آيات من القرآن الكريم

۞ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ۚ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨ

٤ - قال الله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري عن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، وكان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحب أن يوجَّه إلى الكعبة، فأنزل اللَّه: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ). فتوجه نحو الكعبة. وقال السفهاء من الناس، وهم اليهود: (مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) فصلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل، ثم خرج بعدما صلى، فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر نحو بيت المقدس، فقال: هو يشهد أنه صلى مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه توجه نحو الكعبة، فتحرّف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة.
وفي لفظ له: فداروا كما هم قِبَل البيت، وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قِبَل بيت المقدس، وأهل الكتاب، فلما ولّى وجهه قِبَل البيت أنكروا ذلك.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية وقد أورده جمهور المفسرين وجعلوه سبباً لنزولها كالطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير.

صفحة رقم 217

قال الطبري: (أَعلم الله جل ثناؤه نبيَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما اليهود والمنافقون قائلون من القول عند تحويل قبلته وقبلة أصحابه عن الشام إلى المسجد الحرام، وعلّمه ما ينبغي أن يكون من رده عليهم من الجواب. فقال له: إذا قالوا ذلك لك يا محمد، فقل لهم: (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) اهـ.
وقال ابن كثير: (ولما وقع هذا أي (تحويل القبلة) حصل لبعض الناس من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود ارتياب وتخبيط وشك وقالوا: (مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) أي قالوا: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا وتارة يستقبلون كذا فأنزل الله جوابهم في قوله: (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي الحكم والتصرف والأمر كله للَّه: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) و (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) أي الشأن كله في امتثال أوامر الله، فحيثما وُجّهنا توجّهنا، فالطاعة في امتثال أمره) اهـ.
وقد صرَّح ابن حجر بذلك؛ وهو أن اليهود لما أنكروا ذلك نزلت: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ).
وفي قوله: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ) قال ابن عطية: (وجعل المستقبل موضع الماضي في قوله: (سَيَقُولُ) دلالة على استدامة ذلك، وأنهم يستمرون على ذلك القول، ونص ابن عبَّاسٍ وغيره أن الآية نزلت بعد قولهم) اهـ.
أما الخلاف في المدة التي صلاها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بيت المقدس فقال فيها ابن حجر: (فيه تسع روايات - ثم حاول الجمع بين روايتي ستة عشر أو سبعة عشر باعتبارهما أصح الروايات - فقال: والجمع بين الروايتين سهل بأن يكون من جزم بستة عشر لفق من شهر القدوم وشهر التحويل شهراً وألغى الزائد، ومن جزم بسبعة عشر عدهما معاً، ومن شك تردد في ذلك، وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف، وكان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح وبه جزم الجمهور.
وقال: تحرير المدة المذكورة ستة عشر شهراً وأيام) اهـ.

صفحة رقم 218

أما المراد بالسفهاء فقد اختلفت أقوال المفسرين فقال بعضهم: هم مشركو قريش، وقال بعضهم: هم المنافقون، وقال بعضهم: هم اليهود، وهو قول الأكثرين، ويشهد له حديث البراء المتقدم: وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قِبَل بيت المقدس فلما ولّى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك. ويؤيد هذا قول الله تعالى: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ).
قال ابن كثير - ﷺ -: (أي واليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت المقدس يعلمون أن اللَّه تعالى سيوجهك إليها بما في كتبهم عن أنبيائهم من النعت والصفة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمته وما خصه اللَّه تعالى به وشرّفه من الشريعة الكاملة العظيمة، ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسدًا وكفرًا وعنادًا، ولهذا تهدَّدهم بقوله تعالى: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ).
قلت: ومن المعلوم أن المنافقين والذين أشركوا ليسوا من الذين أُوتوا الكتاب فلم يبق إلا اليهود.
* النتيجة:
أن هذه الآية نزلت بسبب إنكار اليهود على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه التوجه إلى الكعبة بعد أن كانوا يصلون إلى بيت المقدس، فالآية تبيّن سفههم في قولهم هذا وتُعَلِّم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يجيبهم به. وذلك لصحة سند الحديث، وتصريحه بالنزول، وموافقته للفظ القرآن، واحتجاج المفسرين به، واللَّه أعلم.
* * * * *

صفحة رقم 219
المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة
عرض الكتاب
المؤلف
خالد بن سليمان المزيني
عدد الأجزاء
1