
وقوله تعالى: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الآية، تحقير لشأنهم وأمر باطراح أمرهم ومراعاة أمره، وقوله وَلِأُتِمَّ عطف على قوله لِئَلَّا، وقيل: هو مقطوع في موضع رفع بالابتداء والخبر مضمر بعد ذاك، والتقدير لأتم نعمتي عليكم عرفتكم قبلتي ونحوه. ولَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ترجّ في حق البشر.
والكاف في قوله كَما رد على قوله لِأُتِمَّ أي إتماما كما، وهذا أحسن الأقوال، أي لأتم نعمتي عليكم في بيان سنة إبراهيم عليه السلام كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ إجابة لدعوته في قوله رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ الآية، وقيل: الكاف من كَما رد على تَهْتَدُونَ، أي اهتداء كما، وقيل، هو في موضع نصب على الحال، وقيل: هو في معنى التأخير متعلق بقوله فَاذْكُرُونِي، وهذه الآية خطاب لأمة محمد ﷺ وهو المعنيّ بقوله رَسُولًا مِنْكُمْ، ويَتْلُوا في موضع نصب على الصفة، والآيات: القرآن، ويُزَكِّيكُمْ يطهركم من الكفر وينميكم بالطاعة، والْكِتابَ القرآن، والْحِكْمَةَ ما يتلقى عنه عليه السلام من سنة وفقه في دين، وما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ قصص من سلف وقصص ما يأتي من الغيوب.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٥٢ الى ١٥٧]
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦)
أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)
قال سعيد بن جبير: معنى الآية اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة.
قال القاضي أبو محمد: أي اذكروني عند كل أموركم فيحملكم خوفي على الطاعة فأذكركم حينئذ بالثواب، وقال الربيع والسدي: المعنى اذكروني بالدعاء والتسبيح ونحوه.
وفي الحديث: إن الله تعالى يقول: «ابن آدم اذكرني في الرخاء أذكرك في الشدة»، وفي حديث آخر: إن الله تعالى يقول: «وإذ ذكرني عبدي في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم» وروي أن الكافر إذا ذكر الله ذكره الله باللعنة والخلود في النار، وكذلك العصاة يأخذون بحظ من هذا المعنى، وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام «قل للعاصين لا يذكروني».
واشْكُرُوا لِي واشكروني بمعنى واحد، ولِي أشهر وأفصح مع الشكر، ومعناه نعمي وأياديّ، وكذلك إذا قلت شكرتك فالمعنى شكرت صنيعك وذكرته، فحذف المضاف، إذ معنى الشكر ذكر اليد وذكر مسديها معا، فما حذف من ذلك فهو اختصار لدلالة ما بقي على ما حذف، وتَكْفُرُونِ أي نعمي

وأياديّ، وانحذفت نون الجماعة للجزم، وهذه نون المتكلم، وحذفت الياء التي بعدها تخفيفا لأنها رأس آية، ولو كان نهيا عن الكفر ضد الإيمان لكان: ولا تكفروا، بغير النون.
ويا حرف نداء و «أيّ» منادى و «ها» تنبيه، وتجلب «أي» فيما فيه الألف واللام لأن في حرف النداء تعريفا ما، فلو لم تجلب «أي» لاجتمع تعريفان، وقال قوم: «الصبر» : الصوم، ومنه قيل لرمضان: شهر الصبر، وتقدم معنى الاستعانة بالصبر والصلاة، واختصاره أنهما رادعان عن المعاصي.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ معناه بمعونته وإنجاده، فهو على حذف مضاف، كما قال رسول الله ﷺ لحسان بن ثابت: «اهجهم وروح القدس معك»، وكما قال: «ارموا وأنا مع بني فلان»، الحديث.
وقوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ الآية، سببها أن الناس قالوا فيمن قتل ببدر وأحد مات فلان ومات فلان، فكره الله أن تحط منزلة الشهداء إلى منزلة غيرهم، فنزلت هذه الآية، وأيضا:
فإن المؤمنين صعب عليهم فراق إخوانهم وقراباتهم فنزلت الآية مسلية لهم، تعظم منزلة الشهداء، وتخبر عن حقيقة حالهم، فصاروا مغبوطين لا محزونا لهم، ويبين ذلك من حديث أم حارثة في السير، والفرق بين الشهيد وغيره إنما هو الرزق، وذلك أن الله تعالى فضلهم بدوام حالهم التي كانت في الدنيا فرزقهم.
وروي عن النبي ﷺ في ذلك أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تعلق من ثمر الجنة، وروي أنهم في قبة خضراء، وروي أنهم في قناديل من ذهب، إلى كثير من هذا، ولا محالة أنها أحوال لطوائف أو للجميع في أوقات متغايرة، وجمهور العلماء على أنهم في الجنة، ويؤيده قول النبي ﷺ لأم حارثة: إنه في الفردوس، وقال مجاهد: هم خارج الجنة ويعلقون من شجرها، وأَمْواتٌ رفع بإضمار الابتداء والتقدير هم أموات، ولا يجوز إعمال القول فيه لأنه ليس بينه وبينه تناسب كما يصح في قولك قلت كلاما وحجة.
وقوله وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ أي قبل أن نشعركم.
وقوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ الآية، أمر تعالى بالاستعانة بالصبر وأخبر أنه مع الصابرين، ثم اقتضت الآية بعدها من فضل الشهداء ما يقوي الصبر عليهم ويخفف المصيبة، ثم جاء بعد ذلك من هذه الأمور التي لا تتلقى إلا بالصبر أشياء تعلم أن الدنيا دار بلاء ومحن، أي فلا تنكروا فراق الإخوان والقرابة، ثم وعد الصابرين أجرا، وقال عطاء والجمهور: إن الخطاب في هذه الآية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: الخطاب لقريش وحل ذلك بهم فهي آية للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: والأول أظهر، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ معناه لنمتحننكم، وحركت الواو لالتقاء الساكنين، وقيل: الفعل مبني وهو مع النون الثقيلة بمنزلة خمسة عشر، والْخَوْفِ يعني من الأعداء في الحروب، والْجُوعِ الجدب والسنة، وأما الحاجة إلى الأكل فإنما اسمها الغرث، وقد استعمل فيه المحدثون الجوع اتساعا، ونقص الأموال: بالجوائح والمصائب،