تعالى، وعلى التقديرين يكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة أو من التكلم إليها. ولا يخفى ما في بعض هذه الوجوه من البعد البعيد.
وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ أي الكتاب بسبب التحريف والكفر بما يصدقه، واحتمالات نظير هذا الضمير مقولة فيه أيضا فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ من جهة أنهم اشتروا الكفر بالإيمان، وقيل: بتجارتهم التي كانوا يعملونها بأخذ الرشا على التحريف.
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ.
تكرير لتذكير بني إسرائيل وإعادة لتحذيرهم للمبالغة في النصح، وللإيذان بأن ذلك فذلكة القصة والمقصود منها- وقد تفنن في التعبير فجاءت الشفاعة «أولا» بلفظ القبول متقدمة على- العدل- «وهنا» بلفظ- النفع- متأخرة عنه، ولعله- كما قيل- إشارة إلى انتفاء أصل الشيء وانتفاء ما يترتب عليه، وأعطى المقدم وجودا تقدمه ذكرا، والمتأخر وجودا تأخره ذكرا، وقيل: إن ما سبق كان للأمر بالقيام بحقوق النعم السابقة، وما هنا لتذكير- نعمة بها فضلهم على العالمين- وهي نعمة الإيمان بنبي زمانهم، وانقيادهم لأحكامه ليغتنموها ويؤمنوا ويكونوا من الفاضلين- لا المفضولين- وليتقوا بمتابعته عن أهوال القيامة وخوفها- كما اتقوا بمتابعة موسى عليه السلام.
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ في متعلق إِذِ احتمالات تقدمت الإشارة إليها في نظير الآية، واختار أبو حيان تعلقها ب قالَ الآتي، وبعضهم بمضمر مؤخر، أي كان كيت وكيت «والمشهور» تعلقها بمضمر مقدم تقديره- اذكر- أو- اذكروا- وقت كذا، والجملة حينئذ معطوفة على ما قبلها عطف القصة على القصة، والجامع الاتحاد في المقصد فإن المقصد من- تذكيرهم وتخويفهم- تحريضهم على قبول دينه صلّى الله عليه وسلّم، واتباع الحق، وترك التعصب، وحب الرياسة، كذلك المقصد من قصة إِبْراهِيمَ عليه السلام وشرح أحواله، الدعوة إلى ملة الإسلام وترك التعصب في الدين، وذلك لأنه إذا علم أنه نال- الإمامة- بالانقياد لحكمه تعالى وأنه لم يستجب دعاءه في الظَّالِمِينَ وأن الكعبة كانت مطافا ومعبدا في وقته مأمورا هو بتطهيره، وأنه كان يحج البيت داعيا مبتهلا- كما هو دين النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم- وأن نبينا عليه الصلاة والسلام من دعوته، وأنه دعا في حق نفسه وذريته بملة الإسلام، كان الواجب على من يعترف بفضله وأنه من أولاده، ويزعم اتباع ملته، ويباهي بأنه من ساكن حرمه وحامي بيته، أن يكون حاله مثل ذلك، وذهب عصام الملة والدين إلى جواز العطف على نِعْمَتِيَ أي اذْكُرُوا وقت- ابتلاء إبراهيم- فإن فيه ما ينفعكم ويرد اعتقادكم الفاسد أن آباءكم شفعاؤكم يوم القيامة، لأنه لم يقبل دعاء إبراهيم في- الظلمة- ويدفع عنكم حب الرياسة المانع عن متابعة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، فإنه يعلم منه أنه لا ينال الرياسة الظَّالِمِينَ واعترض بأنه خروج عن طريق البلاغة مع لزوم تخصيص الخطاب بأهل الكتاب وتخلل اتَّقُوا بين المعطوفين- والابتلاء- في الأصل الاختبار- كما قدمنا- والمراد به هنا التكليف. أو المعاملة معاملة الاختبار مجازا، إذ حقيقة الاختبار محالة عليه تعالى- لكونه عالم السر والخفيات- وإِبْراهِيمَ علم أعجمي، قيل: معناه قبل النقل- أب رحيم- وهو مفعول مقدم لإضافة فاعله إلى ضميره، والتعرض لعنوان الربوبية تشريف له عليه السلام، وإيذان بأن ذلك- الابتلاء- تربية له وترشيح لأمر خطير، والكلمات- جمع- كلمة- وأصل معناها- اللفظ المفرد- وتستعمل في الجمل المفيدة، وتطلق على معاني ذلك- لما بين اللفظ والمعنى من شدة الاتصال- واختلف فيها.
فقال طاوس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنها العشرة التي من الفطرة، المضمضة والاستنشاق وقص الشارب وإعفاء اللحية والفرق ونتف الإبط وتقليم الأظفار وحلق العانة والاستطابة والختان، وقال عكرمة رواية عنه أيضا: لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه كله إلا إبراهيم، ابتلاه الله تعالى بثلاثين خصلة من خصال الإسلام، عشر منها في سورة براءة، التَّائِبُونَ [التوبة: ١١٢] إلخ، وعشر في الأحزاب [٢٥] إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ إلخ، وعشر في المؤمنين وسَأَلَ سائِلٌ إلى وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ [المعارج: ١- ٢٤] وفي رواية الحاكم في مستدركه أنها ثلاثون، وعد السور الثلاثة الأول ولم يعد السورة الأخيرة، فالذي في براءة، التوبة والعبادة والحمد والسياحة والركوع، والسجود. والأمر بالمعروف. والنهي عن المنكر. والحفظ لحدود الله تعالى. والإيمان المستفاد من وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أو من إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
[التوبة: ١١١] في الأحزاب، الإسلام. والإيمان. والقنوت.
والصدق. والصبر. والخشوع. والتصدق. والصيام. والحفظ للفروج والذكر، والذي في المؤمنين الإيمان والخشوع والاعراض عن اللغو والزكاة والحفظ للفروج- إلا على الأزواج أو الإماء ثلاثة- والرعاية للعهد. والأمانة اثنين والمحافظة على الصلاة، وهذا مبني على أن لزوم التكرار في بعض الخصال بعد جمع العشرات المذكورة. كالإيمان.
والحفظ للفروج لا ينافي كونها ثلاثين تعدادا- إنما ينافي تغايرها ذاتا- ومن هنا عدت التسمية مائة وثلاث عشرة آية عند الشافعية باعتبار تكررها في كل سورة، وما في رواية عكرمة مبني على اعتبار التغاير بالذات وإسقاط المكررات، وعده العاشرة البشارة للمؤمنين في براءة، وجعل الدوام على الصلاة والمحافظة عليها واحدا وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج: ٢٤] غير- الفاعلين للزكاة- لشموله صدقة التطوع وصلة الأقارب، وما روي أنها أربعون وبينت بما في السور الأربع مبني على الاعتبار الأول أيضا- فلا إشكال- وقيل: ابتلاه الله تعالى بعدة أشياء بالكوكب والقمرين والختان على الكبر والنار وذبح الولد والهجرة من كوثى إلى الشام. وروي ذلك عن الحسن، وقيل: هي ما تضمنته الآيات بعد من الإمامة، وتطهير البيت، ورفع قواعده، والإسلام. «وقيل، وقيل..» إلى ثلاثة عشر قولا، وقرأ ابن عامر وابن الزبير وغيرهما «إبراهام» وأبو بكرة «إبراهم» - بكسر الهاء وحذف الياء- وقرأ ابن عباس. وأبو الشعثاء وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنهم برفع إِبْراهِيمَ ونصب رَبُّهُ- فالابتلاء- بمعنى الاختبار حقيقة لصحته من العبد. والمراد دعا رَبُّهُ بِكَلِماتٍ مثل رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [الأعراف: ١٤٣] واجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً [إبراهيم: ٣٥] ليرى هل يجيبه؟ ولا حاجة إلى الحمل على المجاز. وأما ما قيل: إنه- وإن صح من العبد- لا يصح- أو لا يحسن تعليقه بالرب- فوجهه غير ظاهر سوى ذكر لفظ- الابتلاء- ويجوز أن يكون ذلك في مقام الأنس، ومقام الخلة غير خفي فَأَتَمَّهُنَّ الضمير المنصوب- للكلمات- لا غير. والمرفوع المستكن يحتمل أن يعود- لإبراهيم- وأن يعود- لربه- على كل من قراءتي- الرفع والنصب- فهناك أربعة احتمالات «الأول» عوده على إِبْراهِيمَ منصوبا، ومعنى فَأَتَمَّهُنَّ حينئذ أتى بهن على الوجه الأتم وأداهن كما يليق «الثاني» عوده على رَبُّهُ مرفوعا، والمعنى حينئذ يسر له العمل بهن وقواه على- إتمامهن- أو أتم له أجورهن، أو أدامهن سنّة فيه وفي عقبه إلى يوم الدين «والثالث» عوده على إِبْراهِيمَ مرفوعا- والمعنى عليه- أتم إبراهيم الكلمات المدعو بها بأن راعى شروط الإجابة فيها، ولم يأت بعدها بما يضيعها «الرابع» عوده إلى رَبُّهُ منصوبا- والمعنى عليه- فأعطى سبحانه إِبْراهِيمَ جميع ما دعاه. وأظهر الاحتمالات الأول والرابع، إِذِ التمدح غير ظاهر في الثاني- مع ما فيه من حذف المضاف على أحد محتملاته- والاستعمال المألوف غير متبع في الثالث، لأن الفعل الواقع في مقابلة الاختبار يجب أن يكون فعل المختبر اسم مفعول.
قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً استئناف بياني إن أضمر ناصب إِذِ كأنه قيل: فماذا كان بعد؟ فأجيب بذلك، أو بيان- لابتلى- بناء على رأي من جعل- الكلمات- عبارة عما ذكر أثره- وبعضهم يجعل ذلك من بيان الكلي بجزئي من جزئياته وإذا نصبت إِذِ بيقال كما ذهب إليه أبو حيان يكون المجموع جملة معطوفة على ما قبلها على الوجه الذي مرّ تفصيله، وقيل: مستطردة أو معترضة، ليقع قوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ [الإنعام: ١٤٤] إن جعل خطابا لليهود موقعه، ويلائم قوله سبحانه: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: ١٣٥] و «جاعل» من- جعل- بمعنى صير المتعدي إلى مفعولين، ولِلنَّاسِ إما متعلق بجاعل أي لأجلهم، وإما في موضع الحال لأنه نعت نكرة تقدمت أي إماما كائنا لهم- والإمام- اسم للقدوة الذي يؤتم به. «ومنه» قيل لخيط البناء: إمام، وهو مفرد على فعال، وجعله بعضهم اسم آلة لأن فعالا من صيغها- كالإزار- واعترض بأن- الإمام- ما يؤتم به، والإزار ما يؤتزر
به- فهما مفعولان- ومفعول الفعل ليس بآلة لأنها الواسطة بين الفاعل والمفعول في وصول أثره إليه، ولو كان المفعول آلة لكان الفاعل كذلك- وليس فليس- ويكون جمع- آم- اسم فاعل من- أم يؤم- كجائع وجياع، وقائم وقيام، وهو بحسب المفهوم وإن كان شاملا للنبي والخليفة وإمام الصلاة، بل كل من يقتدى به في شيء ولو باطلا كما يشير إليه قوله تعالى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [القصص: ٤١] إلا أن المراد به هاهنا النبي المقتدى به، فإن من عداه لكونه مأموم النبي ليست إمامته كإمامته، وهذه الإمامة إما مؤبدة- كما هو مقتضى تعريف الناس- وصيغة اسم الفاعل الدال على الاستمرار ولا يضر مجيء الأنبياء بعده لأنه لم يبعث نبي إلا وكان من ذريته ومأمورا باتباعه في الجملة لا في جميع الأحكام لعدم اتفاق الشرائع التي بعده في الكل، فتكون إمامته باقية بإمامة أولاده التي هي أبعاضه على التناوب، وإما مؤقتة بناء على أن ما نسخ- ولو بعضه- لا يقال له مؤبد وإلا لكانت إمامة كل نبي مؤبدة ولم يشع ذلك فالمراد من «الناس» حينئذ أمته الذين اتبعوه، ولك أن تلتزم القول بتأبيد إمامة كل نبي- ولكن في عقائد التوحيد- وهي لم تنسخ بل لا تنسخ أصلا كما يشير إليه قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الإنعام: ٩٠] وعدم الشيوع غير مسلم، ولئن سلم لا يضر، والامتنان على إبراهيم عليه السلام بذلك دون غيره لخصوصية اقتضت ذلك لا تكاد تخفى فتدبر.
