
التحذير١ من الكافرين كتابيين أو مشركين؛ لأنهم أعداء حسدة للمؤمنين فلا يحل الركون إليهم والإطمئنان إلى أقوالهم وأفعالهم، إذ الريبة لا تفارقهم.
﴿مَا نَنْسَخْ٢ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ٣ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ٤ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (١٠٨) ﴾
شرح الكلمات:
﴿نَنْسَخْ﴾ : نبدل أو نزيل.
﴿مِنْ آيَةٍ﴾ : من آيات القرآن: جملة كلمات تحمل معنى صحيحاً؛ كالتحريم أو التحليل، أو الإباحة.
﴿نُنْسِهَا﴾ : نمسحها من قلب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿أَلَمْ تَعْلَمْ﴾ : الاستفهام للتقرير.
﴿وَلِيٍّ﴾ : حافظ يحفظكم بتولي أموركم.
٢ معرفة الناسخ والمنسوخ ضرورية للعالم. روى أن علياً رضي الله عنه أرسل إلى رجل كان يخوف الناس في المسجد فجاءه فقال له: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ فقال: لا، قال: فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه. وعن ابن عباس مثله، وقال له: هلكت وأهلكت.
٣ من: ابتداء الغاية والثانية وهي: ﴿مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ﴾ صلة.
٤ أم، هنا: هي المنقطعة بمعنى: بل الإضرابية.

﴿نَصِيرٍ﴾ : ناصر يدفع عنكم المكروه.
﴿أَمْ تُرِيدُونَ﴾ : بل أتريدون، إذ (أم) هنا للإضراب الانتقالي فهي بمعنى: بل، والهمزة، وما سئله موسى هو، قول بني إسرائيل له: (أرنا الله جهرة).
﴿سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ : وسط الطريق الآمن من الخروج عن الطريق. معنى الآيات:
يخبر تعالى راداً على الطاعنين في تشريعه الحكيم الذين قالوا: إن محمداً يأمر أصحابه١ اليوم بأمر وينهى عنه غداً، أنه تعالى ما ينسخ من آية تحمل حكماً شاقاً على المسلمين إلى حكم أخف؛ كنسخ الثبوت لعشرة في قتال الكافرين إلى الثبوت إلى اثنين. أو حكماً خفيفاً إلى شاق زيادة في الأجر؛ كنسخ يوم عاشوراء بصيام رمضان، أو حكماً خفيفاً إلى حكم خفيف مثله؛ كنسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، أو حكماً غير حكم آخر؛ كنسخ صدقة من أراد أن يناجي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن الحكم رفع ولم يشرع حكم آخر بدلاً عنه، أو نسخ الآية بإزالتها من التلاوة، ويبقى حكمها؛ كآية الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله، فقد نسخ اللفظ من التلاوة وبقي الحكم. أو ينسخ الآية وحكمها. وهذا معنى قوله: ﴿أَوْ نُنْسِهَا﴾، وهي قراءة نافع، فقد ثبت أن قرآناً نزل وقرأه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعض أصحابه ثم نسخه الله تعالى لفظاً، ومعنى فمحاه من القلوب بالمرة فلم يقدر على قراءته أحد. وهذا مظهر من مظاهر القدرة الإلهية الدال عليه قوله: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وهو أيضاً مظهر من مظاهر التصرف الحكيم الدال عليه قوله: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ فهو تعال يتصرف فينسخ ويبقي ويأتي بخير مما نسخ أو بمثله بحسب حاجة الأمة ومتطلبات حياتها الروحية والمادية. فسبحانه من إله قدير حكيم: ينسي ما يشاء وينسخ ما يريد.
أما قوله تعالى في آية (١٠٨) :﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ٢﴾، فهو توبيخ لمن طالب
٢ قوله تعالى: ﴿كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ..﴾. معنى سؤال بني إسرائيل موسى بأن يريهم الله جهرة، أي: مواجهة بعد أن سمعوا كلامه، كما سألوه غير هذا تعنتاً وجهلاً بمقام الرسول موسى عليه السلام، ولذا حذر الله المؤمنين من مثل هذه المواقف القبيحة.

الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمور ليس في مكنته، وإعلام من يجري على أسلوب التعنت وسوء الأدب مع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد يصاب بزيغ القلب فيكفر، دلّ على هذا قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- ثبوت النسخ في القرآن الكريم، كما هو ثابت في السنة، وهما أصل التشريع ولا نسخ في قياس ولا إجماع.
٢- رأفة الله تعالى بالمؤمنين في نسخ الأحكام وتبديلها بما هو نافع لهم في دنياهم وآخرتهم.
٣- وجوب التسليم لله والرضا بأحكامه، وعدم الاعتراض عليه تعالى.
٤- ذم التنطع في الدين وطرح الأسئلة المحرجة١ والتحذير منم ذلك.
﴿وَدَّ كَثِيرٌ٢ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً٣ مِنْ٤ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا٥ وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ
٢ مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما ظاهرة، وهي أنه لما حذر تعالى المؤمنين من مسلك اليهود مع أنبياءهم في الأسئلة المحرجة المتعنتة، أعلمهم أن أعدائهم من اليهود يودون لهم الكفر بعد إيمانهم حسداً لهم وعلى رأس هؤلاء كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، وأبو ياسر وغيرهم، كما أن ابن أبي، وجماعة من سكان المدينة كانوا يعملون جاهدين على صرف من آمن عن إيمانه، ولما لم يحن الوقت للقتال، أمرهم تعالى بالصفح والعفو والإعداد حتى يأتي الأمر بالقتال.
٣ الحسد ثلاثة أنواع: وهي: تمني زوال نعمة عمن هي به، وتمني زوالها ولو لم تحصل لمتمنيها، وهذا شر وأقبح من الأول، وهما محرمان لها لما فيهما من تسفيه المنعم عز وجل، إذ الحاسد معترض على قسمة الله وعطاؤه عباده ما شاء. وتمني حصول نعمة كالتي حصلت لغيره، وهذا مباح وليس حراماً ويشهد له الحديث الصحيح: "لا حسد إلا في اثنتين" الحديث ويسمى غبضا.
٤ جملة: {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾ تأكيد لمضمون التي قبلها. ومنه قوله تعالى: ﴿َ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ﴾، ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم﴾.
٥ فاعفوا: أصلها: فاعفووا، حذفت الضمة للثقل، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين، فصارت: فاعفوا.