
قيل : المراد بالسفهاء هاهنا مشركو العرب قاله الزجاج، وقيل : أحبار يهود قاله مجاهد، وقيل : المنافقون قاله السُّدي، والآية عامة في هؤلاء كلهم، والله أعلم. عن البراء رضي الله عنه : أن رسول الله ﷺ صلَّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون، فقال : أشهد بالله لقد صليت مع النبي ﷺ قِبَل مكة، فداروا كما هم قبل البيت وكان الذي قد مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجالاً قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾.
وعن البراء قال : كان رسول الله ﷺ يصلي نحو بيت المقدس، ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله، فأنزل الله :﴿ قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام ﴾ [ البقرة : ١٤٤ ]. فقال رجال من المسلمين : وددنا لو علمنا علم من مات منا قبل أن نُصْرف إلى القبلة، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس؟ فأنزل الله :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾ وقال السفهاء من الناس - وهم أهل الكتاب - ما ولاَّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله :﴿ سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس ﴾ إلى آخر الآية. وعن ابن عباس أن رسول الله ﷺ لما هاجر إلى المدينة أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله ﷺ بضعة عشر شهراً. وكان رسول الله ﷺ يحب قبلة إبراهيم، فكان يدعو الله وينظر إلى السماء فأنزل الله عزّ وجلّ :﴿ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [ البقرة : ١٤٤ ] أي نحوه، فارتاب من ذلك اليهود وقالوا : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله :﴿ قُل للَّهِ المشرق والمغرب يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾، وقد جاء في هذا الباب أحاديث كثيرة. وحاصل الأمر : أنه قد كان رسول الله ﷺ أُمِر باستقبال الصخرة من بيت المقدس، فكان بمكة يصلي بين الركنين فتكون بين يديه الكعبة وهو مستقبل صخرة بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع بينهما فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس قاله ابن عباس والجمهور.
والمقصود أن التوجه إلى بيت المقدس بعد مقدمه ﷺ المدينة واستمر الأمر على ذلك بضعة عشر شهراً، وكان يكثر الدعاء والابتهال أن يُوَجَّه إلى الكعبة التي هي قبلة إبراهيم عليه السلام، فأجيب إلى ذلك وأمر بالتوجه إلى البيت العتيق، فخطب رسول الله ﷺ الناس فأعلمهم بذلك، وكان أول صلاة صلاها إليها صلاة العصر كما تقدّم في الصحيحين.

وذكر غير واحد من المفسِّرين أن تحويل القبلة نزل على رسول الله وقد صلى ركعتين من الظهر وذلك في مسجد بني سلمة : فسمي ( مسجد القبلتين ) وأما أهل قباء فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر من اليوم الثاني كما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال :« بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذا جاءهم آت فقال : إن رسول الله ﷺ قد أُنْزِل عليه الليلة قرآن وقد أُمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة »، ولما وقع هذا حصل لبعض الناس من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود ارتيابٌ وزيغ عن الهدى وتخبيط وشك، وقالو :﴿ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا ﴾ أي قالوا : ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا وتارة يستقبلون كذا؟ فأنزل الله جوابهم في قوله :﴿ قُل للَّهِ المشرق والمغرب ﴾ أي الحكم والتصرف والأمر كله لله، ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله ﴾ أي الشأن كله في امتثال أوامر الله، فحيثما وجهنا توجهنا، فالطاعة في امتثال أمره ولو وجهنا في كل يوم مراتٍ إلى جهات متعددة فنحن عبيده، وهو تعالى له بعبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه وأُمته عناية عظيمة، إذ هداهم إلى قبلة إبراهيم خليل الرحمن، وجعل توجههم إلى الكعبة أشرف بيوت الله في الأرض، إذ هي بناء إبراهيم الخليل عليه السلام، ولهذا قال :﴿ قُل للَّهِ المشرق والمغرب يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾.
عن عائشة قالت : قال رسول الله ﷺ، يعني في أهل الكتاب :« إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها، وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام آمين ».
وقوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾، يقول تعالى إنما حولناكم على قبلة إبراهيم عليه السلام، واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأُمم لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأُمم، لان الجميع معترفون لكم بالفضل، والوسطُ هاهنا : الخيار والأجود، كما يقال : قريش أوسط العرب نسباً وداراً أي خيرها، وكان رسول الله وسطاً في قومه، أي أشرفهم نسباً، ومنه ( الصلاة الوسطى ) وهي العصر، ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً خصَّها بأكمل الشرائع، وأقوم المناهج وأوضح المذاهب كما قال تعالى :﴿ هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس ﴾ [ الحج : ٧٨ ].

عن أبي سعيد قال : قال رسول الله ﷺ :« يدعى نوح يوم القيامة فيقال له هل بلَّغت؟ فيقول نعم، فيدعى قومه فيقال لهم هل بلغكم؟ فيقولون ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد، فيقال لنوح من يشهد لك؟ فيقول محمد وأُمته، قال فذلك قوله :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ﴾ قال : والوسط العدل فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ثم أشهد عليكم » وعن أبي سعيد الخدري قال : قال قال رسول الله ﷺ :« يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه فيقال : هل بلَّغكم هذا؟ فيقولون : لا فيقال له : هل بلغت قومك؟ فيقول نعم : فيقال من يشهد لك، فيقول محمد وأمته فيدعى محمد وأمته : فيقال لهم هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون نعم. فيقال وما علمكم؟ فيقولون جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا فذلك قوله عزّ وجلّ :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ﴾ قال عدلاً ﴿ لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾ » عن النبي ﷺ قال :« أنا وأُمتي يوم القيامة على كوم مشرفين على الخلائق ما من الناس أحد إلا ودَّ أنه منا، وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد أنه قد بلغ رسالة ربه عزّ وجلّ ».
وقوله :﴿ وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله ﴾، يقول تعالى إنما شرعنا لك يا محمد التوجه أولاً إلى بيت المقدس، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة، ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبيه، أي مرتداً عن دينه ﴿ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً ﴾ أي هذه الفعلة وهي صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة، أي وإن كان هذا الأمر عظيماً في النفوس، إلا على الذين هدى الله قلوبهم وأيقنوا بتصديق الرسول، وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك، بخلاف الذين في قلوبهم مرض، فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكا، كما يحصل للذين آمنوا إيقانٌ وتصديق، كما قال الله تعالى :﴿ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٤-١٢٥ ] وقال تعالى :﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ﴾ [ فصلت : ٤٤ ]. وقال تعالى :﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً ﴾ [ الإسراء : ٨٢ ] ولهذا كان - من ثبت على تصديق الرسول ﷺ واتباعه في ذلك، وتوجّه حيث أمره الله من غير شك ولا ريب - من سادات الصحابة، وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم الذين صلوا إلى القبلتين.

عن ابن عمر قال :« بينا الناس يصلون الصبح في مسجد قباء إذ جاء رجل فقال : قد أنزل على النبي ﷺ قرآن، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، فتوجهوا إلى الكعبة »، وفي رواية أنهم كانوا ركوعاً فاستداروا كما هم إلى الكعبة وهم ركوع، وهذا يدل على كمال طاعتهم لله ولرسوله وانقيادهم لأوامر الله عزّ وجلّ رضي الله عنهم أجمعين.
وقوله :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾ أي صلاتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك، ما كان يضيع ثوابها عند الله، وفي الصحيح عن البراء قال : مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس، فقال الناس : ما حالهم في ذلك؟ فأنزل الله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾، وقال ابن إسحاق عن ابن عباس :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾ أي بالقبلة الأُولى وتصديقكم نبيكم واتباعه إلى القبلة الأُخرى، أي ليعطيكم أجرهما جميعاً ﴿ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾. وقال الحسن البصري : وما كان ليضيع إيمانكم : أي ما كان الله ليضيع محمداً ﷺ وانصرافكم معه حيث انصرف ﴿ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾. وفي الصحيح أن رسول الله ﷺ رأى امرأة من السبي قد فرق بينها وبين ولدها، فجعلت كلما وجدت صبياً من السبي أخذته فألصقته بصدرها وهي تدور على ولدها، فلما وجدته ضمته إليه وألقمته ثديها، فقال رسول الله ﷺ :« أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على أن لا تطرحه »؟ قالوا : لا يا رسول الله. قال :« فواللَّهِ، للَّهُ أرحمُ بعباده من هذه بولدها ».