آيات من القرآن الكريم

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ

ظَاهِرٌ لَا تَطْلُبُ الْبَلَاغَةُ غَيْرَهُ ; لِأَنَّ الْوَحْدَةَ تُذَكِّرُ أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ الْكَاتِمِينَ لِلْحَقِّ بِأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ مَلْجَأً غَيْرَ اللهِ يَقِيهِمْ عُقُوبَتَهُ وَلَعْنَتَهُ. وَذِكْرُ الرَّحْمَةِ بَعْدَهَا يُرَغِّبُهُمْ فِي التَّوْبَةِ وَيَحُولُ دُونَ يَأْسِهِمْ مِنْ فَضْلِ اللهِ بَعْدَ إِيئَاسِهِمْ مِمَّنِ اتَّخَذُوهُمْ شُفَعَاءَ وَوُسَطَاءَ عِنْدَهُ، فَيُطَابِقُ ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا الْكِتْمَانَ: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا) (٢: ١٦٠) إِلَخْ.
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) إِلَخْ، هَذِهِ آيَةٌ قُرْآنِيَّةٌ تَشْرَحُ لَنَا بَعْضَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ، إِثْبَاتًا لِمَا وَرَدَ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا مِنْ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ لَهُ تَعَالَى، عَلَى طَرِيقَةِ الْقُرْآنِ فِي قَرْنِ الْمَسَائِلِ الِاعْتِقَادِيَّةِ بِدَلَائِلِهَا وَبَرَاهِينِهَا كَمَا أَلْمَعْنَا. وَهَذِهِ الْآيَاتُ أَجْنَاسٌ (الْأَوَّلُ وَالثَّانِي) مِنْهَا: خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَفِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ كَثِيرَةُ الْأَنْوَاعِ يُدْهِشُ الْمُتَأَمِّلِينَ بَعْضُ ظَوَاهِرِهَا، فَكَيْفَ حَالُ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى مَا اكْتَشَفَ الْعُلَمَاءُ مِنْ عَجَائِبِهَا، الدَّالُّ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَعْرِفُوهُ أَعْظَمُ مِمَّا عَرَفُوهُ مِنْهَا!
تَتَأَلَّفُ هَذِهِ الْأَجْرَامُ السَّمَاوِيَّةُ مِنْ طَوَائِفَ يَبْعُدُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ بِمَا يُقَدَّرُ
بِالْمَلَايِينِ وَأُلُوفِ الْمَلَايِينِ مِنْ سِنِيِّ سُرْعَةِ النُّورِ، وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهَا نِظَامٌ كَامِلٌ مُحْكَمٌ، وَلَا يُبْطِلُ نِظَامُ بَعْضِهَا نِظَامَ الْآخَرِ ; لِأَنَّ لِلْمَجْمُوعِ نِظَامًا عَامًّا وَاحِدًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَادِرٌ عَنْ إِلَهٍ وَاحِدٍ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي خَلْقِهِ وَتَقْدِيرِهِ، وَحِكْمَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَأَقْرَبُ تِلْكَ الطَّوَائِفِ إِلَيْنَا مَا يُسَمُّونَهُ النِّظَامَ الشَّمْسِيَّ نِسْبَةً إِلَى شَمْسِنَا هَذِهِ الَّتِي تَفِيضُ أَنْوَارُهَا عَلَى أَرْضِنَا، فَتَكُونُ سَبَبًا لِلْحَيَاةِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ فِيهَا، وَالْكَوَاكِبُ التَّابِعَةُ لِهَذِهِ الشَّمْسِ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْمَقَادِيرِ وَالْأَبْعَادِ وَقَدِ اسْتَقَرَّ كُلٌّ مِنْهَا فِي مَدَارِهِ وَحُفِظَتِ النِّسْبَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ بِسُنَّةٍ إِلَهِيَّةٍ مُنْتَظِمَةٍ حَكِيمَةٍ يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِالْجَاذِبِيَّةِ الْعَامَّةِ.
وَلَوْلَا هَذَا النِّظَامُ لَانْفَلَتَتْ هَذِهِ الْكَوَاكِبُ السَّابِحَةُ فِي أَفْلَاكِهَا فَصَدَمَ بَعْضُهَا بَعْضًا وَهَلَكَتِ الْعَوَالِمُ بِذَلِكَ، فَهَذَا النِّظَامُ آيَةٌ عَلَى الرَّحْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ، كَمَا أَنَّهُ آيَةٌ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ.
