آيات من القرآن الكريم

وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ
ﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ

الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي عَلَيْهِمْ كَقَوْلِكَ: عَلَيْهِمُ الْمَالُ صَاغِرِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: خالِدِينَ فِيها أَيْ فِي اللَّعْنَةِ، وَقِيلَ فِي النَّارِ إِلَّا أَنَّهَا أُضْمِرَتْ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهَا وَتَهْوِيلًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: ١] وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الضَّمِيرَ إِذَا وُجِدَ لَهُ مَذْكُورٌ مُتَقَدِّمٌ فَرَدُّهُ إِلَيْهِ أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إِلَى مَا لَمْ يُذْكَرْ. الثَّانِي: أَنَّ حَمْلَ هَذَا الضَّمِيرِ عَلَى اللَّعْنَةِ أَكْثَرُ فَائِدَةً من حمله على النار، لأن اللعنة هُوَ الْإِبْعَادُ مِنَ الثَّوَابِ بِفِعْلِ الْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ وَإِيجَادِهِ فِي الدُّنْيَا فَكَانَ اللَّعْنُ يَدْخُلُ فِيهِ النَّارُ وَزِيَادَةٌ فَكَانَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ أَوْلَى. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: خالِدِينَ فِيها إِخْبَارٌ عَنِ الْحَالِ، وَفِي حَمْلِ الضَّمِيرِ عَلَى اللَّعْنِ يَكُونُ ذَلِكَ حَاصِلًا فِي الْحَالِ، وَفِي حَمْلِهِ عَلَى النَّارِ لَا يَكُونُ حَاصِلًا فِي الْحَالِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذَا الْعَذَابَ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ. أَحَدُهَا: الْخُلُودُ وَهُوَ الْمُكْثُ الطَّوِيلُ عِنْدَنَا، وَالْمُكْثُ الدَّائِمُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْبَقَرَةِ: ٨١]. وَثَانِيهَا: عَدَمُ التَّخْفِيفِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي يَنَالُهُمْ مِنْ/ عَذَابِ اللَّهِ فَهُوَ مُتَشَابِهٌ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا، لَا يَصِيرُ بَعْضُ الْأَوْقَاتِ أَقَلَّ مِنْ بَعْضٍ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا التَّشَابُهُ مُمْتَنِعٌ لِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِذَا تَصَوَّرَ حَالَ غَيْرِهِ فِي شِدَّةٍ كَالْعِقَابِ، كَانَ ذَلِكَ كَالتَّخْفِيفِ مِنْهُ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى يُوَفِّرُ عَلَيْهِمْ مَا فَاتَ وَقْتُهُ مِنَ الْعَذَابِ ثُمَّ تَنْقَطِعُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَخْفِيفًا. الثَّالِثُ:
أَنَّهُمْ حَيْثُمَا يُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَزْدَادُ غَمُّهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. (أَجَابُوا عَنْهُ) بِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الْقَلِيلَةِ، فَالْمُسْتَغْرِقُ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ لَا يَنْتَبِهُ لِهَذَا الْقَدْرِ الْقَلِيلِ مِنَ التَّفَاوُتِ، قَالُوا:
وَلَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْعِقَابَ مُتَشَابِهٌ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَائِمًا لِأَنَّهُمْ لَوْ جَوَّزُوا انْقِطَاعَ ذَلِكَ مِمَّا يُخَفِّفُ عنهم إذا تصوره، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَاقِعَ فِي مِحْنَةٍ عَظِيمَةٍ فِي الدُّنْيَا إِذَا بُشِّرَ بِالْخَلَاصِ بَعْدَ أَيَّامٍ فَإِنَّهُ يَفْرَحُ وَيُسَرُّ وَيَسْهُلُ عَلَيْهِ مَوْقِعُ مِحْنَتِهِ وَكُلَّمَا كَانَتْ مِحْنَتُهُ أَعْظُمَ، كَانَ مَا يَلْحَقُهُ مِنَ الرَّوْحِ وَالتَّخْفِيفِ بِتَصَوُّرِ الِانْقِطَاعِ أَكْثَرَ.
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: مِنْ صِفَاتِ ذَلِكَ الْعِقَابِ: قَوْلُهُ: وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ وَالْإِنْظَارُ هُوَ التَّأْجِيلُ وَالتَّأْخِيرُ قَالَ تَعَالَى: فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٠] وَالْمَعْنَى: أَنَّ عَذَابَهُمْ لَا يُؤَجَّلُ، بَلْ يَكُونُ حَاضِرًا مُتَّصِلًا بِعَذَابٍ مِثْلِهِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمَنَا أَنَّ حُكْمَ دَارِ الْعَذَابِ وَالثَّوَابِ بِخِلَافِ حُكْمِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ يُمْهَلُونَ فِيهَا إِلَى آجَالٍ قَدَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي الْآخِرَةِ لَا مُهْلَةَ الْبَتَّةَ فَإِذَا اسْتَمْهَلُوا لَا يُمْهَلُونَ، وَإِذَا اسْتَغَاثُوا لَا يُغَاثُونَ وَإِذَا استعتبوا لا يعتبون، وقيل لهم اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠٨] نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْعِقَابِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَّتْ عَلَى يَأْسِ الْكَافِرِ مِنَ الِانْقِطَاعِ وَالتَّخْفِيفِ والتأخير
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٣]
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣)
اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي تَفْسِيرِ لَفْظِ الْإِلَهِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَمَّا الْوَاحِدُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: قَوْلُهُمْ وَاحِدٌ اسْمٌ جَرَى عَلَى وَجْهَيْنِ فِي كَلَامِهِمْ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ اسْمًا وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا، فَالِاسْمُ الَّذِي لَيْسَ بِصِفَةٍ قَوْلُهُمْ: وَاحِدٌ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْعَدَدِ نَحْوُ: وَاحِدٌ اثْنَانِ ثَلَاثَةٌ، فَهَذَا اسْمٌ لَيْسَ بِوَصْفٍ كَمَا أَنَّ سَائِرَ أَسْمَاءِ الْعَدَدِ كَذَلِكَ، وَأَمَّا كَوْنُهُ صِفَةً فَنَحْوُ قَوْلِكَ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ وَاحِدٍ وَهَذَا شَيْءٌ وَاحِدٌ فَإِذَا أُجْرِيَ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَازَ أَنْ يَكُونَ الَّذِي هُوَ الْوَصْفُ كَالْعَالِمِ وَالْقَادِرِ،

