قليلا ولا كثيرا، في حدود ثلث التركة، وعدم تفضيل غني لغناه، ودون تمييز ولا جور في الوصية إلا لضرورة، كعجز عن الكسب أو اشتغال بالعلم، أو صغر، إذ عدم العدل يسبب البغضاء والحقد والنزاع بين الورثة، حتى ولو كان الوالدان كافرين، فللولد أن يوصي لهما بما يؤلف قلوبهما، لأن الإحسان لهما مطلوب بنحو عام، كما قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً، وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما [العنكبوت ٢٩/ ٨]. وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، فَلا تُطِعْهُما، وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً [لقمان ٣١/ ١٥] والمراد من قوله:
بِالْمَعْرُوفِ أي بالعدل الذي لا وكس فيه ولا شطط، وهو محدد شرعا بمقدار ثلث التركة فأقل.
أوجب الله تلك الوصية حقا مقررا على من اتقى الله وآمن بكتابه. فمن غيّر الإيصاء من شاهد ووصي بعد سماعه، فإنما ذنب هذا التغيير عليه، وبرئت منه ذمة الموصي، وثبت له الأجر عند ربه.

والتغيير إما بإنكار الوصية أو بالنقص فيها بعد أن علمها.
والله سميع لقول المبدلين والموصين، عليم بنياتهم وبكل فعل، وهذا وعيد شديد لهم، فاحذروا العقاب.
ثم استثنى من إثم التبديل حالة الإصلاح والنصح، وهي إذا خرج الموصي في وصيته عن منهج الشرع والعدل خطأ أو عمدا، فلمن علم بذلك أن يصلح بين الموصي والموصى له، أو بين الورثة والموصى لهم، بأن يرد الوصية إلى العدل والمقدار المحدد لها شرعا، ولا إثم على هذا التبديل، لأنه بحق، ولا ذنب عليه في ذلك، والله غفور لمن بدل للإصلاح، رحيم به.
المراد بكلمة خَيْراً: اختلف العلماء في المال الذي تفرض فيه الوصية، فقيل: إنه المال الكثير، كما فسرته السيدة عائشة رضي الله عنها. وقيل: أي مال قليلا كان أو كثيرا. ثم اختلفوا في ضابط التمييز بين الكثير والقليل: فقال ابن عباس: إذا ترك سبعمائة درهم فلا يوصي، فإن بلغ ثمانمائة درهم أوصى. وقال قتادة. ألف درهم. وعن عائشة أن رجلا قال لها: إني أريد أن أوصي، قالت:
كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف درهم، قالت: كم عيالك؟ قال: أربعة، قالت:
قال الله: إِنْ تَرَكَ خَيْراً وإن هذا الشيء يسير فاتركه لعيالك، فهو أفضل.
والظاهر- كما قال ابن عباس وجماعة من التابعين-: أن المراد المال مطلقا، قليلا كان أو كثيرا، لأن اسم الخير يقع على قليل المال وكثيره. والقضية راجعة إلى العرف، وتقدير الموصي وعدد أفراد الورثة، وظروف المعيشة وأوضاع الغلاء والرخص.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآية في رأي جمهور العلماء وأكثر المفسرين منسوخة بآية المواريث،

وبقوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما يرويه أصحاب السنن وغيرهم عن عمرو بن خارجة-: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث»
فصار وجوب الوصية للوالدين والأقربين الوارثين منسوخا، قال ابن كثير: بالإجماع، بل منهي عنه للحديث المتقدم عن عمرو بن خارجة.
أما الأقارب غير الوارثين: فيستحب أن يوصى لهم من الثلث، استئناسا بهذه الآية،
ولقوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه الصحيحان- عن ابن عمر: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده»
قال ابن عمر:
«ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول ذلك، إلا وعندي وصيتي». والآيات والأحاديث بالأمر ببر الأقارب والإحسان إليهم كثيرة جدا.
وهناك أقوال في نسخ هذه الآية وهي:
١- ذهب ابن عباس والحسن البصري وطاوس ومسروق وآخرون: إلى أن الوصية للوالدين والأقربين الوارثين نسخت، وبقيت واجبة للقرابة غير الوارثين، لأن الوصية كانت واجبة بالآية لمن يرث ومن لا يرث من الأقربين، فنسخت منها الوصية للوارثين، وبقيت للأقربين غير الوارثين على الوجوب.
واختار ابن جرير الطبري في تفسيره هذا المذهب. ولكن على قول هؤلاء لا يسمى هذا نسخا في اصطلاح المتأخرين، وإنما هو تخصيص.
٢- وذهب ابن عمر وأبو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وآخرون: إلى أن هذه الآية كلها منسوخة بآية المواريث، في حق من يرث وحق من لا يرث، بدليل ما
رواه الشافعي عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «حكم في ستة مملوكين كانوا لرجل لا مال له غيرهم، فأعتقهم عند الموت، فجزأهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين، وأرقّ أربعة»
«١» فلو كانت الوصية واجبة

للأقربين، باطلة في غيرهم، لما أجازها النبي في العبدين، لأن عتقهما وصية لهما، وهما غير قريبين.
٣- حكى الرازي في تفسيره الكبير عن أبي مسلم الأصفهاني أن هذه الآية محكمة غير منسوخة، وإنما هي مفسرة بآية المواريث، والمعنى: كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين في قوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء ٤/ ١١].
ولا منافاة حينئذ بين ثبوت الوصية للأقرباء، وثبوت الميراث، فالوصية عطية من حضره الموت، والميراث عطية من الله تعالى، وقد جمع الوارث بين الوصية والميراث بحكم الآيتين.
ولو قدّر حصول المنافاة بين آية الميراث وآية الوصية لكان يمكن جعل آية الميراث مخصصة لآية الوصية، بمعنى أن آية الوصية يراد بها القريب الذي لا يرث، إما لمانع من الإرث كالكفر واختلاف الدار، وإما لأنه محجوب بأقرب منه، وإما لأنه من ذوي الأرحام. وهذا رأي طاوس ومن وافقه.
مسائل فقهية:
١- مقدار الوصية:
ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجوز لأحد أن يوصي بأكثر من الثلث،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم لسعد الذي أراد أن يوصي: «الثلث والثلث كثير»
وقوله أيضا: «إن الله أعطاكم ثلث أموالكم عند وفاتكم، زيادة لكم في أعمالكم».
وأجاز الحنفية: الوصية بالمال كله إن لم يترك الموصي ورثة، لأن الاقتصار على الثلث في الوصية إنما كان من أجل أن يدع ورثته أغنياء، كما
قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتواتر: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس»
ومن لا وارث له، فليس ممن عني بالحديث.
[٢- إجماع العلماء في مقدار الوصية]
٢- وأجمع العلماء على أن من مات، وله ورثة، فليس له أن يوصي بجميع

ماله. وأجمعوا على أن للإنسان أن يغير وصيته ويرجع فيما شاء منها، قبل الموت.
٣- وقال أئمة المذاهب الأربعة والأوزاعي:
من أوصى لغير قرابته، وترك قرابته محتاجين، فبئسما صنع! وفعله مع ذلك جائز ماض، لكل من أوصى له، من غني وفقير، قريب وبعيد، مسلم وكافر.
ورأى طاوس والحسن البصري: أنه إذا أوصى لغير الأقربين، ردت الوصية للأقربين، ونقض فعله.
[٤- ذهاب الجمهور في وصية المريض]
٤- وذهب جمهور العلماء إلى أن المريض مرض الموت يحجر عليه في ماله، فلا تنفذ وصاياه وتبرعاته. وقال الظاهرية: لا يحجر عليه.
[٥- فتوى العلماء بجواز الوصية بأكثر من الثلث]
٥- وأجاز أكثر العلماء الوصية بأكثر من الثلث أو لوارث إن أجازها الورثة، لأن المنع من الزائد عن الثلث أو لوارث، كان لحق الوارث، فإذا أسقط الورثة حقهم، كان ذلك جائزا صحيحا، وكان كالهبة من عندهم،
روى الدارقطني عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تجوز الوصية لوارث، إلا أن يشاء الورثة»
وروى أيضا عن عمرو بن خارجة أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: لا وصية لوارث إلا أن تجيز الورثة».
ومنع الظاهرية الوصية بأكثر من الثلث، وإن أجازها الورثة.
٦- رجوع المجيزين للوصية للوارث في حياة الموصي بعد وفاته:
أ- قال طاوس والحسن وعطاء وآخرون: ليس لمن أجاز الوصية للوارث حال حياة الموصي الرجوع في الإجازة بعد الموت، وتنفذ الوصية عليهم، لأن المنع من هذه الوصية إنما وقع من أجل الورثة، فإذا أجازوه جاز، كما أنهم إذا أجازوا الوصية لأجنبي بأكثر من الثلث، جاز بإجازتهم.
ب- وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد: لهم الرجوع في ذلك إن أحبوا،