ثم لا يخفى أن ظاهر الآية يشير إلى أن الابتلاء كان قبل النبوة لأنه تعالى جعل القيام بتلك الكلمات سببا لجعله إماما، وقيل: إنه كان بعدها لأنه يقتضي سابقة الوحي، وأجيب بأن مطلق الوحي لا يستلزم البعثة إلى الخلق وأنت تعلم أن ذبح الولد والهجرة والنار إن كانت من- الكلمات- يشكل الأمر لأن هذه كانت بعد النبوة بلا شبهة، وكذا الختان أيضا بناء على ما روي أنه عليه الصلاة والسلام حين ختن نفسه كان عمره مائة وعشرين فحينئذ يحتاج إلى أن يكون- إتمام الكلمات- سبب الإمامة باعتبار عمومها للناس واستجابة دعائه في حق بعض ذريته، ونقل الرازي عن القاضي أنه على هذا يكون المراد من قوله تعالى: فَأَتَمَّهُنَّ أنه سبحانه وتعالى علم من حاله أنه يتمهن ويقوم بهن بعد النبوة فلا جرم أعطاه خلعة الإمامة والنبوة ولا يخفى أن الفاء يأبى عن الحمل على هذا المعنى.
قالَ استئناف بياني والضمير لإبراهيم عليه السلام وَمِنْ ذُرِّيَّتِي عطف على الكاف يقال سأكرمك فتقول وزيدا وجعله على معنى ماذا يكون مِنْ ذُرِّيَّتِي بعيد. وذهب أبو حيان إلى أنه متعلق بمحذوف أي- اجعل من ذريتي- إماما لأنه عليه السلام فهم من إِنِّي جاعِلُكَ الاختصاص به، واختاره بعضهم واعترضوا على ما تقدم بأن الجار والمجرور لا يصلح مضافا إليه فكيف يعطف عليه وبأن العطف على الضمير كيف يصح بدون إعادة الجار وبأنه كيف يكون المعطوف مقول قائل آخر، ودفع الأولان بأن الإضافة اللفظية في تقدير الانفصال وَمِنْ ذُرِّيَّتِي في معنى بعض ذُرِّيَّتِي فكأنه قال: وجاعل بعض ذُرِّيَّتِي وهو صحيح على أن العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار وإن أباه أكثر النحاة إلا أن المحققين من علماء العربية وأئمة الدين على جوازه حتى قال صاحب العباب: إنه وارد في القراءات السبع المتواترة فمن رد ذلك فقد رد على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ودفع «الثالث» بأنه من قبيل عطف التلقين فهو خبر في معنى الطلب وكأن أصله واجعل بعض ذُرِّيَّتِي كما قدره المعترض لكنه عدل عنه إلى المنزل لما فيه من البلاغة من حيث جعله من تتمة كلام المتكلم كأنه مستحق مثل المعطوف عليه وجعل نفسه كالنائب عن المتكلم والعدول من صيغة الأمر للمبالغة في الثبوت ومراعاة الأدب في التفادي عن صورة الأمر وفيه من الاختصار الواقع موقعه ما يروق كل ناظر ونظير هذا العطف ما
روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «اللهم ارحم المحلقين قالوا:
والمقصرين يا رسول الله؟ قال: اللهم ارحم المحلقين قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: والمقصرين».
وقد ذكر الأصوليون أن التلقين ورد بالواو وغيرها من الحروف وأنه وقع في الاستثناء كما
في الحديث «إن الله تعالى حرم شجر الحرم قالوا إلا الإذخر يا رسول الله»
واعترض أيضا بأن العطف المذكور يستدعي أن تكون إمامة- ذريته- عامة لجميع الناس عموم إمامته عليه السلام على ما قيل. وليس كذلك وأجيب بأنه يكفي في العطف الاشتراك في أصل المعنى، وقيل: يكفي قبولها في حق نبينا عليه الصلاة والسلام- والذرية- نسل الرجل وأصلها الأولاد الصغار ثم عمت الكبار والصغار الواحد وغيره، وقيل: إنها تشمل الآباء لقوله تعالى: أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [يس: ٤١] يعني نوحا وأبناءه والصحيح خلافه، وفيها ثلاث لغات- ضم الذال وفتحها وكسرها- وبها قرىء وهي إما فعولة من ذروت أو ذريت والأصل ذرووة أو ذروية فاجتمع في الأول واوان زائدة وأصلية فقلبت الأصلية ياء فصارت كالثانية فاجتمعت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء فصارت ذرية أو فعلية منهما والأصل في الأولى- ذريوية- فقلبت الواو ياء لما سبق فصارت- ذريية- كالثانية فأدغمت الياء في مثلها فصارت ذرية، أو فعلية من الذرء بمعنى الخلق والأصل ذرئية فقلبت الهمزة ياء وأدغمت، أو فعلية من الذر بمعنى التفريق والأصل ذريرة قلبت الراء الأخيرة ياء هربا من ثقل التكرير كما قالوا في تظننت تظنيت، وفي تقضضت تقضيت، أو فعولة منه والأصل ذرورة فقلبت الراء الأخيرة ياء فجاء الإدغام، أو فعلية منه على صيغة النسبة قالوا: وهو الأظهر لكثرة مجيئها كحرية ودرية، وعدم احتياجها إلى الاعلال وإنما ضمت ذاله لأن الابنية قد تغير في النسبة خاصة كما قالوا في النسبة إلى الدهر: دهري.
قالَ استئناف بياني أيضا، والضمير لله عز اسمه لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ إجابة لما راعى الأدب في طلبه من جعل بعض ذريته نبيا كما جعل مع تعيين جنس البعض الذي أبهم في دعائه عليه السلام بأبلغ وجه وآكده حيث نفى الحكم عن أحد الضدين مع الاشعار إلى دليل نفيه عنه ليكون دليلا على الثبوت للآخر فالمتبادر من العهد الإمامة، وليست هي هنا إلا النبوة. وعبر عنها «به» للإشارة إلى أنها أمانة الله تعالى وعهده الذي لا يقوم به إلا من شاء الله تعالى من عباده، وآثر النيل على الجعل إيماء إلى أن إمامة الأنبياء من ذريته عليهم السلام ليست بجعل مستقل بل هي حاصلة في ضمن إمامته تنال كلّا منهم في وقته المقدر له، ولا يعود من ذلك نقص في رتبة نبوة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه جار مجرى التغليب على أن مثل ذلك لو كان يحط من قدرها لما خوطب صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله تعالى: أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [النحل: ١٢٣] والمتبادر من- الظلم- الكفر لأنه الفرد الكامل من أفراده، ويؤيده قوله تعالى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: ٢٥٤] فليس في الآية دلالة على عصمة الأنبياء عليهم السلام من الكبائر قبل البعثة ولا على أن الفاسق لا يصلح للخلافة، نعم فيها قطع أطماع الكفرة الذين كانوا يتمنون النبوة، وسد أبواب آمالهم الفارغة عن نيلها، واستدل بها بعض الشيعة على نفي إمامة الصديق وصاحبيه رضي الله تعالى عنهم حيث أنهم عاشوا مدة مديدة على الشرك وإِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: ١٣] والظالم بنص الآية لا تناله الإمامة، وأجيب بأن غاية ما يلزم أن الظالم في حال الظلم لا تناله، والإمامة إنما نالتهم رضي الله تعالى عنهم في وقت كمال إيمانهم وغاية عدالتهم، واعترض بأن مِنْ تبعيضية فسؤال إبراهيم عليه السلام الإمامة إما للبعض العادل من ذريته مدة عمره أو الظالم حال الامامة سواء كان عادلا في باقي العمر أم لا، أو العادل في البعض الظالم في البعض الآخر أو الأعم، فعلى الأول يلزم عدم مطابقة الجواب، وعلى الثاني جهل الخليل، وحاشاه وعلى الثالث المطلوب وحياه، وعلى الرابع إما المطلوب أو الفساد وأنت خبير بأن مبنى الاستدلال حمل العهد على الأعم من النبوة والإمامة التي
يدعونها- ودون إثباته خرط القتاد- وتصريح البعض كالجصاص لا يبنى عليه إلزام الكل، وعلى تقدير التنزل يجاب بأنا نختار أن سؤال الإمامة بالمعنى الأعم للبعض المبهم من غير إحضار الاتصاف بالعدالة والظلم حال السؤال، والآية إجابة لدعائه مع زيادة على ما أشرنا إليه، وكذا إذا اختير الشق الأول بل الزيادة عليه زيادة، ويمكن الجواب باختيار الشق الثالث أيضا بأن نقول: هو على قسمين، أحدهما من يكون ظالما قبل الإمامة ومتصفا بالعدالة وقتها اتصافا مطلقا بأن صار تائبا من المظالم السابقة فيكون حال الإمامة متصفا بالعدالة المطلقة، والثاني من يكون ظالما قبل الإمامة ومحترزا عن الظلم حالها لكن غير متصف بالعدالة المطلقة لعدم التوبة، ويجوز أن يكون السؤال شاملا لهذا القسم ولا بأس به إذ أمن الرعية من الفساد الذي هو المطلوب يحصل به فالجواب بنفي حصول الإمامة لهذا القسم والشيخان وعثمان رضي الله تعالى عنهم ليسوا منه بل هم في أعلى مراتب القسم الأول متصفون بالتوبة الصادقة، والعدالة المطلقة، والإيمان الراسخ، والإمام لا بد أن يكون وقت الإمامة كذلك، ومن كفر أو ظلم ثم تاب وأصلح لا يصح أن يطلق عليه أنه كافر أو ظالم في لغة وعرف وشرع إذ قد تقرر في الأصول أن المشتق فيما قام به المبدأ في الحال حقيقة، وفي غيره مجاز، ولا يكون المجاز أيضا مطردا بل حيث يكون متعارفا وإلا لجاز صبي لشيخ ونائم لمستيقظ وغني لفقير. وجائع لشبعان وحي لميت وبالعكس، وأيضا لو اطرد ذلك يلزم من حلف لا يسلم على كافر فسلم على إنسان مؤمن في الحال إلا أنه كان كافرا قبل بسنين متطاولة أن يحنث ولا قائل به، هذا ومن أصحابنا من جعل الآية دليلا على عصمة الأنبياء عن الكبائر قبل البعثة وأن الفاسق لا يصح للخلافة، ومبنى ذلك حمل العهد على الإمامة وجعلها شاملة للنبوة والخلافة، وحمل الظالم على من ارتكب معصية مسقطة للعدالة بناء على أن الظلم خلاف العدل، ووجه الاستدلال حينئذ أن الآية دلت على أن نيل الامامة
لا يجامع الظلم السابق فإذا تحقق النيل كما في الأنبياء علم عدم اتصافهم حال النيل بالظلم السابق وذلك إما بأن لا يصدر منهم ما يوجب ذلك أو بزواله بعد حصوله بالتوبة ولا قائل بالثاني إذ الخلاف إنما هو في أن صدور الكبيرة هل يجوز قبل البعثة أم لا؟ فيتعين الثاني وهو العصمة، أو المراد بها هاهنا عدم صدور الذنب لا الملكة وكذا إذا تحقق الاتصاف بالظلم كما في الفاسق علم عدم حصول الإمامة بعد ما دام اتصافه بذلك واستفادة عدم صلاحية الفاسق للإمامة على ما قررنا من منطوق الآية وجعلها من دلالة النص أو القياس المحوج إلى القول بالمساواة ولا أقل، أو التزام جامع، وهما مناط العيوق وإنما يدعو اليه حمل الإمامة على النبوة، وقد علمت أن المبني الحمل على الأعم وكان الظاهر أن الظلم الطارئ والفسق العارض يمنع عن الإمامة بقاء كما منع عنها ابتداء لأن المنافاة بين الوصفين متحققة في كل آن- وبه قال بعض السلف- إلا أن الجمهور على خلافه مدعين أن المنافاة في الابتداء لا تقتضي المنافاة في البقاء لأن الدفع أسهل من الرفع، واستشهدوا له بأنه لو قال لامرأة مجهولة النسب يولد مثلها لمثله: هذه بنتي لم يجز له نكاحها ولو قال لزوجته الموصوفة بذلك لم يرتفع النكاح لكن إن أصر عليه يفرق القاضي بينهما وهذا الذي قالوه إنما يسلم فيما إذا لم يصل الظلم إلى حد الكفر أما إذا وصل إليه فإنه ينافي الإمامة بقاء أيضا بلا ريب وينعزل به الخليفة قطعا، ومن الناس من استدل بالآية على أن الظالم إذا عوهد لم يلزم الوفاء بعهده وأيد ذلك بما روي عن الحسن أنه قال: إن الله تعالى لم يجعل للظالم عهدا وهو كما ترى، وقرأ أبو الرجاء وقتادة والأعمش- الظالمون- بالرفع على أن عَهْدِي مفعول مقدم على الفاعل اهتماما ورعاية للفواصل وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ عطف على وَإِذِ ابْتَلى وَالْبَيْتِ من الأعلام الغالبة للكعبة كالنجم للثريا مَثابَةً لِلنَّاسِ أي مجمعا لهم قاله الخليل. وقتادة- أو معاذا وملجأ- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو مرجعا يثوب إليه أعيان الزوار أو أمثالهم- قاله مجاهد. وجبير- أو مرجعا يحق أن يرجع ويلجأ إليه- قاله بعض المحققين- أو موضع ثواب يثابون بحجه واعتماره- قاله عطاء- وحكاه الماوردي عن بعض أهل اللغة والتاء فيه وتركه لغتان كما في مقام ومقامة وهي
