
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا من الكفر.
وَأَصْلَحُوا الأعمال فيما بينهم وبين ربّهم.
وَبَيَّنُوا صفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم وآية الرجم.
فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ أتجاوز عنهم وأقبل توبتهم.
وَأَنَا التَّوَّابُ الرجّاع بقلوب عبادي المنصرفة عني.
الرَّحِيمُ بهم بعد إقبالهم عليّ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ واو حال.
أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ أي ولعنة الملائكة.
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ قتادة والربيع: يعني النّاس أجمعين: المؤمنين.
أبو العالية: هذا يوم القيامة يوقّف الكافر فيلعنه الله عزّ وجلّ ثمّ تلعنه الملائكة ثمّ يلعنه النّاس أجمعين.
السّدي: لا يتلاعن اثنان مؤمنان ولا كافران فيقول أحدهما لعن الله الظالم إلّا وجبت تلك اللعنة على الكافر لأنّه ظالم فكل أحد من الخلق يلعنه.
خالِدِينَ فِيها مقيمين في اللعنة والنّار.
لا يُخَفَّفُ لا يرفّه عنهم العذاب.
وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يمهلون ويؤجلون.
وقال أبو العالية، لا ينظرون: فيعذرون كقوله: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ «١».
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦٣ الى ١٦٥]
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥)
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس:
نزلت في كفّار قريش قالوا: يا محمّد صف وأنسب لنا ربّك فأنزل الله تعالى سورة الإخلاص وهذه الآية.

جويبر عن الضحّاك عن ابن عبّاس قال: كان للمشركين في الكعبة ثلاثمائة وستون صنما يعبدون من دون الله إفكا وشرّا فبيّن الله تعالى لهم إنّه واحد فأنزل: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ.
سعيد عن أبي الضحى: قال: لمّا نزلت هذه الآية عجب المشركون وقالوا: إنّ محمّدا يقول إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فليأتنا بآية إن كان من الصّادقين فأنزل الله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ
أي تعاقبهما في الذهاب والمجيء والاختلاف: الافتعال من خلف يخلف خلوفا يعني إنّ كل واحد منهما إذا ذهب أحدهما جاء آخر خلافه أي: بعده، نظير قوله: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً «١».
عطاء وابن كيسان: أراد في اختلاف الليل والنّهار في اللّون والطّول والقصر والنّور والظلمة والزيادة والنقصان يكون أحدهما على الآخر، والليل جمع ليلة مثل تمرة وتمر ونحلة ونحل، واللّيالي جمع الجمع والنّهار واحد وجمعه نهر. قال الشّاعر:
لولا الثّريدان هلكنا بالضّمر | ثريد ليل وثريد بالنّهر «٢» |
وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ يعني السفن واحدة وجمعه سواء قال الله تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ.
وقال في الجمع: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ يذكّر ويؤنّث قال الله تعالى: الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
وقال في التأنيث الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ فالتذكير على الفظ الواحد والتأنيث على معنى الجمع.
بِما يَنْفَعُ النَّاسَ يعني ركوبها والحمل عليها في التجارات والمكاسب وانواع المطلب.
وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ يعني المطر.
فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها بعد يبوستها وجدوبتها.
وَبَثَّ نشر وفرّق.
فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ أي يقلّبها قبولا ودبورا وشمالا وجنوبا.
(٢) مجمع البيان: ١/ ٤٤٨.
(٣) سورة يس: ٣٧.

وقيل: تصريفيها مرّة بالرحمة ومرّة بالعذاب.
وقرأ حمزة والأعمش والكسائي وخلف: الرّيح بغير ألف على الواحد وقرأ الباقون:
الرِّياحِ بالجمع.
قال ابن عبّاس: الرّياح للرحمة والريح للعذاب،
وعن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إذا هاجت الريح يقول:
«اللهمّ اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» [١٦] «١».
والرّيح يذكر ويؤنث.
وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ أي الغيم المذلّل بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ سمّي سحابا لأنّه يسحب أي يسير في سرعته كأنّه يسحب: أي يجرّ.
لَآياتٍ دلالات وعلامات.
لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فيعلمون إنّ لهذه الأشياء خالقا وصانعا.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ويل لمن قرأ هذه الآية فمجّ بها»
[١٧] «٢». أي لم يتفكّر فيها ولم يعتبر بها.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ يعني الأصنام المعبودة من دون الله قال أكثر المفسّرين.
وقال السّدي: ساداتهم وقاداتهم الّذين كانوا يطيعونهم في معصية الله ف يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ أي كحبّ المؤمنين الله، وهذا كما يقال: بعت غلامي كبيع غلامك يعني: كبيعك غلامك.
وأنشد الفرّاء:
ولست مسلّما ما دمت حيّا | على زيد كتسليم الأمير «٣» |
يحبّونهم كحبّهم الله يعني أنّهم يسوّون بين هذه الأصنام وبين الله في المحبّة ثمّ قال:
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ قال ابن عبّاس: أثبت وأدوم وذلك إن المشركين كانوا يعبدون صنما فإذا رأوا شيئا أحسن منه تركوا ذلك الوثن وأقبلوا على عبادة الأحسن.
عكرمة: أَشَدُّ حُبًّا في الآخرة.
(٢) تفسير القرطبي: ٢/ ٢٠١، وتاج العروس: ٢/ ٩٧. [.....]
(٣) مجمع البيان: ١/ ٤٦٣.

قتادة: إنّ الكافر يعرض عن معبوده في وقت البلاء ويقبل على الله عزّ وجلّ لقوله: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «١».
قوله تعالى: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ «٢».
والمؤمن لا يعرض عن الله في الضّراء والسرّاء والرّخاء والبلاء ولا يختار عليه سواه.
الحسن: إنّ الكافرين عبدوا الله بالواسطة وذلك قولهم للأصنام: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ «٣».
وقوله: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «٤».
والمؤمنون يعبدونه بلا واسطة ولذلك قال عزّ من قائل: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ.
سعيد بن جبير: إنّ الله يأمر يوم القيامة من أحرف نفسه في الدّنيا على رؤية الأصنام أن يدخلوا جهنّم مع أصنامهم فيأتون لعلمهم إنّ عذاب جهنم على الدّوام ثمّ يقول للمؤمنين بين أيدي الكافرين: إنّ كنتم أحبّائي لا تحبّون النّار فينادي مناد من تحت العرش وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ.
وقيل: لأنّ حبّ المشركين لأوثانهم مشترك لأنّهم يحبّون الأنداد الكثيرة وحبّ المؤمنين لربّهم غير مشترك لأنّهم يحبّون ربّا واحدا، وقيل: لأنّ حبّهم هوائي وحبّ المؤمنين عقلي.
وقيل إنّ حبّهم للأصنام بالتقليد وحبّ المؤمنين لله تعالى بالدّليل والتمييز.
وقيل: لأنّ الكافرين يرون معبودهم ومصنوعهم والمؤمنون يرون الله تعالى صانعهم، وقيل: لأنّ المشركين أحبّوا الأصنام وعاينوها والمؤمنون يحبّون الله ولم يعاينوه بل آمنوا بالغيب في الغيب للغيب.
وقيل: إنّما قال وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ لأنّ الله أحبّهم أوّلا ثمّ أحبّوه ومن شهد له المعبود بالمحبّة كان محبّته أتم وأصح.
قال الله تعالى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ «٥».
وقرأ أبو رجاء العطاردي: يَحبونهم بفتح الياء وهي لغة يقال: حببت الرجل فهو محبوب
(٢) سورة الإسراء: ٦٧.
(٣) سورة يونس: ١٨.
(٤) سورة الزمر: ٣.
(٥) سورة المائدة: ٥٤.