آيات من القرآن الكريم

ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ
ﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂ

وذكر الباجي في المنتقى أن المشهور من مذهب مالك: أن المضطر يجوز له الأكل في سفر المعصية، ولا يجوز له الفطر والقصر، لقوله تعالى: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ.
وإذا وجد أكثر من نوع من المحرمات، فما الذي يقدمه المضطر؟.
قال ابن العربي: الضابط لهذه الأحكام: أن المضطر إذا وجد ميتة ولحم خنزير، قدم الميتة، لأنها تحل حية، والخنزير لا يحل، والتحريم المخفف أولى أن يقتحم من التحريم المثقل. وإذا وجد ميتة وخمرا يأكل الميتة حلالا بيقين، والخمر محتملة للنظر. وإذا وجد ميتة ومال الغير: فإن أمن الضرر في بدنه، أكل مال الغير، ولم يحل له أكل الميتة، وإن لم يأمن، أكل الميتة. والصحيح خلافا للشافعي: ألا يأكل الآدمي إلا إذا تحقق أن ذلك ينجيه ويحييه. وإذا وجد المحرم صيدا وميتة، أكل الصيد، لأن تحريمه مؤقت، فهو أخف، وتقبل الفدية في حال الاختيار، ولا فدية لآكل الميتة «١».
كتمان أهل الكتاب ما أنزل الله
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧٤ الى ١٧٦]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦)

(١) تفسير القرطبي: ٢/ ٢٢٤- ٢٣٥، أحكام القرآن لابن العربي: ١/ ٥٤- ٥٨، تفسير ابن كثير:
١/ ٢٠٥، أحكام القرآن للجصاص: ١/ ١٢٦- ١٣٠، نظرية الضرورة الشرعية للمؤلف.

صفحة رقم 88

الإعراب:
فِي بُطُونِهِمْ: ظرف في موضع الحال، وتقديره: ما يأكلون إلا النار ثابتة في بطونهم، كقوله تعالى: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً تقديره: يأكلون نارا كائنة في بطونهم. والأصل أن فِي بُطُونِهِمْ صفة لنار، لكن إذا قدمت صفة النكرة انتصبت على الحال. فَما أَصْبَرَهُمْ ما:
إما تعجيبة وتقديره: شيء أصبرهم، أو استفهامية، وتقديره: أي شيء أصبرهم؟ وعلى كلا الوجهين: هي مبتدأ، وما بعدها خبر.
البلاغة:
ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ مجاز مرسل باعتبار ما يؤول إليه، أي إنما يأكلون المال الحرام الذي يؤدي بهم إلى النار. وقوله فِي بُطُونِهِمْ زيادة تشنيع وتقبيح لحالهم.
اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى استعارة تصريحية، والمراد: استبدلوا الكفر بالإيمان، استعار لفظ الشراء للاستبدال.
المفردات اللغوية:
يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا: يبيعونه بثمن قليل من الدنيا يأخذونه بدله من أتباعهم، فلا يظهرونه خوف فوته عليهم وَلا يُكَلِّمُهُمُ غضبا عليهم. وَلا يُزَكِّيهِمْ يطهرهم من دنس الذنوب وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم هو النار. الضَّلالَةَ هي العماية التي لا يهتدي فيها الإنسان لمقصده. بِالْهُدى الشرائع التي أنزلها الله على لسان أنبيائه فَما أَصْبَرَهُمْ أي ما أشد صبرهم وهو تعجب للمؤمنين من ارتكابهم موجبات النار، من غير مبالاة.
ذلِكَ الذي ذكر من أكلهم النار وما بعده بِأَنَّ بسبب أن اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ متعلق بنزل، فاختلفوا فيه، حيث آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه بكتمه. شِقاقٍ مخالفة أو خلاف وهو العداء والتنازع وهو أثر الاختلاف بَعِيدٍ مبتعد عن الحق.
سبب نزول الآية (١٧٤) :
أخرج الطبري عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ والتي في آل عمران: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ نزلتا جميعا في يهود. وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في رؤساء اليهود وعلمائهم، كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والفضل، وكانوا يرجون أن يكون

