
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: لَمَّا عَرَفْتَ أَنَّ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا قُرِئَ تَارَةً بِالتَّاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ فَوْقُ وَأُخْرَى بِالْيَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ تَحْتُ، وَقَوْلُهُ: أَنَّ الْقُوَّةَ قُرِئَ تَارَةً بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنْ (أَنَّ) وأخرى بكسرها حصل هاهنا أَرْبَعُ احْتِمَالَاتٍ.
الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُقْرَأَ وَلَوْ يَرَى بِالْيَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ تَحْتُ مَعَ فَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنْ (أَنَّ) وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُمْ أَعْمَلُوا يَرَوْنَ فِي الْقُوَّةِ وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ يَرَوْنَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ: وَمَعْنَاهُ، وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا شِدَّةَ عَذَابِ اللَّهِ وَقُوَّتَهُ لَمَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَنْدَادًا فَعَلَى هَذَا جَوَابُ (لَوْ) مَحْذُوفٌ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي التَّنْزِيلِ كَقَوْلِهِ: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [الْأَنْعَامِ: ٢٧]، وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ [الْأَنْعَامِ: ٩٣]، وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرَّعْدِ: ٣١] وَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَيْتَ فُلَانَا وَالسِّيَاطُ تَأْخُذُ مِنْهُ، قَالُوا: وَهَذَا الْحَذْفُ أَفْخَمُ وَأَعْظَمُ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَذْهَبُ خَاطِرُ الْمُخَاطَبِ إِلَى كُلِّ ضَرْبٍ مِنَ الْوَعِيدِ فَيَكُونُ الْخَوْفُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مِمَّا إِذَا كَانَ عُيِّنَ لَهُ ذَلِكَ الْوَعِيدُ.
الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ يُقْرَأَ بِالْيَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ تَحْتُ مَعَ كَسْرِ الْهَمْزَةِ مِنْ (إِنَّ) وَالتَّقْدِيرُ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا عَجْزَهُمْ حَالَ مُشَاهَدَتِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ لَقَالُوا: إِنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ.
الِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ: أَنْ تُقْرَأَ بِالتَّاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ فَوْقُ، مَعَ فَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنْ (أَنَّ) وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْوَجْهُ فِيهِ تَكْرِيرُ الرُّؤْيَةِ وَالتَّقْدِيرُ فِيهِ وَلَوْ تَرَى الَّذِينَ ظلموا إذا يَرَوْنَ الْعَذَابَ تَرَى أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا.
الِاحْتِمَالُ الرَّابِعُ: أَنْ يُقْرَأَ بِالتَّاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ فَوْقُ، مَعَ كَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَتَقْدِيرُهُ: وَلَوْ تَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ لَقُلْتَ إِنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، وَهَذَا أَيْضًا تَأْوِيلٌ ظَاهِرٌ جَيِّدٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَاءَ قَوْلُهُ: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ مَعَ قَوْلِهِ: إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ وَ (إِذْ) لِلْمَاضِي؟ قُلْنَا: إِنَّمَا جَاءَ عَلَى لَفْظِ الْمُضِيِّ لِأَنَّ وُقُوعَ السَّاعَةِ قَرِيبٌ، قَالَ تَعَالَى: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النَّحْلِ: ٧٧] وَقَالَ: لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشُّورَى: ١٧] وَكُلُّ مَا كَانَ قَرِيبَ الْوُقُوعِ فَإِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى مَا وَقَعَ وَحَصَلَ وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قَالَ تَعَالَى: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ [الْأَعْرَافِ: ٤٤] وَقَوْلُ الْمُقِيمِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ يَقُولُ ذَلِكَ قَبْلَ إِيقَاعِهِ التَّحْرِيمَ لِلصَّلَاةِ لِقُرْبِ ذَلِكَ وَقَدْ جَاءَ كَثِيرٌ فِي التَّنْزِيلِ مِنْ هَذَا الْبَابِ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا [الْأَنْعَامِ: ٢٧]، وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ [سبأ: ٣١]، وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا [سَبَأٍ: ٥١]، وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى [الأنفال: ٥٠].
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦٦ الى ١٦٧]
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حَالَ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا بِقَوْلِهِ: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ [البقرة: ١٦٥] عَلَى طَرِيقِ التَّهْدِيدِ زَادَ فِي هَذَا الْوَعِيدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا فَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ أَفْنَوْا عُمْرَهُمْ عَلَى عِبَادَتِهِمْ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ أَوْكَدُ أَسْبَابِ نَجَاتِهِمْ فإنهم يتبرءون

مِنْهُمْ عِنْدَ احْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِمْ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الْعَنْكَبُوتِ: ٢٥] وَقَالَ أَيْضًا: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزُّخْرُفِ: ٦٧] وَقَالَ: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها [الْأَعْرَافِ: ٣٨] وَحَكَى عَنْ إِبْلِيسَ أَنَّهُ قال: إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم:
٢٢] وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: إِذْ تَبَرَّأَ قَوْلَانِ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ: إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ [البقرة: ١٦٥].
الثَّانِي: أَنَّ عَامِلَ الْإِعْرَابِ فِي (إِذْ) مَعْنَى شَدِيدُ كَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ يَعْنِي فِي وَقْتِ التَّبَرُّؤِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْمَتْبُوعِينَ يَتَبَرَّءُونَ مِنَ الْأَتْبَاعِ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَبَيَّنَ تَعَالَى مَا لِأَجْلِهِ يَتَبَرَّءُونَ مِنْهُمْ وَهُوَ عَجْزُهُمْ عَنْ تَخْلِيصِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي رَأَوْهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ يَدْخُلُ فِي مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا إِلَى تَخْلِيصِ أَنْفُسِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ سَبَبًا، وَالْآيِسُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يَرْجُو بِهِ الْخَلَاصَ مِمَّا نَزَلَ بِهِ وَبِأَوْلِيَائِهِ مِنَ الْبَلَاءِ يُوصَفُ بِأَنَّهُ تَقَطَّعَتْ بِهِ الْأَسْبَابُ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهَؤُلَاءِ الْمَتْبُوعِينَ عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ السَّادَةُ وَالرُّؤَسَاءُ مِنْ مُشْرِكِي الْإِنْسِ، عَنْ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ وَعَطَاءٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ شَيَاطِينُ الْجِنِّ الَّذِينَ صَارُوا مَتْبُوعِينَ لِلْكُفَّارِ بِالْوَسْوَسَةِ عَنِ السُّدِّيِّ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ شَيَاطِينُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وَرَابِعُهَا: الْأَوْثَانُ الَّذِينَ كَانُوا يُسَمُّونَهَا بِالْآلِهَةِ وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْأَقْرَبَ فِي الَّذِينَ اتَّبَعُوا أَنَّهُمُ الَّذِينَ يَصِحُّ مِنْهُمُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ حَتَّى يُمْكِنَ أَنْ يُتَّبَعُوا وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْأَصْنَامِ، وَيَجِبُ أَيْضًا حَمْلُهُمْ عَلَى السَّادَةِ مِنَ النَّاسِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَصِحُّ وَصْفُهُمْ مِنْ عِظَمِهِمْ بِأَنَّهُمْ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ دُونَ الشَّيَاطِينِ وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الْأَحْزَابِ: ٦٧]، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ الْأَوَّلَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَالثَّانِي عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ تَبَرَّأَ الْأَتْبَاعُ من الرؤساء.
المسألة الثالثة: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ التَّبَرُّؤِ وُجُوهًا. أَحَدَهَا: أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ نُزُولُ الْعَذَابِ بِهِمْ، وَعَجْزُهُمْ عَنْ دَفْعِهِمْ عَنْ أنفسهم فكيف عن غيرهم فتبرؤا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ ظَهَرَ فِيهِمُ النَّدَمُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ فَسُمِّيَ ذَلِكَ النَّدَمُ تَبَرُّؤًا وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ هُوَ الْحَقِيقَةُ فِي اللَّفْظِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَأَوُا الْعَذابَ الْوَاوُ لِلْحَالِ، أي يتبرؤون فِي حَالِ رُؤْيَتِهِمُ الْعَذَابَ وَهَذَا أَوْلَى مِنْ سَائِرِ الْأَقْوَالِ، لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ يَزْدَادُ الْهَوْلُ وَالْخَوْفُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى تَبَرَّأَ وَذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الْأَسْبَابِ سَبْعَةَ أقوال. الأول: أنها المواصلات التي كانوا يتواصلان عَلَيْهَا، عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ. الثَّانِي: الْأَرْحَامُ الَّتِي كَانُوا يَتَعَاطَفُونَ بِهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ. الثَّالِثُ: الْأَعْمَالُ الَّتِي كَانُوا يَلْزَمُونَهَا عَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَالسُّدِّيِّ. وَالرَّابِعُ: الْعُهُودُ وَالْحِلْفُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ يَتَوَادُّونَ عَلَيْهَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الْخَامِسُ: مَا كَانُوا يَتَوَاصَلُونَ بِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَكَانَ بِهَا انْقِطَاعُهُمْ عَنِ الْأَصَمِّ.
السَّادِسُ: الْمَنَازِلُ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَنِ الضَّحَّاكِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ. السَّابِعُ: أَسْبَابُ النَّجَاةِ تَقَطَّعَتْ عَنْهُمْ وَالْأَظْهَرُ دُخُولُ الْكُلِّ فِيهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَالنَّفْيِ فَيَعُمُّ الْكُلَّ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَزَالَ عَنْهُمْ كُلُّ سَبَبٍ يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ وأنهم

لَا يَنْتَفِعُونَ بِالْأَسْبَابِ عَلَى اخْتِلَافِهَا مِنْ مَنْزِلَةٍ وسبب ونسب وخلف وَعَقْدٍ وَعَهْدٍ، وَذَلِكَ نِهَايَةُ مَا يَكُونُ مِنَ الْيَأْسِ فَحَصَلَ فِيهِ التَّوْكِيدُ الْعَظِيمُ فِي الزَّجْرِ.
المسألة الثانية: الباء في قوله: بِهِمُ الْأَسْبابُ بمعنى (عن) كقوله تعالى: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً [الْفُرْقَانِ: ٥٩] أَيْ عَنْهُ قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ:
فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي | بَصِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ |
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَصْلُ السَّبَبِ فِي اللُّغَةِ الْحَبْلُ قَالُوا: وَلَا يُدْعَى الْحَبْلُ سَبَبًا حَتَّى يَنْزِلَ وَيَصْعَدَ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ [الْحَجِّ: ١٥] ثُمَّ قِيلَ لِكُلِّ شَيْءٍ وَصَلْتَ بِهِ إِلَى مَوْضِعٍ أَوْ حَاجَةٍ تُرِيدُهَا سَبَبٌ. يُقَالُ: مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ سَبَبٌ أَيْ رَحِمٌ وَمَوَدَّةٌ، وَقِيلَ لِلطَّرِيقِ: سَبَبٌ لِأَنَّكَ بِسُلُوكِهِ تَصِلُ الْمَوْضِعَ الَّذِي تُرِيدُهُ، قَالَ تَعَالَى: فَأَتْبَعَ سَبَباً [الكهف: ٨٥] أي طريقا، وأسباب السموات: أَبْوَابُهَا لِأَنَّ الْوُصُولَ إِلَى السَّمَاءِ يَكُونُ بِدُخُولِهَا، قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ [غَافِرٍ: ٣٦، ٣٧] قَالَ زُهَيْرٌ:
وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا تَنَالُهُ | وَلَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ |
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا فَذَلِكَ تَمَنٍّ مِنْهُمْ لِأَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ الرَّجْعَةِ إِلَى الدُّنْيَا وَإِلَى حَالِ التَّكْلِيفِ فَيَكُونُ الاختيار إليهم حتى يتبرءون منهم في الدنيا كما تبرؤا مِنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَفْهُومُ الْكَلَامِ أَنَّهُمْ تَمَنَّوْا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مَا يُقَارِبُ الْعَذَابَ فَيَتَبَرَّءُونَ مِنْهُمْ وَلَا يُخَلِّصُونَهُمْ وَلَا يَنْصُرُونَهُمْ كَمَا فَعَلُوا بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَقْدِيرُهُ: فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ وَقَدْ دَهَمَهُمْ مِثْلُ هَذَا الخطب كما تبرؤا منا والحالة هذه لأنهم إن تمنوا التبرأ مِنْهُمْ مَعَ سَلَامَةٍ فَلَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ: كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ يُرِيهِمُ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: كَتَبَرُّؤِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ وَذَلِكَ لِانْقِطَاعِ الرَّجَاءِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ. الثَّانِي: كَمَا أَرَاهُمُ الْعَذَابَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ، لِأَنَّهُمْ أَيْقَنُوا بِالْهَلَاكِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمُرَادِ بِالْأَعْمَالِ أَقْوَالٌ. الْأَوَّلُ: الطَّاعَاتُ يَتَحَسَّرُونَ لِمَ ضَيَّعُوهَا عَنِ السُّدِّيِّ. الثَّانِي:
الْمَعَاصِي وَأَعْمَالُهُمُ الْخَبِيثَةُ عَنِ الرَّبِيعِ وَابْنِ زَيْدٍ يَتَحَسَّرُونَ لِمَ عَمِلُوهَا. الثَّالِثُ: ثَوَابُ طَاعَاتِهِمُ الَّتِي أَتَوْا بِهَا فَأَحْبَطُوهُ بِالْكُفْرِ عَنِ الْأَصَمِّ. الرَّابِعُ: أَعْمَالُهُمُ الَّتِي تَقَرَّبُوا بِهَا إِلَى رُؤَسَائِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ وَالِانْقِيَادِ لِأَمْرِهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ الْأَعْمَالُ الَّتِي اتَّبَعُوا فِيهَا السَّادَةَ، وَهُوَ كُفْرُهُمْ وَمَعَاصِيهِمْ، وَإِنَّمَا تَكُونُ حَسْرَةً بِأَنْ رَأَوْهَا فِي صَحِيفَتِهِمْ، وَأَيْقَنُوا بِالْجَزَاءِ عَلَيْهَا، وَكَانَ يُمْكِنُهُمْ تَرْكُهَا وَالْعُدُولُ إِلَى الطَّاعَاتِ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ الْإِضَافَةُ حَقِيقِيَّةٌ لِأَنَّهُمْ عَمِلُوهَا، وَفِي الثَّانِي مَجَازٌ بِمَعْنَى لَزِمَهُمْ فَلَمْ يَقُومُوا بِهِ. صفحة رقم 181

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: حَسَرَاتٌ ثَالِثُ مَفَاعِيلِ: رَأَى.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْحَسْرَةُ شِدَّةُ النَّدَامَةِ حَتَّى يَبْقَى النَّادِمُ كَالْحَسِيرِ مِنَ الدَّوَابِّ، وَهُوَ الَّذِي لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، يُقَالُ: حَسِرَ فُلَانٌ يَحْسِرُ حَسْرَةً وَحَسْرًا إِذَا اشْتَدَّ نَدَمُهُ عَلَى أَمْرٍ فَاتَهُ، وَأَصْلُ الْحَسْرِ الْكَشْفُ، يُقَالُ:
حَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ أَيْ كَشَفَ وَالْحَسْرَةُ انْكِشَافٌ عَنْ حَالِ النَّدَامَةِ، وَالْحُسُورُ: الْإِعْيَاءُ لِأَنَّهُ انْكِشَافُ الْحَالِ عَمَّا أَوْجَبَهُ طُولُ السَّفَرِ، قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٩] وَالْمِحْسَرَةُ الْمِكْنَسَةُ لِأَنَّهَا تَكْشِفُ عَنِ الْأَرْضِ، وَالطَّيْرُ تَنْحَسِرُ لِأَنَّهَا تَنْكَشِفُ بِذَهَابِ الرِّيشِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ فَقَدِ احْتَجَّ بِهِ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الْكَبِيرَةِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ فَقَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ وَما هُمْ تَخْصِيصٌ لَهُمْ بِعَدَمِ الْخُرُوجِ عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْخُرُوجِ مَخْصُوصًا بِهِمْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَكْشِفُ عَنِ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ [الانفطار: ١٤- ١٦] وثبت أن المراد بالفجار هاهنا الكفار لدلالة هذه الآية عليه.
تم الجزء الرابع، ويليه الجزء الخامس، وأوله قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً