
ولعنة الكافر من الناس: هي في يوم القيامة، ليتأثر بذلك، ويتضرر ويتألم قلبه، فيكون لعنه جزاء على كفره، كما قال الله تعالى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [العنكبوت ٢٩/ ٢٥].
وأما لعن المسلم العاصي المعيّن: فذكر ابن العربي أنه لا يجوز اتفاقا، لما
روي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث صحيح رواه البخاري ومسلم أنه أتي بشارب خمر مرارا، وهو نعيمان، فقال بعض من حضره: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به! فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم»
فجعل له حرمة الأخوة، وهذا يوجب الشفقة. وكان هذا في حق نعيمان بعد إقامة الحد عليه، أما من لم يقم عليه الحد، فلعنته جائزة، سواء سمّي أو عيّن أم لا، لأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لا يلعن إلا من تجب عليه اللعنة، ما دام على تلك الحالة الموجبة للعن، فإذا تاب منها وأقلع وطهّره الحد، فلا لعنة تتوجه عليه.
وأما لعن العاصي مطلقا من غير تعيين، فيجوز إجماعا، لما
روي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لعن الله السارق يسرق البيضة، فتقطع يده»
ويجوز لعن الظالم من غير تعيين، لقوله تعالى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود ١١/ ١٨].
وحدانية الإله ورحمته ومظاهر قدرته
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦٣ الى ١٦٤]
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)

الإعراب:
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ: لا نافية للجنس، وإله: اسمها المنصوب، وخبرها محذوف تقديره: لا إله لنا، أو في الوجود، وهُوَ بدل مرفوع من موضع: لا إِلهَ الذي هو في موضع رفع على الابتداء. والرَّحْمنُ إما مرفوع على البدل من هُوَ وإما مرفوع خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو الرحمن، ولا يجوز أن يكون وصفا لقوله: هُوَ لأنه ضمير لا يوصف ولا يوصف به.
وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي معطوف على المجرور قبله، والفلك: يكون واحدا ويكون جمعا، الواحد كقوله تعالى: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [الشعراء ٢٦/ ١١٩] والجمع كقوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس ١٠/ ٢٢].
البلاغة:
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ خبر خال من التأكيد، لقيام الأدلة القاطعة على وحدانية الله.
لَآياتٍ وردت نكرة للتفخيم أي آيات عظيمة دالة على القدرة الإلهية.
المفردات اللغوية:
وَإِلهُكُمْ المستحق للعبادة منكم إِلهٌ واحِدٌ لا نظير له في ذاته ولا في صفاته.
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ بالذهاب والمجيء والزيادة والنقصان. وَالْفُلْكِ السفن. وَبَثَّ فِيها نشر وفرّق فيها. دَابَّةٍ كل ما دب من الحيوان على الأرض، وغلب على ما يركب ويحمل عليه. وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ: تقليبها جنوبا وشمالا حارة وباردة، وتوجيهها إلى الجهات المطلوبة. وَالسَّحابِ الغيم. الْمُسَخَّرِ المذلل بأمر الله تعالى يسير إلى حيث شاء الله.
بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ بلا علاقة لَآياتٍ دالات على وحدانيته تعالى لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يتدبرون.
سبب النزول:
عن عطاء قال: نزل على النّبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ فقال كفار قريش بمكة: كيف يسع الناس إله واحد؟
فأنزل الله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى قوله: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.

وعند أبي الضحى قال: لما نزلت هذه الآية: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ تعجب المشركون وقالوا: إله واحد؟ إن كان صادقا فليأتنا بآية، فأنزل الله تعالى:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى آخر الآية «١».
وجه المناسبة أو الربط بين الآيات:
بعد أن ذكر الله في الآية السابقة حال الكافرين الجاحدين لآيات الله، وحال من كتم الآيات، وعقابهم بالطرد من رحمة الله والخلود في نار جهنم، أتى ببيان سبب الكفر وهو الشرك، وأراد تعالى أن يعالج داء كفرهم بإثبات وحدانية الله بالبرهان، وتعداد مظاهر رحمته وأدلة قدرته، وأن الخير في اللجوء إليه وحده، فقال:
وإلهكم المستحق للعبادة بحق: هو الله الذي ليس في الوجود سواه، والذي وسعت رحمته كل شيء، بيده النفع والخير، وهو القادر على دفع الضر والشر، فلا تشركوا به شيئا، سواء شرك الألوهية: بأن يعتقد المرء أن في الخلق من يشارك الله أو يعينه في أفعاله، وشرك الربوبية: بأن يسند الخلق والتدبير إلى غيره معه، أو تؤخذ أحكام الشرائع من عبادة وحلال وحرام من غيره، كما قال تعالى:
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة ٩/ ٣١].
فقوله تعالى: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ تقرير للوحدانية بنفي غيره وإثباته تعالى. وقوله الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ معناه: المولي لجميع النعم أصولها وفروعها، ولا شيء سواه بهذه الصفة، فإن كل ما سواه إما نعمة وإما منعم عليه.
وإنما خص الله تعالى الوحدانية والرحمة بالذكر دون غيرهما من الصفات، لتذكير الكافرين الكاتمين للحق بأن لا ملجأ أمامهم غير الله لاتقاء عذابه، ولترغيبهم بالتوبة وعدم اليأس من فضله.

ثم أورد الله تعالى أدلة وحدانيته وقدرته ورحمته في هذا الكون بالذات، فأبان أنه خالق السموات وما فيها من عوالم وأفلاك من غير عمد من تحتها ولا علائق من فوقها، بديعة الجمال، دقيقة النظام، كل ما فيها يجري لأجل مسمى في مداره، محكمة التناسب فيما بينها عن طريق ما يسمى بالجاذبية، نجومها وقمرها للإنارة وتقدير حساب الشهور، وشمسها للإضاءة وإمداد الحيوان والنّبات بالحرارة، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يونس ١٠/ ٥]، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ... [الأنعام ٦/ ٩٧].
وخالق الأرض الذي جعلها وسطا صالحا للعيش الهادئ المطمئن، وملأها بالكنوز والمنافع المختلفة، وسخرها لخير الإنسان، وأوجد فيها الجماد والمعادن والأنهار والحيوان والنّبات، وجعل لكل مخلوق غاية وحكمة، ولم يخلق ما فيها عبثا، ويسر لكل شيء فيها وسائل الحياة والرزق والدوام والبقاء مدة العيش قال الله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ [الذاريات ٥١/ ٢٠].
وكل من خلق السموات والأرضين عدا ما فيه من عظمة وقدرة وبهاء، مظهر من مظاهر الرحمة الإلهية بالناس جميعا.
ومن أجل إتمام النعمة وإسباغ الرحمة على الإنسان، وتيسير سبل العيش الكريم والراحة والسكينة، أوجد الله تعالى تعاقب الليل والنهار وخالف بينهما في الفصول الأربعة بسبب خطوط الطول والعرض بالطول والقصر، والحرارة والبرودة، وبحسب اختلاف الأقطار والبلدان، كما جاء في آيات كثيرة منها:
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً، لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ، أَوْ أَرادَ شُكُوراً [الفرقان ٢٥/ ٦٢] ومنها: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ، وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً، لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ، وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا [الإسراء ١٧/ ١٢].

ويسر الله للإنسان سبيل الارتحال ونقل البضائع والتجارات والمواد الثقيلة بين البلدان عن طريق السفن الشراعية والبخارية والذرية التي تحمل مئات الألوف من الأطنان، وتؤدي دورا حاسما في السلم وفي الحرب. ودلالتها على الوحدانية يظهر عند دراسة صناعتها وحمولتها وتصميمها، مثل معرفة طبيعة الماء وقانون ثقل الأجسام وطبيعة الهواء والبخار والكهرباء، ولا يدرك ذلك إلا العلماء المتخصصون الذي يكتشفون هذه الطاقات ويسخرونها لخدمة الإنسان، وهي من خلق الله الذي أبدع النظام وشملت قدرته كل شيء، كما قال سبحانه:
وَمِنْ آياتِهِ: الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ، إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ، فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [الشورى ٤٢/ ٣٢- ٣٣].
وقد عبّر القرآن عن منافع البحر بإيجاز في قوله تعالى: بِما يَنْفَعُ النَّاسَ أي في أسفارهم وتجاراتهم وتنقلاتهم لأغراض مختلفة من قطر لآخر، فيتداولون المنتجات والصناعات ومواد الغذاء وأصناف اللباس والدواء وغير ذلك.
وأنزل الله المطر من السماء لإحياء الأرض بعد موتها، ولينعم به الإنسان والحيوان، فالماء مصدر الحياة، كما قال الله تعالى: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء ٢١/ ٣٠]. وقال: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ، وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج ٢٢/ ٥] فإنزال المطر رحمة وفضل إلهي.
وأما مصدر المطر: فهو من تصاعد بخار ماء بواسطة حرارة الهواء فوق البحار، ثم تتكاثف الذرات المائية وتتكون سحبا، ثم يسقط الماء من خلالها، بفعل تسيير الرياح، وكل ذلك يتم بإرادة الله عز وجل ومشيئته، كما قال:
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ، فَتُثِيرُ سَحاباً، فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ، وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً، فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ. [الروم ٣٠/ ٤٨]. وَهُوَ الَّذِي

يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا، سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ، فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ، فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ..
[الأعراف ٧/ ٥٧].
ومن أدلة قدرة الله ووحدانيته: توجيه الرياح وتصريفها على حسب الإرادة والمشيئة والنظام الحكيم، تهب من مختلف الجهات الأربع، ولأغراض مختلفة، كتلقيح النّبات والأشجار، كما قال تعالى: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ [الحجر ١٥/ ٢٢] وقد تكون عقيما، وقد تكون للعذاب:.. رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها، فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ، كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [الأحقاف ٤٦/ ٢٤- ٢٥].
ومن مظاهر القدرة الإلهية تكاثف السحاب (الغيم) وتجمعه في الجو، ثم تذليله وتفريقه لإنزال المطر في شتى البقاع، على وفق نظام معين، وحكمة بالغة، وتقدير عجيب.
كل هذه الظواهر عبر ومواعظ لمن يعقل ويتدبر وينظر، ليدرك الأسرار والعجائب، ويستدل بما فيها من إتقان وإحكام على قدرة الخالق المبدع، ووحدانية الإله المدبر، ورحمة الله التي وسعت كل شيء، وذلك من كمال الحكمة واكتمال الكون الدال على وجود الله، وأنه إله واحد، وإله كل شيء، وخالق كل شيء، وهذه الآية شبيهة بآية: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ، وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا، سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ
[آل عمران ٣/ ١٩٠- ١٩١] وقوله: رَبَّنا مدح المؤمنين الذين يتفكرون ويتعظون.
وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره، فقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها

مُعْرِضُونَ. وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ
[يوسف ١٠/ ١٠٥- ١٠٦].
وجاء في الحديث النّبوي عن الآية التي نفسرها هنا: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ..: «ويل لمن قرأ هذه الآية، فمجّ بها» أي قذف، والمراد: عدم الاعتبار والتفكر والاعتداد بها.
فقه الحياة أو الأحكام:
لما حذر الله تعالى من كتمان الحق، بيّن أن أول ما يجب إظهاره ولا يجوز كتمانه: أمر التوحيد، وأعقبه بذكر البرهان وضرورة النظر: وهو التفكر في عجائب الصنع والإبداع، ليعلم أنه لا بد له من فاعل لا يشبهه شيء، وأخبر تعالى في آية: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ عن تفرده بالألوهية، وأنه لا شريك له، ولا عديل له، بل هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لا إله إلا هو، وأنه الرحمن الرحيم.
جاء في الحديث عن أسماء بنت يزيد بن السّكن عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ والم، اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ».
وقوله تعالى: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ نفي وإثبات، أولها كفر وآخرها إيمان، ومعناه: لا معبود إلا الله.
أخرج مسلم عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله، دخل الجنة»
والمقصود: القلب، لا اللسان، فلو قال:
لا إله، ومات ومعتقده وضميره الوحدانية وما يجب له من الصفات، لكان من أهل الجنة، باتفاق أهل السنة.
ثم أورد سبحانه الدليل على تفرده بالألوهية بخلق السموات والأرض وما فيهما وما بين ذلك مما ذرأ وبرأ من المخلوقات الدالة على وحدانيته. فهذا العالم والبناء العجيب لا بد له من بان وصانع.

