
خاشع، فلا تنهاه عن الصلاة، ولكن عن ترك الخشوع في حال صلاته. فإن قلت: فأى نكتة في إدخال حرف النهى على الصلاة وليس بمنهى عنها؟ قلت: النكتة فيه إظهار أن الصلاة التي لا خشوع فيها كلا صلاة، فكأنه قال: أنهاك عنها إذا لم تصلها على هذه الحالة. ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» «١» فإنه كالتصريح بقولك لجار المسجد:
لا تصلِّ إلا في المسجد: وكذلك المعنى في الآية إظهار أن موتهم لا على حال الثبات على الإسلام موت لا خير فيه، وأنه ليس بموت السعداء، وأن من حق هذا الموت أن لا يحل فيهم. وتقول في الأمر أيضا: مت وأنت شهيد. وليس مرادك الأمر بالموت. ولكن بالكون على صفة الشهداء إذا مات وإنما أمرته بالموت اعتداداً منك بميتته، وإظهاراً لفضلها على غيرها، وأنها حقيقة بأن يحث عليها.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٣]
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣)
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ هي أم المنقطعة «٢». ومعنى الهمزة فيها الإنكار. والشهداء جمع شهيد، بمعنى الحاضر: أى ما كنتم حاضرين يعقوب عليه السلام إذ حضره الموت، أى حين احتضر والخطاب للمؤمنين بمعنى: ما شاهدتم ذلك «٣» وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحى. وقيل
والدارقطني وابن عدى. والعقيلي من حديث جابر. وفيه محمد بن مسكين. وهو ضعيف. وأخرجه ابن حبان في الضعفاء في ترجمة عمر بن راشد عن ابن أبى ذئب عن الزهري عن عروة عن عائشة، وقال كان عمر بن راشد يضع الحديث. وقد صح موقوفا عن على رضى اللَّه عنه. أخرجه ابن أبى شيبة
(٢). قوله «هي أم المنقطعة» هي تفسير ببل والهمزة. (ع)
(٣). قال محمود رحمه اللَّه: «الخطاب فيه للمؤمنين بمعنى ما شاهدتم... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه: وإنما اختار على هذا التفسير أن تكون متصلة، لأنه لو جعلها منقطعة كالأول، لكان مضمون الكلام نفى شهود المخاطبين وهم اليهود على هذا التفسير الثاني، لوفاة يعقوب والوصية بالإسلام، وحينئذ يكون ذلك كاقامة حجتهم على جحد الإسلام وإنكار أن يكون الأنبياء مسلمين والغرض ضد ذلك. وإنما كان الكلام يقتضى النفي حينئذ، لأن الاستفهام من اللَّه تعالى لا يحمل على ظاهره، فتعين صرفه إلى الإنكار، لأن السياق يقتضيه. ولهذا كان نفيا لشهود المسلمين وفاة يعقوب ووصيته على التفسير الأول، لا سيما والمعتاد خطاب اليهود المعاصرين للنبي عليه الصلاة والسلام بما يخاطب به أوائلهم، تنزيلا لعلمهم ورضاهم منزلة حضورهم وتعاطيهم، كقوله تعالى: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً)، (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى) إلى أشباه ذلك، فإذا كانت أم متصلة والخطاب لليهود فقد جرى الأمر في خطابهم على المعتاد، وإذا كانت منقطعة انعكس الأمر.

الخطاب لليهود، لأنهم كانوا يقولون: ما مات نبىُّ إلا على اليهودية، إلا أنهم لو شهدوه وسمعوا ما قاله لبنيه وما قالوه، لظهر لهم حرصه على ملة الإسلام، ولما ادعوا عليه اليهودية. فالآية منافية لقولهم، فكيف يقال لهم: أم كنتم شهداء؟ ولكن الوجه أن تكون أم متصلة على أن يقدر قبلها محذوف، كأنه قيل: أتدّعون على الأنبياء اليهودية؟ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت، يعنى أن أوائلكم من بنى إسرائيل كانوا مشاهدين له إذ أراد بنيه على التوحيد وملة الإسلام، وقد علمتم ذلك، فما لكم تدّعون على الأنبياء ما هم منه برآء؟ وقرئ (حضر) بكسر الضاد وهي لغة. ما تَعْبُدُونَ أىّ شيء تعبدون؟ و (ما) عامّ في كل شيء فإذا علم فرق بما ومن، وكفاك دليلا قول العلماء «من» لما يعقل. ولو قيل: من تعبدون، لم يعم إلا أولى العلم وحدهم. ويجوز أن يقال: (ما تَعْبُدُونَ) سؤال عن صفة المعبود. كما تقول: ما زيد؟ تريد: أفقيه أم طبيب أم غير ذلك من الصفات؟ وإِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ عطف بيان لآبائك. وجعل إسماعيل وهو عمه من جملة آبائه، لأنّ العمّ أب والخالة أمّ، لانخراطهما في سلك واحد وهو الأخوة لا تفاوت بينهما. ومنه قوله عليه السلام «عمّ الرجل صنو أبيه» «١» أى لا تفاوت بينهما كما لا تفاوت بين صنوي النخلة. وقال عليه الصلاة والسلام في العباس «هذا بقية «٢» آبائي» وقال «ردّوا علىّ أبى، فإنى أخشى أن تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود» «٣» وقرأ أبىّ: وإله إبراهيم، بطرح آبائك. وقرئ: أبيك. وفيه وجهان: أن يكون واحداً وإبراهيم وحده عطف بيان له، وأن يكون جمعاً بالواو والنون. قال:
وَفَدَّيْنَنَا بالْأَبِينَا «٤»
إِلهاً واحِداً بدل من إله آبائك، كقوله تعالى: (بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ) أو على
(٢). أخرجه ابن أبى شيبة. حدثنا ابن عيينة عن داود بن سابور عن مجاهد. قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «احفظوني في العباس فانه بقية آبائي. وإن عم الرجل صنو أبيه» ورواه الطبراني في الأوسط من رواية موسى بن عبد اللَّه بن الحسن بن الحسن عن أبيه عن جده عن الحسن عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال «احفظوني- فذكر مثله» ورواه في الكبير من حديث ابن عباس من وجهين.
(٣). قال ابن أبى شيبة في المغازي في مصنفه: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب، عن عكرمة. قال: «لما وادع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أهل مكة الحديث» إلى أن قال «فانطلق العباس فركب بغلة النبي صلى اللَّه عليه وسلم الشهباء وانطلق إلى قريش ليدعوهم إلى اللَّه فأبطأ عليه. يقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: ردوا على أبى فان عم الرجل صنو أبيه. إنى أخاف أن تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود:
دعاهم إلى اللَّه فقتلوه. أما واللَّه لئن ركبوها منه لأضر منها عليهم ناراً.
(٤).
فلما تبين أصواتنا... بكين وفديننا بالأبينا
يقول لما تبين النساء أصواتنا في الحرب وعرفتها، بكين شفقة علينا ورحمة لنا، وفديننا: أى كل واحدة تقول:
فداكم أبى، أو تقول لصاحبتها: فداك أبى. والأبينا: جمع أب معرب إعراب جمع التصحيح.