لتأنيث البقعة- وهو قول الفراء. والزجاج- وقال الأخفش: إن- التاء فيه للمبالغة كما في نسابة وعلامة، وأصله مثوبة على وزن مفعلة مصدر ميمي، أو ظرف مكان، واللام في الناس للجنس وهو الظاهر وجوز حمله على العهد أو الاستغراق العرفي، وقرأ الأعمش، وطلحة مثابات على الجمع لأنه مثابة كل واحد من الناس لا يختص به أحد منهم سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ [الحج: ٢٥] فهو وإن كان واحدا بالذات إلا أنه متعدد باعتبار الإضافات، وقيل: إن الجمع بتنزيل تعدد الرجوع منزلة تعدد المحل أو باعتبار أن كل جزء منه مثابة، واختار بعضهم ذلك زعما منه أن الأول يقتضي أن يصح التعبير عن غلام جماعة بالمملوكين ولم يعرف، وفيه أنه قياس مع الفارق إذ له إضافة المملوكية إلى كلهم لا إلى كل واحد منهم وَأَمْناً عطف على مَثابَةً وهو مصدر وصف به للمبالغة، والمراد موضع أمن إما لسكانه من الخطف أو لحجاجه من العذاب حيث إن الحج يزيل ويمحو ما قبله غير حقوق العباد والحقوق المالية كالكفارة على الصحيح، أو للجاني الملتجئ إليه من القتل- وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه- إذ عنده لا يستوفى قصاص النفس في الحرم لكن يضيق على الجاني ولا يكلم ولا يطعم ولا يعامل حتى يخرج فيقتل، وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه من وجب عليه الحد والتجأ إليه يأمر الإمام بالتضييق عليه بما يؤدي إلى خروجه فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحل فإن لم يخرج جاز قتله فيه، وعند الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه لا يستوفى من المتلجئ قصاص مطلقا ولو قصاص الأطراف حتى يخرج ومن الناس من جعل- أمنا- مفعولا ثانيا لمحذوف على معنى الأمر أي- واجعلوه أمنا- كما جعلناه مثابة وهو بعيد عن الظاهر النظم، ولم يذكر للناس هنا كما ذكر من قبل اكتفاء به أو إشارة إلى
العموم أي أنه أمن لكل شيء كائنا ما كان حتى الطير والوحش إلا الخمس الفواسق فإنها خصت من ذلك على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويدخل فيه أمن الناس دخولا أوليا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى عطف على جعلنا أو حال من فاعله على إرادة القول أي وقلنا أو قائلين لهم اتخذوا والمأمور به الناس كما هو الظاهر أو إبراهيم عليه السلام وأولاده كما قيل، أو عطف على اذكر المقدر عاملا ل إِذْ، أو معطوف على مضمر تقديره ثوبوا إليه وَاتَّخِذُوا وهو معترض باعتبار نيابته عن ذلك بين جعلنا وعهدنا ولم يعتبر الاعتراض من دون عطف مع أنه لا يحتاج إليه ليكون الارتباط مع الجملة السابقة أظهر، والخطاب على هذين الوجهين لأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وهو صلى الله تعالى عليه وسلم رأس المخاطبين. ومِنْ إما للتبعيض أو بمعنى- في- أو زائدة- على مذهب الأخفش- والأظهر الأول، وقال القفال: هي مثل اتخذت من فلان صديقا وأعطاني الله تعالى من فلان أخا صالحا، دخلت لبيان المتخذ الموهوب وتمييزه، والمقام- مفعل من القيام يراد به المكان أي مكان قيامه وهو الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم عليه السلام حين ضعف من رفع الحجارة التي كان ولده إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت، وفيه أثر قدميه قاله ابن عباس وجابر وقتادة وغيرهم، وأخرجه البخاري- وهو قول جمهور المفسرين- وروي عن الحسن أنه الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل عليه السلام تحت إحدى رجليه وهو راكب فغسلت أحد شقي رأسه ثم رفعته من تحتها وقد غاصت فيه ووضعته تحت رجله الأخرى فغسلت شقه الآخر وغاصت رجله الأخرى فيه أيضا، أو الموضع الذي كان فيه الحجر حين قام عليه ودعا الناس إلى الحج ورفع بناء البيت، وهو موضعه اليوم- فالمقام- في أحد المعنيين حقيقة لغوية وفي الآخر مجاز متعارف ويجوز حمل اللفظ على كل منهما- كذا قالوا- إلا أنه استشكل تعيين الموضع بما هو الموضع اليوم لما في فتح الباري من أنه كان المقام أي الحجر من عهد إبراهيم عليه السلام لزيق البيت إلى أن أخره عمر رضي الله تعالى عنه إلى المكان الذي هو فيه الآن أخرجه عبد الرزاق بسند قوي، وأخرج ابن مردويه بسند ضعيف عن مجاهد أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هو الذي حوله فإن هذا يدل على تغاير الموضعين سواء كان المحول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أو عمر رضي الله تعالى عنه، وأيضا كيف يمكن رفع البناء حين القيام
عليه حال كونه في موضعه اليوم؟! وهو بعيد من الحجر الأسود بسبعة وعشرين ذراعا، وأيضا المشهور أن دعوة الناس إلى الحج كانت فوق أبي قبيس فإنه صعده بعد الفراغ من عمارة البيت ونادى أيها الناس حجوا بيت ربكم فإن لم يكن الحجر معه حينئذ أشكل القول بأنه قام عليه ودعا وإن كان معه وكان الوقوف عليه فوق الجبل- كما يشير إليه كلام روضة الأحباب، وبه يحصل الجمع- أشكل التعيين بما هو اليوم وغاية التوجيه أن يقال لا شك أنه عليه السلام كان يحول الحجر حين البناء من موضع إلى موضع ويقوم عليه فلم يكن له موضع معين، وكذا حين الدعوة لم يكن عند البيت بل فوق أبي قبيس فلا بد من صرف عباراتهم عن ظاهرها بأن يقال الموضع الذي كان ذلك الحجر في أثناء زمان قيامه عليه واشتغاله بالدعوة، أو رفع البناء لا حالة القيام عليه، ووقع في بعض الكتب أن هذا المقام الذي فيه الحجر الآن كان بيت إبراهيم عليه السلام، وكان ينقل هذا الحجر بعد الفراغ من العمل إليه، وأن الحجر بعد إبراهيم كان موضوعا في جوف الكعبة، ولعل هذا هو الوجه في تخصيص هذا الموضع بالتحويل، وما وقع في الفتح من أنه كان المقام من عهد إبراهيم لزيق البيت معناه بعد إتمام العمارة فلا ينافي أن يكون في أثنائها في الموضع الذي فيه اليوم- كذا ذكره بعض المحققين فليفهم- وسبب النزول ما
أخرجه أبو نعيم من حديث ابن عمر «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أخذ بيد عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا عمر هذا مقام إبراهيم فقال عمر: أفلا نتخذه مصلى فقال: لم أومر بذلك فلم تغب الشمس حتى نزلت هذه الآية»
والأمر فيها للاستحباب إذ المتبادر- من- المصلى- موضع الصلاة مطلقا، وقيل: المراد به الأمر بركعتي الطواف لما
أخرجه مسلم عن جابر «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين، وقرأ الآية»
فالأمر للوجوب على بعض الأقوال، ولا يخفى ضعفه لأن فيه التقييد بصلاة مخصوصة من غير دليل، وقراءته عليه الصلاة والسلام الآية حين أداء الركعتين لا يقتضي تخصيصه بهما، وذهب النخعي ومجاهد إلى أن المراد من مقام إبراهيم الحرم كله، وابن عباس وعطاء إلى أنه مواقف الحج كلها، والشعبي إلى أنه عرفة ومزدلفة والجمار، ومعنى- اتخاذها مصلى- أن يدعى فيها ويتقرب إلى الله تعالى عندها، والذي عليه الجمهور، هو ما قدمناه أولا، وهو الموافق لظاهر اللفظ ولعرف الناس اليوم وظواهر الأخبار تؤيده، وقرأ نافع وابن عامر «واتخذوا» بفتح الخاء على أنه فعل ماض، وهو حينئذ معطوف على جَعَلْنَا أي- واتخذ الناس- من مكان إبراهيم الذي عرف به وأسكن ذريته عنده- وهو الكعبة قبلة يصلون إليها. فالمقام مجاز عن ذلك المحل وكذا- المصلى- بمعنى القبلة مجاز عن المحل الذي يتوجه إليه في الصلاة بعلاقة القرب والمجاورة وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أي وصينا أو أمرنا أو أوحينا أو قلنا، والذي عليه المحققون أن العهد إذا تعدى ب إِلى يكون بمعنى التوصية، ويتجوز به عن الأمر، وإسماعيل علم أعجمي قيل: معناه بالعربية مطيع الله، وحكي أن إبراهيم عليه السلام كان يدعو أن يرزقه الله تعالى ولدا، ويقول:- اسمع إيل- أي استجب دعائي يا الله فلما رزقه الله تعالى ذلك سماه بتلك الجملة، وأراه في غاية البعد وللعرب فيه لغتان اللام والنون أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ أي بأن طَهِّرا على أن أَنْ مصدرية وصلت بفعل الأمر بيانا للموصى المأمور به، وسيبويه. وأبو علي جوزا كون صلة الحروف المصدرية أمرا أو نهيا والجمهور منعوا ذلك مستدلين بأنه إذا سبك منه مصدر فات معنى الأمر، وبأنه يجب في الموصول الاسمي كون صلته خبرية. والموصول الحرفي مثله، قدروا هنا- قلنا- ليكون مدخول الحرف المصدري خبرا، ويردّ عليهم أولا أن كونه مع الفعل بتأويل المصدر لا يستدعي اتحاد معناهما ضرورة عدم دلالة المصدر على الزمان مع دلالة الفعل عليه، وثانيا أن وجوب كون الصلة خبرية في الموصول الاسمى إنما هو للتوصل إلى وصف المعارف بالجمل وهي لا توصف بها إلا إذا كانت خبرية، وأما الموصول الحرفي فليس كذلك، وثالثا أن تقدير- قلنا- يفضي إلى أن يكون المأمور به القول، وليس كذلك، وجوز أن تكون أَنْ هذه مفسرة لتقدم ما
يتضمن معنى القول دون حروفه، وهو العهد، ويحتاج حينئذ إلى تقدير المفعول إذ يشترط مع تقدم ما ذكر كون مدخولها مفسرا لمفعول مقدر أو ملفوظ أي قلنا لهما شيئا هو أَنْ طَهِّرا والمراد من التطهير التنظيف من كل ما لا يليق فيدخل فيه الأوثان والأنجاس وجميع الخبائث وما يمنع منه شرعا كالحائض وخص مجاهد وابن عطاء ومقاتل وابن جبير التطهير بإزالة الأوثان، وذكروا أن البيت كان عامرا على عهد نوح عليه السلام وأنه كان فيه أصنام على أشكال صالحيهم، وأنه طال العهد فعبدت من دون الله تعالى فأمر الله تعالى بتطهيره منها، وقيل: المراد بخّراه ونظفاه وخلقاه وارفعا عنه الفرث والدم الذي كان يطرح فيه، وقيل: أخلصاه لمن ذكر بحيث لا يغشاه غيرهم فالتطهير عبارة عن لازمه، ونقل عن السدي أن المراد به البناء والتأسيس على الطهارة والتوحيد وهو بعيد، وتوجيه الأمر هنا إلى إبراهيم وإسماعيل لا ينافي ما في سورة الحج من تخصيصه بإبراهيم عليه السلام فإن ذلك واقع قبل بناء البيت كما يفصح عنه قوله تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ [الحج: ٢٦] وكان إسماعيل حينئذ بمعزل من مثابة الخطاب، وظاهر أن هذا بعد بلوغه مبلغ الأمر والنهي، وتمام البناء بمباشرته كما ينبىء عنه إيراده إثر حكاية جعله مَثابَةً وإضافة البيت إلى ضمير الجلالة للتشريف ك ناقَةُ اللَّهِ [الأعراف: ٧٣، هود: ٦٤، الشمس: ١٣] لا أنه مكان له تعالى عن ذلك علوا كبيرا لِلطَّائِفِينَ أي لأجلهم فاللام تعليلية وإن فسر التطهير بلازمه كانت صلة له، والطائف- اسم فاعل من طاف به إذا دار حوله، والظاهر أن المراد كل من يطوف من حاضر أو باد- وإليه ذهب عطاء وغيره- وقال ابن جبير: والمراد الغرباء الوافدون مكة حجاجا وزوارا.
وَالْعاكِفِينَ وهم أهل البلد الحرام المقيمون عند ابن جبير، وقال عطاء: هم الجالسون من غير طواف من بلدي وغريب، وقال مجاهد: المجاورون له من الغرباء، وقيل: هم المعتكفون فيه وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وهم المصلون جمع راكع وساجد، وخص الركوع والسجود بالذكر من جميع أحوال المصلي لأنهما أقرب أحواله إليه تعالى وهما الركنان الأعظمان وكثيرا ما يكنى عن الصلاة بهما ولذا ترك العطف بينهما ولم يعبر بالمصلين مع اختصاره إيذانا بأن المعتبر صلاة ذات ركوع وسجود لا صلاة اليهود. وقدم الركوع لتقدمه في الزمان وجمعا جمع تكسير لتغير هيئة المفرد مع مقابلتهما ما قبلهما من جمعي السلامة وفي ذلك تنويع في الفصاحة، وخالف بين وزني تكسيرهما للتنويع مع المخالفة في الهيئات وكان آخرهما على فعول لأجل كونه فاصلة والفواصل قبل وبعد آخرها حرف قبله حرف مدّ ولين وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً الإشارة إلى الوادي المذكور بقوله تعالى: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم: ٣٧] أي اجعل هذا المكان القفر بلدا إلخ فالمدعو به البلدية مع الأمن، وهذا بخلاف ما في سورة إبراهيم [٣٥] رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ولعل السؤال متكرر، وما في تلك السورة كان بعد، والأمن المسئول فيها إما هو الأول وأعاد سؤاله دون البلدية رغبة في استمراره لأنه المقصد الأصلي، أو لأن المعتاد في البلدية الاستمرار بعد التحقق بخلافه. وإما غيره بأن يكون المسئول أولا مجرد الأمن المصحح للسكنى، وثانيا الأمن المعهود، ولك أن تجعل هَذَا الْبَلَدَ في تلك السورة إشارة إلى أمر مقدر في الذهن كما يدل عليه رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ إلخ فتطابق الدعوتان حينئذ وإن جعلت الإشارة هنا إلى البلد تكون الدعوة بعد صيرورته بلدا والمطلوب كونه آمنا على طبق ما في السورة من غير تكلف إلا أنه يفيد المبالغة أي بلدا كاملا في الأمن كأنه قيل اجعله بلدا معلوم الاتصاف بالأمن مشهورا به كقولك كان هذا اليوم يوما حارا، والوصف بآمن إما على معنى النسب أي ذا أمن على حد ما قيل: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: ٢١، القارعة: ٧] وإما على الاتساع والإسناد المجازي، والأصل آمنا أهله فأسند ما للحال للمحل لأن الأمن والخوف من صفات ذوي الإدراك، وهل الدعاء بأن يجعله آمنا
من الجبابرة والمتغلبين، أو من أن يعود حرمه حلالا، أو من أن يخلو من أهله. أو من الخسف والقذف، أو من القحط والجدب، أو من دخول الدجال، أو من دخول أصحاب الفيل؟؟ أقوال، والواقع يرد بعضها فإن الجبابرة دخلته وقتلوا فيه- كعمرو بن لحي الجرهمي، والحجاج الثقفي، والقرامطة وغيرهم- وكون البعض لم يدخله للتخريب بل كان غرضه شيئا آخر لا يجدي نفعا كالقول بأنه ما آذى أهله جبار إلا قصمه الله تعالى ففي المثل:
إذا مت عطشانا فلا نزل القطر
وكان النداء بلفظ الرب مضافا لما في ذلك من التلطف بالسؤال والنداء بالوصف الدال على قبول السائل، وإجابة ضراعته، وقد أشرنا من قبل إلى ما ينفعك هنا فتذكر.
وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ أي من أنواعها بأن تجعل قريبا منه قرى يحصل فيها ذلك أو تجيء إليه من الأقطار الشاسعة- وقد حصل كلاهما- حتى أنه يجتمع فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد روي أن الله سبحانه لما دعا إبراهيم أمر جبريل فاقتلع بقعة من فلسطين، وقيل: من الأردن وطاف بها حول البيت سبعا فوضعها حيث وضعها رزقا للحرم وهي الأرض المعروفة اليوم بالطائف وسميت به لذلك الطواف، وهذا على تقدير صحته غير بعيد عن قدرة الملك القادر جل جلاله، وإن أبيت إبقاءه على ظاهره فباب التأويل واسع، وجمع القلة إظهارا للقناعة، وقد أشرنا إلى أنه كثيرا ما يقوم مقام جمع الكثرة، ومِنَ للتبعيض، وقيل: لبيان الجنس.
مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بدل من أَهْلَهُ بدل البعض وهو مخصص لما دل عليه المبدل منه واقتصر في متعلق الإيمان بذكر المبدأ والمعاد لتضمن الإيمان بهما الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به قالَ أي الله تعالى.
وَمَنْ كَفَرَ عطف على مَنْ آمَنَ أي- وارزق من كفر أيضا- فالطلب بمعنى الخبر على عكس ومِنْ ذُرِّيَّتِي وفائدة العدول تعليم تعميم دعاء الرزق وأن لا يحجر في طلب اللطف وكأن إبراهيم عليه السلام قاس الرزق على الإمامة فنبهه سبحانه على أن الرزق رحمة دنيوية لا تخص المؤمن بخلاف الإمامة أو أنه عليه السلام لما سمع لا يَنالُ إلخ احترز من الدعاء لمن ليس مرضيا عنده تعالى فأرشده إلى كرمه الشامل، وبما ذكرنا اندفع ما في البحر من أن هذا العطف لا يصح لأنه يقتضي التشريك في العامل فيصير قال إبراهيم: وَارْزُقْ فينافيه ما بعد، ولك أن تجعل العطف على محذوف أي- ارزق من آمن ومن كفر- بلفظ الخبر ومن لا يقول بالعطف التلقيني يوجب ذلك ويجوز أن تكون مِنَ مبتدأ شرطية أو موصولة وقوله تعالى: فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا على الأول معطوف على كَفَرَ وعلى «الثاني» خبر للمبتدأ- والفاء- لتضمن المبتدأ معنى الشرط ولا حاجة إلى تقدير- أنا- لأن ابن الحاجب نص على أن المضارع في الجزاء يصح اقترانه بالفاء إلا أن يكون استحسانا، وإلى عدم التقدير ذهب المبرد، ومذهب سيبويه وجوب التقدير وأيد بأن المضارع صالح للجزاء بنفسه فلولا أنه خبر مبتدأ لم يدخل عليه الفاء، ثم الكفر وإن لم يكن سببا للتمتع المطلق لكنه يصلح سببا لتقليله وكونه موصولا بعذاب النار- وقليلا- صفة لمحذوف أي متاعا أو زمانا قَلِيلًا وقرأ ابن عامر فَأُمَتِّعُهُ مخففا على الخبر، وكذا قرأ يحيى بن وثاب إلا أنه كسر الهمزة، وقرأ أبيّ- فنمتعه- بالنون، وابن عباس ومجاهد فَأُمَتِّعُهُ على صيغة الأمر، وعلى هذه القراءة يتعين أن يكون الضمير في قالَ عائدا إلى إبراهيم، وحسن إعادة قالَ طول الكلام وأنه انتقل من الدعاء لقوم إلى الدعاء على آخرين فكأنه
أخذ في كلام آخر وكونه عائدا إليه تعالى- أي قال الله: فَأُمَتِّعُهُ يا قادر يا رازق خطابا لنفسه على طريق التجريد- بعيد جدا لا ينبغي أن يلتفت إليه.
ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ الاضطرار ضد الاختيار وهو حقيقة في كون الفعل صادرا من الشخص من غير تعلق إرادته به كمن ألقى من السطح مثلا مجاز في كون الفعل باختياره لكن بحيث لا يملك الامتناع عنه بأن عرض له عارض يقسره على اختياره كمن أكل الميتة حال المخمصة وبكلا المعنيين قال بعض، ويؤيد الأول قوله تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا
[الطور: ١٣] ويُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ [القمر: ٤٨] وفَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ [الرحمن: ٤١] ويؤيد الثاني قوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: ٧١] وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: ٧١] الآية وإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [الأنبياء: ٩٨] والتحقيق أن أحوال الكفار يوم القيامة عند إدخالهم النار شتى وبذلك يحصل الجمع بين الآيات وإن الاضطرار مجاز عن كون العذاب واقعا به وقوعا محققا حتى كأنه مربوط به، قيل: إن هذا الاضطرار في الدنيا وهو مجاز أيضا كأنه شبه حال الكافر الذي أدرّ الله تعالى عليه النعمة التي استدناه بها قليلا إلى ما يهلكه بحال من لا يملك الامتناع مما اضطر إليه فاستعمل في المشبه ما استعمل في المشبه به وهو كلام حسن لولا أنه يستدعي ظاهرا حمل ثُمَّ على التراخي الرتبي وهو خلاف الظاهر، وقرأ ابن عامر- اضطره- بكسر الهمزة، ويزيد بن أبي حبيب- اضطره- بضم الطاء وأبيّ- نضطره- بالنون، وابن عباس. ومجاهد على صيغة الأمر، وابن محيصن- أطره- بإدغام الضاد في الطاء خبرا- قال الزمخشري- وهي لغة مرذولة لأن حروف ضم شفر يدغم فيها ما يجاورها دون العكس، وفيه أن هذه الحروف أدغمت في غيرها فأدغم أبو عمرو الراء في اللام في نَغْفِرْ لَكُمْ [البقرة: ٢٨٤، الأعراف: ١٦١] والضاد في الشين في- لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ- والشين في السين في الْعَرْشِ سَبِيلًا [الإسراء: ٤٢] والكسائي الفاء في الباء في نَخْسِفْ بِهِمُ [سبأ: ٩] ونقل سيبويه عن العرب أنهم قالوا- مضطجع ومطجع- إلا أن عدم الإدغام أكثر، وأصل اضطر على هذا على ما قيل: اضتر فأبدلت التاء طاء، ثم وقع الإدغام وَبِئْسَ الْمَصِيرُ المخصوص بالذم محذوف لفهم المعنى أي- وبئس المصير النار- إن كان المصير اسم مكان وإن كان مصدرا على من أجاز ذلك فالتقدير وبئست الصيرورة صيرورته إلى العذاب وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ عطف على وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ وإذ للمضي وآثر صيغة المضارع مع أن القصة ماضية استحضارا لهذا الأمر ليقتدي الناس به في إتيان الطاعات الشاقة مع الابتهال في قبولها وليعلموا عظمة البيت المبني فيعظموه الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ القواعد جمع قاعدة وهي الأساس كما قاله أبو عبيدة صفة صارت بالغلبة من قبيل الأسماء الجامدة بحيث لا يذكر لها موصوف ولا يقدر من القعود بمعنى الثبات، ولعله مجاز من المقابل للقيام، ومنه قعدك الله تعالى في الدعاء بمعنى أدامك الله تعالى وثبتك، ورفع القواعد على هذا المعنى مجاز عن البناء عليها إذ الظاهر من رفع الشيء جعله عاليا مرتفعا، والأساس لا يرتفع بل يبقى بحاله لكن لما كانت هيئته قبل البناء عليه الانخفاض ولما بني عليه انتقل إلى هيئة الارتفاع بمعنى أنه حصل له مع ما بني عليه تلك الهيئة صار البناء عليه سببا للحصول كالرفع فاستعمل الرفع في البناء عليه واشتق من ذلك يَرْفَعُ بمعنى يبنى عليها، وقيل: الْقَواعِدَ ساقات البناء وكل ساق قاعدة لما فوقه، فالمراد برفعها على هذا بناؤها نفسها، ووجه الجمع عليه ظاهر وعلى الأول لأنها مربعة ولكل حائط أساس، وضعف هذا القول بأن فيه صرف لفظ الْقَواعِدَ عن معناه المتبادر وليس هو كصرف الرفع في الأول، وقيل: الرفع بمعنى الرفعة والشرف، والْقَواعِدَ بمعناه الحقيقي السابق فهو استعارة تمثيلية- وفيه بعد- إذ لا يظهر حينئذ فائدة لذكر الْقَواعِدَ. ومِنَ ابتدائية
متعلقة ب يَرْفَعُ أو حال من الْقَواعِدَ ولم يقل قواعد البيت لما في الإبهام والتبيين من الاعتناء الدال على التفخيم ما لا يخفى.