لأنهم أجازوا شيئا لم يملكوه في ذلك الوقت، وإنما يملك المال بعد وفاته، فقد أجاز من لا حق له في المال، فلا يلزمه شيء.
ج- وفرق مالك فقال: إذا أذنوا في صحة الموصي، فلهم أن يرجعوا، وإن أذنوا له في مرضه حين يحجب عن ماله، فذلك جائز عليهم، لأن الرجل إذا كان صحيحا فهو أحق بماله كله يصنع فيه ما شاء، فإذا أذنوا له في صحته، فقد تركوا شيئا لم يجب لهم، وإن أذنوا له في مرضه، فقد تركوا ما وجب لهم من الحق، فليس لهم أن يرجعوا فيه إذا كان قد أنفذه، لأنه قد فات.
٧- وصية الصبي المميز والسفيه والمجنون:
لا خلاف في صحة وصية البالغ العاقل غير المحجور عليه، واختلف في غيره:
فقال مالك: الأمر المجمع عليه عندنا أن الضعيف في عقله والسفيه والمصاب الذي يفيق أحيانا تجوز وصاياهم إذا كان معهم من عقولهم ما يعرفون ما يوصون به، وكذلك الصبي الصغير إذا كان يعقل ما أوصى به، ولم يأت بمنكر من القول (أي لم يوص بمعصية) فوصيته جائزة، لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أجاز وصية صبي من غسان بلغ من العمر عشر سنين (مميز) كان قد أوصى لأخوال له، فرفع أمره إلى عمر، فأجازها. أي أن المالكية ومثلهم الحنابلة أجازوا وصية المميز وهو ابن عشر سنين فأقل مما يقاربها.
وقال الحنفية والشافعية: لا تجوز وصية الصبي، لأن عبارته قبل البلوغ غير معتبرة في التبرع. واستثنى الحنفية وصيته في أمور تجهيزه ودفنه على سبيل الاستحسان مع اشتراط تحقق المصلحة في ذلك، وهو أيضا واجب.
واتفق أئمة المذاهب الأربعة على القول بصحة وصية السفيه: وهو الذي لا يحسن تدبير المال، وينفقه على خلاف مقتضى الحكمة والشرع.

ولم يجيزوا وصية المجنون والمعتوه والمغمى عليه، لأن عبارتهم ملغاة لا يتعلق بها حكم. وأجاز الحنفية وصية المجنون إذا كان جنونه غير مطبق، أما إذا كان مطبقا بأن استمر بصاحبه دون إفاقة مدة شهر فأكثر فتبطل وصيته.
٨- تبديل الوصية:
من سمع الوصية من الموصي أو سمعه ممن ثبت به عنده، وذلك عدلان، ثم بدله، فإثمه على المبدل، ويخرج الموصي بالوصية عن اللوم، ويتوجه إلى الوارث أو الولي. وهذا يدل كما قال بعض علماء المالكية: على أن الدّين إذا أوصى به الميت، خرج عن ذمته، وصار الولي مطلوبا به، له الأجر في قضائه، وعليه الوزر في تأخيره، وهذا إنما يصح إذا كان الميت لم يفرّط في أدائه، وأما إذا قدر عليه وتركه، ثم وصّى به فإنه لا يزيله عن ذمته تفريط الولي فيه «١».
٩- الوصية بمعصية:
لا خلاف في أنه إذا أوصى الموصي بما لا يجوز، مثل أن يوصي بخمر أو خنزير أو شيء من المعاصي أنه يجوز تبديله ولا يجوز إمضاؤه، كما لا يجوز إمضاء ما زاد على الثلث.
١٠- الإصلاح والحكم بالظن:
معنى آية فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً.. من علم أو رأى واطلع بعد موت الموصي أن الموصي جنف وتعمد أذية بعض ورثته، فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق، فلا يلحقه إثم المبدل المذكور قبل، لأن فعله تبديل لمصلحة، والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى.
وفي هذه الآية دليل على الحكم بالظن، لأنه إذا ظن قصد الفساد وجب

السعي في الإصلاح. وإذا تحقق الفساد لم يكن صلحا، إنما يكون حكما بالدفع وإبطالا للفساد وحسما له.
١١- أفضلية الصدقة حال الحياة:
لا خلاف في أن الصدقة في حال حياة الإنسان أفضل منها عند الموت، لما
ثبت في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام، وقد سئل: «أي الصدقة أفضل؟ فقال: أن تصدّق وأنت صحيح شحيح..»
الحديث،
وروى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لأن يتصدق المرء في حياته بدرهم خير له من أن يتصدق عند موته بمائة»
وروى النسائي عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثل الذي ينفق أو يتصدق عند موته مثل الذي يهدي بعد ما يشبع».
١٢- الإضرار في الوصية:
من لم يضرّ في وصيته، كانت كفارة لما ترك من زكاته،
لحديث رواه الدارقطني عن معاوية بن قرّة عن أبيه: «من حضرته الوفاة، فأوصى، فكانت وصيته على كتاب الله، كانت كفارة لما ترك من زكاته».
فإن ضر في الوصية حرم الإيصاء، لما
رواه الدارقطني عن ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الإضرار في الوصية من الكبائر».
وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت، فيضارّان في الوصية، فتجب لهما النار».