فآية السموات: ارتفاعها بغير عمد من تحتها ولا علائق من فوقها.
وآية الأرض: بحارها وأنهارها ومعادنها وشجرها وسهلها ووعرها.
وآية الليل والنهار: اختلافهما بإقبال أحدهما وإدبار الآخر من حيث لا يعلم، واختلافهما في الأوصاف من النور والظلمة والطول والقصر. والنهار:
من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والليل: من الغروب إلى الفجر.
وآية الفلك (السفن) : تسخير الله إياها حتى تجري على وجه الماء ووقوفها فوقه مع ثقلها، وأول من عملها نوح عليه السّلام، كما أخبر تعالى، وقال له جبريل: «اصنعها على جؤجؤ «١» الطائر» فعملها نوح بما أراه جبريل، فالسفينة طائر مقلوب، والماء في أسفلها نظير الهواء في أعلاها.
وإذا كانت السفن مسخرة للإنسان، فيجوز ركوب البحر مطلقا، لتجارة كانت أو عبادة، كالحج والجهاد.
وآية الأمطار: كيفية تكونها وتجمعها وتفريقها، وإنعاش العالم بها، وإخراج النّبات والأرزاق، وجعل المخزون منها في الأرض عدة في غير وقت نزولها، كما قال الله تعالى: فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ [المؤمنون ٢٣/ ١٨].
وفي السماء مختلف أنواع الدواب، قال الله تعالى: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ [البقرة ٢/ ١٦٤] والدابة: تجمع الحيوان كله.
وآية الرياح: تصريفها، أي إرسالها عقيما وملقحة، ونكبا وهلاكا ونصرا، وحارة وباردة، وليّنة وعاصفة، وفيها التفريج والتنفيس والترويح،
روى أبو داود عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الرّيح من روح الله، تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبّوها، واسألوا الله خيرها،

واستعيذوا بالله من شرها»
ويلاحظ أن الرياح تستعمل في الخير، والريح في العذاب،
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إذا هبت الريح: «اللهم اجعلها رياحا، ولا تجعلها ريحا»
لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء، كأنها جسم واحد، وريح الرحمة ليّنة متقطعة.
وآية السحاب: تجمعه وتحريكه من مكان إلى آخر وثبوته بين السماء والأرض من غير عمد ولا علائق، يشبه الجبال، ويدهش لرؤيته من يراه من ركاب الطائرة عند ما تحلق فوقه. قال كعب الأحبار: السحاب غربال المطر، لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء، لأفسد ما يقع عليه من الأرض.
والخلاصة: أن قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ.. لتقرير مبدأ الوحدانية، وإثبات الرحمة والرأفة بالمخلوقات، وأما ما ذكر بعدئذ فهو لإقامة الأدلة الواضحة على الوحدانية والقدرة والرحمة. ولم يقتصر الله تعالى في ذكر وحدانيته على مجرد الإخبار، حتى قرن ذلك بالنظر والاعتبار في آي القرآن، فقال لنبيه: قُلِ: انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [يونس ١٠/ ١٠١] والخطاب للكفار، لقوله تعالى: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس ١٠/ ١٠١] وقال: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف ٧/ ١٨٥] والملكوت: الآيات. وقال: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات ٥١/ ٢١] والمعنى: أو لم ينظروا في ذلك نظر تفكر وتدبر، حتى يستدلوا بكونها محلا للحوادث والتغييرات على أنها محدثات، وأن المحدث لا يستغني عن صانع يصنعه، وأن ذلك الصانع حكيم عالم قدير مريد سميع بصير متكلم، لأنه لو لم يكن بهذه الصفات، لكن الإنسان أكمل منه، وذلك محال.