وَإِسْماعِيلُ عطف على إِبْراهِيمُ، وفي تأخيره عن المفعول المتأخر عنه رتبة إشارة إلى أن مدخليته في رفع البناء، والعمل دون مدخلية إبراهيم عليه السلام، وقد ورد أنه كان يناوله الحجارة، وقيل: كانا يبنيان في طرفين أو على التناوب، وأبعد بعضهم فزعم أن إِسْماعِيلُ مبتدأ وخبره محذوف أي يقول: ربنا، وهذا ميل إلى القول بأن إبراهيم عليه السلام هو المتفرد بالبناء ولا مدخلية لإسماعيل فيه أصلا بناء على ما
روي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان إذ ذاك طفلا صغيرا،
والصحيح أن الأثر غير صحيح، هذا وقد ذكر أهل الأخبار في ماهية هذا البيت وقدمه وحدوثه، ومن أي شيء كان باباه، وكم مرة حجه آدم، ومن أي شيء بناه إبراهيم، ومن ساعده على بنائه، ومن أين أتي بالحجر الأسود؟؟؟ أشياء لم يتضمنها القرآن العظيم، ولا الحديث الصحيح، وبعضها يناقض بعضا، وذلك على عادتهم في نقل ما دب ودرج، ومن مشهور ذلك أن الكعبة أنزلت من السماء في زمان آدم، ولها بابان إلى المشرق والمغرب فحج آدم من أرض الهند واستقبلته الملائكة أربعين فرسخا فطاف بالبيت ودخله ثم رفعت في زمن طوفان نوح عليه السلام إلى السماء ثم أنزلت مرة أخرى في زمن إبراهيم فزارها. ورفع قواعدها وجعل بأبيها بابا واحدا ثم تمخض أبو قبيس فانشق عن الحجر الأسود، وكان ياقوتة بيضاء من يواقيت الجنة نزل بها جبريل فخبئت في زمان الطوفان إلى زمن إبراهيم فوضعه إبراهيم مكانه ثم اسود بملامسة النساء الحيض، وهذا الخبر وأمثاله إن صح- عند أهل الله تعالى- إشارات ورموز لمن أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: ٣٧] فنزولها في زمن آدم عليه السلام إشارة إلى ظهور عالم المبدأ والمعاد ومعرفة عالم النور وعالم الظلمة في زمانه دون عالم التوحيد، وقصده زيارتها من أرض الهند إشارة إلى توجهه بالتكوين، والاعتدال من عالم الطبيعة الجسمانية المظلمة إلى مقام القلب، واستقبال الملائكة إشارة إلى تعلق القوى النباتية والحيوانية بالبدن وظهور آثارها فيه قبل آثار القلب في الأربعين التي تكونت فيها بنيته وتخمرت طينته أو توجهه بالسير والسلوك من عالم النفس الظلماني إلى مقام القلب، واستقبال الملائكة تلقي القوى النفسانية والبدنية إياه بقبول الآداب والأخلاق الجميلة، والملكات الفاضلة، والتمرن والتنقل في المقامات قبل وصوله إلى مقام القلب، وطوافه بالبيت إشارة إلى وصوله إلى مقام القلب وسلوكه فيه مع التلوين، ودخوله إشارة إلى تمكينه واستقامته فيه، ورفعه في زمن الطوفان إلى السماء إشارة إلى احتجاب الناس بغلبة الهوى وطوفان الجهل في زمن نوح عن مقام القلب، وبقاؤه في السماء إشارة إلى البيت المعمور الذي هو قلب العالم ونزوله مرة أخرى في زمان إبراهيم إشارة إلى اهتداء الناس في زمانه إلى مقام القلب بهدايته، ورفع إبراهيم قواعده وجعله ذا باب واحد إشارة إلى ترقي القلب إلى مقام التوحيد إذ هو أول من أظهر التوحيد الذاتي المشار إليه بقوله تعالى حكاية عنه: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الإنعام: ٧٩] والحجر الأسود إشارة إلى الروح التي هي أمر الله عز شأنه ويمينه، وموضع سره، وتمخض أبي قبيس وانشقاقه عنه إشارة إلى ظهوره بالرياضة وتحرك آلات البدن باستعمالها في التفكر والتعبد في طلب ظهوره، ولهذا قيل: خبئت أي احتجبت بالبدن، واسوداده بملامسة الحيض إشارة إلى تكدره بغلبة القوى النفسانية على القلب، واستيلائها عليه، وتسويدها الوجه النوراني الذي يلي الروح منه.
ولو ترك القطا ليلا لناما
رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا أي يقولان رَبَّنا وبه قرأ أبيّ والجملة حال من فاعل يَرْفَعُ وقيل: معطوفة على ما قبله بجعل القول متعلقا ل إِذْ والتقبل مجاز عن الإثابة والرضا لأن كل عمل يقبله الله تعالى فهو يثيب صاحبه ويرضاه منه، وفي سؤال الثواب على العمل دليل على أن ترتبه عليه ليس واجبا، وإلا لم يطلب، وفي اختيار صيغة التفعل اعتراف بالقصور
لما فيه من الإشعار بالتكلف في القبول، وإن كان التقبل والقبول بالنسبة إليه تعالى على السواء إذ لا يمكن تعقل التكلف في شأنه عز شأنه، ويمكن أن يكون المراد من التقبل الرضا فقط دون الإثابة لأن غاية ما يقصده المخلصون من الخدم لوقوع أفعالهم موضع القبول والرضا عند المخدوم، وليس الثواب مما يخطر لهم ببال، ولعل هذا هو الأنسب بحال الخليل وابنه إسماعيل عليهما السلام إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ تعليل لاستدعاء التقبل، والمراد السميع لدعائنا، والعليم بنياتنا، وبذلك يصح الحصر المستفاد من تعريف المسندين ويفيد نفي السمعة والرياء في الدعاء والعمل الذي هو شرط القبول، وتأكيد الجملة لاظهار كمال قوة يقينهما بمضمونها وتقديم صفة السمع، وإن كان سؤال التقبل متأخرا عن العمل للمجاورة ولأنها ليست مثل العلم شمولا.
رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ أي منقادين قائمين بشرائع الإسلام أو مخلصين موحدين لك- فمسلمين- إما من استسلم إذا انقاد أو من أسلم وجهه إذا أخلص نفسه أو قصده ولكل من المعنيين عرض عريض، فالمراد طلب الزيادة فيهما أو الثبات عليهما، والأول أولى نظرا إلى منصبهما وإن كان الثاني أولى بالنظر إلى أنه أتم في إظهار الانقطاع إليه جل جلاله. وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنه «مسلمين» بصيغة الجمع على أن المراد أنفسهما والموجود من أهلهما كهاجر (١) وهذا أولى من جعل لفظ الجمع مرادا به التثنية، وقد قيل به هنا، وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا عطف على الضمير المنصوب في اجْعَلْنا وهو في محل المفعول الأول وأُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ في موضع المفعول الثاني معطوف على مُسْلِمَيْنِ لَكَ ولو اعتبر حذف الجعل فلا بد أن يحمل على معنى التصيير لا الإيجاد لأنه وإن صح من جهة المعنى إلا أن الأول لا يدل عليه وإنما خصا- الذرية- بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة كما قال الله تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم: ٦] ولأنهم أولاد الأنبياء وبصلاحهم صلاح كل الناس فكان الاهتمام بصلاحهم أكثر، وخصا البعض لما علما من قوله سبحانه: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ [الصافات: ١١٣] أو من قوله عز شأنه: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ باعتبار السياق ان في- ذريتهما- ظلمة وأن الحكمة الإلهية تستدعي الانقسام إذ لولاه ما دارت أفلاك الأسماء ولا كان ما كان من أملاك السماء، والمراد من الأمة الجماعة أو الجيل، وخصها بعضهم بأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وحمل التنكير على التنويع، واستدل على ذلك بقوله تعالى: وَابْعَثْ إلخ، ولا يخفى أنه صرف للفظ عن ظاهره واستدلال بما لا يدل، وجوز أبو البقاء أن يكون أُمَّةً المفعول الأول وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا حال لأنه نعت نكرة تقدم عليها- ومسلمة- المفعول الثاني وكان الأصل- واجعل أمة من ذريتنا مسلمة لك- فالواو داخلة في الأصل على أُمَّةً وقد فصل بينهما بالجار والمجرور، ومِنْ عند بعضهم على هذا بيانية على حد وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ [النور: ٥٥] ونظر فيه أبو حيان بأن أبا علي وغيره منعوا أن يفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف والفصل بالحال أبعد من الفصل بالظرف، وجعلوا ما ورد من ذلك ضرورة وبأن كون مِنْ للتبيين مما يأباه الأصحاب ويتأولون ما فهم ذلك من ظاهره، ولا يخفى أن المسألة خلافية وما ذكره مذهب البعض وهو لا يقوم حجة على البعض الآخر وَأَرِنا مَناسِكَنا قال قتادة: معالم الحج، وقال عطاء. وابن جريج: مواضع الذبح، وقيل: أعمالنا التي نعملها إذا حججنا فالمنسك بفتح السين والكسر شاذ إما مصدر أو مكان وأصل النسك بضمتين غاية العبادة وشاع في الحج لما فيه من الكلفة غالبا والبعد عن العادة، وأَرِنا من رأى البصرية ولهمزة الافعال تعدت إلى مفعولين أو من رأى القلبية بمعنى عرف لا علم، وإلا لتعدت إلى ثلاثة، وأنكر ابن الحاجب وتبعه أبو حيان
ثبوت رأى بمعنى عرف، وذكره الزمخشري في المفصل، والراغب في مفرداته وهما من الثقات فلا عبرة بإنكارهما، وقرأ ابن مسعود- وأرهم مناسكهم- باعادة الضمير إلى الذرية، وقرأ ابن كثير ويعقوب- وأرنا- بسكون الراء وقد شبه فيه المنفصل بالمتصل فعومل معاملة فَخُذْ [البقرة: ٢٦٠، الأعراف: ١٤٤، يوسف: ٧٨] في إسكانه للتخفيف، وقد استعملته العرب كذلك ومنه قوله:
أرنا إداوة عبد الله نملؤها | من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا |
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ أي أرسل في- الأمة المسلمة- وقيل: في- الذرية- وعود الضمير إلى أهل مكة بعيد رَسُولًا مِنْهُمْ أي من أنفسهم، ووصفه بذلك ليكون أشفق عليهم، ويكونوا أعز به وأشرف، وأقرب للإجابة، لأنهم يعرفون منشأه وصدقه وأمانته، ولم يبعث من ذرية كليهما سوى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وجميع أنبياء بني إسرائيل من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام- لا من ذريتهما- فهو المجاب به دعوتهما، كما
روى الإمام أحمد وشارح السنة عن العرباض عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «سأخبركم بأول أمري، أنا دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني»
وأراد صلى الله تعالى عليه وسلم إثر دعوته، أو مدعوه، أو عين دعوته- على المبالغة- ولما كان إسماعيل عليه السلام شريكا في الدعوة كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دعوة إسماعيل أيضا إلا أنه خص إبراهيم لشرافته، وكونه أصلا في الدعاء، ووهم من قال: إن الاقتصار في الحديث على إبراهيم يدل على أن المجاب من الدعوتين كان دعوة إبراهيم دون إسماعيل عليهما الصلاة والسلام. وقرأ أبيّ «وابعث فيهم في آخرهم رسولا» وهذا يؤيد أن المراد به نبينا صلّى الله عليه وسلّم، «وفي الأثر» أنه لما دعي إبراهيم قيل له: قد استجيب لك، وهو يكون في آخر الزمان.
يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ أي يقرأ عليهم ما توحي إليه من العلامات الدالة على التوحيد والنبوة وغيرهما، وقيل:
خبر من مضى ومن يأتي إلى يوم القيامة، والجملة صفة رَسُولًا وقيل: في موضع الحال منه. صفحة رقم 384
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ بأن يفهمهم ألفاظه ويبين لهم كيفية أدائه، ويوقفهم على حقائقه وأسراره.
«والظاهر» أن مقصودهما من هذه الدعوة أن يكون- الرسول- صاحب كتاب يخرجهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، وقد أجاب سبحانه هذه الدعوة بالقرآن، وكونه بخصوصه كان مدعوا به غير بين ولا مبين.
وَالْحِكْمَةَ أي وضع الأشياء مواضعها، أو ما يزيل من القلوب وهج حب الدنيا، أو الفقه في الدين، أو السنة المبينة- للكتاب- أو- الكتاب- نفسه، وكرر للتأكيد اعتناء بشأنه، وقد يقال: المراد بها حقائق الكتاب ودقائقه وسائر ما أودع فيه، ويكون- تعليم الكتاب- عبارة عن تفهيم ألفاظه، وبيان كيفية أدائه، وتعليم الْحِكْمَةَ الإيقاف على ما أودع فيه، وفسرها بعضهم بما تكمل به النفوس من المعارف والأحكام فتشمل الْحِكْمَةَ النظرية والعملية، قالوا:
وبينها وبين ما في الْكِتابَ عموم من وجه لاشتمال القرآن على القصص والمواعيد، وكون بعض الأمور الذي يفيد كمال النفس- علما وعملا- غير مذكور في الْكِتابَ وأنت تعلم أنت هذا القول بعد سماع قوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الإنعام: ٣٨] وقوله تعالى سبحانه: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: ٨٩] مما لا ينبغي الاقدام عليه، اللهم إلا أن تكون هذه النسبة بين ما في الْكِتابَ الذي في الدعوة مع قطع النظر عما أجيبت به وبين الحكمة فتدبر وَيُزَكِّيهِمْ أي يطهرهم من أرجاس الشرك وأنجاس الشك وقاذورات المعاصي. وهو إشارة إلى التخلية كما أن التعليم إشارة إلى التحلية- ولعل تقديم الثاني على الأول لشرافته- والقول بأن المراد يأخذ منهم الزكاة التي هي سبب لطهارتهم أو يشهد لهم- بالتزكية والعدالة- بعيد إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي الغالب المحكم لما يريد، فلك أن تخصص واحدا منهم بالرسالة الجامعة لهذه الصفات بإرادته من غير مخصص، وحمل الْعَزِيزُ هنا على من لا مثل له- كما قاله ابن عباس- أو المنتقم- كما قاله الكلبي- والْحَكِيمُ على العالم- كما قيل- لا يخلو عن بعد.
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إنكار واستبعاد لأن يكون في العقلاء- من يرغب عن ملته- وهي الحق الواضح غاية الوضوح، أي لا يرغب عن ذلك أحد إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ أي جعلها مهانة ذليلة. وأصل- السفه- الخفة، ومنه زمام سفيه- أي خفيف- وسفه- بالكسر- كما قال المبرد. وثعلب: متعد بنفسه، ونَفْسَهُ مفعول به، وأما سَفِهَ بالضم فلازم، ويشهد له ما جاء
في الحديث «الكبر أن تسفه الحق وتغمط الناس»
وقيل: إنه لازم أيضا، وتعدى إلى المفعول لتضمنه معنى ما يتعدى إليه، أي جهل نفسه لخفة عقله وعدم تفكره، وهو قول الزجاج، أو أهلكها، وهو قول أبي عبيدة وقيل: إن النصب بنزع الخافض- أي في نفسه- فلا ينافي اللزوم- وهو قول لبعض البصريين- وقيل: على التمييز كما في قول النابغة الذبياني:
ونأخذ بعده بذناب عيش | أجبّ الظهر ليس له سنام |
روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام فقال لهما: قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة: إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى ورشد، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجر، فنزلت وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا
أي اخترناه بالرسالة بتلك الملة، واجتبيناه من بين سائر الخلق، وأصله اتخاذ صفحة رقم 385
صفوة الشيء أي خالصه وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ أي المشهود لهم بالثبات على الاستقامة والخير والصلاح، والجملة معطوفة على ما قبلها، وذلك من حيث المعنى دليل مبين لكون- الراغب عن ملة إبراهيم سفيها- إذ الاصطفاء والعز في الدنيا غاية المطالب الدنيوية- والصلاح- جامع للكمالات الأخروية ولا مقصد للإنسان الغير- السفيه- سوى خير الدارين، وأما من حيث اللفظ فيحتمل أن يكون حالا مقررة لجهة الإنكار- واللام لام الابتداء- أي أيرغب عن ملته ومعه ما يوجب عكس ذلك، وهو الظاهر لفظا لعدم الاحتياج إلى تقدير القسم- وارتضاه الرضيّ- ويحتمل أن يكون عطفا على ما قبله، أو اعتراضا بين المعطوفين- واللام- جواب القسم المقدر وهو الظاهر معنى لأن الأصل في الجمل الاستقلال ولإفادة زيادة التأكيد المطلوب في المقام والاشعار بأن المدعى لا يحتاج إلى البيان، والمقصود مدحه عليه السلام وإيراد الجملة الأولى ماضوية لمضيها من وقت الاخبار، والثانية اسمية لعدم تقييدها بالزمان لأن انتظامه في زمرة صالحي أهل الآخرة أمر مستمر في الدارين لا أنه يحدث في الآخرة، والتأكيد «بأن، واللام» لما أن الأمور الأخروية خفية عند المخاطبين فحاجتها إلى التأكيد أشد من الأمور التي تشاهد آثارها، وكلمة فِي متعلقة ب الصَّالِحِينَ على أن- أل- فيه للتعريف لا موصولة ليلزم تقديم ب اصْطَفَيْناهُ وفي الآية تقديم وتأخير، أو بمحذوف حالا من المستكن في الوصف بعيد.
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ظرف- لاصطفيناه- والمتوسط المعطوف ليس بأجنبي لأنه لتقدير المتعلق المعطوف تأكيده لأن اصطفاءه في الدنيا إنما هو للرسالة وما يتعلق بصلاح الآخرة فلا حاجة إلى أن يجعل اعتراضا أو حالا مقدرة كما قيل به، أو تعليل له، أو منصوب ب «اذكر» كأنه قيل: اذكر ذلك الوقت لتقف على أنه المصطفى الصالح وأنه ما نال ما نال إلا بالمبادرة والانقياد إلى ما أمر به وإخلاص سره حين دعاه ربه، وجوز جعله ظرفا ل قالَ وليس الأمر وما في جوابه على حقيقتهما بل هو تمثيل والمعنى أخطر بباله الدلائل المؤيدة إلى المعرفة، واستدل بها وأذعن بمدلولاتها إلا أنه سبحانه وتعالى عبر عن ذلك بالقولين تصويرا لسرعة الانتقال بسرعة الإجابة فهو إشارة إلى استدلاله عليه السلام بالكوكب والشمس والقمر واطلاعه على أمارات الحدوث على ما يشير إليه كلام الحسن وابن عباس من أن ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ، ومن ذهب إلى أنه بعد النبوة قال: المراد الأمر بالطاعة والإذعان لجزئيات الأحكام والاستقامة والثبات على التوحيد على حد فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد: ١٩] ولا يمكن الحمل على الحقيقة أعني إحداث الإسلام والإيمان لأن الأنبياء معصومون عن الكفر قبل النبوة وبعدها ولأنه لا يتصور الوحي والاستنباء قبل الإسلام نعم إذا حمل الإسلام على العمل بالجوارح لا على معنى الإيمان أمكن الحمل على الحقيقة- كما قيل به- وفي الالتفات مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليه عليه السلام إظهار لمزيد اللطف به والاعتناء بتربيته، وإضافة الرب في الجواب إلى الْعالَمِينَ للإيذان بكمال قوة إسلامه حيث أتقن حين النظر شمول ربوبيته تعالى للعالمين قاطبة لا لنفسه فقط كما هو المأمور به ظاهرا.
وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ مدح له عليه السلام بتكميله غيره إثر مدحه بكماله في نفسه، وفيه توكيد لوجود الرغبة في ملته، والتوصية التقدم إلى الغير بفعل فيه صلاح وقربة سواء كان حالة الاحتضار أو لا وسواء كان ذلك التقدم بالقول أو الدلالة وإن كان الشائع في العرف استعمالها في القول المخصوص حالة الاحتضار وأصلها الوصل من قولهم أرض واصية أي متصلة النبات، ويقال: وصاه إذا وصله، وفصاه إذا فصله كأن الموصي يصل فعله بفعل الوصي، والضمير في بِها إما للملة أو لقوله أَسْلَمْتُ على تأويل الكلمة أو الجملة، ويرجح الأول كون المرجح مذكورا صريحا وكذا ترك المضمر إلى المظهر، وعطف يَعْقُوبُ عليه فإن ذلك يدل على أنه شروع في كلام آخر لبيان
تواصي الأنبياء باستمساك الدين الحق الجامع لجميع أحكام الأصول والفروع ليتوارثوا الملة القويمة والشرع المستقيم نسلا بعد نسل، وذكر يعقوب الدين في توصيته لبنيه- وهو والملة- أخوان ولو كان الضمير للثاني لكان الإسلام بدله، ويؤيد الثاني كون الموصى به مطابقا في اللفظ ل أَسْلَمْتُ وقرب المعطوف عليه لأنه حينئذ يكون معطوفا على قالَ أَسْلَمْتُ أي ما اكتفى بالامتثال بل ضم توصية بنيه بالإسلام بخلاف التقدير الأول فإنه معطوف على- من يرغب- لأنه كما أشرنا إليه في معنى النفي، وخص البنين لأنه عليهم أشفق وهم بقبول وصيته أجدر ولأن النفع بهم أكثر، وقرأ نافع وابن عامر- أوصى- ولا دلالة فيها على التكثير كالأولى الدالة عليه لصيغة التفعيل.
وَيَعْقُوبُ عطف على إبراهيم، ورفعه على الابتداء وحذف الخبر أي- يعقوب- كذلك، والجملة معطوفة على الجملة الفعلية، وجعله فاعلا- لوصى- مضمرا بعيد، وقرىء بالنصب فيكون عطفا على بَنِيهِ والمراد بهم أبناء الصلب وهو عليه الصلاة والسلام كان نافلة، وإنما سمي يعقوب لأنه وعيصا- كانا توأمين- فتقدم عيص، وخرج يعقوب على أثره آخذا بعقبه كذا روي عن ابن عباس ولا أظن صحته يا بَنِيَّ على إضمار القول عند البصريين، ويقدر بصيغة الإفراد على تقدير نصب يعقوب أي قال، أو قائلا وبصيغة التثنية على تقدير الرفع ووقوع الجملة بعد القول مشروط بأن يكون المقصود مجرد الحكاية، والكلام المحكي مشترك بين إبراهيم ويعقوب، وإن كان المخاطبون في الحالين متغايرين، وذهب الكوفيون إلى عدم الإضمار لأن التوصية لاشتمالها على معنى القول بل هي القول المخصوص كان حكمها حكمه فيجوز وقوع الجملة في حيز مفعولها، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن يا بني ولا حاجة حينئذ إلى تقدير القول عند البصريين بل لا يجوز ذلك عندهم على ما يشير إليه كلام بعض المحققين، وبنو إبراهيم على ما في الإتقان اثنا عشر، وهم إسماعيل وإسحاق ومدين وزمزان وسرح. ونقش. ونقشان.
وأميم. وكيسان. وسورج. ولوطان، نافس. وبنو يعقوب أيضا كذلك وهم. يوسف. وروبيل. وشمعون. ولاوي. ويهوذا.
وداني. ونفتالي. وكاد. واسبر. وإيساجر. ورايكون وبنيامين إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ أي جعل لكم الدين الذي هو صفوة الأديان بأن شرعه لكم ووفقكم للأخذ به، والمراد به دين الإسلام الذي به الإخلاص لله تعالى، والانقياد له، وليس المراد ما يتراءى من أن الله تعالى جعله صفوة الأديان لكم لأن هذا الدين صفوة في نفسه لا اختصاص له بأحد، وليس عند الله تعالى غيره، ومن هنا يعلم أن الإسلام يطلق على غير ديننا لكن العرف خصصه به، وزعم بعضهم عدم الإطلاق وألف في ذلك رسالة تكلف بها غاية التكلف.
فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ نهي عن الاتصاف بخلاف حال الإسلام وقت الموت، والمفهوم من الآية ظاهرا النهي عن الموت على خلاف تلك الحال، وليس بمقصود لأنه غير مقدور وإنما المقدور قيده فيعود النهي إليه كما جمعت لما أن الامتناع عن الاتصاف بتلك الحال يستتبع الامتناع عن الموت في تلك الحال فأما أن يقال استعمل اللفظ الموضوع للأول في الثاني فيكون مجازا، أو يقال استعمل اللفظ في معناه لينتقل منه إلى ملزومه فيكون كناية، وقال الفاضل اليمني: إن هذا كناية بنفي الذات عن نفي الحال على عكس ما قيل في قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ [البقرة: ٢٨] من أنه كناية بنفي الحال عن نفي الذات، وفيه أن نفي الذات إنما يصير كناية عن نفي جميع الصفات لا عن صفة معينة فافهم، والمراد من الأمر الذي يشير إليه ذلك النهي الثبات على الإسلام لأنه اللازم له، والمقصود من التوصية، ولأن أصل الإسلام كان حاصلا لهم، وإنما أدخل حرف النفي على الفعل مع أنه ليس منهيا عنه للدلالة على أن موتهم لا على الإسلام موت لا خير فيه، وأن حقه أن لا يحل بهم وأنه يجب أن يحذروه غاية الحذر، وذكر بعضهم أن الإسلام المأمور به هنا ما يكون بالقلب دون العمل بالجوارح لأن ذلك مما لا يكاد يمكن عند الموت
ولهذا
ورد في الحديث «اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان»
ولا يخفى ما فيه أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ الخطاب لجنس اليهود أو الموجودين في زمانه صلى الله تعالى عليه وسلم على ما يشير إليه سبب النزول
فقد ذكر الواحدي أن الآية نزلت في اليهود حين قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ألست تعلم أن يعقوب لما مات أوصى بنيه باليهودية؟
وأَمْ إما منقطعة بمعنى بل، وهمزة الإنكار، ومعنى بل الإضراب عن الكلام الأول وهو بيان التوصية إلى توبيخ اليهود على ادعائهم اليهودية على يعقوب وأبنائه، وفائدته الانتقال من جملة إلى أخرى أهم منها أي ما كنتم حاضرين حين احتضاره عليه الصلاة والسلام وسؤاله بنيه عن الدين فلم تدعون ما تدعون؟ ولك أن تجعل الاستفهام للتقرير أي كانت أوائلكم حاضرين حين وصى بنيه عليه الصلاة والسلام بالإسلام والتوحيد وأنتم عالمون بذلك فما لكم تدعون عليه خلاف ما تعلمون؟! فيكون قد نزل عليهم بشهادة أوائلهم منزلة الشهادة فخوطبوا بما خوطبوا، وإما متصلة وفي الكلام حذف- والتقدير أكنتم غائبين أم كنتم شاهدين- وليس الاستفهام على هذا على حقيقته للعلم بتحقق الأول وانتفاء الثاني بل هو للإلزام والتبكيت أي أي الأمرين كان فمدعاكم باطل، أما على الأول فلأنه رجم بالغيب، وأما على الثاني فلأنه خلاف المشهور، واعترض أبو حيان على هذا الوجه بأنا لا نعلم أحدا أجاز حذف الجملة المعطوف عليها في أَمْ المتصلة وإنما سمع حذف أَمْ مع المعطوف لأن الثواني تحتمل ما لا تحتمل الأوائل، وقيل: الخطاب للمؤمنين ومعنى بل الإضراب عن الكلام الأول والأخذ فيما هو الأهم وهو التحريض على اتباعه صلّى الله عليه وسلّم بإثبات بعض معجزاته وهو الإخبار عن أحوال الأنبياء السابقين من غير سماع من أحد ولا قراءة من كتاب كأنه تعالى بعد ذكر ما تقدم التفت إلى مؤمني الأمة أما شهدتم ما جرى وأ ما علمتم ذلك بالوحي وإخبار الرسول صلّى الله عليه وسلّم فعليكم باتباعه إلا أنه اكتفى بذكر مقاولة يعقوب وبنيه ليعلم عدم حضورهم حين توصية إبراهيم عليه الصلاة والسلام بطريق الأولى، ولا يخفى أن هذا القائل لم يعتبر سبب النزول ولعله لما فيه من الضعف حتى قال الإمام السيوطي: لم أقف عليه، والشهداء- جمع شهيد أو شاهد بمعنى حاضر، وحضر من باب قعد، وقرىء حَضَرَ بالكسر ومضارعه أيضا- يحضر- بالضم وهي لغة شاذة، وقيل: إنها على التداخل إِذْ قالَ لِبَنِيهِ بدل من إِذْ حَضَرَ بدل اشتمال وكلاهما مقصودان كما هو المقرر في إبدال الجمل إلا أن في البدل زيادة بيان ليست في المبدل منه ولو تعلقت إِذْ هنا ب قالُوا لم ينتظم الكلام.
ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي أي أي شيء تعبدونه بعد موتي ف ما في محل رفع والعائد محذوف، وكونه في محل نصب على المفعولية مفوت للتقوى المناسب للمقام ويسأل بها عن كل شيء فإذا عرف خص العقلاء ب مِنْ إذا سئل عن تعينه فيجاب بما يفيده، وإذا سأل عن وصفه قيل ما زيد أكاتب أم شاعر، وفي السؤال عن حالهم بعد موته دليل على أن الغرض حثهم على ما كانوا عليه حال حياته من التوحيد والإسلام، وأخذ الميثاق منهم عليه فليس الاستفهام حقيقيا وكان هذا بعد أن دخل عليه السلام مصر ورأى فيها من يعبد النار فخاف على ولده فحثهم على ما حثهم قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ استئناف وقع جوابا لسؤال نشأ عن حكاية السؤال وفي إضافة الإله إلى المتعدد إشارة إلى الاتفاق على وجوده وألوهيته وقدم إِسْماعِيلَ في الذكر على إِسْحاقَ لكونه أسنّ منه وعده من آباء يعقوب مع أنه عمه تغليبا للأكثر على الأقل أو لأنه شبه العم بالأب لانخراطهما في سلك واحد وهو الأخوة فأطلق عليه لفظه، ويؤيده ما أخرجه الشيخان «عم الرجل صنو أبيه» وحينئذ يكون المراد- بآبائك- ما يطلق عليه اللفظ كيلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، والآية على حد ما
أخرجه ابن أبي شيبة وغيره من قوله عليه الصلاة والسلام «احفظوني في العباس فإنه بقية آبائي»
وقرأ الحسن- أبيك- وهو إما مفرد
وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ عطف نسق عليه وإِبْراهِيمَ وحده عطف بيان، أو جمع وسقطت نونه للاضافة كما في قوله:
فلما «تبينّ» أصواتنا | بكين وفديننا بالأبينا |
بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ [العلق: ١٦] والبصريون لا يشترطون فيها ذلك، وفائدة الإبدال دفع توهم التعدد الناشئ من ذكر الإله مرتين، أو نصب على المدح أو الحال الموطئة كما في البحر وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي مذعنون مقرون بالعبودية، وقيل: خاضعون منقادون مستسلمون لنهيه وأمره قولا وعقدا، وقيل: داخلون في الإسلام ثابتون عليه، والجملة حال من الفاعل، أو المفعول، أو منهما لوجود ضميريهما، أو اعتراضية محققة لمضمون ما سبق في آخر الكلام- بلا كلام- وقال أبو حيان: الأبلغ أن تكون معطوفة على نَعْبُدُ فيكونوا قد أجابوا بشيئين وهو من باب الجواب المربي عن السؤال تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ الإشارة إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأولاده والأمة- أتت بمعان، والمراد بها هنا الجماعة من أمّ بمعنى قصد، وسميت كل جماعة يجمعهم أمر ما إما دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان بذلك لأنهم يؤم بعضهم بعضا ويقصده، والخلو- المضي وأصله الانفراد.
لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ استئناف، أو بدل من قوله تعالى: خَلَتْ لأنها بمعنى لا تشاركونهم وهي كغير الوافية وهذه وافية بتمام المراد، أو الأولى صفة أخرى- لأمة- أو حال من ضمير خَلَتْ والثانية جملة مبتدأة، إذ لا رابط فيها ولا مقارنة في الزمان، وفي الكلام مضاف محذوف بقرينة المقام، أي لكل أجر عمله، وتقديم المسند لقصر المسند إليه على المسند، والمعنى أن انتسابكم إليهم لا يوجب انتفاعكم بأعمالهم، وإنما تنتفعون بموافقتهم واتباعهم، كما
قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «يا معشر قريش، إن أولى الناس بالنبي المتقون، فكونوا بسبيل من ذلك، فانظروا أن لا يلقاني الناس يحملون الأعمال وتلقوني بالدنيا فأصد عنكم بوجهي»
ولك أن تحمل الجملة الأولى على معنى- لها ما كسبته- لا يتخطاها إلى غيرها، والثانية على معنى ولكم ما كسبتموه- لا ما كسبه غيرهم- فيختلف القصران لاقتضاء المقام ذلك.
وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ إن أجري- السؤال- على ظاهره فالجملة مقررة لمضمون ما قبلها وإن أريد به مسببه- أعني الجزاء- فهو تذييل لتتميم ما قبله، والجملة مستأنفة أو معترضة، والمراد تخييب المخاطبين وقطع أطماعهم من الانتفاع بحسنات من مضى منهم، وإنما أطلق- العمل- لإثبات الحكم بالطريق البرهاني في ضمن قضية كلية، وحمل الزمخشري الآية على معنى- لا تؤاخذون بسيئاتهم كما لا تثابون بحسناتهم- واعترض بأنه مما لا يليق بشأن التنزيل، كيف لا وهم منزهون عن كسب السيئات، فمن أين يتصور تحميلها على غيرهم حتى يتصدى لبيان انتفائه، وأنت تعلم أنه إذا كان المقصود سوق ذلك بطريق كلي برهاني لا يتوهم ما ذكر.
هذا ومن الغريب حمل الإشارة على كل من إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وأن المعنى كل واحد منهم أُمَّةٌ أي بمنزلتها في الشرف والبهاء قَدْ خَلَتْ أي مضت، ولستم مأمورين بمتابعتهم لَها ما كَسَبَتْ وهو ما أمرها الله تعالى به وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ مما يأمركم به سبحانه وتعالى، ولا ينفعكم مكتسبهم لأنه ليس مقبولا منكم لأنه ليس في حقكم، إنما ينفعكم ما يجب عليكم كسبه وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ هل عملتم به؟ وإنما تسألون صفحة رقم 389
عما كان يعمل نبيكم الذي أمرتم بمتابعته، فإن أعماله ما هو كسبكم المسئول عنه، فدعوا (١) أن هذا ما أمر به إبراهيم أو غيره، وتمسكوا بما أمر به نبيكم، واعتبروا إضافة العمل إليه دونهم، ولا يخفى أنه لو كانت هذه الآيات كلام هذا المفسر لأمكن حملها على هذا التفسير الذي لا فرع ولا أصل له، لكنها كلام رب العالمين الذي يجل عن الحمل على مثل ذلك.
«ومن باب الإشارة والتأويل في الآيات السابقة إلى هنا» وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ أي بمراتب الروحانيات كالقلب والسر والروح والخفاء والوحدة والأحوال والمقامات التي يعبر بها على تلك المراتب.
كالتسليم والتوكل والرضا وعلومها فَأَتَمَّهُنَّ بالسلوك إلى الله تعالى وفي الله تعالى حتى الفناء فيه قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً بالبقاء بعد الفناء، والرجوع إلى الخلق من الحق، تؤمهم وتهديهم سلوك سبيلي، ويقتدون بك فيهتدون قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فلا يكونون خلفائي مع ظلمهم وظلمتهم برؤية الأغيار ومجاوزة الحدود وَإِذْ جَعَلْنَا بيت القلب مرجعا للناس، ومحل أمن وسلامة لهم إذا وصلوا إليه وسكنوا فيه من شر غوائل صفات النفس، وفتك قتال القوى الطبيعية وإفسادها، وتخييل شياطين الوهم والخيال وإغوائهم. وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ الذي هو مقام الروح والخلة موطنا للصلاة الحقيقية التي هي المشاهدة والخلة الذوقية وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أمرناهما بتطهير بيت القلب من قاذورات أحاديث النفس، ونجاسات وساوس الشيطان، وأرجاس دواعي الهوى، وأدناس صفات القوى للسالكين المشتاقين الذين يدورون حول القلب في سيرهم، والواصلين إلى مقامه بالتوكل الذي هو توحيد الأفعال، والخاضعين الذين بلغوا إلى مقام تجلي الصفات وكمال مرتبة الرضا، الغائبين في الوحدة، الفانين فيها وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا الصدر الذي هو حريم القلب بلدا آمِناً من استيلاء صفات النفس، واغتيال العدو اللعين، وتخطف جن القوى البدنية وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ثمرات معارف الروح من وحد الله تعالى منهم وعلم المعاد إليه، قال: ومن احتجب أيضا من الذين يسكنون الصدر ولا يجاوزون حده بالترقي إلى مقام العين لاحتجابهم بالعلم الذي وعاؤه الصدر فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا من المعاني العقلية والمعلومات الكلية النازلة إليهم من عالم الروح على حسب استعدادهم ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ نار الحرمان والحجاب وَبِئْسَ الْمَصِيرُ مصيرهم لتعذيبهم بنقصانهم وعدم تكميل نشأتهم وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ على الكيفية التي ذكرناها قبل وَإِسْماعِيلُ كذلك قائلين رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا مجاهداتنا ومساعينا في السلوك إليك بامداد التوفيق إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ لهواجس خواطرنا فيك الْعَلِيمُ بنياتنا وأسرارنا رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ لا تكلنا إلى أنفسنا وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا المنتمين إلينا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا طرق الوصول إلى نفي ما سواك وَتُبْ عَلَيْنا لنفنى فيك عن أنفسنا وفنائنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الموفق للرجوع إليك الرَّحِيمُ بمن عول دون السوي عليك رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ وهو الحقيقة المحمدية يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ الدالة عليك وَيُعَلِّمُهُمُ كتاب العقل الجامع لصفاتك وَالْحِكْمَةَ الدالة على نفي غيرك وَيُزَكِّيهِمْ ويطهرهم عن دنس الشرك إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الغالب، فأنى يظهر سواك المحكم لما ظهرت فيه فلا يرى إلا إياك وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ وهي التوحيد الصرف، إلا من احتجب عن نور العقل بالكلية، وبقي في ظلمة نفسه وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فكان من المحبوبين المرادين بالسابقة الأزلية في عالم الملك، وأنه في عالم الملكوت من أهل الاستقامة، الصالح لتدبير النظام وتكميل النوع
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ أي وحّد وأسلم لله تعالى ذاتك قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وفنيت فيه وَوَصَّى بكلمة التوحيد إِبْراهِيمُ بَنِيهِ السالكين على يده وكذلك يعقوب يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ دينه الذي لا دين غيره عنده فَلا تَمُوتُنَّ بالموت الطبيعي وموت الجهل، بل كونوا ميتين بأنفسكم، أحياء بالله أبدا، فيدرككم موت البدن على هذه الحالة تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ فلا تكونوا مقيدين بالتقليد البحت لهم، فليس لأحد إلا ما كسب من العلم والعمل والاعتقاد والسيرة، فكونوا على بصيرة في أمركم، واطلبوا ما طلبوا لتنالوا ما نالوا وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ومن دق باب الكريم ولجّ ولج.
وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا الضمير الغائب لأهل الكتاب، والجملة عطف على ما قبلها عطف القصة على القصة، والمراد منها رد دعوتهم إلى دينهم الباطل إثر رد ادعائهم اليهودية على يعقوب عليه السلام، وأَوْ لتنويع المقال- لا للتخيير- بدليل أن كل واحد من الفريقين يكفر الآخر، أي قال اليهود للمؤمنين كُونُوا هُوداً وقالت النصارى لهم كونوا نَصارى وتَهْتَدُوا جواب الأمر، أي إن كنتم كذلك تَهْتَدُوا. روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في رؤوس يهود المدينة، كعب بن الأشرف. ومالك بن الصيف. ووهب بن يهوذا. وأبي ياسر بن أخطب. وفي نصارى أهل نجران، وذلك أنهم خاصموا المسلمين في الدين، كل فرقة تزعم أنها أحق بدين الله من غيرها، فقالت اليهود: نبينا موسى أفضل الأنبياء، وكتابنا التوراة أفضل الكتب، وديننا أفضل الأديان، وكفرت بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن، وقالت النصارى: نبينا عيسى أفضل الأنبياء، وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب، وديننا أفضل الأديان، وكفرت بمحمد والقرآن، وقال كل واحد من الفريقين للمؤمنين: كُونُوا على ديننا، فلا دين إلا ذلك،
في رواية ابن إسحاق وابن جرير وغيرهما عنه أن عبد الله بن صوريا الأعور قال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ما الهدى إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد تهتد، وقالت النصارى مثل ذلك فأنزل الله تعالى فيهم الآية
قُلْ خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أي قل لأولئك القائلين على سبيل الرد عليهم، وتبيين ما هو الحق لديهم وإرشادهم إليه بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي لا نكون كما تقولون، بل نكون مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي أهل- ملته- أو بل نتبع مِلَّةَ إِبْراهِيمَ «والأول» يقتضيه رعاية جانب لفظ ما تقدم- وإن احتاج إلى حذف المضاف «والثاني» يقتضيه الميل إلى جانب المعنى إذ يؤول الأول إلى اتبعوا ملة اليهود أو النصارى مع عدم الاحتياج إلى التقدير، وجوّز أن يكون المعنى بل اتبعوا أنتم ملته، أو كونوا أهل ملته، وقيل: الأظهر بل نؤتى ملة إبراهيم- ولم يظهر لي وجهه- وقرىء بَلْ مِلَّةَ بالرفع، أي بل ملتنا أو أمرنا ملته أو نحن ملته أي أهلها، وقيل: بل الهداية أو تهدى ملة إبراهيم وهو كما ترى حَنِيفاً أي مستقيما أو مائلا عن الباطل إلى الحق ويوصف به المتدين والدين، وهو حال إما من المضاف بتأويل الدين أو تشبيها له بفعيل بمعنى مفعول كما في قوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: ٥٦] وهذا على قراءة النصب وتقدير «نتبع» ظاهر، وأما على تقدير تكون عليها فلأن ملة فاعل الفعل المستفاد من الإضافة أي تكون ملة ثبتت لإبراهيم، وعلى قراءة الرفع تكون الحال مؤكدة لوقوعها بعد جملة اسمية جزآها جامدان معرفتان مقررة لمضمونها لاشتهار ملته عليه الصلاة والسلام بذلك فالنظم على حد- أنا حاتم جوادا- أو من المضاف إليه بناء على ما ارتضوه من أنه يجوز مجيء الحال منه في ثلاث صور: إذا كان المضاف مشتقا عاملا، أو جزءا، أو بمنزلة الجزء في صحة حذفه كما هنا فإنه يصح- اتبعوا إبراهيم- بمعنى اتبعوا ملته، وقيل: إن الذي سوغ وقوع الحال من المضاف إليه كونه مفعولا لمعنى الفعل المستفاد من الإضافة أو اللام- وإليه يشير كلام أبي البقاء- ولعله أولى لاطراده في التقدير الأول، وقيل: هو منصوب بتقدير أعني وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عطف على حنيفا على طبق حُنَفاءَ
لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ
[الحج: ٣١] فهو حال من المضاف إليه لا من المضاف إلا أن يقدر- وما كان دين المشركين- وهو تكلف، والمقصود التعريض بأهل الكتاب والعرب الذين يدعون اتباعه ويدينون بشرائع مخصوصة به من حج البيت والختان وغيرهما فإن في كل طائفة منهم شركاء فاليهود قالوا- عزير ابن الله- والنصارى- المسيح ابن الله- والعرب عبدوا الأصنام وقالوا الملائكة بنات الله قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ خطاب للمؤمنين لا للكافرين- كما قيل- لما فيه من الكلف والتكلف وبيان للاتباع المأمور به فهو بمنزلة بدل البعض من قوله سبحانه: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ لأن الاتباع يشمل الاعتقاد والعمل وهذا بيان الاعتقاد أو بدل الاشتمال لما فيه من التفصيل الذي ليس في الأول، وقيل: استئناف كأنهم سألوا كيف الاتباع؟ فأجيبوا، بذلك وأمر أولا بصيغة الإفراد، وثانيا بصيغة الجمع إشارة إلى أنه يكفي في الجواب قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم من جانب كل المؤمنين بخلاف الاتباع فإنه لا بد فيه من قول كل واحد لأنه شرط الإيمان أو شطره قاله بعض المحققين، والقول بأنه بمنزلة البيان والتأكيد للقول الأول- ولذا ترك العطف- لا يخلو عن شيء وقدم الإيمان بالله سبحانه لأنه أول الواجبات ولأنه بتقدم معرفته تصح معرفة النبوات والشرعيات.
وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا أي القرآن وهو وإن كان في الترتيب النزولي مؤخرا عن غيره لكنه في الترتيب الإيماني مقدم عليه لأنه سبب الإيمان بغيره لكونه مصدقا له ولذا قدمه.
وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ يعني الصحف وهي وإن نزلت على إبراهيم عليه الصلاة والسلام لكن لما كان ما عطف عليه متعبدين بتفاصيلها داخلين تحت أحكامها صح نسبة نزولها إليهم أيضا كما صحح تعبدنا بتفاصيل القرآن ودخولنا تحت أحكامه نسبة نزوله إلينا، والْأَسْباطِ جمع سبط كأحمال وحمل وهم أولاد إسرائيل، وقيل: هم أولاد إسحاق كالقبائل في أولاد إسماعيل مأخوذ من السبط وهو شجرة كثيرة الأغصان فكأنهم سموا بذلك لكثرتهم، وقيل: من السبوطة وهي الاسترسال، وقيل: إنه مقلوب البسط، وقيل: للحسنين سبطا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لانتشار ذريتهم ثم قيل لكل ابن بنت: سبط، وكذا قيل له: حفيد أيضا، واختلف الناس في الأسباط أولاد يعقوب هل كانوا كلهم أنبياء أم لا؟ والذي صح عندي الثاني وهو المروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه- وإليه ذهب الإمام السيوطي- وألف فيه لأن ما وقع منهم مع يوسف عليه الصلاة والسلام ينافي النبوة قطعا وكونه قبل البلوغ غير مسلم لأن فيه أفعالا لا يقدر عليها إلا البالغون، وعلى تقدير التسليم لا يجدي نفعا على ما هو القول الصحيح في شأن الأنبياء وكم كبيرة تضمن ذلك الفعل وليس في القرآن ما يدل على نبوتهم، والآية قد علمت ما ذكرنا فيها فاحفظ ذلك هديت.
وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى أي التوراة والإنجيل، ولكون أهل الكتاب زادوا ونقصوا وحرفوا فيهما وادعوا أنهما أنزلا كذلك، والمؤمنون ينكرونه اهتم بشأنهما فأفردهما بالذكر وبين طريق الإيمان بهما ولم يدرجهما في الموصول السابق، ولأن أمرهما أيضا بالنسبة إلى مُوسى وَعِيسى أنهما منزلان عليهما حقيقة، لا باعتبار التعبد فقط كما في المنزل على إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ ولم يعد الموصول لذلك في عِيسى لعدم مخالفة شريعته لشريعة مُوسى إلا في النزر، ولذلك الاهتمام عبر- بالإيتاء- دون- الإنزال- لأنه أبلغ لكونه المقصود منه، ولما فيه من الدلالة على الإعطاء الذي فيه شبه التمليك والتفويض، ولهذا يقال: أنزلت الدلو في البئر، ولا تقول: آتيتها إياها.
ولك أن تقول: المراد بالموصول هنا ما هو أعم من التوراة والإنجيل وسائر المعجزات الظاهرة بأيدي هذين النبيين الجليلين حسبما فصل في التنزيل الجليل، وإيثار- الإيتاء- لهذا التعميم، وتخصيص النبيين بالذكر لما أن الكلام مع- اليهود والنصارى..