هَذِهِ هِيَ السَّمَاوَاتُ نُشِيرُ إِلَى آيَاتِهَا عَنْ بُعْدٍ (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ) (٥١: ٢٠) فِي جِرْمِهَا وَمَادَّتِهَا وَشَكْلِهَا وَعَوَالِمِهَا الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ جَمَادٍ وَنَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ، فَلِكُلٍّ مِنْهَا نِظَامٌ عَجِيبٌ وَسُنَنٌ إِلَهِيَّةٌ مُطَّرِدَةٌ فِي تَكْوِينِهَا، وَتَوَالُدِ مَا يَتَوَالَدُ مِنْ أَحْيَائِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ دَقَّقْتَ النَّظَرَ فِي أَنْوَاعِ الْجَمَادَاتِ مِنَ الصُّخُورِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَنْوَاعِ، وَالْجَوَاهِرِ الْمُتَعَدِّدَةِ الْخَوَاصِّ وَالْأَلْوَانِ، لَشَاهَدْتَ مِنَ النِّظَامِ فِيهَا وَمِنْ أَنْوَاعِ الْمَنَافِعِ فِي اخْتِلَافِهَا وَتَنَوُّعِهَا مَا تَعْلَمُ بِهِ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّهَا تَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إِلَى إِبْدَاعِ إِلَهٍ حَكِيمٍ رَءُوفٍ رَحِيمٍ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ.
وَأَقُولُ هُنَا: إِنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ (كَانَ) يَرَى أَنَّ فِي الْجَمَادِ حَيَاةً خَاصَّةً بِهِ دُونَ الْحَيَاةِ النَّبَاتِيَّةِ، وَلَا أَدْرِي أَقَالَهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَمْ لَا وَلَكِنَّنِي سَمِعْتُهُ مِنْهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَهَذَانِ جِنْسَانِ مِنْ آيَاتِهِ تَعَالَى يَشْمَلَانِ أَنْوَاعًا وَأَفْرَادًا مِنْهَا يَتَعَذَّرُ إِحْصَاؤُهَا.
الْجِنْسُ الثَّالِثُ قَوْلُهُ: (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) وَهُوَ أَنْ يَجِئَ أَحَدُهُمَا فَيَذْهَبُ الْآخَرُ،

صفحة رقم 47

وَيَطُولُ هَذَا فَيَقْصُرُ ذَاكَ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِحُسْبَانٍ مُطَّرِدٍ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ وَالْبُلْدَانِ وَمِثْلُهُ اخْتِلَافُ الْفُصُولِ بِاخْتِلَافِ مَوَاقِعِ الْعَرْضِ وَالطُّولِ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِأَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ هُوَ أَثَرُ مُقَابَلَةِ الْأَرْضِ لِلشَّمْسِ وَحَرَكَتِهَا بِإِزَائِهَا، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ مَشْرُوحٌ فِي مَحَلِّهِ مِنَ الْعِلْمِ الْخَاصِّ بِهَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَفِي الْمَشَاهِدِ مِنَ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُصُولِ، وَمَا لِلنَّاسِ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ عَلَى وَحْدَةِ مُبْدِعِ هَذَا النِّظَامِ الْمُطَّرِدِ وَرَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ يَسْهُلُ عَلَى
كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَفْهَمَهَا وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ أَسْبَابَ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ وَتَقْدِيرَهُ. وَفِي الْقُرْآنِ بَيَانٌ لِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا) (١٧: ١٢) فَهَذِهِ الْآيَةُ تَهْدِي إِلَى مَا فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ وَفِي مَعْنَاهَا آيَاتٌ أُخْرَى. وَقَالَ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) (٢٥: ٦٢) وَهَذِهِ هِدَايَةٌ إِلَى الْمَنَافِعِ الدِّينِيَّةِ. وَهُنَاكَ آيَاتٌ تُشِيرُ إِلَى أَسْبَابِ هَذَا الِاخْتِلَافِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) (٣٩: ٥) وَقَوْلِهِ: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا) (٧: ٥٤) وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ تَدُلَّانِ عَلَى اسْتِدَارَةِ الْأَرْضِ وَدَوَرَانِهَا حَوْلَ الشَّمْسِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ ((الْمَنَارِ)) بِالتَّفْصِيلِ وَفِي ((التَّفْسِيرِ)) بِالْإِجْمَالِ.
وَصَفْوَةُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: أَنَّ اخْتِلَافَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ النِّظَامِ الشَّمْسِيِّ، وَقُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ النِّظَامَ يَدُلُّ عَلَى وَحْدَةِ وَاهِبِهِ وَمُقَدِّرِهِ، وَنَقُولُ: إِنَّ آثَارَهُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا، وَأَمَّا دَلَالَتُهَا عَلَى رَحْمَتِهِ تَعَالَى فَظَاهِرَةٌ مِمَّا تَقَدَّمَ الِاسْتِشْهَادُ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ آنِفًا.