صفحة رقم 144

وَجَازَ أَنْ يَكُونَ الَّذِي هُوَ الِاسْمُ كَقَوْلِنَا شَيْءٌ وَيُقَوِّي الْأَوَّلَ قَوْلُهُ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وَأَقُولُ: تَحْقِيقُ هَذَا الْكَلَامِ فِي الْعَقْلِ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي يَصْدُقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا وَاحِدٌ مُشْتَرِكَةٌ فِي مَفْهُومِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَمُخْتَلِفَةٌ فِي خُصُوصِيَّاتِ مَاهِيَّاتِهَا، أَعْنِي كَوْنَهَا جَوْهَرًا، أَوْ عَرَضًا، أَوْ جِسْمًا، أَوْ مُجَرَّدًا، وَيَصِحُّ أَيْضًا فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَعْنِي مَاهِيَّتَهُ، / وَكَوْنَهُ وَاحِدًا مَعَ الذُّهُولِ عَنِ الْآخَرِ، فَإِذَنْ كَوْنُ الْجَوْهَرِ جَوْهَرًا مَثَلًا غَيْرٌ، وَكَوْنُهُ وَاحِدًا غَيْرٌ، وَالْمُرَكَّبُ مِنْهُمَا غَيْرٌ، فَلَفْظُ الْوَاحِدِ تَارَةً يُفِيدُ مُجَرَّدَ مَعْنَى أَنَّهُ وَاحِدٌ، وَهَذَا هُوَ الِاسْمُ، وَتَارَةً يُفِيدُ مَعْنَى أَنَّهُ وَاحِدٌ حِينَ مَا يَحْصُلُ نَعْتًا لِشَيْءٍ آخَرَ، وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهِ نَعْتًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَاحِدِيَّةُ هَلْ هِيَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ أَمْ لَا؟ اخْتَلَفُوا فِيهَا فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّا إِذَا قُلْنَا هَذَا الْجَوْهَرُ وَاحِدٌ، فَالْمَفْهُومُ مِنْ كَوْنِهِ جَوْهَرًا، غَيْرُ الْمَفْهُومِ مِنْ كَوْنِهِ وَاحِدًا، بِدَلِيلِ أَنَّ الْجَوْهَرَ يُشَارِكُهُ الْعَرَضُ فِي كَوْنِهِ وَاحِدًا، وَلَا يُشَارِكُهُ فِي كَوْنِهِ جَوْهَرًا، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُعْقَلَ كَوْنُهُ جَوْهَرًا حَالَ الذُّهُولِ عن كونه واحداً والمعلوم مغايراً لِغَيْرِ الْمَعْلُومِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَوْنُهُ وَاحِدًا نَفْسَ كَوْنِهِ جَوْهَرًا، لَكَانَ قَوْلُنَا الْجَوْهَرُ وَاحِدٌ جَارِيًا مَجْرَى قَوْلِنَا: الْجَوْهَرُ جَوْهَرٌ، وَلِأَنَّ مُقَابِلَ الْجَوْهَرِ هُوَ الْعَرَضُ، وَمُقَابِلَ الْوَاحِدِ هُوَ الْكَثِيرُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ كَوْنِهِ وَاحِدًا، إِمَّا أَنْ يَكُونَ سَلْبِيًّا أَوْ ثُبُوتِيًّا لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ سَلْبِيًّا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ سَلْبِيًّا لَكَانَ سَلْبًا لِلْكَثْرَةِ وَالْكَثْرَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ سَلْبِيَّةً أَوْ ثُبُوتِيَّةً، فَإِنْ كَانَتِ الْكَثْرَةُ سَلْبِيَّةً، والواحدة سَلْبُ الْكَثْرَةِ، كَانَتِ الْوَحْدَةُ سَلْبًا لِلسَّلْبِ وَسَلْبُ السَّلْبِ ثُبُوتٌ، فَالْوَحْدَةُ ثُبُوتِيَّةٌ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَإِنْ كَانَتِ الْكَثْرَةُ ثُبُوتِيَّةً وَلَا مَعْنًى لِلْكَثْرَةِ إِلَّا مَجْمُوعَ الْوَحَدَاتِ فَلَوْ كَانَتِ الْوَحْدَةُ سَلْبِيَّةً مَعَ الْكَثْرَةِ كَانَ مَجْمُوعُ الْمَعْدُومَاتِ أَمْرًا مَوْجُودًا وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْوَحْدَةَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ، ثُمَّ هَذِهِ الصِّفَةُ الزَّائِدَةُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَا تَحَقُّقَ لَهَا إِلَّا فِي الذِّهْنِ أولها تَحَقُّقٌ خَارِجَ الذِّهْنِ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ وَإِلَّا لَمْ يَكُنِ الذِّهْنِيُّ مُطَابِقًا لِمَا فِي الْخَارِجِ، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ فِي نَفْسِهِ وَاحِدًا وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الشَّيْءَ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ قَدْ كَانَ واحداً في نفسه قبل أن وجد ذِهْنِيًّا وَفَرَضِيًّا وَاعْتِبَارِيًّا، فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ وَاحِدًا صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى ذَاتِهِ قَائِمَةٌ بِتِلْكَ الذَّاتِ، وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَى كَوْنَ الْوَحْدَةِ صِفَةً ثُبُوتِيَّةً بِأَنْ قَالَ: لَوْ كَانَتِ الْوَحْدَةُ صِفَةً زَائِدَةً عَلَى الذَّاتِ، كَانَتِ الْوَحَدَاتُ مُتَسَاوِيَةً فِي مَاهِيَّةِ كَوْنِهَا وَاحِدَةً وَمُتَبَايِنَةً بِتَعَيُّنَاتِهَا، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِلْوَحْدَةِ وَحْدَةٌ أُخْرَى، وَيَنْجَرُّ ذَلِكَ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَهُوَ مُحَالٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْوَاحِدُ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ مِنْ جِهَةِ مَا قِيلَ لَهُ إِنَّهُ وَاحِدٌ، فَالْإِنْسَانُ الْوَاحِدُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَنْقَسِمَ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِنْسَانٌ إِلَى إِنْسَانَيْنِ بَلْ قَدْ يَنْقَسِمُ إِلَى الْأَبْعَاضِ وَالْأَجْزَاءِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْوَحْدَةِ حَتَّى الْعَدَدُ فَإِنَّ الْعَشَرَةَ الْوَاحِدَةَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا عَشَرَةٌ وَاحِدَةٌ قَدْ عَرَضَتِ الْوَحْدَةُ لَهَا فَإِنْ قُلْتَ: عَشَرَتَانِ فَالْعَشَرَتَانِ مَرَّةً وَاحِدَةً قَدْ عَرَضَتِ الْوَحْدَةُ لَهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، فَلَا شَيْءَ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ يَنْفَكُّ عَنِ الْوَحْدَةِ وَلِأَجْلِ هَذَا اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِهِمُ الْوَحْدَةُ بِالْمَوْجُودِ فَظَنَّ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ لَمَّا صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ وَاحِدٌ كَانَ وُجُودُهُ نَفْسَ وَحْدَتِهِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْوُجُودَ يَنْقَسِمُ إِلَى الْوَاحِدِ وَالْكَثِيرِ وَالْمُنْقَسِمُ إِلَى شَيْءٍ مُغَايِرٌ لِمَا بِهِ الِانْقِسَامُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاحِدٌ بِاعْتِبَارَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَتْ ذَاتُهُ مُرَكَّبَةً مِنِ اجْتِمَاعِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ مَا يُشَارِكُهُ فِي كَوْنِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ وَفِي كَوْنِهِ مَبْدَأً لِوُجُودِ جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، فَالْجَوْهَرُ الْفَرْدُ عِنْدَ مَنْ يُثْبِتُهُ وَاحِدٌ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ وَاحِدٌ بِالتَّفْسِيرِ الثَّانِي. والبرهان على

صفحة رقم 145

ثُبُوتِ الْوَحْدَةِ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَكَّبًا لَافْتَقَرَ تَحَقُّقُهُ إِلَى تَحَقُّقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ غَيْرُهُ، فَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ، وَكُلُّ مُفْتَقِرٍ إِلَى غَيْرِهِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَاجِبٌ لِغَيْرِهِ فَهُوَ مُرَكَّبٌ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، فَمَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا، فَإِذَنْ حَقِيقَتُهُ سُبْحَانَهُ حَقِيقَةٌ أَحَدِيَّةٌ فَرْدِيَّةٌ لَا كَثْرَةَ فِيهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، لَا كَثْرَةً مِقْدَارِيَّةً، كَمَا تَكُونُ لِلْأَجْسَامِ، وَلَا كَثْرَةً مَعْنَوِيَّةً كَمَا تَكُونُ لِلنَّوْعِ الْمُتَرَكِّبِ مِنَ الْفَصْلِ وَالْجِنْسِ أَوِ الشَّخْصِ الْمُتَرَكِّبِ مِنَ الْمَاهِيَّةِ وَالتَّشَخُّصِ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ صَعُبَ ذَلِكَ عَلَى أَقْوَامٍ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ قَادِرٌ حَيٌّ مُرِيدٌ، فَالْمَفْهُومُ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ إِمَّا هُوَ نَفْسُ الْمَفْهُومِ مِنْ ذَاتِهِ أَوْ لَيْسَ كَذَلِكَ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُمْكِنُنَا أَنْ نَتَعَقَّلَ ذَاتَهُ مَعَ الذُّهُولِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُمْكِنُنَا تَعَقُّلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ مَعَ الذُّهُولِ عَنْ أَنْ نَتَعَقَّلَ ذَاتَهُ الْمَخْصُوصَةَ بَلْ هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ ذَاتَهُ الْمَخْصُوصَةَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، وَصِفَاتُهُ مَعْلُومَةٌ وَالْمَعْلُومُ مُغَايِرٌ لِمَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ، فَإِذَنْ هَذِهِ الصِّفَاتُ أُمُورٌ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَوْ كَانَتْ هِيَ نَفْسَ الذَّاتِ لَكَانَ قَوْلُنَا فِي الذَّاتِ: إِنَّهَا عَالِمَةٌ أَوْ لَيْسَتْ عَالِمَةً جَارِيًا مَجْرَى قَوْلِنَا الذات ذات أو لا ذات، ولا استحال أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْبَحْثِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَامَ الْبُرْهَانُ عَلَى نَفْيِهِ وَإِثْبَاتِهِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ: الذَّاتُ ذَاتٌ عَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ بِالضَّرُورَةِ صِدْقَهُ وَمَنْ قَالَ: الذَّاتُ لَيْسَتْ بِذَاتٍ عَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ بِالضَّرُورَةِ كَذِبَهُ، وَلَمَّا كَانَ قَوْلُنَا: الذَّاتُ عَالِمَةٌ أَوْ لَيْسَتْ عَالِمَةً لَيْسَ بِمَثَابَةِ قَوْلِنَا لِذَاتٍ ذَاتُ الذَّاتِ لَيْسَتْ بِذَاتٍ عَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ أُمُورٌ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَرْجِعُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ إِلَى ذَاتِهِ فَقَطْ وَذَاتُهُ لَيْسَتْ إِلَّا شَيْئًا وَاحِدًا لَكَانَ الْمَرْجِعُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إِقَامَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِهِ قَادِرًا تُغْنِي عَنْ إِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا، وَعَلَى كَوْنِهِ حَيًّا، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلِ افْتَقَرْنَا فِي كُلِّ صِفَةٍ إِلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمَرْجِعُ بِهَا إِلَى الذَّاتِ، إِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ أُمُورٌ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ، فَنَقُولُ: هَذِهِ الصِّفَاتُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ سَلْبِيَّةً أَوْ ثُبُوتِيَّةً، لَا جَائِزَ أَنْ تَكُونَ سَلْبِيَّةً، لِأَنَّ السَّلْبَ نَفْيٌ مَحْضٌ، وَالنَّفْيُ الْمَحْضُ لَا تَخَصُّصَ فِيهِ، وَلِأَنَّا جَعَلْنَا كَوْنَهُ عَالِمًا قَادِرًا عِبَارَةً عَنْ نَفْيِ الْجَهْلِ وَالْعَجْزِ، فَالْجَهْلُ وَالْعَجْزُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَرْجِعُ بِهِمَا إِلَى الْعَدَمِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِعَالِمٍ وَلَا قَادِرٍ، أَوْ يَكُونَ الْمَرْجِعُ إِلَى أَمْرٍ ثُبُوتِيٍّ: وَهُوَ أَنَّ الْجَهْلَ عِبَارَةٌ عَنِ اعْتِقَادٍ غَيْرِ مُطَابِقٍ، وَالْعَجْزَ عِبَارَةٌ عَنْ إِخْلَالِ حَالِ الْقُدْرَةِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ عِبَارَةً عَنْ سَلْبِ السَّلْبِ، فَيَكُونُ ثُبُوتِيًّا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَلْزَمْ مِنِ انْتِفَاءِ الْجَهْلِ وَالْعَجْزِ بِهَذَا الْمَعْنَى تَحَقُّقُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، فَإِنَّ الْجَمَادَ قَدِ انْتَفَى عَنْهُ الْجَهْلُ وَالْعَجْزُ بِهَذَا الْمَعْنَى مَعَ/ أَنَّهُ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أُمُورٌ زَائِدَةٌ عَلَى ذَاتِهِ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ، وَالْإِلَهُ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، فَقَدْ عَادَ الْقَوْلُ إِلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِلَهِ تَعَالَى مُرَكَّبَةٌ مِنْ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، فَكَيْفَ الْقَوْلُ فِيهِ؟
وَإِشْكَالٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْوَحْدَةَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ قَائِمَةٌ بِالذَّاتِ، فَإِذَا كَانَتْ حَقِيقَةُ الْحَقِّ وَاحِدَةً، فَهُنَاكَ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ: تِلْكَ الْحَقِيقَةُ، وَتِلْكَ الْوَاحِدِيَّةُ وَمَوْصُوفِيَّةُ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ بِتِلْكَ الْوَاحِدِيَّةِ، فَذَلِكَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، فَأَيْنَ التَّوْحِيدُ؟
وَإِشْكَالٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ تِلْكَ الْحَقِيقَةَ هَلْ هِيَ مَوْجُودَةٌ وَوَاجِبَةُ الْوُجُودِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فَهِيَ بِوُجُودِهَا تُشَارِكُ سَائِرَ الْمَوْجُودَاتِ وَبِمَاهِيَّاتِهَا تَمْتَازُ عَنْ سَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ، فَهُنَاكَ كَثْرَةٌ حَاصِلَةٌ بِسَبَبِ الْوُجُودِ وَالْمَاهِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْعَدَمِ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْوُجُوبِ، فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتْ وَاجِبَةَ الوجود

صفحة رقم 146

لِذَاتِهَا، فَوُجُوبُ وُجُودِهَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ عَيْنَ الذَّاتِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ صِفَةٌ لِانْتِسَابِ الْمَوْضُوعِ إِلَى الْمَحْمُولِ بِالْمَوْصُوفِيَّةِ وَالِانْتِسَابُ مُغَايِرٌ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مُغَايِرٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ حَيْثُ هُوَ فَلَأَنْ تَكُونَ صِفَةُ ذَلِكَ الِانْتِسَابِ مُغَايِرَةً لَهُمَا أَوْلَى، وَأَيْضًا فَالذَّاتُ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُسَمَّى الْوَاجِبِ أَمْرًا قَائِمًا بِالنَّفْسِ وَلِأَنَّا نَصِفُ الذَّاتَ بِالْوُجُوبِ وَوَصْفُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ مَوْجُودٌ وَاجِبُ الْوُجُودِ لَكَانَ وُجُوبُ وُجُودِهِ زَائِدًا عَلَى ذَاتِهِ، فَهُنَاكَ أَمْرَانِ تِلْكَ الذَّاتُ مَعَ ذَلِكَ الْوُجُوبِ وَمَعَ الْمَوْصُوفِيَّةِ بِذَلِكَ الْوُجُوبِ فَقَدْ عَادَ التَّثْلِيثُ.
وَإِشْكَالٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ الْبَسِيطَةَ هَلْ يُمْكِنُ الْإِخْبَارُ عَنْهَا وَهَلْ يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا أَمْ لَا.
وَالْأَوَّلُ مُحَالٌ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ إِنَّمَا يَكُونُ بِشَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ، فَالْمُخْبَرُ عَنْهُ غَيْرُ الْمُخْبَرِ بِهِ فَهُمَا أَمْرَانِ لَا وَاحِدٌ، وَإِنْ لَمْ يكن التعبير عنه فهو غير مَعْلُومٌ الْبَتَّةَ لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ فَهُوَ مَغْفُولٌ عَنْهُ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا فِي هَذَا المقام من السؤال:
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَاتٌ مَوْصُوفَةٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَجْمُوعَ مُفْتَقِرٌ فِي تَحَقُّقِهِ إِلَى تَحَقُّقِ أَجْزَائِهِ إِلَّا أَنَّ الذَّاتَ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا وَاجِبَةٌ لِذَاتِهَا، ثُمَّ إِنَّهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا بَعْدِيَّةٌ بِالرُّتْبَةِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِتِلْكَ النُّعُوتِ والصفات فهذا مما لا امتناع فِيهِ عِنْدَ الْعَقْلِ.
وَأَمَّا الْإِشْكَالُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْوَحْدَةَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا وَاحِدَةٌ فَهُنَاكَ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ لَا أَمْرٌ وَاحِدٌ، فَالْجَوَابُ أَنَّ الَّذِي ذَكَرْتُهُ حَقٌّ وَلَكِنْ فُرِّقَ بَيْنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ وَبَيْنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ، فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ مَعَ تَرْكِ الِالْتِفَاتِ إِلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ فهناك تتحقق الوحدة وهاهنا حَالَةٌ عَجِيبَةٌ فَإِنَّ الْعَقْلَ مَا دَامَ يَلْتَفِتُ إِلَى الْوَحْدَةِ فَهُوَ بَعْدُ لَمْ يَصِلْ إِلَى عَالَمِ الْوَحْدَةِ، فَإِذَا تَرَكَ الْوَحْدَةَ فَقَدْ وَصَلَ إِلَى الْوَحْدَةِ فَاعْتَبِرْ هَذِهِ الْحَالَةَ بِذِهْنِكَ اللَّطِيفِ لَعَلَّكَ تَصِلُ إِلَى سِرِّهِ وَهَذَا أَيْضًا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ إِشْكَالِ الْوُجُودِ وَإِشْكَالِ الْوُجُوبِ.
أَمَّا الْإِشْكَالُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ؟ فَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ لِأَنَّكَ مَتَى عَبَّرْتَ عَنْهُ فَقَدْ أَخْبَرْتَ عَنْهُ بِأَمْرٍ آخَرَ، وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ مُغَايِرٌ لِلْمُخْبَرِ بِهِ لَا مَحَالَةَ، فَلَيْسَ هُنَاكَ تَوْحِيدٌ، وَلَوْ أَخْبَرْتَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْإِخْبَارُ عَنْهُ، فَهُنَاكَ ذَاتٌ مَعَ سَلْبٍ خَاصٍّ، فَلَا يَكُونُ هُنَاكَ تَوْحِيدٌ فَأَمَّا إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخْبِرَ عَنْهُ لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ، فَهُنَاكَ تَحَقَّقَ الْوُصُولُ إِلَى مَبَادِئِ عَالَمِ التَّوْحِيدِ، ثُمَّ الِالْتِفَاتُ الْمَذْكُورُ لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ إِلَّا بِقَوْلِهِ هُوَ فَلِذَلِكَ عَظُمَ وَقْعُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عِنْدَ الْخَائِضِينَ فِي بِحَارِ التَّوْحِيدِ، وَسَنَذْكُرُ شَمَّةً مِنْ حَقَائِقِهَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى، أَمَّا الْوَحْدَةُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي، وَهِيَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ يُشَارِكُهُ فِي وُجُوبِ الْوُجُودِ، فكأن هَذِهِ الْوَحْدَةَ هِيَ الْوَحْدَةُ الْخَاصَّةُ بِذَاتِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَبَرَاهِينُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢٢] أم الْوَحْدَةُ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ، فَلَيْسَتْ مِنْ خَوَاصِّ ذَاتِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِأَنَّهُ لَا شَكَّ فِي وُجُودِ مَوْجُودَاتٍ وَهَذِهِ الْمَوْجُودَاتُ إِمَّا مُفْرَدَاتٌ أَوْ مُرَكَّبَاتٌ، فَالْمُرَكَّبُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْمُفْرَدَاتِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ الْمُفْرَدَاتِ في عالم الْمُمْكِنَاتِ، فَالْوَاحِدِيَّةُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَيْسَتْ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَوَحَّدَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ بِهَا، أَمَّا الْوَاحِدِيَّةُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي فَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُتَوَحِّدٌ بِهَا وَمُتَفَرِّدٌ بِهَا، وَلَا يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ النَّعْتِ شَيْءٌ سِوَاهُ، فَهَذِهِ تَلْخِيصُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِحَسَبِ مَا

صفحة رقم 147

يَلِيقُ بِعَقْلِ الْبَشَرِ وَفِكْرِهِ الْقَاصِرِ، مَعَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ تَصَرُّفَاتِ الْأَفْكَارِ وَالْأَوْهَامِ، وَعَلَائِقِ الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ: لِأَنَّهُ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ، وَلَا بِذِي أَجْزَاءٍ، وَلِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِالْقِدَمِ، وَلِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَلِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِصِفَاتِ ذَاتِهِ نَحْوَ كَوْنِهِ عَالِمًا بِنَفْسِهِ، وَقَادِرًا بِنَفْسِهِ، وَأَبُو هَاشِمٍ يَقْتَصِرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فَجَعَلَ تَفَرُّدَهُ بِالْقِدَمِ، وَبِصِفَاتِ الذَّاتِ وَجْهًا وَاحِدًا، قَالَ الْقَاضِي:
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُرَادُ تَفَرُّدُهُ بِالْإِلَهِيَّةِ فَقَطْ، لِأَنَّهُ أَضَافَ التَّوْحِيدَ إِلَى ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ لَا قَسِيمَ لَهُ، وَوَاحِدٌ فِي صِفَاتِهِ لَا شَبِيهَ لَهُ، وَوَاحِدٌ فِي أَفْعَالِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ، أَمَّا أَنَّهُ وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ فَلِأَنَّ تِلْكَ الذَّاتَ الْمَخْصُوصَةَ الَّتِي هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِنَا هُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَاصِلَةً فِي شَخْصٍ آخَرَ سِوَاهُ، أَوْ لَا تَكُونَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَانَ امْتِيَازُ ذَاتِهِ الْمُعَيَّنَةِ عَنِ الْمَعْنَى الْآخَرِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِقَيْدٍ زَائِدٍ، فَيَكُونُ هُوَ فِي نَفْسِهِ مُرَكَّبًا بِمَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ وَمَا بِهِ الِامْتِيَازُ، فَيَكُونُ مُمْكِنًا مَعْلُولًا مُفْتَقِرًا وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ لَا قَسِيمَ لَهُ، وَأَمَّا أَنَّهُ وَاحِدٌ فِي صِفَاتِهِ فَلِأَنَّ مَوْصُوفِيَّتَهُ سُبْحَانَهُ بِصِفَاتٍ مُتَمَيِّزَةٍ عَنْ مَوْصُوفِيَّةِ غَيْرِهِ بِصِفَاتٍ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ فَانٍ، لِأَنَّ حُصُولَ صِفَاتِهِ لَهُ لَا تَكُونُ مِنْ نَفْسِهِ بَلْ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَسْتَحِقُّ حُصُولَ صِفَاتِهِ لِنَفْسِهِ لَا لِغَيْرِهِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّ صِفَاتِ غَيْرِهِ مُخْتَصَّةٌ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ لِأَنَّهَا حَادِثَةٌ، وَصِفَاتُ الْحَقِّ لَيْسَتْ كَذَلِكَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ صِفَاتِ الْحَقِّ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ بِحَسَبِ/ الْمُتَعَلِّقَاتِ، فَإِنَّ عِلْمَهُ مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَقُدْرَتَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِجَمِيعِ الْمَقْدُورَاتِ، بَلْ لَهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ الْغَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ مَعْلُومَاتٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ فِي ذَلِكَ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ أَنَّهُ كَيْفَ كَانَ وَيَكُونُ حَالُهُ بِحَسَبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَحْيَازِ الْمُتَنَاهِيَةِ وَبِحَسَبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الصِّفَاتِ الْمُتَنَاهِيَةِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ فِي صِفَاتِهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَتْ مَوْصُوفِيَّةُ ذَاتِهِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ بِمَعْنَى كَوْنِهَا حَالَّةً فِي ذَاتِهِ وَكَوْنِ ذَاتِهِ مَحَلًّا لَهَا، وَلَا أَيْضًا بِحَسَبِ كَوْنِ ذَاتِهِ مُسْتَكْمَلَةً بِهَا لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الذَّاتَ كَالْمَبْدَأِ لِتِلْكَ الصِّفَاتِ فَلَوْ كَانَتِ الذَّاتُ مُسْتَكْمَلَةً بِالصِّفَاتِ لَكَانَ الْمَبْدَأُ نَاقِصًا لِذَاتِهِ مُسْتَكْمَلًا بِالْمُمْكِنِ لِذَاتِهِ وَهُوَ مُحَالٌ، بَلْ ذَاتُهُ مُسْتَكْمِلَةٌ لِذَاتِهِ وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ الِاسْتِكْمَالِ الذَّاتِيِّ تَحَقُّقُ صِفَاتِ الْكَمَالِ مَعَهُ إِلَّا أَنَّ التَّقْسِيمَ يَعُودُ فِي نَفْسِ الِاسْتِكْمَالِ فَيَنْتَهِي إِلَى حَيْثُ تَقْصُرُ الْعِبَارَةُ عَنِ الْوَفَاءِ بِهِ، خَامِسُهَا: أَنَّهُ لَا خَبَرَ عِنْدَ الْعُقُولِ مِنْ كُنْهِ صِفَاتِهِ كَمَا لَا خَبَرَ عِنْدَهَا مِنْ كُنْهِ ذَاتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا أَنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي لِأَجْلِهِ ظَهَرَ الْإِحْكَامُ وَالْإِتْقَانُ فِي عَالَمِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَالْمَعْلُومُ مِنْ عِلْمِهِ أَنَّهُ أَمْرٌ مَا لَا نَدْرِي أَنَّهُ مَا هُوَ وَلَكِنْ نَعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ هَذَا الْأَثَرُ الْمَحْسُوسُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي كَوْنِهِ قَادِرًا وَحَيًّا، فَسُبْحَانَ مَنْ رَدَعَ بِنُورِ عِزَّتِهِ أَنْوَارَ الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ، وَأَمَّا إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاحِدٌ فِي أَفْعَالِهِ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُمْكِنٌ، فَالْوَاجِبُ هُوَ هُوَ، وَالْمُمْكِنُ مَا عَدَاهُ وَكُلُّ مَا كَانَ مُمْكِنًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ لَا يُوجَدَ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِالْوَاجِبِ وَلَا يَخْتَلِفُ هَذَا الْحُكْمُ بِاخْتِلَافِ أَقْسَامِ الْمُمْكِنَاتِ سَوَاءٌ كَانَ مُلْكًا أَوْ مِلْكًا أَوْ كَانَ فِعْلًا لِلْعِبَادِ أَوْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ فَهُوَ مُلْكُهُ وَمِلْكُهُ وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ وَقَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ وَاسْتِيلَائِهِ، وَعِنْدَ هَذَا تُدْرِكُ شَمَّةً مِنْ رَوَائِحِ أَسْرَارِ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَيَلُوحُ لَكَ شَيْءٌ مِنْ حَقَائِقِ قَوْلِهِ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [الْقَمَرِ: ٤٩] وَتَعْرِفُ أَنَّ الْمَوْجُودَ لَيْسَ الْبَتَّةَ إِلَّا مَا هُوَ هُوَ، وَمَا هُوَ لَهُ وَإِذَا وَقَعَتْ سَفِينَةُ الْفِكْرَةِ فِي هَذِهِ اللُّجَّةِ، فَلَوْ سَارَتْ إِلَى الْأَبَدِ لَمْ تَقِفْ، لِأَنَّ السَّيْرَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، فَالشَّيْءُ الأول

صفحة رقم 148

مَتْرُوكٌ، وَالشَّيْءُ الثَّانِي مَطْلُوبٌ وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ، فَأَنْتَ بَعْدُ خَارِجٌ عَنْ عَالَمِ الْفَرْدَانِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ، فَأَمَّا إِذَا وَصَلْتَ إِلَى بَرْزَخِ عَالَمِ الْحُدُوثِ وَالْقِدَمِ، فَهُنَاكَ تَنْقَطِعُ الْحَرَكَاتُ، وَتَضْمَحِلُّ الْعَلَامَاتُ وَالْأَمَارَاتُ، وَلَمْ يَبْقَ فِي الْعُقُولِ وَالْأَلْبَابِ إِلَّا مُجَرَّدُ أَنَّهُ هُوَ، فَيَا هُوَ وَيَا مَنْ لَا هُوَ إِلَّا هُوَ أَحْسِنْ إِلَى عَبْدِكَ الضَّعِيفِ، فَإِنَّ عَبْدَكَ بِفِنَائِكَ وَمِسْكِينَكَ بِبَابِكَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى إِضَافَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَإِلهُكُمْ وَهَلْ تَصِحُّ هَذِهِ الْإِضَافَةُ فِي كُلِّ الْخَلْقِ أَوْ لَا تَصِحُّ إِلَّا فِي الْمُكَلَّفِ؟ قُلْنَا: لَمَّا كَانَ الْإِلَهُ هُوَ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا وَالَّذِي يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا بِهَذَا الْوَصْفِ، إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يُتَصَوَّرُ منه عبادة الله تعالى، فإذن هَذِهِ الْإِضَافَةَ صَحِيحَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ الْمُكَلَّفِينَ، وَإِلَى جَمِيعِ مَنْ تَصِحُّ صَيْرُورَتُهُ مُكَلَّفًا تَقْدِيرًا.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَإِلهُكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْإِلَهِ مَا يَصِحُّ أَنْ تَدْخُلَهُ الْإِضَافَةُ فَلَوْ كَانَ مَعْنَى الْإِلَهِ الْقَادِرَ لَصَارَ الْمَعْنَى وَقَادِرُكُمْ قَادِرٌ وَاحِدٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ رَكِيكٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمَعْبُودُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُ وَاحِدٌ فِي الْإِلَهِيَّةِ، لِأَنَّ وُرُودَ لَفْظِ الْوَاحِدِ بَعْدَ لَفْظِ الْإِلَهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْوَحْدَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْإِلَهِيَّةِ لَا فِي غَيْرِهَا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ وَصْفِ الرَّجُلِ بِأَنَّهُ سَيِّدٌ وَاحِدٌ، وَبِأَنَّهُ عَالِمٌ وَاحِدٌ، وَلَمَّا قَالَ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أَمْكَنَ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِ أَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: هَبْ أَنَّ إِلَهَنَا وَاحِدٌ، فَلَعَلَّ إِلَهَ غَيْرِنَا مُغَايِرٌ لِإِلَهِنَا، فَلَا جَرَمَ أَزَالَ هَذَا الْوَهْمَ بِبَيَانِ التَّوْحِيدِ الْمُطْلَقِ، فَقَالَ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَنَا: لَا رَجُلَ يَقْتَضِي نَفْيَ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ، وَمَتَى انْتَفَتْ هَذِهِ الْمَاهِيَّةُ انْتَفَى جَمِيعُ أَفْرَادِهَا، إِذْ لَوْ حَصَلَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ فَمَتَى حَصَلَ ذَلِكَ الْفَرْدُ، فَقَدْ حَصَلَتِ الْمَاهِيَّةُ، وَذَلِكَ يُنَاقِضُ مَا دَلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ مِنِ انْتِفَاءِ الْمَاهِيَّةِ: فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَنَا: لَا رَجُلَ يَقْتَضِي النَّفْيَ الْعَامَّ الشَّامِلَ، فَإِذَا قِيلَ بَعْدُ: إِلَّا زَيْدًا، أَفَادَ التَّوْحِيدَ التَّامَّ الْمُحَقَّقَ وَفِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَبْحَاثٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ النَّحْوِيِّينَ قَالُوا: الْكَلَامُ فِيهِ حَذْفٌ وَإِضْمَارٌ وَالتَّقْدِيرُ: لَا إِلَهَ لَنَا، أَوْ لَا إِلَهَ فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلتَّوْحِيدِ الْحَقِّ وَذَلِكَ لِأَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: التَّقْدِيرُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ لَنَا إِلَّا اللَّهُ، لَكَانَ هَذَا توحيداً لإلهنا لا توحيد لِلْإِلَهِ الْمُطْلَقِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى بَيْنَ قَوْلِهِ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَرْقٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ تَكْرَارًا مَحْضًا، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَأَمَّا لَوْ قُلْنَا: التَّقْدِيرُ لَا إِلَهَ فِي الْوُجُودِ، فَذَلِكَ الْإِشْكَالُ زَائِلٌ، إِلَّا أَنَّهُ يَعُودُ الْإِشْكَالُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وذلك لأنك إذا قلنا: لَا إِلَهَ فِي الْوُجُودِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كَانَ هَذَا نَفْيًا لِوُجُودِ الْإِلَهِ الثَّانِي، أَمَّا لَوْ لَمْ يُضْمَرْ هَذَا الْإِضْمَارُ كَانَ قَوْلُكَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ نَفْيًا لِمَاهِيَّةِ الْإِلَهِ الثَّانِي، وَمَعْلُومٌ أَنَّ نَفْيَ الْمَاهِيَّةِ أَقْوَى فِي التَّوْحِيدِ الصِّرْفِ مِنْ نَفْيِ الْوُجُودِ، فَكَانَ إِجْرَاءُ الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ هَذَا الْإِضْمَارِ أَوْلَى، فَإِنْ قِيلَ: نَفْيُ الْمَاهِيَّةِ كَيْفَ يُعْقَلُ؟ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ السَّوَادُ لَيْسَ بِسَوَادٍ، كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا بِأَنَّ السَّوَادَ لَيْسَ بِسَوَادٍ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْقُولٍ، أَمَّا إِذَا قُلْتَ: السَّوَادُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، فَهَذَا مَعْقُولٌ مُنْتَظِمٌ مُسْتَقِيمٌ، قُلْنَا: بِنَفْيِ الْمَاهِيَّةِ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: السَّوَادُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، فَقَدْ نَفَيْتَ الْوُجُودَ، وَالْوُجُودُ مِنْ حَيْثُ هُوَ وُجُودُ مَاهِيَّةٍ، فَإِذَا نَفَيْتَهُ فَقَدْ نَفَيْتَ هَذِهِ الْمَاهِيَّةَ الْمُسَمَّاةَ بِالْوُجُودِ، فَإِذَا عُقِلَ نَفْيُ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، فَلِمَ لَا يُعْقَلُ نَفْيُ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ أَيْضًا، فَإِذَا عُقِلَ ذَلِكَ صَحَّ إِجْرَاءُ قَوْلِنَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الْإِضْمَارِ، فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّا إِذَا قُلْنَا السَّوَادُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، فَمَا نَفَيْتَ الْمَاهِيَّةَ وَمَا نَفَيْتَ الْوُجُودَ، وَلَكِنْ نَفَيْتَ مَوْصُوفِيَّةَ الْمَاهِيَّةِ بِالْوُجُودِ، قُلْتُ: فَمَوْصُوفِيَّةُ الْمَاهِيَّةِ بِالْوُجُودِ، هَلْ هِيَ أَمْرٌ مُنْفَصِلٌ

صفحة رقم 149

عَنِ الْمَاهِيَّةِ وَعَنِ الْوُجُودِ أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً عَنْهُمَا كَانَ نَفْيُهَا نَفْيًا لِتِلْكَ الْمَاهِيَّةِ، فَالْمَاهِيَّةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ أَمْكَنَ نَفْيُهَا، وَحِينَئِذٍ يَعُودُ التَّقْرِيبُ الْمَذْكُورُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْمَوْصُوفِيَّةُ أَمْرًا مُنْفَصِلًا عَنْهَا اسْتَحَالَ تَوْجِيهُ النَّفْيِ إِلَيْهَا إِلَّا بِتَوْجِيهِ النَّفْيِ، إِمَّا إِلَى الْمَاهِيَّةِ وَإِمَّا إِلَى الْوُجُودِ، وَحِينَئِذٍ يَعُودُ التَّقْرِيبُ الْمَذْكُورُ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَنَا، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الْإِضْمَارِ الْبَتَّةَ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ أَنَّ تَصَوُّرَ النَّفْيِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ تَصَوُّرِ الْإِثْبَاتِ، فَإِنَّكَ مَا لَمْ تَتَصَوَّرِ الْوُجُودَ أولا، استحال أن تتصور العدم، فإنك لَا تَتَصَوَّرُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَّا ارْتِفَاعَ الْوُجُودِ. فَتَصَوُّرُ الْوُجُودِ غَنِيٌّ عَنْ تَصَوُّرِ الْعَدَمِ، وَتَصَوُّرُ الْعَدَمِ مَسْبُوقٌ بِتَصَوُّرِ الْوُجُودِ، فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَمَا السَّبَبُ فِي قَلْبِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ حَتَّى قَدَّمْنَا النَّفْيَ وَأَخَّرْنَا الْإِثْبَاتَ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْعَقْلِ عَلَى مَا ذَكَرْتُ، إِلَّا أَنَّ تَقْدِيمَ النَّفْيِ عَلَى الْإِثْبَاتِ كَانَ لِغَرَضِ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَنَفْيِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: فِي كَلِمَةِ هُوَ اعْلَمْ أَنَّ الْمَبَاحِثَ اللَّفْظِيَّةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهُوَ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَمَّا الْأَسْرَارُ الْمَعْنَوِيَّةُ فَنَقُولُ، اعْلَمْ أَنَّ الْأَلْفَاظَ عَلَى نَوْعَيْنِ: مُظْهَرَةٌ وَمُضْمَرَةٌ: أَمَّا الْمُظْهَرَةُ فَهِيَ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَاهِيَّاتِ الْمَخْصُوصَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، كَالسَّوَادِ، وَالْبَيَاضِ، وَالْحَجَرِ، وَالْإِنْسَانِ، وَأَمَّا الْمُضْمَرَاتُ فَهِيَ الألفاظ الدالة على شيء ما، هو المتكلم، وَالْمُخَاطَبِ، وَالْغَائِبِ، مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى مَاهِيَّةِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: أَنَا، وَأَنْتَ، وَهُوَ، وَأَعْرَفُهَا أَنَا، ثُمَّ أَنْتَ، ثُمَّ هُوَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّ تَصَوُّرِي لِنَفْسِي مِنْ حَيْثُ أَنِّي أَنَا مِمَّا لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الِاشْتِبَاهُ، فَإِنَّهُ مِنَ الْمُسْتَحِيلِ أَنْ أَصِيرَ مُشْتَبَهًا بِغَيْرِي، أَوْ يَشْتَبِهَ بِي غَيْرِي، بِخِلَافِ أَنْتَ، فَإِنَّكَ قَدْ تَشْتَبِهُ بِغَيْرِكَ، وَغَيْرُكُ يَشْتَبِهُ بِكَ فِي عَقْلِي وَظَنِّي، وَأَيْضًا فَأَنْتَ أَعْرَفُ مِنْ هُوَ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ أَشَدَّ الْمُضْمَرَاتِ عِرْفَانًا أَنَا وَأَشَدَّهَا بُعْدًا عَنِ الْعِرْفَانِ. (هُوَ) وَأَمَّا (أَنْتَ) فَكَالْمُتَوَسِّطِ بَيْنَهُمَا، وَالتَّأَمُّلُ التَّامُّ يَكْشِفُ عَنْ صِدْقِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَعْرَفَ الضَّمَائِرِ قَوْلًا قَوْلِي (أَنَا) أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ حَصَلَ لَهُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ لَفْظٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، لِأَنَّ الْفَصْلَ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْخَوْفِ مِنَ الِالْتِبَاسِ، وهاهنا لَا يُمْكِنُ الِالْتِبَاسُ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْفَصْلِ، وَأَمَّا عِنْدَ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ فَاللَّفْظُ وَاحِدٌ، أَمَّا فِي الْمُتَّصِلِ فَكَقَوْلِكَ: شَرِبْنَا، وَأَمَّا الْمُنْفَصِلُ فَقَوْلِكَ: نَحْنُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِلْأَمْنِ مِنَ اللَّبْسِ، وَأَمَّا الْمُخَاطَبُ فَإِنَّهُ فُصِلَ بَيْنَ لَفْظِ مُؤَنَّثِهِ وَمُذَكَّرِهِ، وَيُثَنَّى وَيُجْمَعُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِحَضْرَةِ الْمُتَكَلِّمِ مُؤَنَّثٌ وَمُذَكَّرٌ وَهُوَ مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا، فَيُخَاطِبُ أَحَدَهُمَا فَلَا يَعْرِفُ حَتَّى يُبَيِّنَهُ بِعَلَامَةٍ: وَتَثْنِيَةُ الْمُخَاطَبِ وَجَمْعُهُ إِنَّمَا حَسُنَ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَأَمَّا أَنَّ الْحَاضِرَ أَعْرَفُ مِنَ الْغَائِبِ فَهَذَا أَمْرٌ كَالضَّرُورِيِّ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: ظَهَرَ أَنَّ عِرْفَانَ كُلِّ شَيْءٍ بِذَاتِهِ أَتَمُّ مِنْ عِرْفَانِهِ بِغَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا فَالْعِرْفَانُ التَّامُّ بِاللَّهِ لَيْسَ إِلَّا لِلَّهِ: لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لِنَفْسِهِ (أَنَا) وَلَفْظُ (أَنَا) أَعْرَفُ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَسِيرَ إِلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ بِالضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ أَعْرَفُ الضَّمَائِرِ وَهُوَ قَوْلُ (أَنَا) إِلَّا لَهُ سُبْحَانَهُ عَلِمْنَا أَنَّ الْعِرْفَانَ التَّامَّ بِهِ سُبْحَانَهُ وتعالى ليس الإله.
بَقِيَ أَنَّ هُنَاكَ قَوْمًا يُجَوِّزُونَ الِاتِّحَادَ: الْأَرْوَاحُ الْبَشَرِيَّةُ إِذَا اسْتَنَارَتْ بِأَنْوَارِ مَعْرِفَةِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ اتَّحَدَ الْعَاقِلُ بِالْمَعْقُولِ وَعِنْدَ الِاتِّحَادِ يَصِحُّ لِذَلِكَ الْعَارِفِ أَنْ يَقُولَ: أَنَا اللَّهُ إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ بِالِاتِّحَادِ غَيْرُ مَعْقُولٍ، لِأَنَّ حَالَ الِاتِّحَادِ إِنْ فَنِيَا أَوْ أَحَدُهُمَا، فَذَاكَ لَيْسَ بِاتِّحَادٍ، وَإِنْ بَقِيَا فَهُمَا اثْنَانِ لَا وَاحِدٌ، / وَلَمَّا انْسَدَّ هَذَا الطَّرِيقُ الَّذِي هُوَ

صفحة رقم 150

أَكْمَلُ الطُّرُقِ فِي الْإِشَارَةِ بَقِيَ الطَّرِيقَانِ الْآخَرَانِ، وَهُوَ (أَنْتَ) وَ (هُوَ) أَمَّا (أَنْتَ) فَهُوَ لِلْحَاضِرِينَ فِي مَقَامَاتِ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ لِمَنْ فَنِيَ عَنْ جَمِيعِ الْحُظُوظِ الْبَشَرِيَّةِ عَلَى مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ فَنِيَ عَنْ ظُلُمَاتِ عَالَمِ الْحُدُوثِ وَعَنْ آثَارِ الْحُدُوثِ وَصَلَ إِلَى مَقَامِ الشُّهُودِ فَقَالَ: فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٨٧] وَهَذَا يُنَبِّهُكَ عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الْوُصُولِ إِلَى مَقَامِ الْمُشَاهَدَةِ وَالْمُخَاطَبَةِ إِلَّا بِالْغَيْبَةِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ
وَقَالَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نفسك»
وأما هُوَ فللغائبين، ثم هاهنا بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ هُوَ فِي حَقِّهِ أَشْرَفُ الْأَسْمَاءِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الِاسْمَ إِمَّا كُلِّيٌّ أَوْ جُزْئِيٌّ، وَأَعْنِي بِكُلِّيٍّ أَنْ يَكُونَ مَفْهُومُهُ بِحَيْثُ لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرُهُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ، وَأَعْنِي بِالْجُزْئِيِّ أَنْ يَكُونَ نَفْسُ تَصَوُّرِهِ مَانِعًا مِنَ الشَّرِكَةِ، وَهُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ الِاسْمِ لَيْسَ هُوَ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ ذَلِكَ الِاسْمِ أَمْرًا لَا يَمْنَعُ الشَّرِكَةَ وَذَاتُهُ الْمُعَيَّنَةُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَانِعَةٌ مِنَ الشَّرِكَةِ وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ الِاسْمِ لَيْسَ هُوَ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ، فَإِذَنْ جَمِيعُ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ: كَالرَّحْمَنِ، وَالرَّحِيمِ، وَالْحَكِيمِ، وَالْعَلِيمِ، وَالْقَادِرِ، لَا يَتَنَاوَلُ ذَاتَهُ الْمَخْصُوصَةَ وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهَا بِوَجْهٍ الْبَتَّةَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ الْمُسَمَّى بِاسْمِ الْعِلْمِ وَالْعِلْمُ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِشَارَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِكَ: يَا زَيْدُ وَبَيْنَ قَوْلِكَ: يَا أَنْتَ وَيَا هُوَ. وَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ قَائِمًا مَقَامَ الْإِشَارَةِ فَالْعِلْمُ فَرْعٌ وَاسْمُ الْإِشَارَةِ أَصْلٌ وَالْأَصْلُ أَشْرَفُ مِنَ الْفَرْعِ، فَقَوْلُنَا: يَا أَنْتَ، يَا هُوَ أَشْرَفُ مِنْ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَّا أَنَّ الْفَرْقَ أَنَّ (أَنْتَ) لَفْظٌ يَتَنَاوَلُ الْحَاضِرَ وَ (هُوَ) يَتَنَاوَلُ الْغَائِبَ وَفِيهِ سِرٌّ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ (هُوَ) إِنَّمَا يَصِحُّ التَّعْبِيرُ عَنْهُ إِذَا حَصَلَ فِي الْعَقْلِ صُورَةُ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَقَوْلُكَ (هُوَ) يَتَنَاوَلُ تِلْكَ الصُّورَةَ وَهِيَ حَاضِرَةٌ، فَقَدْ عَادَ الْقَوْلُ إِلَى أَنَّ (هُوَ) أَيْضًا لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْحَاضِرَ. وَثَانِيهَا: أَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْحَقِّ مُنَزَّهَةٌ عَنْ جَمِيعِ أَنْحَاءِ التَّرَاكِيبِ، وَالْفَرْدُ الْمُطْلَقُ لَا يُمْكِنُ نَعْتُهُ، لِأَنَّ النَّعْتَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةِ وَعِنْدَ حُصُولِ الْغَيْرِيَّةِ لَا تَبْقَى الْفَرْدَانِيَّةُ، وَأَيْضًا لَا يُمْكِنُ الْإِخْبَارُ عَنْهُ لِأَنَّ النعت يَقْتَضِي مُخْبَرًا عَنْهُ وَمُخْبِرًا بِهِ وَذَلِكَ يُنَافِي الْفَرْدَانِيَّةَ، فَثَبَتَ أَنَّ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ قَاصِرَةٌ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى كُنْهِ حَقِيقَةِ الْحَقِّ وَأَمَّا لَفْظُ (هُوَ) فَإِنَّهُ يَصِلُ إِلَى كُنْهِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ الْمُفْرَدَةِ الْمُبَرَّأَةِ عَنْ جَمِيعِ جِهَاتِ الْكَثْرَةِ فَهَذِهِ اللَّفْظَةُ لِوُصُولِهَا إِلَى كُنْهِ الْحَقِيقَةِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَشْرَفَ مِنْ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَمْتَنِعُ وُصُولُهَا إِلَى كُنْهِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمُشْتَقَّةَ دَالَّةٌ عَلَى حُصُولِ صِفَةٍ لِلذَّاتِ ثُمَّ مَاهِيَّاتُ صِفَةِ الْحَقِّ أَيْضًا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ إِلَّا بِآثَارِهَا الظَّاهِرَةِ فِي عَالَمِ الْحُدُوثِ، فَلَا يُعْرَفُ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا أَنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي بِاعْتِبَارِهِ صَحَّ مِنْهُ الْإِحْكَامُ وَالْإِتْقَانُ، وَمِنْ قُدْرَتِهِ إِلَّا أَنَّهَا الْأَمْرُ الَّذِي بِاعْتِبَارِهِ صَحَّ مِنْهُ صُدُورُ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَإِذَنْ هَذِهِ الصِّفَاتُ لا يمكننا تعلقها إِلَّا عِنْدَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي عَالَمِ الْحُدُوثِ، فَالْأَلْفَاظُ الْمُشْتَقَّةُ لَا تُشِيرُ إِلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ، بَلْ تُشِيرُ إِلَيْهِ وَإِلَى عَالَمِ الْحُدُوثِ مَعًا/ وَالنَّاظِرُ إِلَى شَيْئَيْنِ لَا يَكُونُ مُسْتَكْمِلًا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَلْ يَكُونُ نَاقِصًا قَاصِرًا، فَإِذَنْ جَمِيعُ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ لا تفيد كمال الاستغراق في مقام معرفة الحق بل كلها تَصِيرُ حِجَابًا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الِاسْتِغْرَاقِ فِي مَعْرِفَةِ الرَّبِّ، وَأَمَّا (هُوَ) فَإِنَّهُ لَفْظٌ يَدُلُّ عيله مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ لَا مِنْ حَيْثُ عَرَضَتْ لَهُ إِضَافَةٌ أَوْ نِسْبَةٌ بِالْقِيَاسِ إِلَى عَالَمِ الْحُدُوثِ، فَكَانَ لَفْظُ (هُوَ) يُوَصِّلُكَ إِلَى الحق ويقطعك عما سواء، وَمَا عَدَاهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُكَ عما سواء، فكان لفظ (هُوَ) أَشْرَفَ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْبَرَاهِينَ السَّالِفَةَ قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَنْبَعَ الْجَلَالِ وَالْعِزَّةِ هُوَ الذَّاتُ، وَأَنَّ ذَاتَهُ مَا كَمُلَتْ بِالصِّفَاتِ بَلْ ذَاتُهُ لِكَمَالِهَا اسْتَلْزَمَتْ

صفحة رقم 151
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية