
لم يكن، ويَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ عبارةٌ عن المرتدِّ، والرجوعُ على العَقِبِ أَسوأُ حالات الراجع.
وقوله تعالى: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ... الآية: الضمير في «كَانَتْ» راجع إلى القبلة إلى بيت المقدس، أو إلى التحويلة إلى الكعبة، حَسْبما تقدَّم من الخلاف في القبلة، «وكَبِيرَة» هنا معناه: شاقَّة صعبةٌ، تكبُرُ في الصدور، ولما حُوِّلَتِ القبلة، كان من قول اليهود: يا محمَّدُ، إن كانَتِ الأولى حقاً، فأنتَ الآنَ على باطلٍ، وإن كانتْ هذه حقًّا، فكنْتَ في الأولى على ضلالٍ، فَوَجَمَتْ نفوسُ بعْضِ المؤمنين، وأشْفَقُوا على مَنْ مات قبل التحويل من صلاتِهِمُ السالفة، فنزلَتْ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ، أي: صلاتكم، قاله ابن عبَّاس وغيره «١»، وسمَّى الصلاة إِيماناً لَمَّا كانَتْ صادرةً عن الإيمان ولأن الإِيمان هو القطب الذي عليه تدور الأعمال، فذكره إِذ هو الأصل، ولئلاَّ يندرج في اسم الصلاة صلاةُ المنافقين إِلى بيت المَقْدِسِ، فذكر المعنَى الَّذي هو ملاك الأمر، وأيْضاً سُمِّيتْ إِيماناً إِذ هي من شُعَب الإِيمان.
ت: وفي العتبية من سماع ابن القاسم «٢»، قال مالكٌ: قال اللَّهُ تبارَكَ وتعالى:
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ قال: هي صلاة المؤمنين إلى بيت المَقْدِس، قال ابنُ رُشْد وعلى هذا القول أكثر أهل التفسير، وقد قيل: إن المعنى في ذلك، وما كان اللَّه ليضيعَ إِيمانكم بفَرْضِ الصلاة عليكم إلى بيْتِ المقدِسِ. انتهى من «البَيَان».
والرَّأْفَةُ: أعلى منازل الرحْمَة.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٤ الى ١٤٥]
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥)
(٢) ابن القاسم هو: أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة العتقي بالولاء، المعروف بابن القاسم، ولد ب «مصر» سنة ١٢٨ هـ. وقيل: سنة ١٣٢ هـ. وقيل غير ذلك، سافر إلى «المدينة» فصحب الإمام مالكا، وتفقه عليه، وروى عنه وعن الليث بن سعد، وعبد العزيز بن الماجشون، وغيرهم، وروى عنه أصبغ، وسحنون، وعيسى بن دينار، وغيرهم.
ومن مؤلفاته: «كتاب المدونة»، وهي التي أخذها عنه سحنون، وهي من أجل كتب الفقه المالكي، توفي ب «مصر» سنة ١٩١ هـ.
ينظر: «الديباج المذهب» (١/ ٤٦٥)، «شذرات الذهب» (١/ ٣٢٩)، «وفيات الأعيان» (٣/ ٣٦٢).

وقوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ... الآية: المقْصِد تقلُّب البصر، وأيضاً: فالوجه يتقلَّب بتقلُّب البصر، قال قتادة وغيره: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقلِّب وجهه في الدعاءِ إلى اللَّه تعالى أنْ يحوِّله إِلى قبلة مكَّة «١»، ومعنى التقلُّب نحو السماء: أنَّ السماء جهةٌ قد تعوَّد العالَمُ منْها الرحمةَ كالمطر، والأنوار، والوَحْي، فهم يجعلون رغبتهم حيْثُ توالَتِ النعَمُ.
قال ص: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ: يدلُّ على تقدير حالٍ، أي: قد نرى تقلُّب وجهك في السماءِ طالباً قبلةً غير التي أنت مستقبلها، فلنولينّك. انتهى.
وتَرْضاها: معناه: تحبّها/، وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلم يحبّ الكعبة والتحوّل عن بيت ٣٨ أالمقدس لوجوه ثلاثة رُوِيَتْ:
أحدها: لقول اليهودِ: «مَا عَلِمَ محمَّدٌ دينَهُ حتَّى اتبعنا» قاله مجاهد.
الثاني «٢» : ليصيب قبلة إِبراهيمَ- عليه السلام- قاله ابن عَبَّاس «٣».
الثالث: ليستألف العربَ لمحبَّتها في الكعبة، قاله الربيعة والسُّدِّيُّ «٤».
ع «٥» : والميزابُ هو قبلة المدينةِ والشامِ، وهنالك قبلةُ أهل الأندلسِ بتأريب، ولا خلاف أن الكعبة قبلةٌ من كل أُفُقٍ.
وقوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ... الآية: أمر بالتحوُّل، ونسخ لقبلة الشام، وشَطْرَ: نصبٌ على الظرف، ومعناه: نحو، وتلقاء، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا: أمر
(٢) أخرجه الطبري (٢/ ٢٣) برقم (٢٢٣٩) بنحوه. وذكره ابن عطية (١/ ٢٢١)، والسيوطي في «الدر» (١/ ٢٦٩)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير.
(٣) أخرجه الطبري (٢/ ٢٣) برقم (٢٢٤١) بنحوه. وذكره ابن عطية (١/ ٢٢١).
(٤) أخرجه الطبري (٢/ ٢٢) برقم (٢٢٣٧) عن الربيع، وبرقم (٢٢٣٨) عن السدي. وذكره ابن عطية (١/ ٢٢).
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٢٢٢)، والميزاب: المثعب، فارسي معرب، والجمع مآزيب إذا همز، وميازيب إذا لم يهمز. ينظر: «لسان العرب» (٤٨٢٣) (وزب)، و «الوسيط» (٤٠٧).

للأمة ناسخٌ.
وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ... الآية: المعنى: أن اليهود والنصارى يعلمون أن الكعبة هي قبلة إبراهيم أمام الأمم، وأن استقبالها هو الحقُّ الواجب على الجميع اتباعا لمحمَّد صلّى الله عليه وسلم الذي يجدونه في كتبهم، وتضمَّنت الآيةُ الوعيد.
وقوله جلَّت قدرته: وَلَئِنْ أَتَيْتَ... الآية: أعلَمَ اللَّه تعالى نبيَّه- عليه السلام- حين قالَتْ له اليهودُ: راجِعْ بيْتَ المَقْدِسِ، ونؤمن بكَ أن ذلك مخادَعَةٌ منهم، وأنهم لا يتَّبعون له قِبْلَةً، يعني: جملتهم لأن البعض قد اتبع، كعبد اللَّه بن سَلاَمٍ وغيره، وأنهم لا يؤمنون بدينه، أي: فلا تُصْغِ إِليهم، والآية هنا العَلاَمَةُ.
وقوله جلَّت عظمته: وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ... لفظ خبرٍ يتضمَّن الأمر، أي: فلا تركنْ إِلى شيء من ذلك، وَما بَعْضُهُمْ... الآية، قال ابن زيد وغيره: المعنى ليستِ اليهودُ متبعةً قبلة النصارى، ولا النصارى متبعةً قبلةَ اليهودِ، فهذا «١» إِعلام باختلافهم، وتدابرهم، وضلالهم، وقبلةُ النصارى مَشْرِقُ الشمْسِ، وقبلةُ اليهود بيْتُ المَقْدِسِ.
وقوله تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ... الآية: خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلم والمرادُ أمته، وما ورد من هذا النوع الّذي يوهم من النبيّ صلّى الله عليه وسلم ظُلْماً متوقّعاً، فهو محمولٌ على إِرادة أمته لعصمة النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وقَطْعاً أن ذلك لا يكُونُ منْه، وإِنما المرادُ مَنْ يمكنُ أنْ يَقَعَ ذلكَ منه، وخوطب النبيّ صلّى الله عليه وسلم تعظيماً للأمر، قال الفَخْر «٢» : ودلَّت هذه الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشدُّ من توجُّهه على غيرهم لأن قوله: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ يدلُّ على ذلك. انتهى، وهو حَسَنٌ.
ص: وَلَئِنْ أَتَيْتَ: لام «لَئِنْ» مؤذنةٌ بقَسَمٍ مقدَّرٍ قبلها، ولهذا كان الجواب:
له مَّا تَبِعُوا، ولو كان للشرط، لدخلت الفاء، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ لدلالة جواب القسم عليه، ومن ثم جاء فعل الشرط ماضياً، لأنه إِذا حذف جوابه، وجب فعله لفظا.
انتهى.
(٢) «التفسير الكبير» (٤/ ١١٦).