الْجِنْسُ الرَّابِعُ قَوْلُهُ: (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) الْفُلْكُ - بِالضَّمِّ - اسْمٌ لِلسَّفِينَةِ وَلِجَمْعِهَا، كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ تَأْتِيَ هَذِهِ الْآيَةُ فِي آخِرِ الْآيَاتِ لِيَكُونَ مَا لِلْإِنْسَانِ فِيهِ صُنْعٌ عَلَى حِدَةٍ وَمَا لَيْسَ لَهُ فِيهِ صُنْعٌ عَلَى حِدَةٍ. وَالنُّكْتَةُ فِي ذِكْرِهَا عُقَيْبَ آيَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ هِيَ أَنَّ الْمُسَافِرِينَ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ هُمْ أَشَدُّ النَّاسِ حَاجَةً إِلَى تَحْدِيدِ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمُرَاقَبَتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ، وَالْمُسَافِرُونَ فِي الْبَحْرِ أَحْوَجُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْأَوْقَاتِ، وَتَحْدِيدِ الْجِهَاتِ ; لِأَنَّ خَطَرَ الْجَهْلِ عَلَيْهِمْ أَشَدُّ، وَفَائِدَةُ الْمَعْرِفَةِ لَهُمْ أَعْظَمُ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ رَبَّانِيِّ السُّفُنِ مَعْرِفَةُ عِلْمِ النُّجُومِ (الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ) وَعِلْمُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ فُرُوعِ هَذَا الْعِلْمِ. قَالَ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (٦: ٩٧) فَهَذَا وَجْهُ التَّرْتِيبِ بَيْنَ ذِكْرِ الْفُلْكِ وَمَا قَبْلَهُ. وَأَمَّا كَوْنُ الْفُلْكِ آيَةً فَلَا يَظْهَرُ بَادِي الرَّأْيِ كَمَا يَظْهَرُ كَوْنُهَا رَحْمَةً مِنْ قَوْلِهِ: (بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ) أَيْ: فِي أَسْفَارِهِمْ وَتِجَارَاتِهِمْ، وَمَا يُعْرَفُ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالِاخْتِبَارِ أَكْثَرُ مِمَّا كَانَ يُعْرَفُ فِي الْعُصُورِ السَّالِفَةِ ; إِذْ كَانَتِ الْفُلْكُ كُلُّهَا شِرَاعِيَّةً فَلَمْ يَكُنِ
الْبُخَارُ يُسَيِّرُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْبَوَاخِرِ وَالْبَوَارِجِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَحْكِي مُدُنًا كَبِيرَةً فِيهَا جَمِيعُ الْمَرَافِقِ

صفحة رقم 48

الَّتِي يَتَمَتَّعُ بِهَا الْمُتْرَفُونَ وَالْمُلُوكُ فِي الْبَرِّ مِنَ الْأَرَائِكِ وَالسُّرُرِ وَالْحَمَّامَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ قِلَاعًا وَحُصُونًا فِيهَا أَقْتَلُ آلَاتِ الْحَرْبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ رَحْمَةِ الْإِلَهِ الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَهَدَى إِلَيْهَا الْإِنْسَانَ، فَلَا بُدَّ لِفَهْمِ كَوْنِهَا آيَةً عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ مِنْ فَهْمِ طَبِيعَةِ الْمَاءِ وَطَبِيعَةِ قَانُونِ الثِّقَلِ فِي الْأَجْسَامِ وَطَبِيعَةِ الْهَوَاءِ وَالرِّيحِ، وَزِدْ عَلَى ذَلِكَ مَعْرِفَةَ طَبِيعَةِ الْبُخَارِ وَالْكَهْرَبَاءِ الَّتِي هِيَ الْعُمْدَةُ فِي سَيْرِ الْفُلْكِ الْكُبْرَى فِي زَمَانِنَا، فَكُلُّ ذَلِكَ يَجْرِي عَلَى سُنَنٍ إِلَهِيَّةٍ مُطَّرِدَةٍ مُنْتَظِمَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا صَادِرَةٌ عَنْ قُوَّةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ مَصْدَرُ الْإِبْدَاعِ وَالنِّظَامِ وَهِيَ قُوَّةُ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ الْحَكِيمِ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
الْجِنْسُ الْخَامِسُ قَوْلُهُ: (وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ) الْمُرَادُ بِالسَّمَاءِ هُنَا: جِهَةُ الْعُلُوِّ أَوِ السَّحَابُ لَا مَا قَالَهُ الْمَخْذُولُونَ الَّذِينَ تَجَرَّءُوا عَلَى الْكَذِبِ عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَزَعَمُوا أَنَّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بَحْرًا، قَالُوا: إِنَّهُ مَوْجٌ مَكْفُوفٌ وَإِنَّ الْمَطَرَ يَنْزِلُ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ فِي تَفْصِيلٍ اخْتَرَعُوهُ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهِ مِنْ سُلْطَانٍ، وَتَبِعَهُمْ فِيهِ أَسْرَى النَّقْلِ وَلَوْ خَالَفَ الْحِسَّ وَالْبُرْهَانَ، وَنُزُولُ الْمَطَرِ مِنَ الْأُمُورِ الْمَحْسُوسَةِ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ وَلَا نَظَرِ عَقْلٍ، وَقَدْ شَرَحَ كَيْفِيَّةَ تَكْوِينِهِ وَنُزُولِهِ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي الْكَائِنَاتِ، وَوَصَفُوا بِالتَّدْقِيقِ الْآيَاتِ الْمُشَاهَدَاتِ، وَلَمْ يَخْرُجْ شَرْحُهُمُ الطَّوِيلُ عَنِ الْكَلِمَةِ الْوَجِيزَةِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا الْمَطَرُ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ) (٣٠: ٤٨) فَحَرَارَةُ الْهَوَاءِ هِيَ الَّتِي تُبَخِّرُ الْمِيَاهَ وَالرُّطُوبَاتِ وَتُثِيرُهَا الرِّيَاحُ فِي الْجَوِّ حَتَّى تَتَكَاثَفَ بِبُرُودَتِهَا وَتَكُونَ كِسَفًا مِنَ السَّحَابِ يَتَحَلَّلُ مِنْهُ الْمَاءُ وَيَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيَنْزِلُ بِثِقَلِهِ إِلَى الْأَرْضِ، كَثِيرًا مَا شَاهَدْنَا فِي جِبَالِ سُورِيَةَ كَمَا يُشَاهِدُ النَّاسُ فِي غَيْرِهَا أَنْ يَنْعَقِدَ السَّحَابُ فِي أَثْنَاءِ الْجَبَلِ وَيَنْزِلُ مِنْهُ الْمَطَرُ وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ فَوْقَهُ حَيْثُ لَا مَطَرَ، وَقَدْ يَخْتَرِقُ النَّاسُ مِنْطَقَةَ الْمَطَرِ إِلَى مَا فَوْقَهَا.
وَقَدْ وَصَفَ اللهُ تَعَالَى هَذَا الْجِنْسَ مِنْ آيَاتِهِ بِأَعْظَمِ آثَارِهِ فَقَالَ: (فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) أَيْ: أَوْجَدَ بِسَبَبِهِ الْحَيَاةَ فِي الْأَرْضِ الْمَيِّتَةِ بِخُلُوِّهَا مِنْ صِفَاتِ الْإِحْيَاءِ كَالنُّمُوِّ وَالتَّغَذِّي وَالنِّتَاجِ، وَبَثَّ: أَيْ نَشَرَ وَفَرَّقَ فِي أَرْجَائِهَا مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأَحْيَاءِ الَّتِي تَدُبُّ عَلَيْهَا وَهِيَ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، فَبِالْمَاءِ حَدَثَتْ حَيَاةُ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ وَبِهِ اسْتَعَدَّتْ لِظُهُورِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ فِيهَا. وَهَلِ الْمُرَادُ الْإِحْيَاءُ الْأَوَّلُ وَمَا تَلَاهُ مِنْ تَوَلُّدِ الْحَيَوَانَاتِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِكُلِّ دَابَّةٍ أَوْ هُوَ مَا يُشَاهَدُ مِنْ آحَادِ الْأَحْيَاءِ الَّتِي تَتَوَلَّدُ دَائِمًا فِي جَمِيعِ بِقَاعِ

صفحة رقم 49

الْأَرْضِ؟ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ الْإِحْيَاءُ الْأَوَّلُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) (٢١: ٣٠) فَهُوَ يَذْكُرُ جَعْلَ كُلِّ شَيْءٍ حَيًّا بِالْمَاءِ فِي إِثْرِ ذِكْرِ انْفِصَالِ الْأَرْضِ مِنَ السَّمَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَجْمُوعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كَانَ رَتْقًا ; أَيْ: مَادَّةً وَاحِدَةً مُتَّصِلًا بَعْضُ أَجْزَائِهَا بِبَعْضٍ عَلَى كَوْنِهِ ذَرَّاتٍ غَازِيَّةً كَالدُّخَانِ كَمَا قَالَ فِي آيَةِ التَّكْوِينَ: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا) (٤١: ١١) وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْفَتْقُ فِي الْأَجْرَامِ انْفَصَلَ جِرْمُ الْأَرْضِ عَنْ جِرْمِ الشَّمْسِ، وَصَارَتِ الْأَرْضُ قِطْعَةً مُسْتَقِلَّةً مَائِرَةً مُلْتَهِبَةً، وَكَانَتْ مَادَّةُ الْمَاءِ - وَهِيَ مَا يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ التَّحْلِيلِ وَالتَّرْكِيبِ (عِلْمَ الْكِيمْيَاءِ) بِالْأُكْسُجِينِ وَالْهِدْرُوجِينِ - تَتَبَخَّرُ مِنَ الْأَرْضِ بِمَا فِيهَا مِنَ الْحَرَارَةِ فَتُلَاقِي فِي الْجَوِّ بُرُودَةً تَجْعَلُهَا مَاءً فَيَنْزِلُ عَلَى الْأَرْضِ كَمَا وَصَفْنَا آنِفًا فَيَبْرُدُ مِنْ حَرَارَتِهَا، وَمَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى صَارَتِ الْأَرْضُ كُلُّهَا مَاءً، وَتَكَوَّنَتْ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَابِسَةُ فِيهِ وَخَرَجَ النَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ وَكُلُّ شَيْءٍ حَيٍّ مِنَ الْمَاءِ، فَهَذَا هُوَ الْإِحْيَاءُ الْأَوَّلُ.
وَأَمَّا الْإِحْيَاءُ الْمُسْتَمِرُّ الْمُشَاهَدُ فِي كُلِّ بِقَاعِ الْأَرْضِ دَائِمًا فَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (٢٢: ٥) وَذَلِكَ أَنَّنَا نَرَى كُلَّ أَرْضٍ لَا يَنْزِلُ فِيهَا الْمَطَرُ وَلَا تَجْرِي فِيهَا الْمِيَاهُ مِنَ الْأَرَاضِي الْمَمْطُورَةِ لَا فِي ظَاهِرِهَا وَلَا فِي بَاطِنِهَا خَالِيَةً مِنَ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ إِلَّا أَنْ يَدْخُلَهَا مِنْ أَرْضٍ مُجَاوِرَةٍ لَهَا ثُمَّ يَعُودُ مِنْهَا، فَحَيَاةُ الْأَحْيَاءِ فِي الْأَرْضِ إِنَّمَا هِيَ بِالْمَاءِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْإِحْيَاءُ الْأَوَّلُ عِنْدَ تَكْوِينِ الْعَوَالِمِ الْحَيَّةِ وَإِيجَادِ أَصُولِ الْأَنْوَاعِ، وَالْإِحْيَاءُ الْمُتَجَدِّدُ فِي أَشْخَاصِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ وَجُزْئِيَّاتِهَا الَّتِي تَتَوَلَّدُ وَتُنَمَّى كُلَّ يَوْمٍ.
وَهَذِهِ الْمِيَاهُ الَّتِي يَتَغَذَّى بِهَا النَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ عَلَى سَطْحِ هَذِهِ الْيَابِسَةِ كُلِّهَا مِنَ الْمَطَرِ، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَرْضُ مِصْرَ، فَيُقَالُ: إِنْ حَيَاتَهَا بِمَاءِ النِّيلِ دُونَ الْمَطَرِ ; فَإِنَّ مِيَاهَ الْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ الَّتِي تَنْبُعُ مِنَ الْأَرْضِ كُلَّهَا مِنَ الْمَطَرِ ; فَهُوَ يَتَخَلَّلُ الْأَرْضَ فَيَجْتَمِعُ فَيَنْدَفِعُ، وَقَدِ امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى بِذَلِكَ عَلَيْنَا وَأَرْشَدَنَا إِلَى آيَتِهِ فِيهِ بِقَوْلِهِ: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ) (٣٩: ٢١) الْآيَةَ. فَالْبُحَيْرَاتُ الَّتِي هِيَ يَنَابِيعُ النِّيلِ مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ وَالزِّيَادَةُ الَّتِي تَكُونُ فِيهِ أَيَّامَ الْفَيَضَانِ هِيَ مِنَ الْمَطَرِ الَّذِي يَمُدُّ هَذِهِ الْيَنَابِيعَ وَيَمُدُّ النَّهْرَ نَفْسَهُ فِي مَجْرَاهُ مِنْ بِلَادِ السُّودَانِ، وَكَثْرَةُ الْفَيَضَانِ وَقِلَّتُهُ تَابِعَةٌ لِكَثْرَةِ الْمَطَرِ السَّنَوِيِّ وَقِلَّتِهِ هُنَاكَ.
هَذَا هُوَ الْمَاءُ فِي كَوْنِهِ مَطَرًا وَفِي كَوْنِهِ سَبَبًا لِلْحَيَاةِ وَهُوَ آيَةٌ فِي كَيْفِيَّةِ وُجُودِهِ وَتَكَوُّنِهِ ; فَإِنَّهُ يَجْرِي فِي ذَلِكَ عَلَى سُنَّةٍ إِلَهِيَّةٍ حَكِيمَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْوَحْدَةِ وَالرَّحْمَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ آيَةٌ فِي تَأْثِيرِهِ

صفحة رقم 50

فِي الْعَوَالِمِ الْحَيَّةِ أَيْضًا، فَإِنَّ هَذَا النَّبَاتَ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ هُوَ مَصْدَرُ حَيَاتِهِ، ثُمَّ هُوَ مُخْتَلِفٌ فِي أَلْوَانِهِ وَطُعُومِهِ وَرَوَائِحِهِ، فَتَجِدُ فِي الْأَرْضِ الْوَاحِدَةِ نَبْتَةَ الْحَنْظَلِ مَعَ نَبْتَةِ الْبِطِّيخِ مُتَشَابِهَتَيْنِ فِي الصُّورَةِ مُتَضَادَّتَيْنِ فِي الطَّعْمِ، وَتَجِدُ النَّخْلَةَ وَتَمْرَهَا مَا تَذُوقُ حَلَاوَةً وَلَذَّةً، وَتَجِدُ فِي جَانِبِهَا شَجَرَةَ اللَّيْمُونِ الْحَامِضِ وَالنَّارِنْجِ وَثَمَرَهَا مَا تَعْرِفُ حُمُوضَةً وَمُلُوحَةً، وَتَجِدُ بِالْقُرْبِ مِنْهُمَا شَجَرَةَ الْوَرْدِ لَهَا مِنَ الرَّائِحَةِ مَا لَيْسَ لِلنَّخْلَةِ وَمَا يُخَالِفُ فِي أَرِيجِهِ زَهْرَ النَّارِنْجِ، بَلْ يُوجَدُ فِي الشَّجَرِ مَا لَهُ زَهْرٌ ذَكِيُّ الرَّائِحَةِ ; فَإِذَا قَطَعْتَ الْغُصْنَ الَّذِي فِيهِ هَذَا الزَّهْرَ تَنْبَعِثُ مِنْهُ رَائِحَةٌ خَبِيثَةٌ ; فَتِلْكَ السُّنَنُ - الَّتِي يَتَكَوَّنُ بِهَا الْمَطَرُ وَيَنْزِلُ - جَارِيَةٌ بِنِظَامٍ وَاحِدٍ دَقِيقٍ، وَكَذَلِكَ طُرُقُ تَغَذِّي النَّبَاتِ بِالْمَاءِ هِيَ جَارِيَةٌ بِنِظَامٍ وَاحِدٍ، فَوَحْدَةُ النِّظَامِ وَعَدَمُ الْخَلَلِ فِيهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَصْدَرَهُ وَاحِدٌ، فَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يَدُلُّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ الْكَامِلَةِ، وَمِنْ جِهَةِ مَا لِلْخَلْقِ فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَرَافِقِ يَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ الشَّامِلَةِ، وَقُلْ مِثْلَ هَذَا فِيمَا بَثَّ اللهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ، فَإِنَّهَا آيَاتٌ عَلَى الْوَحْدَةِ وَدَلَائِلُ وُجُودِيَّةٌ عَلَى عُمُومِ الرَّحْمَةِ.
الْجِنْسُ السَّادِسُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ) ذَكَرَ آيَةَ الرِّيَاحِ بَعْدَ آيَةِ الْمَطَرِ لِلتَّنَاسُبِ بَيْنَهُمَا وَتَذْكِيرًا بِالسَّبَبِ، فَإِنَّ الرِّيَاحَ هِيَ الَّتِي تُثِيرُ السَّحَابَ
وَتَسُوقُهُ فِي الْجَوِّ إِلَى حَيْثُ يَتَحَلَّلُ بُخَارُهُ فَيَكُونُ مَطَرًا كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي آيَةِ (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ) (٣٠: ٤٨) وَتَصْرِيفُ الرِّيَاحِ وَتَدْبِيرُهَا وَتَوْجِيهُهَا عَلَى حَسَبِ الْإِرَادَةِ وَوَفْقَ الْحِكْمَةِ وَالنِّظَامِ، فَهِيَ تَهُبُّ فِي الْأَغْلَبِ مِنْ إِحْدَى الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ وَتَارَةً تَأْتِي نَكْبَاءَ بَيْنَ بَيْنَ، وَقَدْ تَكُونُ مُتَنَاوِحَةً ; أَيْ: تَهُبُّ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَمِنْهَا الْعَقِيمُ، وَمِنْهَا الْمُلَقِّحَةُ لِلنَّبَاتِ وَلِلسَّحَابِ، وَإِذَا هَبَّتْ حَارَّةً فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ وَالْأَوْقَاتِ فَهِيَ تَهُبُ عَقِبَ ذَلِكَ لَطِيفَةَ الْحَرَارَةِ أَوْ بَارِدَةً، وَكُلُّ ذَلِكَ يَجْرِي عَلَى سُنَّةٍ حَكِيمَةٍ تَدُلُّ عَلَى وَحْدَةِ مَصْدَرِهَا، وَرَحْمَةِ مُدَبِّرِهَا.
الْجِنْسُ السَّابِعُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) أَيِ: الْغَيْمِ الْمُذَلَّلِ الْمَسْحُوبِ فِي الْجِوَاءِ لِإِنْزَالِ الْمَطَرِ فِي الْبِلَادِ الْمُخْتَلِفَةِ. ذَكَرَ السَّحَابَ هُنَا بَعْدَ ذِكْرِ تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ; لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تُثِيرُهُ وَتَجْمَعُهُ، وَهِيَ الَّتِي تَسُوقُهُ إِلَى حَيْثُ يُمْطِرُ وَتُفَرِّقُ شَمْلَهُ أَحْيَانًا فَيَمْتَنِعُ الْمَطَرُ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَاءِ مَعَ أَنَّهُ سَبَبُهُ الْمُبَاشِرُ لِيُرْشِدَنَا إِلَى أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ آيَةٌ ; فَإِنَّهُ يَتَكَوَّنُ بِنِظَامٍ وَيَعْتَرِضُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِنِظَامٍ، فَهُوَ فِي ظَاهِرِهِ آيَةٌ تُدْهِشُ النَّاظِرَ الْجَاهِلَ بِالسَّبَبِ لَوْ لَمْ يَأْلَفْ ذَلِكَ وَيَأْنَسْ بِهِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُهَا حَقَّ مَعْرِفَتِهَا مَنْ وَقَفَ عَلَى السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ فِي اجْتِمَاعِ الْأَجْسَامِ اللَّطِيفَةِ وَافْتِرَاقِهَا وَعُلُوِّهَا وَهُبُوطِهَا، وَهُوَ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ عُلَمَاءُ هَذَا الشَّأْنِ بِالْجَاذِبِيَّةِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا جَاذِبِيَّةُ الثِّقَلِ، وَالْجَاذِبِيَّةُ الْعَامَّةُ، وَجَاذِبِيَّةُ الْمُلَاصَقَةُ وَغَيْرُهَا، وَمَنْ لَا يَعْرِفُ أَسْرَارَ هَذِهِ الْكَائِنَاتِ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى ظَوَاهِرِهَا فَيَرَاهَا كَمَا تَرَاهَا الْعَجْمَاوَاتُ

صفحة رقم 51

فَهُوَ لَا يَفْهَمُ مَعْنَى كَوْنِهَا آيَاتٍ ; لِأَنَّهُ أَهْمَلَ آلَةَ الْفَهْمِ الَّتِي امْتَازَ بِهَا وَهِيَ الْعَقْلُ ; وَلِذَلِكَ أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ كُلِّهَا أَنَّ فِيهَا (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ فِي أَسْبَابِهَا، وَيُدْرِكُونَ حِكَمَهَا وَأَسْرَارَهَا، وَيُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَنَافِعِهَا وَمَضَارِّهَا، وَيَسْتَدِلُّونَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْإِتْقَانِ وَالْإِحْكَامِ، وَالسُّنَنِ الَّتِي قَامَ بِهَا النِّظَامُ، عَلَى قُدْرَةِ مُبْدِعِهَا وَحِكَمْتِهِ، وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَعَلَى اسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ بَرِيَّتِهِ، وَبِقَدْرِ ارْتِقَاءِ الْعَقْلِ فِي الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ يَكْمُلُ التَّوْحِيدُ فِي الْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا يُشْرِكُ بِاللهِ أَقَلُّ النَّاسِ عَقْلًا وَأَكْثَرُهُمْ جَهْلًا.
أَلَيْسَ أَكْبَرُ خُذْلَانٍ لِلدِّينِ وَجِنَايَةٍ عَلَيْهِ أَلَّا يَنْظُرَ الْمُنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ فِي آيَاتِهِ
الَّتِي يُوَجِّهُهُمْ كِتَابُهُ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا، وَيُرْشِدُهُمْ إِلَى اسْتِخْرَاجِ الْعِبَرِ مِنْهَا؟ أَلَيْسَ مِنْ أَشَدِّ الْمَصَائِبِ عَلَى الْمِلَّةِ أَنْ يَهْجُرَ رُؤَسَاءُ دِينٍ كَهَذَا الدِّينِ الْعُلُومَ الَّتِي تَشْرَحُ حِكَمَ اللهِ وَآيَاتِهِ فِي خَلْقِهِ وَيَعُدُّوهَا مُضْعِفَةً لِلدِّينِ أَوْ مَاحِيَةً لَهُ خِلَافًا لِكِتَابِ اللهِ الَّذِي يَسْتَدِلُّ لَهُمْ بِهَا وَيُعَظِّمُ شَأْنَ النَّظَرِ فِيهَا؟ بَلَى ; وَإِنَّهُمْ لَيُصِرُّونَ عَلَى تَقَالِيدِهِمْ هَذِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهَا حُجَّةٌ وَإِنَّمَا اتَّبَعُوا فِيهَا سَنَنَ قَوْمٍ مِمَّنْ قَبْلَهُمْ، وَكَانَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ يَقُولُ كَلِمَةً فِي أَهْلِ دِينِهِ الَّذِينَ خَذَلُوهُ: هَكَذَا شَأْنُ أَهْلِ الْأَدْيَانِ كَافَّةً، كَأَنَّهُمْ تَعَاهَدُوا جَمِيعًا عَلَى أَنْ يَكُونَ سَيْرُهُمْ وَاحِدًا. وَهَذَا الْمَعْنَى مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى فِي الْكَافِرِينَ يُنْفِقُونَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ عَلَى الطَّعْنِ فِي نَبِيِّهَا: (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) (٥١: ٥٣).
وَقَدْ يَزْعُمُ بَعْضُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُعَادُونَ عِلْمَ الْكَوْنِ بِاسْمِ الدِّينِ أَنَّ النَّظَرَ فِي ظَوَاهِرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَافٍ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا وَمَعْرِفَةِ آيَاتِ صَانِعِهَا وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ. فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ مَنْ يَكْتَفِي مِنَ الْكِتَابِ بِرُؤْيَةِ جِلْدِهِ الظَّاهِرِ وَشَكْلِهِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةِ مَا أُودِعَهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ. نَعَمْ ; إِنَّ هَذَا الْكَوْنَ هُوَ كِتَابُ الْإِبْدَاعِ الْإِلَهِيِّ الْمُفْصِحُ عَنْ وُجُودِ اللهِ وَكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ وَجَمَالِهِ، وَإِلَى هَذَا الْكِتَابِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) (١٨: ١٠٩) وَبِقَوْلِهِ: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٍ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ) (٣١: ٢٧) فَكَلِمَاتُ اللهِ فِي التَّكْوِينِ بِاعْتِبَارِ آثَارِهَا وَمِصْدَاقِهَا هِيَ آحَادُ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْمُبْدَعَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، فَإِنَّهَا تَنْطِقُ بِلِسَانٍ أَفْصَحَ مِنْ لِسَانِ الْمَقَالِ، لَكِنْ لَا يَفْهَمُهُ الَّذِينَ هُمْ عَنِ السَّمْعِ مَعْزُولُونَ وَلِلْعِلْمِ مُعَادُونَ، الْوَاهِمُونَ أَنَّ مَعْرِفَةَ اللهِ تُقْتَبَسُ مِنَ الْجَدَلِيَّاتِ النَّظَرِيَّةِ وَالْأَقْيِسَةِ الْمَنْطِقِيَّةِ دُونَ الدَّلَائِلِ الْوُجُودِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَلَوْ كَانَ زَعْمُهُمْ حَقِيقَةً لَا وَهْمًا لَكَانَ اللهُ سُبْحَانَهُ اسْتَدَلَّ فِي كِتَابِهِ بِالْأَدِلَّةِ النَّظَرِيَّةِ الْفِكْرِيَّةِ، وَذَكَرَ الدَّوَرَ وَالتَّسَلْسُلَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الِاصْطِلَاحَاتِ الْكَلَامِيَّةِ، وَلَمْ يَسْتَدِلَّ بِالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ وَالْمَطَرِ وَتَأْثِيرِهِ فِي الْحَيَاةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي أَرْشَدَنَا الْقُرْآنُ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا، وَاسْتِخْرَاجِ الدَّلَائِلِ وَالْعِبَرِ مِنْهَا.

صفحة رقم 52
تفسير المنار
عرض الكتاب
المؤلف
محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني الحسيني
الناشر
1990 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية