
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: على معنى إزالة النعمة كما توعد، وقد حكى الطبري القول عن أقدم من الزجاج، ورد عليه، والصحيح في هذا أن نسيان النبي ﷺ لما أراد الله تعالى أن ينساه ولم يرد أن يثبت قرآنا جائز.
فأما النسيان الذي هو آفة في البشر فالنبي ﷺ معصوم منه قبل التبليغ وبعد التبليغ ما لم يحفظه أحد من أصحابه، وأما بعد أن يحفظ فجائز عليه ما يجوز على البشر لأنه قد بلغ وأدى الأمانة، ومنه الحديث حين أسقط آية، فلما فرغ من الصلاة قال: أفي القوم أبيّ؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: فلم لم تذكرني؟ قال: حسبت أنها رفعت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لم ترفع ولكني نسيتها.
ولفظة خير في الآية صفة تفضيل، والمعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الناسخة أخف، وفي آجل إن كانت أثقل، وبمثلها إن كانت مستوية، وقال قوم «خير» في الآية مصدر و «من» لابتداء الغاية.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويقلق هذا القول لقوله تعالى أَوْ مِثْلِها إلا أن يعطف المثل على الضمير في مِنْها دون إعادة حرف الجر، وذلك معترض.
وقوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ظاهره الاستفهام ومعناه التقرير، والتقرير محتاج إلى معادل كالاستفهام المحض، فالمعادل هنا على قول جماعة أَمْ تُرِيدُونَ [البقرة: ١٨]، وقال قوم أَمْ هنا منقطعة، فالمعادل على قولهم محذوف تقديره أم علمتم، وهذا كله على أن القصد بمخاطبة النبي ﷺ مخاطبة أمته، وأما إن كان هو المخاطب وحده فالمعادل محذوف لا غير، وكلا القولين مروي.
ومعنى الآية أن الله تعالى ينسخ ما يشاء ويثبت ما يشاء ويفعل في أحكامه ما يشاء، هو قدير على ذلك وعلى كل شيء، وهذا لإنكار اليهود النسخ.
وقوله تعالى عَلى كُلِّ شَيْءٍ لفظ عموم معناه الخصوص، إذ لم تدخل فيه الصفات القديمة بدلالة العقل ولا المحالات لأنها ليست بأشياء، والشيء في كلام العرب الموجود، وقَدِيرٌ اسم فاعل على المبالغة من «قدر» بفتح العين «يقدر» بكسرها. ومن العرب من يقول قدر بكسر العين يقدر بفتحها.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٠٧ الى ١٠٩]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩)
الملك السلطان ونفوذ الأمر والإرادة، وجمع الضمير في لَكُمْ دال على أن المراد بخطاب النبي

صلى الله عليه وسلم خطاب أمته، و «الولي» فعيل من ولي إذا جاور ولحق، فالناصر والمعين والقائم بالأمر والحافظ كلهم مجاور بوجه ما، و «النصير» فعيل من النصر، وهو أشد مبالغة من ناصر.
وقوله تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ: قالت فرقة: أَمْ رد على الاستفهام الأول، فهي معادلته.
وقالت فرقة أَمْ استفهام مقطوع من الأول، كأنه قال: أتريدون، وهذا موجود في كلام العرب.
وقالت فرقة: أَمْ هنا بمعنى بل وألف الاستفهام، قال مكي وغيره: وهذا يضعف لأن «أم» لا تقع بمعنى بل إلا إذا اعترض المتكلم شك فيما يورده.
قال القاضي أبو محمد: وليس كما قال مكي رحمه الله، لأن «بل» قد تكون للإضراب عن اللفظ الأول لا عن معناه، وإنما يلزم ما قال على أحد معنيي «بل» وهو الإضراب عن اللفظ والمعنى، ونعم ما قال سيبويه: بل هي لترك كلام وأخذ في غيره.
وقال أبو العالية: إن هذه الآية نزلت حين قال بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: ليت ذنوبنا جرت مجرى ذنوب بني إسرائيل بتعجيل العقوبة في الدنيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أعطاكم الله خيرا مما أعطى بني إسرائيل. وتلا: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
. [النساء: ١١٠].
قال القاضي أبو محمد: فتجيء إضافة الرسول ﷺ إلى الأمة على هذا حسب الأمر في نفسه وحسب إقرارهم.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: إن رافع بن حريملة اليهودي سأل النبي ﷺ تفجير عيون وغير ذلك، وقيل: إن كفار قريش سألوا النبي ﷺ أن يأتيهم بالله جهرة، وقيل: سألوه أن يأتي بالله والملائكة قبيلا، وقال مجاهد: سألوه أن يرد الصفا ذهبا، فقال لهم: خذوا ذلك كالمائدة لبني إسرائيل، فأبوا ونكصوا.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فتجيء على هذه الأقوال إضافة الرسول إليهم حسب الأمر في نفسه، لا على إقرارهم، وكَما سُئِلَ مُوسى عليه السلام هو أن يرى الله جهرة. وقرأ الحسن بن أبي الحسن وغيره «سيل» بكسر السين وياء وهي لغة، يقال: سلت أسال، ويحتمل أن يكون من همز أبدل الهمزة ياء على غير قياس ثم كسر السين من أجل الياء، وقرأ بعض القراء بتسهيل الهمزة بين الهمزة والياء مع ضم السين، وكني عن الإعراض عن الإيمان والإقبال على الكفر بالتبدل، وقال أبو العالية: «الكفر هنا الشدة، والإيمان الرخاء».
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، إلا أن يريدهما مستعارتين، أي الشدة على نفسه والرخاء لها عبارة عن العذاب والتنعيم، وأما المتعارف من شدة أمور الدنيا ورخائها فلا تفسر الآية به، وضَلَّ أخطأ الطريق، و «السواء» من كل شيء الوسط والمعظم، ومنه قوله تعالى فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [الصافات: ٥٥].

وقال عيسى بن عمر: كتبت حتى انقطع سوائي، وقال حسان بن ثابت في رثاء النبي ﷺ على ما ذكر ابن إسحاق وغيره [الكامل] :
يا ويح أنصار النبيّ ورهطه | بعد المغيّب في سواء الملحد |
وقوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ، كَثِيرٌ مرتفع ب وَدَّ، وهو نعت لنكرة، وحذف الموصوف النكرة قلق، ولكن جاز هنا لأنها صفة متمكنة ترفع الإشكال بمنزلة فريق، قال الزهري عنى ب كَثِيرٌ واحد، وهو كعب بن الأشرف، وهذا تحامل، وقوله تعالى يَرُدُّونَكُمْ يرد عليه، وقال ابن عباس: المراد ابنا أخطب، حيي وأبو ياسر.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وفي الضمن الاتباع، فتجيء العبارة متمكنة، والْكِتابِ هنا التوراة، ولَوْ هنا بمنزلة «إن» لا تحتاج إلى جواب، وقيل يتقدر جوابها في وَدَّ، التقدير لو يردونكم لودوا ذلك.
قال القاضي أبو محمد: ف «ود» دالة على الجواب، لأن من شرطه أن يكون متأخرا عن لَوْ، وكُفَّاراً مفعول ثان، ويحتمل أن يكون حالا، وحَسَداً مفعول له، وقيل: هو مصدر في موضع الحال.
واختلف في تعلق قوله مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ: فقيل يتعلق ب وَدَّ لأنه بمعنى ودوا، وقيل: يتعلق بقوله حَسَداً فالوقف على قوله كُفَّاراً، والمعنى على هذين القولين أنهم لم يجدوا ذلك في كتاب ولا أمروا به فهو من تلقائهم، ولفظة الحسد تعطي هذا، فجاء من عند أنفسهم تأكيدا وإلزاما، كما قال تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ [آل عمران: ١٦٧]، ويَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ [البقرة: ٧٩]، وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: ٣٨]، وقيل يتعلق بقوله يَرُدُّونَكُمْ، فالمعنى أنهم ودوا الرد بزيادة أن يكون من تلقائهم أي بإغوائهم وتزيينهم.
واختلف في سبب هذه الآية، فقيل: إن حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر أتيا بيت المدارس، فأراد اليهود صرفهم عن دينهم، فثبتا عليه ونزلت الآية، وقيل: إنما هذه الآية تابعة في المعنى لما تقدم من نهي الله عن متابعة أقوال اليهود في راعِنا [البقرة: ١٠٤] وغيره، وأنهم لا يودون أن ينزل خير، ويودون أن يردوا المؤمنين كفارا.
والْحَقُّ: المراد به في هذه الآية نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وصحة ما المسلمون عليه، وهذه الآية من الظواهر في صحة الكفر عنادا، واختلف أهل السنة في جواز ذلك، والصحيح عندي جوازه غفلا وبعده وقوعا، ويترتب في كل آية تقتضيه أن المعرفة تسلب في ثاني حال من العناد، والعفو ترك العقوبة وهو من «عفت الآثار»، والصفح الإعراض عن المذنب كأنه يولي صفحة العنق.
وقال ابن عباس هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [التوبة: ٢٩] إلى قوله صاغِرُونَ [التوبة: ٢٩]، وقيل: بقوله «اقتلوا المشركين»، وقال قوم: ليس هذا حد المنسوخ، لأن هذا في نفس الأمر كان التوقيف على مدته. صفحة رقم 196