
قال الفرّاء أنشدني أبو تراب:
أحبّ لحبّها السّودان حتّى | حببت لحبّها سواد الكلاب |
فمن قرأ بالتّاء فهو خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم والجواب محذوف تقديرها ولو ترى: أي تبصر يا محمّد الَّذِينَ ظَلَمُوا: أشركوا.
إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ لرأيت أمرا عظيما ولعلمت ما يصيرون إليه أو لتعجّبت منه، ومن قرأ بالياء فمعناه: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم عند رؤية العذاب لعلموا أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً أو لآمنوا أو لعلموا مضرّة الكفر ونظير هذه الآية من المحذوف الجواب قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ «١» الآية: يعني لكان هذا القرآن وهو كما يقول: لو رأيت فلانا والسّياط تأخذه. فتستغني عن الجواب لأنّ المعنى مفهوم إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ.
وقرأ أبو البرخثم وابن عامر: يُرون بضم الياء على التعدي «٢»، وقرأ الآخرون بفتحها على اللزوم.
أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً قرأ الحسن وقتادة وأبو جعفر وشيبة وسلام ويعقوب: إنّ القوّة وإن الله بكسر الألف فيهما على الاستئناف. والكلام تام عند قوله يَرَوْنَ الْعَذابَ مع إضمار الجواب، كما ذكرنا.
وقرأ الباقون: بفتحها على معنى بانّ القوّة وبانّ الله، وقيل: معناه ليروا أنّ القوّة لله. أي لأيقنوا وعاينوا.
قال عطاء: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا يوم القيامة إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ حين تخرج إليهم جهنم من مسيرة خمسمائة عام لتلتقطهم كما يلتقط الحمام الحبّة لعلموا أَنَّ الْقُوَّةَ والقدرة والملكوت والجبروت لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦٦ الى ١٦٧]
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧)
(٢) راجع تفسير القرطبي: ٢/ ٢٠٥ ونسبه لابن عمر وحده.

إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا قرأ مجاهد: بتقديم الفاعل على المفعول.
وقرأ الباقون: بالضدّ، والمتبوعون هم الجبابرة والقادة في الشرك والشّر، والتابعون هم الأتباع والضّعفاء والسفلة قاله أكثر أهل التفسير.
السّدي: هم الشّياطين يتبرءون من الأنس.
وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ أي عنهم، والباء بمعنى عن.
الْأَسْبابُ قال ابن عبّاس ومجاهد وقتادة: يعني المودّة والوصلة التي صارت بينهم في الدّنيا، أو صارت مخالفتهم عداوة.
ربيع: يعني بالأسباب. المنازل التي كانت لهم من أهل الدّنيا، ابن جريح والكلبي: يعني الأنساب والأرحام كقوله تعالى فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ «١».
السّدي: يعني الأعمال التي كانوا يعملونها في الدّنيا. بيانه قوله وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً «٢» وقوله الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ «٣».
فأهل التقوى أعطوا الأسباب أعمال وثيقة فيأخذون بها وينجون، الآخرون يعطون أسباب أعمالهم الخبيثة فتنقطع بهم أعمالهم فيذهبون إلى النّار.
أبو روق: العهود التي كانت بينهم في الدنيا، وأصل السّبب كلّ شيء يتوصل به إلى شيء من ذريعة أو قرابة أو مودّة، ومنه قيل للجهاد: سبب وللطريق سبب وللسلّم سبب. قال زهير:
ومن هاب أسباب المنايا ظلته | لو رام أن يرقى السّماء بسلّم |
(٢) سورة الفرقان: ٢٣.
(٣) سورة محمد صلّى الله عليه وسلّم: ١.