صفحة رقم 89

النبي المبعوث منهم، فلما بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم من غيرهم، خافوا ذهاب مأكلتهم وزوال رياستهم، فعمدوا إلى صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم فغيروها، ثم أخرجوها إليهم، وقالوا: هذا نعت النبي الذي يخرج في آخر الزمان، لا يشبه نعت هذا النبي، فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ الآية.
التفسير والبيان:
يستمر القرآن في كشف مواقف أهل الكتاب من القرآن والنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، ففي الآيات السابقة أوضح أنهم حرموا بعض الحلال، وابتدعوا في الدين رهبانية وتقشفا في المآكل والمشارب، وهنا يبين أنهم كتموا ما أنزل الله في كتبهم من صفات النّبي صلّى الله عليه وسلّم فحرفوه وبدلوه، وأخفوا الصحيح وأظهروا الكاذب، وتاجروا بالدين، واتخذوه وسيلة ارتزاق واحتراف معيشة، كما قال: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً [الأنعام ٦/ ٩١].
إن الذين يخفون ما أنزل الله من وصف النّبي صلّى الله عليه وسلّم نبي آخر الزمان وبيان زمانه وقومه وغير ذلك مما يشهد بصدق نبوته وكمال رسالته، أو يؤولونه ويحرفونه، في مقابل أخذ الأجور القليلة على الفتاوى، يأكلون الحرام المؤدي إلى النار. وسمي الثمن قليلا، لأن كل عوض عن الحق، فهو قليل في جنب تفويت سعادة الدنيا والآخرة: فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة ٩/ ٣٨].
إن أولئك الكاتمين لكتاب الله، المتجرين به، البعيدين في الضلال لا يأكلون في بطونهم إلا ما يكون سببا لدخول النار، وإعراض الله عنهم وغضبه الشديد عليهم، وعدم تطهيرهم من دنس الذنوب بالمغفرة والصفح، ولهم عذاب شديد الألم في الدنيا والآخرة، خلافا لأهل الجنة الذين يثني الله عليهم ويغفر لهم ويرحمهم ويرضى عنهم ويقابلهم بالمحبة والرضا. فقوله تعالى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ

صفحة رقم 90

اللَّهُ
عبارة عن الغضب عليهم وإزالة الرضا عنهم، وقوله وَلا يُزَكِّيهِمْ:
أي لا يصلح أعمالهم الخبيثة فيطهرهم.
ثم إن أولئك المتاجرين في دين الله استبدلوا الضلالة بالهدى، فتركوا هدى الله، واتبعوا في الدين أهواء الناس، واستحقوا العذاب بدل المغفرة، لجنايتهم على أنفسهم بإيثار المال الفاني على الثواب الخالد الباقي، فعجبا لهم أشد العجب، كيف يطيقون الصبر على موجبات النار وأعمال الضلال من غير مبالاة منهم فقوله: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ تعجب من كثرة صبرهم، أي هم في حال عذاب يقول من يراهم: ما أصبرهم؟!.
وهذا الأسلوب يقال لمن يتعرض لما يوجب غضب الحاكم أو السلطان:
ما أصبرك على القيد والسجن! أي أنه لا يتعرض لمثل ذلك إلا من هو شديد الصبر على العذاب.
إن ذلك العذاب الشديد الذي ينتظرهم هو غاية العدل، وإن ما أنزل الله من الكتاب هو الحق الأبلج الذي لا يحاد عنه ولا يغالب.
وأما الذين اختلفوا في كتب الله، فقالوا: بعضها حق، وبعضها باطل، فهم في خلاف ونزاع بعيد عن الحق، ولن يلتقوا على شيء واحد، وسيظل النزاع أو الشقاق بينهم بعيد الجانب عن الحق والصواب والهداية الصحيحة.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن كتمان الحق وتزييف الحقائق والإيغال في الباطل سبب لأنواع شتى من العذاب.
وإن الاختلاف في أصول الدين وقضاياه الأصلية العامة مدمر للدين كله، لذا أمر الله المؤمنين بالالتقاء على سبيل واحدة هي المنهج الرباني، فقال تعالى:

صفحة رقم 91

وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام ٦/ ١٥٣] وحذر الله المؤمنين من التفرق مذاهب شتى في الاعتقاد وأصول الدين، فقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ، وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ، إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام ٦/ ١٥٩].
أما الاختلاف في الفهم، والاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية من النصوص، والاعتماد على الكتاب والسنة، فليس معيبا، وإنما يثاب كل من المجتهدين: المخطئ والمصيب، ويمكن للدولة أن تختار من بين الآراء الاجتهادية ما يناسب عصرها وزمانها ويحقق مصلحتها التي هي مصلحة الأمة العامة والعليا، لأن «تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة» أي المصلحة العامة. وهذا الاختلاف في الفهم لا يؤدي إلى تمزيق وحدة الأمة، ولا يقتضي الشقاق والنزاع الناجم عن الاختلاف في أصول الشرع الإلهي.
وقد أوعد الله الناس على أمور ثلاث: كتمان الحق، والمتاجرة في الدين، والاختلاف الجذري في أصول الدين. أما كتمان الحق: فيؤدي إلى النار والعذاب الدائم وعدم الظفر بالمغفرة، كما قال الله تعالى عن علماء اليهود الذين كتموا ما أنزل الله في التوراة من صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم وصحة رسالته.
وأما المتاجرة في الدين: فتستوجب النار أيضا، وعجبا لنفر من الناس يتحملون عذاب الله الشديد، فما أشجعهم وما أجرأهم على النار، إذ يعملون عملا يؤدي إليها.
ذلك العذاب المستحق لهم عنوان العدل والحق، ولم ينزل الله هذا القرآن إلا بالحق، لإقراره ونشره والإذعان له.
وأما الاختلاف الجذري في الدين: فإنه يجسّد الفرقة والخلاف، ويمنع

صفحة رقم 92
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية